منتدى الشنطي
سيغلق هذا المنتدى بسبب قانون الجرائم الاردني
حيث دخل حيز التنفيذ اعتبارا من 12/9/2023
ارجو ان تكونوا قد استفدتم من بعض المعلومات المدرجة
منتدى الشنطي
سيغلق هذا المنتدى بسبب قانون الجرائم الاردني
حيث دخل حيز التنفيذ اعتبارا من 12/9/2023
ارجو ان تكونوا قد استفدتم من بعض المعلومات المدرجة

منتدى الشنطي

ابراهيم محمد نمر يوسف يحيى الاغا الشنطي
 
الرئيسيةالرئيسية  البوابةالبوابة  الأحداثالأحداث  أحدث الصورأحدث الصور  التسجيلالتسجيل  دخول  

 

 مكانة بيت المقدس في الإسلام وعند المسلمين

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75517
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

مكانة بيت المقدس في الإسلام وعند المسلمين Empty
مُساهمةموضوع: مكانة بيت المقدس في الإسلام وعند المسلمين   مكانة بيت المقدس في الإسلام وعند المسلمين Emptyالإثنين 24 يونيو 2019, 2:07 am

مكانة بيت المقدس في الإسلام وعند المسلمين

إنَّ تعرُّفَنا على مكانة بيْت المقدس في الإسلام يُلزمنا بالرجوع إلى المصادر الإسلاميَّة الأساسيَّة: القرآن والسنة، ثمَّ عمل الصَّحابة وإجْماع الأمَّة، مكتفين بتقديم بعضِ النصوص الواردة في الموضوع.

يقول القرآن الكريم: ﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ ﴾[الإسراء: 1].

وقد أُسري بالرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - وعُرِج به إلى السَّماء قبل الهجرة النبويَّة بعام وبضعة أشهر، ويقول الرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لا تُشَدُّ الرّحال إلاَّ لثلاثة مساجد: المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى))[1]؛ متفق عليه.

ويقول أيضًا: ((فُضِّلت الصلاة في المسجد الحرام على غيرِه بمائة ألْف صلاة، وفي مسجدي بألف صلاة، وفي مسجد بيْت المقدس بخمسمائة صلاة))[2]؛ رواه الإمام أحمد.

ويقول أبو ذر الغفاري: قلتُ: يا رسول الله، أيُّ مسجد وُضِع في الأرض أوَّلاً؟ قال: ((المسجد الحرام))، قلتُ: ثمَّ أيّ؟ قال: ((المسجد الأقصى))، قلتُ: كم بينهما؟ قال: ((أربعون سنَة))[3]؛ متَّفق عليه.


ويقول أبو أُمامة الباهلي: إنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((لا تزال طائفة من أمَّتي ظاهرين على الحقِّ، لعدوِّهم قاهرين، لا يضرهم مَن خالفهم، حتى يأتيَهم أمر الله - عزَّ وجلَّ - وهم كذلك))، قالوا: يا رسول الله وأين هم؟ قال: ((ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس))[4]؛ رواه الإمام أحمد في "مسنده".
 

إنَّ المسجد الأقصى كما نرى من النصوص الإسلامية:

♦ مسرى الرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - ومنطقة عروجه.

♦ وهو أولى القِبلَتين.

♦وثاني مسجدَين وُضِعَا في الأرض.

♦ وهو منزل مبارَك تُضاعَف فيه الحَسنات، وتُغفر فيه الذنوب.

 
عند الصحابة والتابعين:

وبهذه القداسة، وبناءً على هذه المكانة، نظر المسلمون إلى بيت المقدس على أنه مزارٌ شريف، ومنزل مبارك وموضِع مقدَّس كريم، فشدُّوا إليه الرِّحال، وأحرموا منْه للحج والعمرة، وزاروه لذاتِه بغية الصَّلاة والثَّواب، وأحاطوه برعايتهم الدينيَّة الكريمة.

وقد أحْرم الخليفة عمر بن الخطَّاب نفسه للحج والعمرة من المسجد الأقْصى، وقدِم سعد بن أبي وقَّاص قائد جيشِ القادسية إلى المسجد الأقصى فأحرَم منه بعُمرة، وكذلك فعَل الصَّحابة: عبدالله بن عمر، وعبدالله بن عبَّاس، ومحمود بن الربيع الأنصاري الخزرجي[5].

أمَّا الصحابة والفُقهاء وأعلام الفِكْر الإسلامي الذين زاروا بيت المقدس، وبعضُهم أقام فيه، فهُم أكثر من أن يُحصَوا، وحسبُنا أن نذكُر بعضهم لندلَّ على المكانة الدينيَّة التي احتلَّها بيتُ المقدس في فِكْر المسلمين وحضارتِهم.

فمِن هؤلاء[6]: أبو عبيدة بن الجرَّاح، وصفيَّة بنت حُيَي زوْج رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ومعاذ بن جبَل، وبلال بن رباح مؤذِّن الرسول - الذي رفَض الأذان بعدَ وفاة الرسول، فلم يؤذِّن إلاَّ بعد فتْح بيت المقدس - وعياض بن غُنم، وعبدالله بن عمر، وخالد بن الوليد، وأبو ذر الغفاري، وأبو الدَّرداء عوَيمر، وعُبادة بن الصَّامت، وسلمان الفارسي، وأبو مسعود الأنصاري، وتميم الداري، وعمرو بن العاص، وعبدالله بن سلام، وسعيد بن زيد، وشدَّاد بن أوس، وأبو هريرة، وعبدالله بن عمرو بن العاص، ومعاوية بن أبي سفيان، وعوف بن مالِك، وأبو جمعة الأنصاري، وكل هؤلاء مِن طبقة صحابة الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم.

