دلائل نبوته ومعجزاته صل الله عليه وسلم
الجزء الأول
وهى معنوية وحسّية فمن المعنوية: إنزال القرآن عليه، وهو أعظم المعجزات وأبهر الآيات، وأبين الحجج الواضحات لما اشتمل عليه من التركيب المعجز الذي تحدَّى به الإنس والجن أن يأتوا بمثله، فعجزوا عن ذلك مع توافر دواعي أعدائه على معارضته وفصاحتهم وبلاغتهم، ثمَّ تحدَّاهم بعشر سور منه فعجزوا، ثمَّ تنازل إلى التَّحدي بسورة من مثله فعجزوا عنه وهم يعلمون عجزهم، وتقصيرهم عن ذلك، وأن هذا ما لا سبيل لأحد إليه أبداً.
قال الله تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً}. [الإسراء: 88] وهذه الآية مكية.
وقال في سورة الطُّور وهي مكية: {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ * فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} [الطُّور: 33-34].
أي: إن كنتم صادقين في أنه قاله من عنده فهو بشر مثلكم، فأتوا بمثل ما جاء به فإنَّكم مثله.
وقال تعالى في سورة البقرة وهي مدنية - معيداً للتحديّ -: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة: 23 -24].
وقال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ} [هود: 13-14].
وقال تعالى: {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} [يونس: 37-39].
فبيَّن تعالى أن الخلق عاجزون عن معارضة هذا القرآن، بل عن عشر سور مثله، بل عن سورة منه وأنهم لا يستطيعون ذلك أبداً. (ج/ص:6/74)
كما قال تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا} أي: فإن لم تفعلوا في الماضي ولن تستطيعوا ذلك في المستقبل وهذا تحدٍّ ثان، وهو أنه لا يمكن معارضتهم له لا في الحال ولا في المآل، ومثل هذا التحديّ إنما يصدر عن واثق بأن ما جاء به لا يمكن للبشر معارضته ولا الإتيان بمثله، ولو كان متقوَّل من عند نفسه لخاف أن يعارض فيفنضح ويعود عليه نقيض ما قصده من متابعة النَّاس له، ومعلوم لكلِّ ذي لبّ أنَّ محمداً صلَّى الله عليه وسلَّم من أعقل خلق الله، بل أعقلهم وأكملهم على الإطلاق في نفس الأمر، فما كان ليقدم هذا الأمر إلا وهو عالم بأنَّه لا يمكن معارضته، وهكذا وقع فإنَّه من لدن رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم -.
وإلى زماننا هذا لم يستطع أحد أن يأتي بنظيره، ولا نظير سورة منه، وهذا لا سبيل إليه أبداً فإنَّه كلام ربّ العالمين الذي لا يشبهه شيء من خلقه، لا في ذاته ولا في صفاته، ولا في أفعاله فأنى يشبه كلام المخلوقين كلام الخالق ؟
وقول كفار قريش الذي حكاه تعالى عنهم في قوله: وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأولين. [الأنفال: 31] كذب منهم ودعوى باطلة بلا دليل ولا برهان، ولا حجة ولا بيان، ولو كانوا صادقين لأتوا بما يعارضه، بل هم يعلمون كذب أنفسهم كما يعلمون كذب أنفسهم في قولهم: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [الفرقان: 5].
قال الله تعالى: {قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً} [الفرقان: 6].
أي: أنزله عالم الخفيَّات، ربّ الأرض والسَّموات، الذي يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون، فإنَّه تعالى أوحى إلى عبده ورسوله النَّبيّ الأمي الذي كان لا يحسن الكتابة، ولا يدريها بالكلية، ولا يعلم شيئاً من علم الأوائل، وأخبار الماضين، فقص الله عليه خبر ما كان وما هو كائن على الوجه الواقع سواء بسواء، وهو في ذلك يفصل بين الحق والباطل الذي اختلفت في إيراده جملة الكتب المتقدمة، كما قال تعالى: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود: 49].
