(( وقفات إيمانية من خطبة الرسول صل الله عليه وسلم في حجة الوداع ))
نص خطبة الوداع
أيُّها النَّاسُ، اسمعوا قولي، فإنِّي لا أدري لعلِّي لا ألقاكم بعدَ عامي هذا، بِهذا الموقِفِ أبدًا.
أيُّها النَّاسُ، إنَّ دماءَكم وأموالَكم عليْكُم حرامٌ، إلى أن تلقَوا ربَّكم كحُرمةِ يومِكم هذا، وَكحُرمةِ شَهرِكم هذا، وإنكم ستلقونَ ربَّكم، فيسألُكم عن أعمالِكم وقد بلَّغتُ، فمن كانت عندَهُ أمانةٌ فليؤدِّها إلى منِ ائتمنَهُ عليْها وإنَّ كلَّ ربًا موضوعٌ، ولكن لَكم رؤوسُ أموالِكم، لا تظلِمونَ ولا تُظلَمونَ قضى اللَّهُ أنَّهُ لا ربًا وإنَّ ربا العبَّاسِ بنِ عبدِ المطَّلبِ موضوعٌ كلُّهُ، وإنَّ كلَّ دمٍ كانَ في الجاهليَّةِ موضوعٌ، وإنَّ أوَّلَ دمائكم أضعُ دمَ ربيعةَ بنِ الحارثِ بنِ عبدِ المطَّلب- وَكانَ مستَرضَعًا في بني ليثٍ، فقتلتْهُ هُذيلٍ- فَهوَ أوَّلُ ما أبدأُ بِهِ من دماءِ الجاهليَّةِ ..
أما بعدُ أيُّها النَّاس، إنَّ الشَّيطانَ قد يئِسَ أن يعبدَ في أرضِكم هذِهِ أبدًا، ولَكنَّهُ أن يطاعَ فيما سوى ذلِكَ فقد رضِيَ بهِ مِمَّا تحقِّرونَ من أعمالِكم، فاحذروهُ على دينِكُم.
أيُّها النَّاسُ: « إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ » ، ويحرِّموا ما أحلَّ اللَّهُ، وإنَّ الزَّمانَ قدِ استدارَ كَهيئتِهِ يومَ خلقَ اللَّهُ السَّمواتِ والأرضَ، وَ «إنَّ عدَّةَ الشُّهورِ عندَ اللَّهِ اثنا عشَرَ شَهراً منْها أربعةٌ حُرُمٌ» ، ثلاثةٌ متواليةٌ، ورجبُ الَّذي بينَ جُمادى وشعبانُ.
أمَّا بعدُ أيُّها النَّاسُ، فإنَّ لَكم على نسائِكم حقًّا ولَهنَّ عليْكم حقًّا، لَكم عليْهنَّ أن لا يوطِئْنَ فُرُشَكم أحدًا تَكرَهونَه، وعليْهنَّ أن لا يأتينَ بفاحشةٍ مبيِّنةٍ، فإن فعلنَ فإنَّ اللَّهَ قد أذنَ لَكم أن تَهجُروهنَّ في المضاجِعِ، وتضرِبوهنَّ ضربًا غيرَ مبرِّحٍ، فإنِ انتَهينَ فلَهنَّ رزقُهنَّ وَكسوتُهنَّ بالمعروفِ واستوصوا بالنِّساءِ خيرًا، فإنَّهنَّ عندَكم عَوانٍ لا يملِكنَ لأنفسِهنَّ شيئًا، وإنَّكم إنَّما أخذتُموهنَّ بأمانةِ اللَّهِ، واستحللتُم فروجَهنَّ بِكلمةِ اللَّهِ، فاعقلوا أيُّها النَّاسُ قولي، فإنِّي قد بلَّغتُ وقد ترَكتُ فيكم ما إنِ اعتصمتُم بِهِ فلن تضلُّوا أبدًا، أمرًا بيِّنًا كتابَ اللَّهِ وسنَّةَ نبيِّهِ .
أيُّها النَّاسُ، اسمعوا قولي واعقِلوهُ تعلمُنَّ أنَّ كلَّ مسلمٍ أخو للمسلِمِ، وأنَّ المسلمينَ إخوَةٌ، فلا يحلُّ لامرئٍ من أخيهِ إلا ما أعطاهُ عن طيبِ نفسٍ منه فلا تظلِمُنَّ أنفسَكمُ اللَّهمَّ هل بلَّغتُ قالوا: اللَّهمَّ نعَم، فقالَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّم: اللَّهمَّ اشْهَدْ.