ومن التَّابعين والفقهاء الأعلام: مالك بن دينار، وأويْس القرني، وكعْب الأحْبار، والإمام الأوزاعي، وسفْيان الثَّوري، وإبراهيم بن أدهم، ومقاتل بن سفيان، واللَّيْث بن سعد، ووكيع بن الجرَّاح، والإمام الشافعي، وأبو جعفر الجرشي، وبشر الحافي، وثوبان بن يمرد[7]، ذو النون المصري، وسُليم بن عامر، والسري السقطي، وبَكْر بن سهل الدمياطي، وأبو العوَّام مؤذِّن بيت المقدس، وسلامة المقدس الضرير، وأبو الفرج عبدالواحد الحنبلي، والإمام الغزالي، والإمام أبو بكر الطرطوشي، والإمام أبو بكر العربي، وأبو بكر الجرجاني[8]، وأبو الحسن الزهري... ومئات غيرهم.
 

خلفاء وملوك زاروا القدس:

ومن الخلفاء الذين زاروا بيتَ المقدس: عمر بن الخطاب، ومعاوية بن أبي سفيان[9]، وعبدالملك بن مروان، وعمر بن عبدالعزيز، والوليد بن عبدالملك، وسليمان بن عبدالملك الذي همَّ بالإقامة في بيت المقدس واتِّخاذها عاصمةً لدولته بدل دمشق، وأبو جعفر المنصور، والخليفة المهدي بن المنصور، وغيرهم مِن خلفاء الأيوبيين والمماليك والعثمانيين.

وقد درج بعضُ الخلفاء والملوك - بدءًا من العصر المملوكي - على كَنْس الصَّخرة وغسلها بماء الورْد بأيديهم، ومن هؤلاء: الظاهر بيبرس، والملِك العادل زين الدين كتبغا المنصوري، والملك الناصر محمد بن قلاوون، وأخوه السلطان حسن والملك الظاهر برقوق، والملِك الأشْرف برسباي، والملِك الأشرف إبنال، والملِك الأشرف قايتباي، والسلطان سليمان القانوني، والسلطان محمود الثاني، والسلطان عبدالمجيد، والسلطان عبدالعزيز، والسلطان عبدالحميد الثاني، وغيرهم[10].

 
حماية بيت المقدس حق للمسلمين لا اليهود:

نحن - المسلمين - نؤمِنُ عن يقينٍ نابع من الإسلام أنَّ بيت المقدس وما حولَه إنَّما هو أرضٌ مقدَّسة، لا نستطيع أن نفرِّط فيها إلاَّ إذا فرَّطنا في تعاليم ديننا.

وغنيٌّ عن التأكيد أنَّنا - وحْدَنا في الأرض بالأمس واليوم - الذين نؤمِن بكلِّ الأنبياء ونُكرمهم ونُنزههم عن كل نقصٍ، بدءًا من آدم وإبراهيم ونوح، وحتَّى موسى وعيسى ومحمَّد - عليهم جميعًا السَّلام - وليس في دِيننا نصٌّ واحد - لا في القرآن الكريم ولا في السنَّة النبوية الشريفة - يَنسبُ إلى أي نبي فاحشةً أو جريمة أو كذبًا.

ولا يُقبل إيمانُ المسلم إلاَّ إذا آمَنَ بكلِّ الأنبياء وأنزلهم جميعًا منزلة كريمة؛ ﴿ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ ﴾ [البقرة: 285].

﴿ قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴾[البقرة: 126].

وفي القرآن الكريم عشراتُ الآيات التي تتناول كلَّ نبي على حِدَة، وتُثبت له كلَّ كريم من الخُلُق، وتَنفي عنه كلَّ ما حاول بعضُهم إلْصاقه به، وتَحكي للمسلم قصة جهاده في أداء رسالته، وما لاقاه من الأذى المادي والمعنوي؛ لتوحي إلى المسلم أن يَحذوَ حَذْوه؛ لأنَّ رسالة الأنبياء منذ نوح وحتى محمد - صلَّى الله عليهم أجمعين - رسالةٌ واحدة، تَنبِع من مصدر واحد، وتهدف إلى غايات واحدة، ويُكمِّل بعضها بعضًا[11].

وبالتَّالي، وانطلاقًا مِن هذا الإيمان الكامل نقف نحن - المسلمين - حُماة لكل التراث والمقدَّسات الدينيَّة السَّماويَّة، وذلك بأمر دِيننا الذي مثَّل آخِرَ حلقة في سلسلة الوحْي السَّماوي، والذي حمل أتباعه - نتيجة هذا - مسؤولية إنسانيَّة عامَّة: ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ﴾[آل عمران: 110].

﴿ وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ ﴾[الحج: 78].

وإنَّ حقيقة هذه المسؤوليَّة العامَّة وقيمتها، لتتَّضح إذا قارنَّاها بالموقِف اليهودي مِنَ الأنبياء، وهو ذلك الموقف الذي لا يؤهِّلهم لأي لونٍ من ألوان الحماية أو الهيمنة على أيَّة مقدسات دينيَّة في الأرض.

إنَّ التوارة نفسها - والإنجيل والقرآن أيضًا - تصِفُهم في مواضع عديدة بأنَّهم "قتَلة الأنبياء" ومُشوِّهوهم، و"أولاد الأفاعي"، و"الضَّالون والعُميان"، و"الملعونون بكفرهم"، وتقول: "قال الرَّب: ها أنذا جالبٌ شرًّا على أورشليم ويهوذا، وأدفعهم إلى أيدي أعدائهم غنيمة ونهبًا لجميع أعدائهم؛ لأنَّهم عملوا الشَّرَّ في عيني"[12].

وتقول: "ها أنذا جالب الشَّر على هذا الموضع وسكَّانه؛ من أجْل أنهم تركوني وأوقدوا لآلهةٍ أخرى؛ لكي يغيظوني بكلِّ عملِ أيديهم، فيشتعل غضبي على هذا الموضع ولا ينطفِئ"[13].

وتقول: "إنَّ الله قال: اذهب: قل لهذا الشَّعْب: اسمعوا سمعًا، ولا تُقهقِهوا، وأبصروا إبصارًا، ولا تعرفوا غِلظَ قلب هذا الشَّعب، وثقل أذنيه، وأطمس عينيه؛ لئلا يبصرَ بعينيْه ويسمع بأُذنيه ويَفهم بقلبه"[14].

وتقول: "وصار مرشدو هذا الشَّعب مضلِّين؛ لأجل ذلك لا يفرح الرَّب بفتيانِه، ولا يرحم أيتامَه وأراملَه؛ لأنَّ كلَّ واحد منهم منافِق وفاعل شرٍّ"[15].

