العقل المسلم: النشأة والتكوين والتميز
العقل المسلم مصطلح أُخذ من قبيل وصف الإنسان بالصفة الفكرية التي يحملها، وينظر من خلالها إلى الأشياء، ونقصد به مادة الفكر في عقل هذا المسلم (المرجعية والمنهج ومسارات التفكير والسلوك وطرائق تفسيره لظواهر الكون والحياة والإنسان).
وقد نشأ هذا العقل، وبدأ تكوينه، يوم بدأ هذا العربي يستجيب لنداء رسالة السماء، التي خاطبته بالإقناع والإعجاز.
وعندها خالطت فكره وقلبه، فاختار الإسلام منهجا وعقيدة ونظاما لحياته، فاستمد من مرجعية الوحي علمه وفهمه للحياة، وجعل من هذه المرجعية مصدرا وحيدا لفهمها وتفسيرها، فاستخرج منها شرائعه وسلوكه، وخضع لها في مؤسسات الدولة والمجتمع وبناء الحضارة.
كان ذلك يوم أضاء الرسول صل الله عليه وسلم عقول الرجال بنور القرآن والسنة ثم تتابع هذا الفعل في أبناء الأمة من الصحابة الكرام، والتابعين وتابعيهم، والمجددين من علماء الأمة عبر العصور.
وبمرور الزمن، وتعاقب جهود الأجيال، أدى تراكم الخبرة عند علماء هذه الأمة إلى فقه هذه المرجعية، والتعمق فيها، حتى وصلت الأمة إلى مصطلحاتها الفكرية المستقلة، الخاصة بها، والتي تصف بها منتجاتها، في الفكر والعقيدة والحضارة وغيرها، وهكذا تأكدت خصوصية هذا العقل في مناهجه وتفكيره ومحاكماته، وبذلك انفصل هذا العقل عن الحضارات المجاورة، وتميز عنها مستقلا بذاته، ويمكننا أن نوجز هذا التميز وتلك الخصوصية في الخطوط العريضة التالية:
3- الخطوط العريضة لخصوصية العقل المسلم:
أ- اتخذ العقل المسلم علم الوحي المتمثل بالقرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة مرجعية له، يفكر من خلالها في الحياة، ثم اعتمد على هذه المرجعية وإحالاتها لهذا العقل في فهم الوجود، لأن الوحي والوجود صادران عن مشيئة واحدة هي إرادة الله سبحانه وتعالى، فالوحي يمثل الكتاب المسطور والوجود يمثل الكتاب المنظور.
ثم جاء جهد هذا العقل في استيعاب هذه المرجعية وفقهها، حيث تمكن علماء الأمة من الوصول إلى منهجية التعامل، مع نصوص الوحي في علم مستقل يضبط هذه المنهجية، ويحميها من الانحراف عن مقاصد الوحي، وهذا العلم هو علم أصول الفقه وهو علم مبني على ما يسمى علوم الأمة (علوم اللغة، وعلوم التفسير، وعلوم القرآن، وعلوم الحديث ...) وهي العلوم التي اختصت بخدمة علم الوحي وتفصيل مقاصده.
وتبين للعقل المسلم أن علم الوحي يرشده إلى مصدرين للعلم والمعرفة هما:
1ـ علم الأمر الرباني: «علم الثابت» ومصدره آيات الوحي التي تفصل لهذا العقل: الحلال والحرام، ونظام الحياة، والإجابة عن الأسئلة الكبرى التي تشغل العقل البشري (علم العقيدة) والعبادات، وعلاقة الإنسان مع الله سبحانه وتعالى ومع أخيه الإنسان ومع الوجود وغيرها.
2ـ علم الإحالة إلى الوجود: «علم المتغير» وهو العلم الذي يتناول الأمر الرباني للعقل المسلم بهدف اكتشاف سنن الحياة والوجود وتوظيفها لخلافة الإنسان في عمارة هذه الأرض، ومن خلال منهجية إخضاع المتغير للثابت.