وقال تعالى: {كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً * مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْراً * خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلاً} [طه: 99-101].
وقال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} [المائدة: 48].
وقال تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ * بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ * وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [العنكبوت: 48-52].
فبيَّن تعالى أنَّ نفس إنزال هذا الكتاب المشتمل على علم ما كان وما يكون وحكم ما هو كائن بين الناس على مثل هذا النَّبيّ الأمي وحده كان من الدَّلالة على صدقه. (ج/ص:6/75)
وقال تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ * فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ} [يونس: 15 - 17].
يقول لهم: إني لا أطيق تبديل هذا من تلقاء نفسي، وإنما الله - عز وجل - هو الذي يمحو ما يشاء ويثبت، وأنا مبلغ عنه، وأنتم تعلمون صدقي فيما جئتكم به، لأني نشأت بين أظهركم وأنتم تعلمون نسبي، وصدقي، وأمانتي، وأني لم أكذِّب على أحد منكم يوماً من الدَّهر، فكيف يسعني أن أكذب على الله - عز وجل - مالك الضّر والنَّفع الذي هو على كل شيء قدير، وبكل شيء عليم، وأي ذنب عنده أعظم من الكذب عليه، ونسبة ما ليس منه إليه كما قال تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة: 44-47].
أي: لو كذَّب علينا لانتقمنا منه أشد الانتقام، وما استطاع أحد من أهل الأرض أن يحجزنا عنه ويمنعنا منه.
وقال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} [الأنعام: 93].
وقال تعالى: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ}. [الأنعام: 19].
وهذا الكلام فيه الإخبار بأن الله شهيد على كل شيء، وأنه تعالى أعظم الشُّهداء، وهو مطَّلع عليَّ وعليكم فيما جئتكم به عنه، وتتضمن قوة الكلام قسماً به أنَّه قد أرسلني إلى الخلق لأنذرهم بهذا القرآن، فمن بلغه منهم فهو نذير له كما قال تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ} [هود: 17].
ففي هذا القرآن من الأخبار الصَّادقة عن الله وملائكته، وعرشه، ومخلوقاته العلوية والسفلية كالسَّموات والأرضين وما بينهما، وما فيهنَّ أمور عظيمة كثيرة مبرهنة بالأدلة القطعية المرشدة إلى العلم بذلك من جهة العقل الصَّحيح كما قال تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً} [الإسراء: 89].
وقال تعالى: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: 43].
وقال تعالى: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الزمر: 27-28].
وفي القرآن العظيم الإخبار عما مضى على الوجه الحق، وبرهانه ما في كتب أهل الكتاب من ذلك شاهداً له مع كونه نزل على رجل أمي لا يعرف الكتابة، ولم يعان يوماً من الدَّهر شيئاً من علوم الأوائل ولا أخبار الماضين، فلم يفجأ النَّاس إلا بوحي إليه عما كان من الأخبار النَّافعة التي ينبغي أن تذكر للاعتبار بها من أخبار الأمم مع الأنبياء، وما كان منهم من أمورهم معهم، وكيف نجَّى الله المؤمنين وأهلك الكافرين، بعبارة لا يستطيع بشر أن يأتي بمثلها أبد الآبدين، ودهر الدَّاهرين، ففي مكان تقص القصة موجزة في غاية البيان والفصاحة، وتارة تبسط فلا أحلى ولا أجلى ولا أعلى من ذلك السِّياق، حتى كأن التالي أو السَّامع مشاهد لما كان حاضر له، معاين للخبر بنفسه كما قال تعالى: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [القصص: 46].
وقال تعالى: {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} [آل عمران: 44]. (ج/ص:6/76)
وقال تعالى في سورة يوسف: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ * وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ * وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} إلى أن قال في آخرها: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [يوسف: 102-111].
وقال تعالى: {وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى} [طه: 133].
وقال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ * سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصِّلت: 52-53].