وتسجِّل كتبهم التاريخية أنهم قتلوا من الأنبياء: "حزقيال"، و"أشعيا بن أموص"، و"آرميا"، و"زكريا"، و"يحيى بن زكريا"[16]، كما أنَّهم حاوَلوا قتْل "عيسى"، و"محمَّد" - عليهما الصَّلاة والسَّلام - وتواطؤوا ضدَّهما وضدَّ أتباعهما.

وفي "التوراة" أنَّ إسرائيل "النبي يعقوب" أصرَّ على محْق العرب الكنعانيِّين وعدم الاعتراف لكنعان بحقِّ الحياة "حتَّى لو اعتنق العربُ اليهوديَّة"؛ لأنَّها دين إسرائيل وحْده[17]، وهو أمرٌ محرَّف؛ لأنَّ يعقوب نبي الله ولا يصدُر عنْه هذا التصرُّف الظالم.

وفيها أيضًا أنَّ كلَّ البشر غير اليهود كلاب وخدَم لليهود، ففي أصل الديانة وهي تقول على لسان اليهود:

"لم نأخذْ أرضًا لعرب، ولم نستولِ على شيء لأجنبي، ولكنَّه ميراث آبائنا الذي كان أعداؤنا قد استولَوْا عليه ظلمًا"[18].
 

وتقول: "استيلاء اليهود على ما يَملِكه الغوييم - أي: غير يهود - حقٌّ وعَمَل تصحبه المسرَّة الدائمة".

وتقول: "يستحقُّ القتلَ كلُّ غوييم - أي: غير اليهود - حتَّى ذَوو الفضل منهم".

فهل يمكن أن يؤتمنَ ناسٌ - هذه تعاليم كُتبهم المقدَّسة - على التراث الدِّيني، أو على الحضارة البشرية؟! ويقول القرآن الكريم:﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ﴾[آل عمران: 112].

فهل يصلُحُ ناسٌ هذا موقفهم لحماية تراث الأنبياء؟!

وأين موقف الإسلام والمسلمين من موقف اليهوديَّة واليهود؟!

ومَن يا ترى أَوْلى بحفظ هذا التراث وحمايته؟!

والمسلمون منذ أربعة عشر قرنًا يَنظرون إلى بيْت المقدس نظرةَ تقديس، على أنَّه مركز لتراث دِيني كبير تجب حمايتُه، وهم يربطون ربطًا كاملاً وثيقًا بيْن المسجد الحرام في مكَّة والمسجد الأقصى في القُدس، وينظرون إلى القُدس نظرةً تقترب من نظرتهم إلى مكَّة، فإليهما يشدُّون الرِّحال، وفي كليهما تراث ديني ممتدٌّ في التَّاريخ.

وإذا كان المسلمون في كلِّ بقاع الأرض أصبحوا يتَّجهون في صلاتهم إلى المسجد الحرام، فإنَّهم لا ينسَوْن أنَّ نبيَّهم محمَّدًا وأسلافهم الصَّالحين قد اتَّجهوا - قبل نزول آيات حديث القِبلة إلى الكعبة - إلى المسجد الأقْصى أُولى القِبلتين، ولا زالت مدينة الرسول - عليْه الصَّلاة والسَّلام - تضم مسجدًا يسمى "مسجد القبلتين" شاهدًا حيًّا على الترابط الديني بين مكَّة والقدس، والمسجد الحرام والمسجد الأقصى.

وإذا ذَكَر المسلم بحسِّه الديني الممتد، ووَعْيه التاريخي الإسلامي - بيتَ المقدس، فإنَّه يذكر أنَّه المكان الذي كلَّم الله فيه موسى، وتاب على داود وسليمان، وبشَّر زكريا بيحيى، وسخَّر لداود الجبال والطَّير، وأوْصى إبراهيم وإسحاق أن يُدفنا فيه، وفيه وُلِد عيسى، وتكلَّم في المهد، وأُنزِلت عليه المائدة ورُفِع إلى السَّماء، وماتَت مريم[19].

إنَّ هذا هو موقف المسلم من الأنبياء وتُراثهم ومن بيت المقدس، وهو موقفٌ يقوم على التقْدير والتَّقديس والشعور بالمسؤوليَّة الدينيَّة والتاريخيَّة.


[1] متفق عليه.

[2] رواه الإمام أحمد.

[3] متفق عليه.

[4] رواه الإمام أحمد في "مسنده".

[5] انظر: الأنس الجليل 1/260-266، ومحمد الفحام؛ المسلمون واسترداد بيت المقدس، ص34 وما بعدها، نشْر الأزهر، والإحرام في الإسلام قبل الميقات، وهو أمر معروف والمهم ألا يتعدَّى المَيقات.

[6] انظر: ابن سعد؛ "الطبقات الكبرى" 7/424، طبعة بيروت.

[7] "الطبقات" 7/464.

[8] "الأنس الجليل"، ص575 وما بعدها.

[9] انظر: ابن سعد؛ "الطبقات الكبرى" 7 /406.

[10] انظر: د. رشاد الإمام؛ "مدينة القدس في العصر الوسيط"، ص62 وما بعدها.

[11] انظر: "حقيقة هذه الوحدة في الآيات" (83- 90).

[12] "سفر الملوك الثاني" 21 /12 - 15.

[13] "سفر الملوك الثاني" 21 /16 - 17.

[14] "سفر أشعيا" 6/1208.

[15] "سفر أشعيا" 9/13- 17.

[16] انظر: نبيل شبيب، "الحق والباطل"، ص 18 - أخن - ألمانيا.

[17] انظر: سفر المكابين الثاني.

[18] انظر: سفر المكابين الثاني.

[19] انظر: "الأنس الجليل" 1/239.