الراوي: - المحدث: الألباني - المصدر: فقه السيرة - الصفحة أو الرقم: 454
خلاصة حكم المحدث: جاء سندها في أحاديث متفرقة: وقسم كبير منها رواه مسلم
المصدر: الدرر السنية
حج النبي صلى الله عليه وسلم حجة واحدة كانت أول وآخر حجة له صل الله عليه وسلم وفي يوم عرفة ألقى خطبته المشهورة التي تحمل معان سامية وأحكام قيمة ،،
ولقد أحببت أن أقف عند كل نهاية جملة أو موضوع في هذه الخطبة التي أخذتها من حديث رواه جمع وصححه الألباني ، لأعلق وأشرح بعض المعاني التي ينبغي لكل مسلم ومسلمة معرفتها ..
الوقفة الأولى : عند قوله صلى الله عليه وسلم " فَإِنِّي لا أَدْرِي لَعَلِّي لا أَلْقَاكُمْ بَعْدَ عَامِي هَذَا بِهَذَا الْمَوْقِفِ أَبَدًا " عبارة مؤثرة ، وقول مودع ، لن تلبث عيناك إلا أن تذرف الدمع عند سماعها قال الحبيب هذه العبارة حينما شعر عليه الصلاة والسلام بدنو أجله ، وأنه لن يحج مرة أخرى قال ذلك عندما نزلت عليه آية في حجته هذه ، تخبره بأنه قد أتم مهمته التي أرسله الله من أجلها { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا } ( المائدة / 3 ) بكى الصديق أبو بكر رضي الله عنه عند سماع هذه الآية ، فقالوا له: ما يبكيك يا أبا بكر ؟ إنها آية مثل كل آيه نزلت على الرسول ! فقال رضي الله عنه ( هذا نعي رسول الله ) وبالفعل كانت هذه أول وآخر حجة له صل الله عليه وسلم ، ولذلك سميت حجة الوداع .
الوقفة الثانية :عند قوله صل الله عليه وسلم " إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ إِلَى أَنْ تَلْقَوْا رَبَّكُمْ ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا ، وَحُرْمَةِ شَهْرِكُمْ هَذَا "
قال ابن حجر ( مناط التشبيه في قوله " كحرمة يومكم " وما بعده ، ظهوره عند السامعين لأن تحريم البلد ، والشهر ، واليوم ، كان ثابتا في نفوسهم ، مقررا عندهم ، بخلاف الأنفس والأموال ، والأعراض ، فكانوا في الجاهلية يستبيحونها ، فطرأ الشرع عليهم بأن تحريم دم المسلم ، وماله ، وعرضه ، أعظم من تحريم البلد ، والشهر ، واليوم ، فلا يرد كون المشبه به أخفض رتبة من المشبه ؛ لأن الخطاب إنما وقع بالنسبة لما اعتاده المخاطبون قبل تقرير الشرع ) .وكلام الرسول صل الله عليه وسلم يأتي
دائما مطابقا لما في القرآن الكريم ، يقول سبحانه وتعالى { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا }( النساء / 93 ) قال ابن كثير ( هذا تهديد شديد ووعيد أكيد لمن تعاطى هذا الذنب العظيم الذي هو مقرون بالشرك بالله تعالى في غير ما آية في كتاب الله ) .
وعن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما ، عن رسول الله صل الله عليه وسلم قال " لو أنّ أهل السماء وأهل الأرض اشتركوا في دم مؤمن لأكبهم الله في النار " ( أخرجه الترمذي وصححه الألباني )
وعن البراء بن عازب رضي الله عنه أن رسول الله صل الله عليه وسلم قال" لزوال الدنيا أهون على الله من قتل مؤمن بغير حق " ( أخرجه ابن ماجه وصححه الألباني ) .
هذه الآيات والأحاديث كلها تدل على عظم حرمة إراقة دماء المسلمين بغير حق ، وحتى يتم ردع الناس عن ذلك ، أوجب الله القصاص وجعل فيه حياة للناس ، لأنه إذا تذكر المرء أنه إن قتل سيُقتل ، امتنع عن القتل ، فهذا معنى الآية الكريمة { وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } ( البقرة / 179 ) .
وعن أسامة بن زيد رضي الله عنهما، أنه قال: "بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحرقة فصبحنا القوم فهزمناهم، ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلاً منهم، فلما غشيناه قال: لا إله إلا الله، فَكَفَّ الأنصاري، وطعنته برمحي حتى قتلته، فلما قدمنا بلغ النبي صل الله عليه وسلم فقال: " يا أسامة: أقتلته بعدما قال: لا إله إلا الله ؟ " قلت: كان متعوذًا، فما زال يكررها حتى تمنيتُ أني لم أكن أسلمتُ قبل ذلك اليوم" ( رواه البخاري ومسلم ) .