وعد تعالى أنَّه سيظهر الآيات القرآن وصدقه، وصدق من جاء به بما يخلقه في الآفاق من الآيات الدَّالة على صدق هذا الكتاب، وفي نفس المنكرين له المكذبين ما فيه حجة عليهم وبرهان قاطع لشبههم حتى يستيقنوا أنه منزل من عند الله على لسان الصَّادق، ثمَّ أرشد إلى دليل مستقل بقوله: {أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصِّلت: 53].
أي: في العلم بأن الله يطلع على هذا الأمر كفاية في صدق هذا المخبر عنه، إذ لو كان مفترياً عليه لعاجله بالعقوبة البليغة كما تقدَّم بيان ذلك.
وفي هذا القرآن إخبار عما وقع في المستقبل طبق ما وقع سواء بسواء، وكذلك في الأحاديث حسب ما قررناه في كتابنا (التفسير)، وما سنذكره من الملاحم والفتن كقوله تعالى: {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [المزَّمل: 20] وهذه السُّورة من أوائل ما نزل بمكة.
وكذلك قوله تعالى في سورة اقتربت وهي مكية بلا خلاف: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ * بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} [القمر: 45-46].
وقع مصداق هذه الهزيمة يوم بدر بعد ذلك، إلى أمثال هذا من الأمور البينة الواضحة، وسيأتي فصل فيما أخبر به من الأمور التي وقعت بعده عليه السلام طبق ما أخبر به، وفي القرآن الأحكام العادلة أمراً ونهياً، المشتملة على الحكم البالغة التي إذا تأملها ذو الفهم والعقل الصَّحيح قطع بأن هذه الأحكام إنما أنزلها العالم بالخفيَّات، الرَّحيم بعباده الذي يعاملهم بلطفه ورحمته وإحسانه.
قال تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً} [الأنعام: 115].
أي: صدقاً في الإخبار، وعدلاً في الأوامر والنواهي.
وقال تعالى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ}. [هود: 1].
أي: أحكمت ألفاظه، وفصِّلت معانيه.
وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ} [الفتح: 28].
أي: العلم النَّافع، والعمل الصَّالح، وهكذا روي عن علي ابن أبي طالب رضي الله عنه أنَّه قال لكميل بن زياد: هو كتاب الله فيه خبر ما قبلكم، وحكم ما بينكم، ونبأ ما بعدكم.
وقد بسطنا هذا كله في كتابنا (التفسير)، بما فيه كفاية، ولله الحمد والمنة. (ج/ص:6/77)
فالقرآن العظيم معجز من وجوه كثيرة: من فصاحته، وبلاغته، ونظمه، وتراكيبه، وأساليبه، وما تضمنه من الأخبار الماضية والمستقبلة، وما اشتمل عليه من الأحكام المحكمة الجلية، والتَّحدي ببلاغة ألفاظه يخص فصحاء العرب، والتحدي بما اشتمل عليه من المعاني الصَّحيحة الكاملة - وهي أعظم في التَّحدي عند كثير من العلماء - يعم جميع أهل الأرض من الملتين، أهل الكتاب، وغيرهم من عقلاء اليونان والهند والفرس والقبط، وغيرهم من أصناف بني آدم في سائر الأقطار والأمصار.