بيت المقدس.. المكانة والأمانة

عد مرور ما يزيدُ عن نصفِ قرنٍ على احتلال فلسطين، وكلما ادلهمت الخطوبُ واشتدت المحن، فإن المسلم المستنير بكتاب الله وسنة رسوله -صل الله عليه وسلم- لا تزيدُه تلك الأحداثُ إلا يقينًا بوعد الله الصادق بالنصر والتمكين للمسلمين في الأرض كلها، وفي تلك الأرض خصوصًا. وقد ارتبطت قدسيةُ المسجد الأقصى بالعقيدة الإسلامية منذ أن كان القبلةَ الأولى للمسلمين، فهو أولى القبلتين، وقد سمي أيضاً مسجد القبلتين نسبة إلى ذلك.

وتوثقت إسلاميةُ المسجد الأقصى بحادثة الإسراء والمعراج؛ قَالَ تَعَالَى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الإسراء: 1]، تلك المعجزة التي اختصت برسول الله محمد -صل الله عليه وسلم-، وما إن أدرك واستوعب المسلمون أهميةَ هذه المكانة الدينية الرفيعة للمسجد الأقصى وبيت المقدس وعلاقتهما الوثيقة بالعقيدة الإسلامية، حتى بدأوا في العناية والاهتمام بها، فكان الفتح العُمَري لبيت المقدس سنة 15 هجرية (636 ميلادية)، عندما دخلها الخليفةُ عمرُ بنُ الخطاب سِلْمًا وأعطى لأهلها الأمان من خلال وثيقته التي عرفت بالعهدة العمرية.

حدود المسجد الأقصى: جاء في مجموعة الرسائل الكبرى: (المسجد الأقصى اسمٌ لجميع المسجد... وقد صار بعضُ النّاس يسمّي "الأقصى" المصلَّى الذي بناه عمرُ بن الخطّاب في المقدمة... وإنّما المسجد الأقصى كل ما حاط عليه سورُ الحرم).

وهذه جملة من الآيات والأحاديث الواردة في فضائل بيت المقدس وبلاد الشام، تنير الدرب، وتبث التفاؤل في النفوس، وتشحذ الهمم لنصرة إخواننا المستضعفين والمرابطين على ثرى فلسطين اليوم، فمن خصائص بيت المقدس والشام:

أنها أرض التقديس والبركة: فهي لا تُذكر في كتاب الله إلا مقرونة بوصف البركة أو التقديس، قال تعالى عن المسجد الأقصى: {...إلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [الإسراء: 1]، وقال تعالى على لسان موسى عليه السلام: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ...} [المائدة: 21]، وقال تعالى حكاية عن الخليل إبراهيم عليه السلام في هجرته الأولى إلى بيت المقدس وبلاد الشام: {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 71]. وقال تعالى: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} [الأعراف: 137]. وفي قصة سليمان عليه السلام يقول سبحانه وتعالى: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} [الأنبياء: 81]، وعند حديث القرآن عن هناءة ورغد عيش أهل سبأ يقول سبحانه: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً} [سبأ: 18] وهي قرى بيت المقدس كما رُوي عن ابن عباس.

بسط الملائكة أجنحتها على الشام: أخرج الترمذي وأحمد وصححه الطبراني والحاكم ووافقه الذهبي من حديث زيد بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صل الله عليه وسلم يقول: "يا طوبى للشام! يا طوبى للشام! يا طوبي للشام!، قالوا: يا رسول الله وبِمَ ذاك؟ قال: تلك ملائكة الله باسطو أجنحتها على الشام". قال العز بن عبدالسلام رحمه الله: [أشار رسول الله إلى أن الله سبحانه وتعالى وكل بها الملائكة، يحرسونها، ويحفظونها].

مضاعفة أجر الصلاة في المسجد الأقصى: عن أبي ذر –رضي الله عنه– قال: تذاكرنا -ونحن عند رسول الله- أيهما أفضل: أمسجد رسول الله أَم بيت المقدس؟ فقال رسول الله صل الله عليه وسلم: "صلاة في مسجدي أفضلُ من أربع صلوات فيه، ولنِعْم المصلى هو، وليوشكن أن يكون للرجل مثل شَطَن فرسه من الأرض حيثُ يرى منه بيت المقدس خيرٌ له من الدنيا جميعًا. قال: أو قال: خير له من الدنيا وما فيها"، أخرجه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي وصححه الألباني. وفي الحديث أن صلاةً في المسجد الأقصى بمائتين وخمسين صلاةً فيما سواه عدا مسجدَيْ مكة والمدينة، وَقَد اخْتَلَفَتْ الْأَحَادِيثُ فِي فضل الصلاة في المسجد الأقصى, قَالَ الْجُرَاعِيُّ: [وَرَدَ أَنَّ الصَّلَاةَ فِيهِ بِخَمْسِمِائَة, وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيِّ الدِّينِ: إنَّهُ الصَّوَابُ].

زمان تمني رؤية المسجد الأقصى: وحديث أبي ذر السابق يُشير إلى زمان تمني رؤية المسجد الأقصى.

البشرى بفتحه: وذلك من أعلام النبوة أنْ بَشَّر صلى الله عليه وسلم بفتحه قبل أن يُفتح ببضع عشرة سنة؛ فعن عوف بن مالك قال: أتيتُ النبي صل الله عليه وسلم في غزوة تبوك وهو في قبة من أَدَم، فقال: اعْدُد ستاً بين يدي الساعة: موتي، ثم فتح بيت المقدس، ثم مُوتان يأخذ فيكم كقُعَاصِ الغنم، ثم استفاضة المال حتى يُعطى الرجلُ مائةَ دينار، فيظل ساخطاً، ثم فتنة لا يبقى بيتٌ من العرب إلا دخلته، ثم هدنة تكون بينكم وبين بني الأصفر، فيغدرون فيأتونكم تحت ثمانين غاية، تحت كل غاية اثنا عشر ألفاً"، رواه البخاري.