ب- حماية المرجعية من العبث والمحافظة على التميز، وذلك باعتبار القرآن الكريم والسنة الشريفة وما يتبعه من علوم الأمة المرجع الوحيد الذي لا يجوز التلقي من غيره (3)، إلا بالخضوع لمنهجه، وهذا يحقق للامة وحدة المشرب ووحدة التفكير، ويحفظ لهذا العقل الصفاء والتميز والاستقلال، ويحميه من التلوث بالمناهج المخالفة.
ج- وتأكيدا لذلك الأمر في المحافظة على صفاء المنهج، انخلع المسلم من ثقافته السابقة (الجاهلية) ورمى بها من وراء ظهره، لأن القرآن الكريم لا يفتح كنوز علمه لمن يريد أن يفرض عليه ثقافته السابقة، حيث تقف هذه الثقافة حاجزا ومعطلا بينه وبين فهم القرآن، وهنا يمكن أن نفرق بين تخزين الخبرة الثقافية وبين نقل الثقافة.
د- يعترف المسلم أن العقل البشري طاقة هائلة، وبه يتم اكتشاف واستيعاب سنن الله في الكون والحياة، وبه يتم فقه أوامر الله سبحانه وتعالى فيما جاء من علوم الوحي، ولكنه يعلم أنه محدود القدرة، ولذلك يجب ألا تهدر طاقاته فيما لا يستطيع، مما هو ليس من قدرته ولا في مجاله، كالبحث في عالم الغيب، وتفسير الوجود، والإجابة عن الأسئلة الكبرى من أمور العقيدة، والعبادات، وقواعد بناء المجتمع الفاضل، والعدل، والسلوك، والأخلاق، والتشريع لحياة البشر بالتحليل أو بالتحريم ولذلك فهو قاصر فيها، فيكل هذه الأمور إلى علم الوحي لأن الحاكمية فيها لله وحده، ووظيفة العقل في هذه الأمور هي: الاستيعاب لنصوص الوحي، وفقه مقاصدها، وتنفيذ الأوامر الربانية الواردة فيها.
أما في المتغير من حياة البشر وفيما يخص البناء الحضاري والجانب المادي واكتشاف سنن الكون والحياة، فيتعامل معها من خلال منهج الاجتهاد والتجديد والاكتشاف لأن الوحي أحاله إلى ذلك.
ومعنى ذلك أنه عقل يجمع بين منهجية الثابت والمتغير في وحدة واحدة، لأن ثوابت الوحي هي المحاور الربانية التي تضبط السلوك البشري وتحمي عقول الناس من التخبط والضلال أو الخضوع للهوى والمصالح.
هـ- غاية العقل المسلم هي إشباع حاجات الإنسان من خلال التعرف على منهج الحق والخضوع له في هذا الإشباع، لأنه يعلم مسؤولية الإنسان عن هذا الإشباع أمام الله سبحانه وتعالى.
و- يفهم العقل المسلم قضية التطور على أنها التعمق في فهم الحق والبحث عن الحقيقة اقترابا من الصواب الذي يرضي الله سبحانه وتعالى، أما التطور الذي يقوم على أسلوب القفزات التي تحكمها الأهواء والمصالح وحظوظ النفس فهو ليس من منهجه.
ز- أمضى العقل المسلم فترة تقارب قرنين من الزمن في توثيق وحماية نصوص المرجعية (جمع القرآن الكريم، وجمع السنة النبوية الشريفة) ثم انتقل إلى علم معرفة النص واستنباط علاقته مع الواقع ومناهج الوصول إلى فهمه وتطبيقه من خلال علم أصول الفقه الذي يمهد إلى علم الفقه العام.
حـ- كانت الثقافات السائدة قبل الإسلام تعتبر الواقع موضوعا خسيسا غير كفيل بأن يوصل إلى الحق وإلى الخير، فالثقافة اليونانية تعتبر رأس الفضائل التعقل المجرد، والثقافة الهندية والفارسية تعتبر أن المجاهدة الروحية (الروحنة) الطريق الوحيد إلى الحق، وفي ذلك نفي للواقع المحسوس وإسقاط له) (4) فكان التفكير يعيش مع المثال والخيال ويتهرب من الواقع والعمل فيه، ويترك العمل للطبقات المستعبدة في المجتمع.