وعن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صل الله عليه وسلم " لايزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دما حراما " ( رواه البخاري في صحيحه )
ولعظم حرمة دم المسلم يقول صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أَوَّلُ مَا يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي الدِّمَاءِ " ( رواه مسلم في صحيحه ).
الوقفة الثالثة : يقول صلى الله عليه وسلم في خطبته " وَسَتَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ فَيَسْأَلُكُمْ عَنْ أَعْمَالِكُمْ وَقَدْ بَلَّغْتُ " هذا القول يعززه قول الله تعالى { إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ } ( الغاشية / 25-26 ) لأن الله خلق الخلق لغاية معينة ، ويسر لهم الشرائع ، وبين الحلال من الحرام ، ويسر لهم سبل المعيشة ، أفبعد هذا يتركهم سدى ؟!{ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ }( المؤمنون / 115 )فيهون الحساب على المؤمن ، ويصعب ويشتد على الكافر ، يقول صل الله عليه وسلم" إِنَّ اللَّهَ يُدْنِي الْمُؤْمِنَ ، فَيَضَعُ عَلَيْهِ كَنَفَهُ وَيَسْتُرُهُ ، فَيَقُولُ : أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا ، أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا ، فَيَقُولُ : نَعَمْ ، أَيْ رَبِّ حَتَّى إِذَا قَرَّرَهُ بِذُنُوبِهِ ، وَرَأَى فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ هَلَكَ ، قَالَ : سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا ، وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ ، فَيُعْطَى كِتَابَ حَسَنَاتِهِ ، وَأَمَّا الْكَافِرُ وَالْمُنَافِقُونَ ، فَيَقُولُ : الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ ، أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ "( رواه البخاري في صحيحه ) .
وعن أنس بن مالك قال : كنا عند رسول الله صل الله عليه وسلم ، فضحك ، فقال" هل تدرون مم أضحك ؟ "قال : قلنا الله ورسوله أعلم ، قال " من مخاطبة العبد ربه ، يقول يا رب ألم تجرني منالظلم ؟ قال : يقول : بلى ، قال : فيقول فإني لا أجيز على نفسي إلا شاهدا مني قال : فيقول كفىبنفسك اليوم عليك شهيدا ، وبالكرام الكاتبين شهودا ، قال : فيختم على فيه فيقال لأركانه، انطقي ! قال : فتنطق بأعماله ، قال : ثم يخلى بينه وبين الكلام ، قال فيقول بُعدًا لَكُنَّ وسحقا، فعنكن كنت أناضل "( صحيح مسلم ).
وقال تعالى { وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا } ( الإسراء / 13-14 )قالالحسن البصري ( لقد أنصفك يا بن آدم ،من جعلك حسيب نفسك ، والميزان منصوب لوزن أعمال الخير والشر ، والصراط قد مد على متن جهنم ، والملائكة محدقون ببني آدموبالجن ، وقد برزت الجحيم ، وأزلفت دار النعيم ، وتجلى الرب سبحانه لفصل القضاء بين عباده ، وأشرقتالأرض بنور ربها ، وقرئت الصحف ، وشهدت على بنيآدمالملائكة بما فعلوا ، والأرض بما عملوا على ظهرها ، فمن اعترف منهم ، وإلا ختم على فيه ، ونطقت جوارحه بما عمل بها في أوقات عمله ، من ليل أو نهار ) اهـ .
الوقفة الرابعة : يقول صلى الله عليه وسلم " فَمَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ أَمَانَةٌ ؛ فَلْيُؤَدِّهَا إِلَى مَنِ ائْتَمَنَهُ عَلَيْهَا " ذكر الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم الأمانة ، وذلك لعظمها ، وعظم ذنب المتهاون في تأديتها ، وأنها تتبعه إلى يوم القيامة ، يقول صل الله عليه وسلم " لَتُؤَدُّنَّ الْحُقُوقَ إِلَى أَهْلِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُقَادَ لِلشَّاةِ الْجَلْحَاءِ مِنَ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ " ( رواه مسلم )
وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم في غير موضع بتأدية الأمانة ، يقول صل الله عليه وسلم" أَدِّ الأَمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ ، وَلا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ "( المستدرك على الصحيحين )
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، قَالَ : خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الِلَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ فِي الْخُطْبَةِ " لا إِيمَانَ لِمَنْ لا أَمَانَةَ لَهُ ، وَلا دِينَ لِمَنْ لا عَهْدَ لَهُ "( صحيح ابن حبان ) .