وأما من زعم من المتكلمين أن الإعجاز إنما هو من صرف دواعي الكفرة عن معارضته مع إنكار ذلك، أو هو سلب قدرتهم على ذلك، فقول باطل، وهو مفرع على اعتقادهم أن القرآن مخلوق، خلقه الله في بعض الأجرام، ولا فرق عندهم بين مخلوق ومخلوق، وقولهم هذا كفر وباطل، وليس مطابقاً لما في نفس الأمر، بل القرآن كلام الله غير مخلوق، تكلَّم به كما شاء تعالى، وتقدَّس وتنزَّه عما يقولون علواً كبيراً، فالخلق كلهم عاجزون حقيقة وفي نفس الأمر عن الإتيان بمثله، وتنزه عما يقولون علواً كبيراً، فالخلق كلهم عاجزون حقيقة وفي نفس الأمر عن الإتيان بمثله ولو تعاضدوا وتناصروا على ذلك، بل لا تقدر الرُّسل الذين هم أفصح الخلق، وأعظم الخلق وأكملهم أن يتكلموا بمثل كلام الله، وهذا القرآن الذي يبلغه الرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّم عن الله، أسلوب كلامه لا يشبه أساليب كلام رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وأساليب كلامه عليه السلام المحفوظة عنه بالسَّند الصَّحيح إليه لا يقدر أحد من الصَّحابة ولا من بعدهم أن يتكلم بمثل أساليبه في فصاحته وبلاغته، فيما يرويه من المعاني بألفاظه الشَّريفة، بل وأسلوب كلام الصَّحابة أعلى من أساليب كلام التَّابعين، وهلمَّ جراً إلى زماننا، و علماء السَّلف أفصح وأعلم وأقلّ تكلفاً فيما يرونه من المعاني بألفاظهم من علماء الخلف، وهذا يشهده من له ذوق بكلام النَّاس كما يدرك تفاوت ما بين أشعار العرب في زمن الجاهلية، وبين أشعار المولدين الذين كانوا بعد ذلك.
ولهذا جاء الحديث الثَّابت في هذا المعنى، وهو فيما رواه الإمام أحمد قائلاً: حدَّثنا حجاج، ثنا ليث، حدَّثني سعيد ابن أبي سعيد عن أبيه، عن أبي هريرة أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال:
((ما من الأنبياء إلا قد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيت وحياً أوحاه الله إليّ فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة)).
وقد أخرجه البخاريّ، ومسلم من حديث اللَّيث بن سعد به.
ومعنى هذا أنَّ الأنبياء - عليهم السَّلام - كل منهم قد أوتي من الحجج والدَّلائل على صدقه، وصحة ما جاء به عن ربه ما فيه كفاية، وحجة لقومه الذين بعث إليهم سواء آمنوا به ففازوا بثواب إيمانهم، أو جحدوا فاستحقوا العقوبة.
وقوله: ((وإنما كان الذي أوتيت)) أي: جلَّه، وأعظمه الوحي الذي أوحاه إليه وهو القرآن الحجَّة المستمرة الدَّائمة القائمة في زمانه وبعده، فإنَّ البراهين التي كانت للأنبياء انقرض زمانها في حياتهم ولم يبق منها إلا الخبر عنها، وأما القرآن فهو حجَّة قائمة كأنما يسمعه السَّامع من فيّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فحجة الله قائمة به في حياته عليه السلام وبعد وفاته ولهذا قال:
((فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة)) أي: لاستمرار ما آتاني الله من الحجَّة البالغة، والبراهين الدَّامغة، فلهذا يكون يوم القيامة أكثر الأنبياء تبعاً. (ج/ص:6/78)
فصل وإنَّك لعلى خلق عظيم.
ومن الدَّلائل المعنوية: أخلاقه عليه السلام الطَّاهرة، وخلقه الكامل، وشجاعته، وحلمه، وكرمه، وزهده، وقناعته، وإيثاره، وجميل صحبته، وصدقه، وأمانته، وتقواه، وعبادته، وكرم أصله، وطيب مولده، ومنشئه، ومرباه، كما قدمناه مبسوطاً في مواضعه، وما أحسن ما ذكره شيخنا العلامة أبو العبَّاس ابن تيمية رحمه الله في كتابه الذي ردَّ فيه على فرق النَّصارى واليهود، وما أشبههم من أهل الكتاب وغيرهم، فإنَّه ذكر في آخره دلائل النبوة، وسلك فيها مسالك حسنة صحيحة، منتجة بكلام بليغ، يخضع له كل من تأمَّله وفهمه
دلائل نبوته من خلال سيرته وأخلاقه.