فلما جاء الإسلام علم العقل المسلم احترام حقائق هذا الواقع (عالم الشهادة) وألزمه به، وجعله مكان خلافته وتكليفه، قال تعالى: (إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون) (5).
وقد مَنَّ الله سبحانه وتعالى عليه بنعمة الحواس التي تربطه بهذا الواقع، وأحال حواسه وعقله إلى اكتشاف السماوات والأرض واكتشاف السنن والقوانين التي تحكمها، ثم أمره بالاستفادة من اكتشاف هذه السنن في بناء حياته وحضارته على الأرض، وعلمه أن هذه السنن وهذه السماوات وهذه الأرض تشير إلى عظمة الخالق، وتعلمه الإيمان، وان هذه السنن تطيع خالقها، ولا تجامل مؤمنا ولا كافرا، وطالبه أن يتعلم من هذه السنن، فيأخذ بالأسباب التي تحكمها ليستفيد من ذلك في تيسير حياته الدنيا على الأرض.
وعلمه أن الأخذ بالأسباب أمر رباني، وأن تركها كفر، وأن التوكل عليها من دون الله شرك، ودعاه إلى التقرب من خالق الأسباب بالدعاء حتى يعينه على امتلاك ناصيتها.
وبذلك أدرك العقل المسلم أن ترك الأخذ بالأسباب هو تهرب من العمل الصالح، وان الدعوة إلى الزهد في الدنيا تهدف إلى التحكم بها، والسيطرة عليها حتى لا تلهينا عن مقصد وجودنا وخلافتنا على الأرض، وليس إعراضاً عنها أو إهمالاً لشأنها، لأننا بذلك نهمل مقصد وجودنا، فالدنيا مزرعة الآخرة ومن أهمل مزرعته أهمل آخرته.
وما عرف العقل المسلم ترك الآخذ بالأسباب في فكره إلا عندما تسرب إليه الفكر الصوفي الشرقي (6) من الثقافة الهند فارسية حيث لعب دورا تخريبيا تجاه العقل المسلم، تحت التذرع بأن قضاء الله قد تم، ولا ينفع معه عمل ولا أخذ بالأسباب، وهذا هو الكذب على الله، والفسق عن دينه، يقول أحد شعراء الصوفية:
جرى قلم القضاء بما يكون فسيان التحرك والسكون
جنون من أن تسعى لرزق ويرزق في غشاوته الجنين
ط- وهكذا ولد العقل المسلم مخالفا للحضارات المجاورة، مستقلا عنها، مفارقا لها، متميزا عليها في: مرجعيته، وعقيدته، وفهمه، وغاياته، ووسائله، ومستخرجاته الحضارية في حضارة هي حضارة الحكمة (ويعلمكم الكتاب والحكمة...) (7) وقد شهد الله لهذه الأمة بالتميز في قوله سبحانه وتعالى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس) (
وظهر هذا التميز في مختبر السلوك والتعامل مع الآخرين من أهل الكفر من خلال نظرية التعارف ومعارضها فهو لا يؤمن بالتذويب القسري للآخرين من خلال القوة والقسر والمكر والتخطيط وإنما يستعمل معرض التعارف والتعاون بين حضارات البشر، ويترك لعقولهم اكتشاف ما يتميز به الإسلام على بضاعتهم القائمة على العقل الفلسفي المتكل على نفسه.
وعند ذلك تتعرف الأمم على خصائص هذا الدين وتميزه من خلال معارض هذا التعارف في السفر، والحرب، والسلم، والتزاوج، والهجرة، والتجارة، والحوار، والجوار، والمعاهدة، والشدة، والرخاء، والسلوك، والموقف، والفكر، والأدب، والفن وغيرها.
قال تعالى: (لا إكراه في الدين) (9) وقوله تعالى: (وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم) (10) لأن الإيمان يقوم على الاختيار الحر بعيدا عن القهر، وإذعانا للحق، وهذا هو منهج الأنبياء وجوهر رسالتهم.