دعوة سليمان عليه السلام بالمغفرة لمن صلى في بيت المقدس: عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لما فرغ سليمانُ بن داود من بناء بيت المقدس سأل الله ثلاثاً: حُكْماً يصادف حُكْمَه، ومُلْكاً لا ينبغي لأحدٍ من بعده, وألاّ يأتي هذا المسجدَ أحدٌ لا يريد إلاّ الصلاة فيه إلاّ خرج من ذنوبه كيومَ ولدته أمه، فقال رسول الله صل الله عليه وسلم: أما اثنتان فقد أُعطِيهما, وأرجو أن يكون قد أعطي الثالثة"، أخرجه النسائي وابن ماجه، والرجاء المذكور في الحديث متحقق لنبينا بإذن الله، كما استجاب الله لدعوات سليمان عليه السلام. ولأجل هذا الحديث كان ابنُ عمر رضي الله عنهما يأتي من الحجاز, فيدخل فيصلي فيه, ثم يخرج ولا يشرب فيه ماء مبالغةً منه لتمحيص نية الصلاة دون غيرها, لتصيبه دعوة سليمان عليه السلام.

ثبات أهل الإيمان فيه عند حلول الفتن: عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صل الله عليه وسلم: "بَيْنَما أَنَا نَائِمٌ إِذْ رَأَيْتُ عَمُودَ الْكِتَابِ احْتُمِلَ مِنْ تَحْتِ رَأْسِي، فَظَنَنْتُ أَنَّهُ مَذْهُوبٌ بِهِ، فَأَتْبَعْتُهُ بَصَرِي، فَعُمِدَ بِهِ إِلَى الشَّامِ، أَلا وَإِنَّ الْإِيمَانَ حِينَ تَقَعُ الْفِتَنُ بِالشَّامِ"، أخرجه أحمد.

أنها حاضرة الخلافة الإسلامية في آخر الزمان: عن أبي حوالة الأزدي رضي الله عنه قال: وضع رسول الله صل الله عليه وسلم يده على رأسي أو على هامتي ثم قال: "يا ابن حوالة: إِذَا رَأَيْتَ الْخِلَافَةَ قَدْ نَزَلَت الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةِ فَقَدْ دَنَت الزَّلازِلُ وَالْبَلابِلُ وَالأُمُورُ الْعِظَامُ وَالسَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِن النَّاسِ مِنْ يَدِي هَذِهِ مِنْ رَأْسِكَ"، أخرجه أبو داود وأحمد.

المسجد الأقصى ثاني مسجد وضع في الأرض بعد المسجد الحرام: عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله أي مسجد وضع في الأرض أولاً؟ قال: المسجد الحرام. قال: قلت: ثم أي؟ قال: المسجد الأقصى، قلت: كم كان بينهما؟ قال: أربعون سنة، ثم أينما أدركتك الصلاةُ بعدُ فصَلِّهْ، فإن الفضل فيه"، رواه البخاري.

قبلة المسلمين الأُولى: كانت القبلة إلى المسجد الأقصى لمدة ستة عشر شهرًا أو سبعة عشر شهرًا قبل نسخها وتحويلها إلى الكعبة ببلد الله الحرام. أخرج البخاري ومسلم بالسند إلى البراء بن عازب رضي الله عنه قال: صليت مع رسول الله صل الله عليه وسلم نحو بيت المقدس ستة عشر شهرًا أو سبعة عشر شهرًا ثم صرفنا الى القبلة.

مبارك فيه وما حوله: هو مسجد في أرض باركها الله تعالى، قال تعالى:{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [الإسراء: 1]. قيل: لو لم تكن له فضيلة إلا هذه الآية لكانت كافية، وبجميع البركات وافية؛ لأنه إذا بورك حوله، فالبركة فيه مضاعفة. ومن بركته أن فُضِّل على غيره من المساجد سوى المسجد الحرام ومسجد الرسول صل الله عليه وسلم.

مسرى النبي صلى الله عليه وسلم: كان الإسراء من أول مسجد وضع في الأرض إلى ثاني مسجد وضع فيها، فجُمِع له فضل البيتين وشرفهما، ورؤية القبلتين وفضلهما. أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أُتيتُ بالبراق – وهو دابة أبيض طويل فوق الحمار ودون البغل، يضع حافره عند منتهى طرفه – قال: فركبت حتى أتيت بيت المقدس، قال: فربطته بالحلقة التي يربط به الأنبياء قال: ثم دخلت المسجد فصليت فيه ركعتين ثم خرجت، فجاءني جبريل عليه السلام بإناء من خمر وإناء من لبن فاخترت اللبن، فقال جبريل صل الله عليه وسلم اخترت الفطرة، ثم عرج بنا إلى السماء..".

دعوة موسى عليه السلام: كان من تعظيم موسى عليه السلام للأرض المقدسة وبيت المقدس أن سأل اللهَ تبارك وتعالى عند الموت أن يُدنيه منها. روى البخاري في صحيحه مرفوعاً: "فسأل موسى الله أن يدنيه من الأرض المقدسة رميةً بحجر، فلو كنتُ ثَمَّ لأريتُكم قبرَه إلى جانب الطريق تحت الكثيب الأحمر". قال النووي: "وأما سؤاله –أي موسى عليه السلام– الإدناء من الأرض المقدسة فلشرفها".

إليه تشد الرحال: أجمع أهل العلم على استحباب زيارة المسجد الأقصى والصلاة فيه، وأن الرحال لا تشد إلا إلى ثلاثة مساجد منها المسجد الأقصى، وتلك المساجد الثلاثة لها الفضل على غيرها من المساجد؛ فقد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صل الله عليه وسلم قال: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا".

مقام الطائفة المنصورة: قال صل الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين على من ناوأهم وهم كالإناء بين الأكلة، حتى يأتي أمر الله وهم كذلك"، قلنا: يا رسول الله، وأين هم؟ قال: "بأكناف بيت المقدس". أخرجه الطبراني في الكبير وصححه الألباني.

صلاح أهلها علامة صلاح الأمة: قال صل الله عليه وسلم: "إذا فسد أهل الشام فلا خير فيكم، لا تزال طائفة من أمتي منصورين لا يضرهم من خذلهم حتى تقوم الساعة"، أخرجه الترمذي وابن ماجه وأحمد وصححه الألباني.