وسيرة الرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّم وأخلاقه، وأقواله، وأفعاله من آياته أي: من دلائل نبوته.
قال: وشريعته من آياته، وأمته من آياته، وعلم أمته من آياته، ودينهم من آياته، وكرامات صالحي أمته من آياته، وذلك يظهر بتدبُّر سيرته من حين ولد إلى أن بعث، ومن حين بعث إلى أن مات، وتدبر نسبه وبلده وأصله وفصله، فإنَّه كان من أشرف أهل الأرض نسباً من صميم سلالة إبراهيم الذي جعل الله في ذريته النبُّوة والكتاب، فلم يأت بعد إبراهيم نبي إلا من ذريته، وجعل الله له ابنين إسماعيل وإسحاق، وذكر في التَّوراة هذا وهذا، وبشَّر في التَّوراة بما يكون من ولد إسماعيل، ولم يكن من ولد إسماعيل من ظهر فيه ما بشَّرت به النبوات غيره، ودعا إبراهيم لذرية إسماعيل بأن يبعث الله فيهم رسولاً منهم.
ثم الرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّم من قريش صفوة بني إبراهيم، ثم من بني هاشم صفوة قريش، ومن مكة أم القرى وبلد البيت الذي بناه إبراهيم ودعا للنَّاس إلى حجه، ولم يزل محجوجاً من عهد إبراهيم مذكوراً في كتب الأنبياء بأحسن وصف، وكان صلَّى الله عليه وسلَّم من أكمل النَّاس تربيةً ونشأةً، لم يزل معروفاً بالصِّدق، والبرِّ، ومكارم الأخلاق، والعدل، وترك الفواحش والظُّلم، وكل وصف مذموم، مشهوداً له بذلك عند جميع من يعرفه قبل النبُّوة، ومن آمن به ومن كفر بعد النبُّوة، ولا يعرف له شيء يعاب به لا في أقواله، ولا في أفعاله، ولا في أخلاقه، ولا جرب عليه كذبة قط، ولا ظلم ولا فاحشة، وقد كان صلَّى الله عليه وسلَّم خلقه وصورته من أحسن الصُّور وأتمها، وأجمعها للمحاسن الدَّالة على كماله، وكان أميَّاً من قوم أميين لا يعرف هو ولا هم ما يعرفه أهل الكتاب من التَّوراة والإنجيل، ولم يقرأ شيئاً من علوم النَّاس، ولا جالس أهلها، ولم يدَّعِ النبوة إلى أن أكمل الله له أربعين سنة، فأتى بأمر هو أعجب الأمور وأعظمها، وبكلام لم يسمع الأولون والآخرون بنظيره، وأخبر بأمر لم يكن في بلده وقومه من يعرف مثله، ثم اتبعه أتباع الأنبياء وهم ضعفاء النَّاس، وكذَّبه أهل الرِّياسة وعادوه وسعوا في هلاكه، وهلاك من اتبعه بكل طريق، كما كان الكفَّار يفعلون بالأنبياء وأتباعهم. (ج/ص:6/79)
والذين اتَّبعوه لم يتبعوه لرغبة ولا لرهبة، فإنَّه لم يكن عنده مال يعطيهم، ولا جهات يولِّيهم إياها، ولا كان له سيف بل كان السَّيف والجَّاه والمال مع أعدائه، وقد آذوا أتباعه أنواع الأذى، وهم صابرون محتسبون لا يرتدُّون عن دينهم لما خالط قلوبهم من حلاوة الإيمان، والمعرفة، وكانت مكة يحجها العرب من عهد إبراهيم فيجتمع في الموسم قبائل العرب، فيخرج إليها يبلِّغهم الرِّسالة، ويدعوهم إلى الله صابراً على ما يلقاه من تكذيب المكذّب، وجفاء الجَّافي، وإعراض المعرض، إلى أن اجتمع بأهل يثرب وكانوا جيران اليهود وقد سمعوا أخباره منهم، وعرفوه، فلما دعاهم علموا أنه النَّبيّ المنتظر الذي يخبرهم به اليهود، وكانوا سمعوا من أخباره أيضاً ما عرفوا به مكانته، فإن أمره