وقد ذكر ابن هشام في سيرته قصة توضح أمانة النبي صلى الله عليه وسلم ، يقول : فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة ، ودخل المسجد الحرام فطاف حول الكعبة، وبعد أن انتهى من طوافه دعا عثمان بن طلحة - حامل مفتاح الكعبة - فأخذ منه المفتاح ، وفتحالكعبة ، فدخلها النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم جلس في المسجد فقامعلي بن أبي طالب وقال : يا رسول الله ، اجعل لنا الحجابة مع السقاية ، فقال النبي صلىالله عليه وسلم " أين عثمان بن طلحة ؟ " فجاءوا به ، فقال له النبي صل الله عليهوسلم " هاك مفتاحك يا عثمان اليوم يوم برٍّ ووفاء " ونزل في هذا قول الله تعالى { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا } ( النساء / 58 ) .
والأمانة : ضدّ الخِيانة ، قال تعالى { إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا }( الأحزاب / 72 ) .
قال الطبري رحمه الله ( إنه عُنِي بالأمانة في هذا الموضع : جميع معاني الأمانات في الدين وأمانات الناس وذلك أن الله لم يخص بقوله { عَرَضْنَا الأمَانَةَ }بعض معاني الأمانات ) .
ويقول السعدي في تفسيره ( جميع ما أوجبه الله على عبده أمانة ، على العبد حفظها بالقيام التام بها ، وكذلك يدخل في ذلك أمانات الآدميين ، كأمانات الأموال والأسرار ونحوهما ، فعلى العبد مراعاة الأمرين ، وأداء الأمانتين ) .
وفي قصة الثلاثة الذين احتجزتهم الصخرة ، ودعا كل واحد منهم بشيء كان قد عمله خالصا لوجه الله ، فقال أحدهم " اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي اسْتَأْجَرْتُ أَجِيرًا بِفَرَقٍ مِنْ ذُرَةٍ ، فَأَعْطَيْتُهُ وَأَبَى ذَاكَ أَنْ يَأْخُذَ ، فَعَمَدْتُ إِلَى ذَلِكَ الْفَرَقِ فَزَرَعْتُهُ ، حَتَّى اشْتَرَيْتُ مِنْهُ بَقَرًا وَرَاعِيهَا ، ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ : يَا عَبْدَ اللَّهِ أَعْطِنِي حَقِّي ، فَقُلْتُ : انْطَلِقْ إِلَى تِلْكَ الْبَقَرِ وَرَاعِيهَا ، فَإِنَّهَا لَكَ ، فَقَالَ : أَتَسْتَهْزِئُ بِي ، قَالَ : فَقُلْتُ : مَا أَسْتَهْزِئُ بِكَ ، وَلَكِنَّهَا لَكَ اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَافْرُجْ عَنَّا ، فَكُشِفَ عَنْهُمْ " ( صحيح البخاري ) .
وقد حرم الإسلام الخيانة وأخذ ماليس لك إلا بحق ، وقد ذكر ابن حبان في صحيحه أنَّ رَجُلا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُوُفِّيَ يَوْمَ خَيْبَرَ ، فَذَكَرُوهُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ " صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ " فَتَغَيَّرَتْ وجُوهُ الْقَوْمِ مِنْ ذَلِكَ ، فَقَالَ " إِنَّ صَاحِبَكُمْ غَلَّ فِي سَبِيلِ اللَّهِ " فَفَتَحْنَا مَتَاعَهُ ، فَوَجَدْنَا خَرَزًا مِنْ خَرَزِ الْيَهُودِ لا يُسَاوِي دِرْهَمَيْنِ .
والغل الخيانة ذكر ذلك ابن كثير في تفسيره .
ويدخل في باب الأمانة ، قضاء الدين ، فمن عليه دين لا يجب عليه حج ، يقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله حينما سئل عن ذلك ( الديون أقسام في الواقع القسم الأول دين به رهن يكفي لقضائه وهو مؤجل فإن هذا لا يمنع وجوب الحج لأن صاحبه متوثق بالرهن وليس عليه نقص في حج المدين الثاني دين حال يريد صاحبه منك أن توفيه فيجب عليك أن توفيه قبل أن تحج لأن الحج في هذه الحال لا يجب عليك والدين واجب عليك قضاءه فلا يجوز لك أن تفرط في شيء واجب لشيء غير واجب ، الثالث دين مؤجل يمكنك وفاءه عند حلوله لأن لك راتبا تتمكن به من قضاء الدين فهذا إذا كان لديك ما يمكنك أن تحج به فإنه يجب عليك الحج لأنه في هذه الحال لا ضرر على صاحب الدين ، ولكن إذا كنت تخشى من أمر يكون مفضيا إلى عدم الوجوب في وقته فإنه في هذه الحال لا يجب عليك ، الرابع دين مؤجل يمكنك قضاءه ولكن ليس عندك أمر تتحقق من وفائه عند حلول أجله فهذا الأفضل لك أن لا تحج وأن تدخر المال الذي عندك لقضاء الدين إذا حل ، فهذه الأمور وأشباهها من المسائل الدينية ينبغي بل يجب على الإنسان أن يفهمها حتى يعبد الله على بصيرة فمن كان عنده علم منها فذلك هو المطلوب ومن لم يكن عنده علم منها فليسأل أهل العلم لأن الله يقول { فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } ( النحل / 43 ) اهـ .