موت منافقيهم هماً أو غيظاً أو حُزناًً: فعن خُرَيْمِ بْنِ فَاتِكٍ الأَسَدِيَّ قال: "أَهْلُ الشَّامِ سَوْطُ اللَّهِ فِي الأَرْضِ؛ يَنْتَقِمُ بِهِمْ مِمَّنْ يَشَاءُ كَيْفَ يَشَاءُ، وَحَرَامٌ عَلَى مُنَافِقِيهِمْ أَنْ يَظْهَرُوا عَلَى مُؤْمِنِيهِمْ، وَلَنْ يَمُوتُوا إِلاَّ هَمًّا أَوْ غَيْظًا أَوْ حُزْنًا"، انفرد به أحمد، وإسناده صحيح موقوف.

الحث على سكناها: زار عدد كبير من الصحابة والعلماء والصالحين بيتَ المقدس، وسكنوا في بلاد الشام، وصلوا في أكنافه استجابةً لدعوة رسول الله صل الله عليه وسلم بقوله: "عليكم بالشام فإنها صفوة بلاد الله، يسكنها خيرته من خلقه، فمن أبى فليلحق بيمنه، وليسق من غدره، فإن الله تكفل لي بالشام وأهله"، صحيح الجامع الصغير للألباني.

ولقد حرَص المسلمون منذ الفتح العمري، على شد الرحال إلى المسجد الأقصى المبارك للصلاة فيه ونشر الدعوة الإسلامية، حتى إن الخليفة الفاروق عمر كلف بعض الصحابة الذين قدموا معه عند الفتح، بالإقامة في بيت المقدس والعمل بالتعليم في المسجد الأقصى المبارك إلى جانب وظائفهم الإدارية التي أقامهم عليها. فكان من هؤلاء الصحابة عبادة بن الصامت أول قاض في فلسطين، وشداد بن أوس، وتوفي هذان الصحابيان في بيت المقدس ودفنا في مقبرة باب الرحمة الواقعة خارج السور الشرقي للمسجد الأقصى. وممن زار بيتَ المقدس من الصحابة عمر بن الخطاب وأبو عبيدة عامر بن الجراح وأم المؤمنين صفية بنت حيي زوج رسول الله، ومعاذ بن جبل، وعبد الله بن عمر، وخالد بن الوليد، وأبو ذر الغفاري، وأبو الدرداء، وسلمان الفارسي، وعمرو بن العاص، وسعيد بن زيد من العشرة المبشرين بالجنة، وأبو هريرة، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وغيرهم رضوان الله عليهم أجمعين. وواصل علماءُ الإسلام من كل حدب وصوب شدَّ الرحال إلى المسجد الأقصى للسكنى والتعليم فيه، فكان منهم مقاتل بن سليمان المفسر، والإمام الأوزاعي فقيه أهل الشام، والإمام سفيان الثوري إمام أهل العراق، والإمام الليث بن سعد عالم مصر، والإمام محمد بن إدريس الشافعي أحد الأئمة الأربعة.

أرض المحشر والمنشر: في بيت المقدس الأرض التي يحشر إليها العباد، ومنها يكون المنشر، فعن ميمونة رضي الله عنها قالت: يا رسول الله! أفتنا في بيت المقدس؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "أرض المحشر والمنشر"، وفي رواية أبي داود: "ائتوه فصلوا فيه -وكانت البلاد إذ ذاك حربًا– فإن لم تأتوه وتصلوا فيه، فابعثوا بزيت يُسرج في قناديله"، رجاله ثقات وقواه النووي في المجموع وصححه الألباني، فمكة مبدأ الخلق، والقدس معادهم، وكذلك كان مبعثه صلى الله عليه وسلم من مكة، وظهور دينه وتمامه حيث يخرج المهدي بالشام، وقوله صل الله عليه وسلم: "فابعثوا بزيت يُسرج في قناديله" وصية نبوية كريمة بعمارته والعناية به، وها هي ذي أجيال المسلمين تبعث بالزيت لقناديله، بل وتبعث بالدماء للذود عنه وصونه من انتهاكات الصليبيين واليهود من بعدهم، فلعلنا نبعث بالكلمات والمال وبكل ما نقدر عليه لنصرة أهلنا المجاهدين والمرابطين في فلسطين الحبيبة.

الحث على الهجرة إليها: فعند أبي دواد والحاكم وأحمد عن عبد الله بن عمرو قال: سمعت رسول الله صل الله عليه وسلم يقول: "ستكون هجرة بعد هجرة؛ فخيار أهل الأرض ألزمُهم مهاجَر إبراهيم، ويبقى في الأرض شرار أهلها تلفظهم أرضوهم تقذرهم نفس الله وتحشرهم النار مع القردة والخنازير".

نزول عيسى ومقتل الدجال: ففي صحيح مسلم: عَنْ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ قَالَ ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صل الله عليه وسلم الدَّجَّالَ ذَاتَ غَدَاةٍ فَخَفَّضَ فِيهِ وَرَفَّعَ حَتَّى ظَنَنَّاهُ فِي طَائِفَةِ النَّخْلِ... فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ بَعَثَ اللَّهُ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ فَيَنْزِلُ عِنْدَ الْمَنَارَةِ الْبَيْضَاءِ شَرْقِيَّ دِمَشْقَ بَيْنَ مَهْرُودَتَيْنِ وَاضِعًا كَفَّيْهِ عَلَى أَجْنِحَةِ مَلَكَيْنِ، إِذَا طَأْطَأَ رَأْسَهُ قَطَرَ، وَإِذَا رَفَعَهُ تَحَدَّرَ مِنْهُ جُمَانٌ كَاللُّؤْلُؤِ، فَلاَ يَحِلُّ لِكَافِرٍ يَجِدُ رِيحَ نَفَسِهِ إِلَّا مَاتَ وَنَفَسُهُ يَنْتَهِي حَيْثُ يَنْتَهِي طَرْفُهُ فَيَطْلُبُهُ حَتَّى يُدْرِكَهُ بِبَابِ لُدٍّ فَيَقْتُلُهُ..."، واللد مدينة معروفة في فلسطين، قال النووي: [بِضَمِّ اللاَّم وَتَشْدِيد الدَّال مَصْرُوف, وَهُوَ بَلْدَة قَرِيبَة مِنْ بَيْت الْمَقْدِس]. فنهاية الدجال -وهو رجل من يهود- في بلاد الشام وحول بيت المقدس كما كانت نهايات أكبر أعداء الإسلام من الصليبيين –في حطين– والتتار –في عين جالوت- فيها وكذلك الملحمة الكبرى.