كان قد انتشر وظهر في بضع عشرة سنة، فآمنوا به، وبايعوه على هجرته وهجرة أصحابه إلى بلدهم وعلى الجِّهاد معه، فهاجر هو ومن اتَّبعه إلى المدينة، وبها المهاجرون والأنصار ليس فيهم من آمن برغبة دنيوية، ولا برهبة إلا قليلاً من الأنصار أسلموا في الظَّاهر، ثم حسن إسلام بعضهم، ثم أذن له في الجِّهاد، ثم أمر به، ولم يزل قائماً بأمر الله على أكمل طريقة وأتمها من الصدق والعدل والوفاء، لا يحفظ له كذبة واحدة، ولا ظلم لأحد، ولا غدر بأحد، بل كان أصدق النَّاس وأعدلهم، وأوفاهم بالعهد مع اختلاف الأحوال من حرب وسلم، وأمن وخوف، وغنى وفقر، وقدرة وعجز، وتمكن وضعف، وقلَّة وكثرة، وظهور على العدو تارةً، وظهور العدو تارةً، وهو على ذلك كله لازم لأكمل الطُّرق وأتمها، حتى ظهرت الدَّعوة في جميع أرض العرب التي كانت مملوءة من عبادة الأوثان، ومن أخبار الكهَّان، وطاعة المخلوق في الكفر بالخالق، وسفك الدِّماء المحرمة، وقطيعة الأرحام لا يعرفون آخرة ولا معاداً، فصاروا أعلم أهل الأرض وأدينهم وأعدلهم وأفضلهم.
حتى أن النَّصارى لما رأوهم حين قدموا الشَّام قالوا: ما كان الذين صحبوا المسيح أفضل من هؤلاء.
وهذه آثار علمهم وعملهم في الأرض، وآثار غيرهم تعرف العقلاء فرق ما بين الأمرين، وهو صلَّى الله عليه وسلَّم مع ظهور أمره وطاعة الخلق له وتقديمهم له على الأنفس والأموال مات ولم يخلِّف درهماً، ولا ديناراً، ولا شاةً، ولا بعيراً، إلا بغلته وسلاحه، ودرعه مرهونة عند يهودي على ثلاثين وسقاً من شعير ابتاعها لأهله، وكان بيده عقار ينفق منه على أهله، والباقي يصرفه في مصالح المسلمين، فحكم بأنه لا يورث ولا يأخذ ورثته شيئاً من ذلك، وهو في كل وقت يظهر من عجائب الآيات وفنون الكرامات ما يطول وصفه، ويخبرهم بما كان وما يكون، ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويحل لهم الطَّيبات ويحرِّم عليهم الخبائث، ويشرع الشَّريعة شيئاً بعد شيء، حتى أكمل الله دينه الذي بعثه به، وجاءت شريعته أكمل شريعة لم يبق معروف تعرف العقول أنه معروف إلا أمر به، ولا منكر تعرف العقول أنه منكر إلا نهى عنه، لم يأمر بشيء فقيل: ليته لم يأمر به، ولا نهى عن شيء فقيل: ليته لم ينه عنه، وأحلَّ لهم الطَّيبات لم يحرم منها شيئاً، كما حرِّم في شريعة غيره، وحرَّم الخبائث لم يحل منها شيئاً كما استحل غيره، وجمع محاسن ما عليه الأمم فلا يذكر في التَّوراة والإنجيل والزَّبور نوع من الخبر عن الله وعن الملائكة وعن اليوم الآخر، إلا وقد جاء به على أكمل وجه، وأخبر بأشياء ليست في الكتب، وليس في الكتب إيجاب لعدل، وقضاء بفضل وندب إلى الفضائل، وترغيب في الحسنات إلا وقد جاء به وبما هو أحسن منه، وإذا نظر اللَّبيب في العبادات التي شرعها وعبادات غيره من الأمم ظهر له فضلها ورجحانها، وكذلك في الحدود والأحكام، وسائر الشَّرائع. (ج/ص:6/80)
وأمته أكمل الأمم في كل فضيلة، وإذا قيس علمهم بعلم سائر الأمم ظهر فضل علمهم، وإن قيس دينهم وعبادتهم وطاعتهم لله بغيرهم ظهر أنهم أدين من غيرهم.