الوقفة الخامسة :يقول صلى الله عليه وسلم " وَإِنَّ كُلَّ رِبًا مَوْضُوعٌ ، وَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ ، قَضَى اللَّهُ أَنَّهُ لا رِبًا " فالربا محرم بالكتاب والسنة والإجماع فمن الكتاب قوله تعالى { وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا } ( البقرة / 275 ) ومن السنة يقول صلى الله عليه وسلم " اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ ، قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَمَا هُنَّ ، قَالَ : الشِّرْكُ بِاللَّهِ وَالسِّحْرُ وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ، وَأَكْلُ الرِّبَا ، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ الْغَافِلَاتِ " ( صحيح البخاري )فقد عد الرسول صل الله عليه وسلم الربا من الموبقات ، أي المهلكات التي ترمي صاحبها في جهنم والعياذ بالله ، وقد أجمع المسلمون على تحريمه ، يقول الإمام النووي رحمه الله تعالى ( أجمع المسلمون على تحريم الربا في الجملة وإن اختلفوا في ضابطه وتعاريفه ) .
وأذن عزوجل بحرب من لم يتب ، كما قال تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِين فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ } ( البقرة / 279 ) فعن ابن عباس رضي الله عنه في قوله { فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } قال فمن كان مقيما على الربا لا ينزع عنه ، فحق على إمام المسلمين أن يستتيبه ، فإن نزع وإلا ضرب عنقه . اهـ ، يقول ابن كثير عند تفسيره لقول الله تعالى { وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ }أي : بأخذ الزيادة { وَلا تُظْلَمُونَ } أي : بوضع رؤوس الأموال أيضا ، بل لكم ما بذلتم من غير زيادة عليه ولا نقص منه . وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ ، قَالَ " لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آكِلَ الرِّبَا وَمُؤْكِلَهُ " ، قَالَ : قُلْتُ : وَكَاتِبَهُ وَشَاهِدَيْهِ ، قَالَ : إِنَّمَا نُحَدِّثُ بِمَا سَمِعْنَا . ( صحيح مسلم )
وأما عقوبته في الآخره فقد أخبرنا الرسول صل الله عليه وسلم بما رآه يقول عليه الصلاة والسلام " رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ رَجُلَيْنِ أَتَيَانِي ، فَأَخْرَجَانِي إِلَى أَرْضٍ مُقَدَّسَةٍ ، فَانْطَلَقْنَا حَتَّى أَتَيْنَا عَلَى نَهَرٍ مِنْ دَمٍ فِيهِ رَجُلٌ قَائِمٌ ، وَعَلَى وَسَطِ النَّهَرِ رَجُلٌ بَيْنَ يَدَيْهِ حِجَارَةٌ ، فَأَقْبَلَ الرَّجُلُ الَّذِي فِي النَّهَرِ ، فَإِذَا أَرَادَ الرَّجُلُ أَنْ يَخْرُجَ ، رَمَى الرَّجُلُ بِحَجَرٍ فِي فِيهِ فَرَدَّهُ حَيْثُ كَانَ ، فَجَعَلَ كُلَّمَا جَاءَ لِيَخْرُجَ رَمَى فِي فِيهِ بِحَجَرٍ ، فَيَرْجِعُ كَمَا كَانَ ، فَقُلْتُ : مَا هَذَا ؟ فَقَالَ : الَّذِي رَأَيْتَهُ فِي النَّهَرِ ، آكِلُ الرِّبَا " ( صحيح البخاري ) .
وقد أخبر النبي صل الله عليه وسلم في الصحيح قال { لَيَأْتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لَا يُبَالِي الْمَرْءُ بِمَا أَخَذَ الْمَالَ أَمِنْ حَلَالٍ أَمْ مِنْ حَرَامٍ } وفي هذا الإخبار تحذير أيضا لأمته من أن تكون في ذلك الزمان فلا تبالي .. أعاذنا الله من الربا ..