أرض الملحمة الكبرى: ففي صحيح مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صل الله عليه وسلم قَالَ: "لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَنْزِلَ الرُّومُ بِالْأَعْمَاقِ أَوْ بِدَابِقٍ فَيَخْرُجُ إِلَيْهِمْ جَيْشٌ مِنْ الْمَدِينَةِ مِنْ خِيَارِ أَهْلِ الْأَرْضِ يَوْمَئِذٍ فَإِذَا تَصَافَّوا قَالَتْ الرُّومُ: خَلُّوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الَّذِينَ سَبَوْا مِنَّا نُقَاتِلْهُمْ، فَيَقُولُ الْمُسْلِمُونَ: لا وَاللَّهِ لا نُخَلِّي بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ إِخْوَانِنَا، فَيُقَاتِلُونَهُمْ فَيَنْهَزِمُ ثُلُثٌ لا يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أَبَدًا، وَيُقْتَلُ ثُلُثُهُمْ أَفْضَلُ الشُّهَدَاءِ عِنْدَ اللَّهِ، وَيَفْتَتِحُ الثُّلُثُ لا يُفْتَنُونَ أَبَدًا، فَيَفْتَتِحُونَ قُسْطَنْطِينِيَّةَ"، قال النووي: [وَ(الأَعْمَاق وَدَابِق) مَوْضِعَانِ بِالشَّامِ بِقُرْبِ حَلَب].

وبعد كل هذه الفضائل، فعلينا أن نعلم بأن تدنيس اليهود لها اليوم من أعظم البلاء والامتحان لهذه الأمة، التي ورثت راية الدعوة إلى الله، كما ورثت ولاية الأنبياء، والثأرُ لهم جزء من تلك الولاية، وعودةُ اليهود قتلةِ الأنبياء لأرض الأنبياء من قدر الله ليكون الثأر منهم على يد هذه الأمة، بل إن الصحيح من أقوال أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات شهيداً بسم المرأة اليهودية، فقد أخرج البخاري في باب مَرَضِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَوَفَاتِهِ عن عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: كَانَ النَّبِيُّ صل الله عليه وسلم يَقُولُ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ: يَا عَائِشَةُ: مَا أَزَالُ أَجِدُ أَلَمَ الطَّعَامِ الَّذِي أَكَلْتُ بِخَيْبَرَ، فَهَذَا أَوَانُ وَجَدْتُ انْقِطَاعَ أَبْهَرِي مِنْ ذَلِكَ السُّمِّ.

ولإيضاح ولاية المسلمين للأنبياء جميعهم نشير هنا إلى أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام، الذي نفى عنه ربُّ العالمين اليهوديةَ والنصرانية بقوله تعالى: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران: 67]، ويؤكد رب العالمين أن أبناء إبراهيم هم المسلمون وليسوا اليهود، ويسجل القرآن الكريم دعاء إبراهيم عليه السلام: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} [البقرة: 128]، ويسجل أيضاً: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 68]، وقال تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} [المائدة: 55]، واليهود ليسوا كذلك؛ لأنهم كفروا بالله والرسالات، وانتهكوا الحرمات، واستحلوا الدماء والأعراض والأموال، والكافر لا يرث مسلماً، وتتضح هنا الحقيقة الشرعية والتاريخية في رد الله تعالى على إبراهيم عليه السلام حينما أكرمه الله بإمامة المسلمين؛ فطلب من الله أن تكون الإمامة في عقبه من بعده، وجاء الرد: {لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة: 124]. واليهود فجرة ظلمة، ومن ثم فلا حق لهم في وراثة إبراهيم عليه السلام، ويؤكد ذلك قول الله تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء: 105].

ويجب على كل مسلم ومسلمة السعيُ لتحرير الأرض المباركة من دنس اليهود الغادرين الذين وصفهم الله عز وجل بقوله: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [المائدة: 83]، الذين نعتهم القرآن بكل صفات الغدر والخيانة {كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ} [المائدة: 64] وهم قتلة الأنبياء ونحن ورثة الأنبياء، وورثة ثأرهم والانتصار لهم، قال تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأعراف: 167] قال الطبري: [إن الآية في اليهود، وإن الذين يسومونهم محمد صل الله عليه وسلم وأمته إلى يوم القيامة]. وسيرتهم مع رسول الله وإخوانه من الأنبياء خير شاهد على أحوالهم.

فالمسجد الأقصى قلب بلاد الشام، وهي ملك أمة محمد صل الله عليه وسلم، احتلها اليهود اليوم لينفذ قدر الله بأن تأخذ أمة محمد شرف الانتصار للأنبياء الذين عاشوا فيها وقتلوا على أيدي اليهود فيها.

ستبقى الأرضُ الطاهرة المباركة التي قدسها الله أكبرَ من مؤامراتهم ومكايدهم ومخططاتهم، وكما نتمنى اليوم أن لو كنا مع جيش عمر رضي الله عنه عند فتح بيت المقدس، أو لو كنا مع جيش صلاح الدين رحمه الله عند تحرير بيت المقدس، فسوف تأتي أجيال من المسلمين تتمنى أن لو أدركت زماننا هذا لتشارك في شرف تحرير بيت المقدس، ولا يزال بيد الشعوب المسلمة اليوم الكثير من الوسائل لنصرة المسجد الأقصى، ولن ترضى بأن يهان أو يمس بأذى المسجد الأقصى المبارك، قال تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [التوبة: 105].
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75517
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

مكانة بيت المقدس في الإسلام وعند المسلمين Empty
مُساهمةموضوع: رد: مكانة بيت المقدس في الإسلام وعند المسلمين   مكانة بيت المقدس في الإسلام وعند المسلمين Emptyالإثنين 24 يونيو 2019, 2:08 am

فضائل بيت المقدس

 يزداد ألم المسلمين وأسفهم يومًا بعد يوم على الحال التي آلَ إليها المسجد الأقصى من تسلُّط اليهود المجرمين عليه، وانتهاكهم لحُرمته، واعتدائهم على قُدْسيته ومكانته، وارتكابهم فيه ومع أهله أنواعًا كثيرة من التعديات والإجرام، 
والمسجد الأقصى   مسجد عظيم مبارك، له مكانة عالية في نفوس المؤمنين، ومنزلة رفيعة في قلوبهم، 
فهو مسجد خُصَّ في الكتاب والسُّنة بميزات كثيرة، وخصائص عديدة وفضائل جمَّة، تدل على رفيع مكانته وعظيم قدره، 
فمن فضائله   أنه أحد المساجد الثلاثة المفضلة التي لا يجوز شد الرحال بنية التعبُّد إلا إليها؛ 
فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صل الله عليه وسلم - قال: 
((لا تُشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد؛ المسجد الحرام، ومسجد الرسول - صل الله عليه وسلم - ومسجد الأقصى))؛ متفق عليه.