وإذا قيس شجاعتهم وجهادهم في سبيل الله، وصبرهم على المكاره في ذات الله ظهر أنهم أعظم جهاداً وأشجع قلوباً.
وإذا قيس سخاؤهم وبرهم وسماحة أنفسهم بغيرهم ظهر أنهم أسخى وأكرم من غيرهم.
وهذه الفضائل به نالوها، ومنه تعلَّموها، وهو الذي أمرهم بها لم يكونوا قبل متبعين لكتاب جاء هو بتكميله كما جاء المسيح بتكميل شريعة التَّوراة، فكانت فضائل أتباع المسيح وعلومهم بعضها من التَّوراة، وبعضها من الزَّبور، وبعضها من النبوات، وبعضها من المسيح، وبعضها ممن بعده من الحوَّاريين، ومن بعض الحواريين، وقد استعانوا بكلام الفلاسفة وغيرهم، حتى أدخلوا - لما غيروا من دين المسيح - في دين المسيح أموراً من أمور الكفَّار المناقضة لدين المسيح.
وأمَّا أمة محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم فلم يكونوا قبله يقرؤن كتاباً، بل عامتهم ما آمنوا بموسى وعيسى وداود، والتَّوراة والإنجيل والزَّبور إلا من جهته، وهو الذي أمرهم أن يؤمنوا بجميع الأنبياء، ويقرُّوا بجميع الكتب المنزلة من عند الله، ونهاهم عن أن يفرِّقوا بين أحد من الرُّسل فقال تعالى في الكتاب الذي جاء به: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ * فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 136-137].
وقال تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ * لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة: 285-286].
وأمته عليه السلام لا يستحلُّون أن يوجدوا شيئاً من الدِّين غير ما جاء به، ولا يبتدعون بدعة ما أنزل الله بها من سلطان، ولا يشرعون من الدِّين ما لم يأذن به الله، لكن ما قصَّه عليهم من أخبار الأنبياء وأممهم اعتبروا به، وما حدَّثهم أهل الكتاب موافقاً لما عندهم صدَّقوه، ومالم يعلم صدقه ولا كذبه أمسكوا عنه، وما عرفوا بأنَّه باطل كذَّبوه، ومن أدخل في الدِّين ما ليس منه من أقوال متفلسفة الهند والفرس واليونان، أو غيرهم كان عندهم من أهل الإلحاد والابتداع، وهذا هو الدِّين الذي كان عليه أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، والتَّابعون، وهو الذي عليه أئمة الدِّين الذين لهم في الأمة لسان صدق، وعليه جماعة المسلمين وعامتهم، ومن خرج عن ذلك كان مذموماً مدحوراً عند الجماعة. (ج/ص:6/81)
وهو مذهب أهل السّنة والجماعة الظَّاهرين إلى قيام السَّاعة الذين قال فيهم رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرُّهم من خالفهم، ولا من خذلهم حتى تقوم السَّاعة)).