الوقفة السادسة : يقول صل الله عليه وسلم " إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَئِسَ مِنْ أَنْ يُعْبَدَ بِأَرْضِكُمْ هَذِهِ أَبَدًا ، وَلَكِنَّهُ رَضِيَ أَنْ يُطَاعَ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِمَّا تُحَقِّرُونَ مِنْ أَعْمَالِكُمْ ، فَاحْذَرُوهُ عَلَى دِينِكُمْ "
حذرنا الرسول صل الله عليه وسلم من الشيطان ووسوسته ، وبين لنا خطورته ، فلما يئس الشيطان من أن نعبده كما عبدته بعض الطوائف ، اكتفى بوسوسته لنا ، ورضي بهذا النصيب ، ولكنه تفنن في أساليبه وتدخلاته ، فتارة يجعل الكبيرة صغيرة في نظر المسلم ، وأحيانا يجعل الإصرار على الصغائر أمر عادي ، وهكذا يجر بكيده المسلمين إلى أن يجدوا أنفسهم قد ألقوا معه في جهنم ، فيصير بينهم حوار ذكره الله في سورة إبراهيم في قوله { وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي مِنْ قَبْلُ }( إبراهيم / 22 )وكما فعل الشيطان مع المشركين يوم بدر حينما جاءهم على صورة سراقة بن مالك وقال لهم إني جار لكم إلى أن رأى الملائكة تقاتل مع المسلمين هرب ، وقد حكى لنا القرآن هذه القصة في سورة الأنفال فقال تعالى { وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ }( الأنفال / 48 ) وقد حذر الله عباده المؤمنين من اتباع خطواته ومسالكه وما يأمر به فقال عز من قائل { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ }( النور / 21 ) قالالإمام ابن كثير ( إن كل معصية فهي من خطواتالشيطان ) .
والشيطان لا يستطيع غواية من أخلص دينه لله ، والذين أخلصهم الله لعبادته ، إنما يستطيع غواية العامة من الناس ضعاف النفوس والإيمان ، يقول تعالى { قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ }( ص / 82-83 ) ويقول تعالى { إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَـانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ } ( الحجر / 42 ) .
وقد علمنا الرسول صل الله عليه وسلم كيف نقي أنفسنا ونحصنها من الشيطان الرجيم ، ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي قال" إذا قال المؤمن: لاإله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. مائة مرةفي أول يومه كان ذلك حرزاً له من الشيطان في يومه، وكانت كعتق عشر رقاب، وكتب اللهله مائة حسنة " .
وما رواه البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " يَأْتِي الشَّيْطَانُ أَحَدَكُمْ ، فَيَقُولُ : مَنْ خَلَقَ كَذَا مَنْ خَلَقَ كَذَا حَتَّى ، يَقُولَ : مَنْ خَلَقَ رَبَّكَ فَإِذَا بَلَغَهُ فَلْيَسْتَعِذْ بِاللَّهِ وَلْيَنْتَهِ " .
وعن عثمان بن أبي العاص قال: يا رسول الله إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وقراءتي يلبسها علي، فقال رسول الله صل الله عليه وسلم:" فإذا أحسسته فتعوذ بالله منه، واتفل على يسارك ثلاثا " قال: ففعلت ذلك فأذهبه الله عني . ( رواه مسلم ) .
وعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَنْ قَرَأَ بِالْآيَتَيْنِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي لَيْلَةٍ كَفَتَاهُ " . وَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ الْهَيْثَمِ : حَدَّثَنَا عَوْفٌ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ : وَكَّلَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحِفْظِ زَكَاةِ رَمَضَانَ ، فَأَتَانِي آتٍ فَجَعَلَ يَحْثُو مِنَ الطَّعَامِ ، فَأَخَذْتُهُ ، فَقُلْتُ : لَأَرْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَصَّ الْحَدِيثَ ، فَقَالَ : إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ فَاقْرَأْ آيَةَ الْكُرْسِيِّ ، لَنْ يَزَالَ مَعَكَ مِنَ اللَّهِ حَافِظٌ وَلَا يَقْرَبُكَ شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ ، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" صَدَقَكَ وَهُوَ كَذُوبٌ ذَاكَ شَيْطَانٌ "( صحيح البخاري ) . أعاذنا الله من الشيطان.
الوقفة السابعة : يقول صل الله عليه وسلم " وَإِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَوَإِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ( التوبة : 36 ) ثَلاثَةٌ مُتَوَالِيَةٌ وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ "
قال في عون المعبود شرح سنن أبي داود عند شرح هذا الحديث : " وَإِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ " أي دار على الترتيب الذي اختاره الله تعالى ووضعه يوم خلق السماوات والأرض وهو أن يكون كل عام اثني عشر شهراً وكل شهر ما بين تسعة وعشرين إلى ثلاثين يوماً، وكانت العرب في جاهليتهم غيروا ذلك فجعلوا عاماً اثني عشر شهراً وعاماً ثلاثة عشر فإنهم كانوا ينسئون الحج في كل عامين من شهر إلى شهر آخر بعده ويجعلون الشهر الذي أنسؤوه ملغى فتصير تلك السنة ثلاثة عشر وتتبدل أشهرها فيحلون الأشهر الحرم ويحرمون غيره، فأبطل الله تعالى ذلك وقرره على مداره الأصلي، فالسنة التي حج فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع هي السنة التي وصل شهر ذي الحجة إلى موضعه، فقال النبي صل الله عليه وسلم: إن الزمان قد استدار يعني أمر الله تعالى أن يكون شهر ذي الحجة في هذا الوقت فاحفظوه واجعلوا الحج في هذا الوقت ولا تبدلوا شهراً بشهر كعادة أهل الجاهلية . انتهى.
الوقفة الثامنة : يقول صل الله عليه وسلم " فَإِنَّ لَكُمْ عَلَى نِسَائِكُمْ حَقًّا ، وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ حَقًّا ؛ لَكُمْ عَلَيْهِنَّ أَلا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ ، وَعَلَيْهِنَّ أَلا يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ ، فَإِنْ فَعَلْنَ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ أَذِنَ لَكُمْ أَنْ تَهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَتَضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ ، فَإِنِ انْتَهَيْنَ ؛ فَلَهُنَّ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ، وَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا ؛ فَإِنَّهُنَّ عِنْدَكُمْ عَوَانٍ لا يَمْلِكْنَ لأَنْفُسِهِنَّ شَيْئًا ، وَإِنَّكُمْ إِنَّمَا أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانَةِ اللَّهِ وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ ، فَاعْقِلُوا أَيُّهَا النَّاسُ وَاسْمَعُوا قَوْلِي ؛ فَإِنِّي قَدْ بَلَّغْتُ "
في هذه العبارة أوجز النبي صلى الله عليه وسلم في اللفظ وبسط في المعنى ، ونهى النبي صل الله عليه وسلم نساء المؤمنين من أن يرتكبن أمورا قد تغضب الزوج ، ولا يرضى عنها الله عزوجل ..
يقول المازرى : المراد بذلك أن لا يستخلين بالرجال ولم يرد زناها لأن ذلكيوجب جلدها ولأن ذلك حرام مع من يكرهه الزوج ومن لا يكرهه ..
فيجب على المرأة المسلمة أن لا تأذن لأحد بالدخول إلى منزل زوجها سواء كان رجلا أجنبيا أم محرما ، أو حتى امرأة إلا من أذن له الزوج بدخول منزله ..
أما عند قوله صل الله عليه وسلم " وَعَلَيْهِنَّ أَلا يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ " يقول ابن الأثير في النهاية الْفَاحِشَةُ كُلُّ مَا يَشْتَدُّ قُبْحُهُ مِنَ الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي ، وَكَثِيرًا مَا تَرِدُ بِمَعْنَى الزِّنَا ، وَكُلُّ خَصْلَةٍ قَبِيحَةٍ فَهِيَ فَاحِشَةٌ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ ..
فيجب على المرأة أن تتقي الله في تعاملها مع زوجها ولتقرأ كل امرأة هذا الحديث علها ترجع وتتوب عن إيذاء زوجها .. فعن معاذ بن جبل رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " لا تُؤْذِي امْرَأَةٌ زَوْجَهَا فِي الدُّنْيَا إِلا قَالَتْ زَوْجَتُهُ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ: لا تُؤْذِيهِ، قَاتَلَكِ اللَّهُ، فَإِنَّمَا هُوَ عِنْدَكَ دَخِيلٌ ، يُوشِكُ أَنْ يُفَارِقَكِ إِلَيْنَا " ( أخرجه ابن ماجة والترمذي وقال حديث حسن ، وصحح إسناده الذهبي ).
وبين النبي صل الله عليه وسلم للزوج كيف يوبخ ويؤدب امرأته إن جاءت بفعل مشين ..