وقد يتنازع بعض المسلمين مع اتفاقهم على هذا الأصل الذي هو دين الرُّسل عموماً ودين محمد صلَّى الله عليه وسلَّم خصوصاً، ومن خالف في هذا الأصل كان عندهم ملحداً مذموماً، ليسوا كالنَّصارى الذين ابتدعوا ديناً ما قام به أكابر علمائهم وعبَّادهم، وقاتل عليه ملوكهم ودان به جمهورهم، وهو دين مبتدع ليس هو دين المسيح، ولا دين غيره من الأنبياء، والله سبحانه أرسل رسله بالعلم النَّافع والعمل الصَّالح، فمن اتبع الرُّسل له سعادة الدُّنيا والآخرة، وإنما دخل في البدع من قصر في اتباع الأنبياء علماً وعملاً، ولما بعث الله محمداً صلَّى الله عليه وسلَّم بالهدى ودين الحق تلقَّى ذلك عنه المسلمون من أمته، فكل علم نافع وعمل صالح عليه أمة محمَّد أخذوه عن نبيهم، كما ظهر لكل عاقل أنَّ أمته أكمل الأمم في جميع الفضائل العلمية والعملية، ومعلوم أنَّ كل كمال في الفرع المتعلّم هو في الأصل المعلّم، وهذا يقتضي أنه عليه السلام كان أكمل النَّاس علماً وديناً، وهذه الأمور توجب العلم الضَّروري بأنه كان صادقاً في قوله: ((إني رسول الله إليكم جميعاً)) لم يكن كاذباً مفترياً، فإنَّ هذا القول لا يقوله إلا من هو من خيار النَّاس وأكملهم إن كان صادقاً، أو من هو من أشر النَّاس وأخبثهم إن كان كاذباً، وما ذكر من كمال علمه ودينة يناقض الشر والخبث والجهل.
فتعيَّن أنه متصف بغاية الكمال في العلم، والدِّين، وهذا يستلزم أنه كان صادقاً في قوله: ((إني رسول الله إليكم جمعياً)) لأنَّ الذي لم يكن صادقاً إمَّا أن يكون متعمداً للكذب، أو مخطئاً.
والأوَّل يوجب أنَّه كان ظالماً غاوياً.
والثَّاني يقتضي أنَّه كان جاهلاً ضالاً.
ومحمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم كان علمه ينافي جهله، وكمال دينه ينافي تعمُّد الكذب، فالعلم بصفاته يستلزم العلم بأنَّه لم يكن يتعمَّد الكذب، ولم يكن جاهلاً يكذب بلا علم، وإذا انتفى هذا وذاك، تعين أنَّه كان صادقاً عالماً بأنَّه صادق، ولهذا نزهه الله عن هذين الأمرين بقوله تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النَّجم: 1-4].
وقال تعالى عن الملك الذي جاء به: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} [التكوير: 19-21].
ثمَّ قال عنه: {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ * وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ * وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ * فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ * إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} [التَّكوير: 22-27].
وقال تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ}، إلى قوله: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ} [الشُّعراء: 192-223].
بيَّن سبحانه أنَّ الشَّيطان إنما ينزل على من يناسبه ليحصل به غرضه، فإنَّ الشَّيطان يقصد الشَّر وهو الكذب والفجور، ولا يقصد الصِّدق والعدل، فلا يقترن إلا بمن فيه كذب إمَّا عمداً وإمَّا خطأ وفجوراً أيضاً، فإنَّ الخطأ في الدِّين هو من الشَّيطان أيضاً.
كما قال ابن مسعود لما سئل عن مسألة: أقول فيها برأيي فإن يكن صواباً فمن الله، وإن يكن خطأ فمني ومن الشَّيطان، والله ورسوله بريئان منه.
فإنَّ رسول الله بريء من تنزل الشَّياطين عليه في العمد والخطأ، بخلاف غير الرَّسول فإنَّه قد يخطئ ويكون خطؤه من الشَّيطان، وإن كان خطؤه مغفوراً له، فإذا لم يعرف له خبراً أخبر به كان فيه مخطئاً، ولا أمراً أمر به كان فيه فاجراً، علم أن الشَّيطان لم ينزل عليه، وإنما ينزل عليه ملك كريم، ولهذا قال في الآية الأخرى عن النَّبيّ: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ * وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ * تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الحاقَّة: 40 -43].
انتهى ما ذكره، وهذا عين ما أورده بحروفه
... يتبع