ولم يضرب النبي صلى الله عليه وسلم أحدا قط فعن عائشة رضي الله عنها قالت " ما ضرب رسول الله صل الله عليه وسلم شيئا قط بيده ولا امرأة ولا خادما إلا أن يجاهد في سبيل الله وما نيل منه شيء قط فينتقم من صاحبه إلا أن ينتهك شيء من محارم الله فينتقم لله عز وجل " ( صحيح مسلم )
ولتقرأ أيها المسلم هذه القصة لتعلم مدى شفافية النبي صلى الله عليه وسلم وليونته مع زوجاته .. ففي صحيح البخاري عن أنس قال " كان النبي صلى الله عليه وسلم عند بعض نسائه فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين بصحفة فيها طعام فضربت التي النبي صلى الله عليه وسلم في بيتها يد الخادم فسقطت الصحفة فانفلقت فجمع النبي صلى الله عليه وسلم فلق الصحفة ثم جعل يجمع فيها الطعام الذي كان في الصحفة ويقول " غارت أمكم " ثم حبس الخادم حتى أتي بصحفة من عند التي هو في بيتها فدفع الصحفة الصحيحة إلى التي كسرت صحفتها وأمسك المكسورة في بيت التي كسرت " وهكذا يعلمنا النبي صل الله عليه وسلم كيفية التعامل تارة بأقواله وتارة بأفعاله ..
الوقفة التاسعة :يقول صل الله عليه وسلم " وَتَرَكْتُ فِيكُمْ مَا إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ فَلَنْ تَضِلُّوا أَبَدًا كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ "
جاء الرسول صلى الله عليه وسلم بالنور والرحمة والهدى ، علمنا جميع أمورنا سواء ما يتعلق بالدين أو الدنيا .. فمن تمسك بدين الله ربح ومن ابتدع وخرج عن هذا الدين خسر خسرانا مبينا .. فكل شيء قد ذكر إما في الكتاب أو السنة ، فعن زيد بن أرقم وأبي سعيد ، قالا : قال رسول الله صل الله عليه وسلم " إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي ، أحدهما أعظم من الآخر ، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض ، وعترتي أهل بيتي ، ولن يتفرَّقا حتى يرِدَا عليَّ الحوض ، فانظروا كيف تخلِّفونّي فيهما " ( أخرجه الترمذي وصححه الألباني ) .
ويقول الله عزوجل { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا } ( الأحزاب / 21 ).
وقال تعالى { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ {( الشورى / 52 ).
الوقفة العاشرة :" تَعْلَمُنَّ أَنَّ كُلَّ مُسْلِمٍ أَخُو الْمُسْلِمِ ، وَأَنَّ الْمُسْلِمِينَ إِخْوَةٌ ، فَلا يَحِلُّ لامْرِئٍ مِنْ أَخِيهِ إِلا مَا أَعْطَاهُ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ ، فَلا تَظْلِمُوا أَنْفُسَكُمُ "
بين النبي صلى الله عليه وسلم أن رابط الأخوة لا يكون فقط بالدم ولكن بالدين أيضا ، وقد اعتبرنا صلى الله عليه وسلم إخوانه كما جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صل الله عليه وسلم أتى المقبرة فقال " السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون وددت أنا قد رأينا إخواننا " قالوا أولسنا إخوانك يا رسول الله ؟ قال " أنتم أصحابي وإخواننا الذين لم يأتوا بعد " فقالوا : كيف تعرف من لم يأت بعد من أمتك يا رسول الله ؟ فقال " أرأيت لو أن رجلا له خيل غر محجلة بين ظهري خيل دهم بهم ألا يعرف خيله " قالوا : بلى يا رسول الله قال " فإنهم يأتون غرا محجلين من الوضوء وأنا فرطهم على الحوض ألا ليذادن رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضال أناديهم ألا هلم فيقال إنهم قد بدلوا بعدك فأقول سحقا سحقا " ..
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ "الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يُسْلِمُهُ وَمَنْ كَانَ فِيحَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍكُرْبَةً فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرُبَاتِ يَوْمِ الْقِيَامَةِوَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"( رواه البخاري في صحيحه ) .
وفي قوله صل الله عليه وسلم " لا يَحِلُّ لامْرِئٍ مِنْ أَخِيهِ إِلا مَا أَعْطَاهُ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ ، فَلا تَظْلِمُوا أَنْفُسَكُمُ " تنبيه وتحذير من أن يأخذ الإنسان ما ليس له إلا عن طيب خاطر ، وإلا فقد يظلم نفسه بارتكاب الحرام ثم العقاب من الله عزوجل ..
أخيرا : قال الرسول صل الله عليه وسلم " اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ ؟ " ، قَالَ : فَذُكِرَ أَنَّهُمْ قَالُوا : اللَّهُمَّ نَعَمْ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : " اللَّهُمَّ اشْهَدْ " .
نعم قد بلغت ياحبيب الله اللهم إنا نسألك أن تحشرنا مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وأن تسكننا بجوار الحبيب صل الله عليه وسلم ..