 ومن فضائله أنه ثان مسجد وُضع في الأرض؛ فعن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: قلت: يا رسول الله أيُّ مسجد وُضع في الأرض أول، قال: ((المسجد الحرام))، قلتُ ثم أي، قال: ((المسجد الأقصى))، قلت: كم كان بينهما، قال: ((أربعون سنة))، ثم أينما أدركتْكَ الصلاة بعدُ فصلهْ؛ فإن الفضل فيه))؛ متفق عليه.


ومن فضائله   أنه قِبلة المصلين الأُولى قبل نسخ القبلة وتحويلها إلى الكعبة؛ فعن البراء - رضي الله عنه - قال: "صلينا مع النبي - صل الله عليه وسلم - نحو بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهرًا، ثم صرفه نحو القِبلة"؛ متفق عليه.

ومن فضائله أنه مسجد في أرض مباركة؛ قال الله - تعالى -: ﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ ﴾ [الإسراء: 1]، وقد قيل لو لم تكن لهذا المسجد إلا هذه الفضيلة، لكانت كافية.

وأرضه   هي أرض المحشر والمنشر؛ فعن ميمونة مولاة النبي - صل الله عليه وسلم - قالت: قلت: يا رسول الله أفتنا في بيت المقدس، قال: ((أرضُ المحشر والمنشر))؛ رواه ابن ماجه.

ومن فضائله أنه مَسْرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومنه عُرج به إلى السماء؛ فعن أنس ابن مالك - رضي الله عنه - أن رسول الله - صل الله عليه وسلم - قال: ((أُتيت بالبراق وهو دآبة أبيض طويل، فوق الحمار ودون البغلة، يضع حافره عند منتهى طَرْفه، فركبتُ؛ حتى أتيت بيت المقدس، فربطته بالحلقة التي يربط بها الأنبياء، ثم دخلت فصليتُ فيه ركعتين، ثم خرجت فجاءني جبريل - عليه السلام - بإناء من خمر وإناء من لبن، فاخترتُ اللبن، فقال جبريل: اخترت الفِطرة، ثم عُرِج بنا إلى السماء))؛ رواه مسلم.

ومن فضائله   أن الصلاة فيه تُضاعَف؛ فعن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: تذاكرنا ونحن عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أيهما أفضل؛ أمسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أم بيت المقدس، فقال رسول الله - صل الله عليه وسلم -: ((صلاة في مسجدي أفضل من أربع صلوات فيه، ولنعم المصلَّى هو، وليوشكنَّ أن يكون للرجل مثل شطن فرسه من الأرض، حيث يرى منه بيت المقدس، خير له من الدنيا جميعًا))، قال أو قال: ((خير له من الدنيا وما فيها))؛ رواه الحاكم، وهو حديث صحيح.

وهذا   عَلَمٌ من أعلام نبوته - صل الله عليه وسلم - حيث بيَّن ما سيؤول إليه المسجد الأقصى، مع تعلُّق قلوب المسلمين به، وأن مؤامرات الأعداء على المسجد الأقصى ستزداد، حتى إنّ المؤمن ليتمنَّى أن يكون له موضع صغير يُطِل منه على المسجد الأقصى، ويكون ذلك أحبَّ إليه من الدنيا وما فيها.

ومن فضائله   ما ورد في حديث عبدالله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لما فرغ سليمان بن داود - عليهما السلام - من بناء بيت المقدس، سأل الله ثلاثًا؛ حُكمًا يصادف حكمه، ومُلكًا لا ينبغي لأحد من بعده، وألا يأتي أحدٌ لا يريد إلا الصلاة فيه إلا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أُمه))، فقال - صل الله عليه وسلم -: ((أما اثنتان فقد أُعطيهما، وأرجو أن يكون أُعطي الثالثة))؛ رواه النسائي، وابن ماجه.

 
يجب علينا أن ندرك أن عدوان اليهود على المسجد الأقصى، وعلى أرض فلسطين، وعلى المسلمين في فلسطين، ليس مجرد نزاع على أرض، وأن ندرك أن قضية فلسطين قضيةٌ إسلامية، يجب أن يُؤرِّق أمرُها بال كل مسلم، ففلسطين بلد الأنبياء، وفيها ثالث المساجد الثلاثة المعظمة، وهي مسرى رسول الله - صل الله عليه وسلم - وفيها قِبلة المسلمين الأُولى، وليس لأحد فيها حقٌّ إلا الإسلام وأهله؛ ﴿ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [الأعراف : 128]، ويجب علينا   أن ندرك أن تغلب هذه الشرذمة المرذولة، والفئة المخذولة وتسلُّطهم على المسلمين، إنما هو بسبب الذنوب والمعاصي، وإعراض كثير من المسلمين عن دينهم الذي هو سبب عِزهم وفلاحهم ورِفْعتهم في الدنيا والآخرة؛ قال الله - تعالى -: ﴿ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ﴾ [الشورى: 30]، فلا بد   من عودة صادقة وأوْبَة حميدة إلى الله - جلّ وعلا - فيها تصحيح للإيمان وصلة بالرحمن، وحِفاظ على الطاعة والإحسان، وبُعد وحذر من الفسوق والعصيان؛ لينال المؤمنون بذلك العزّ والتمكين، والنصر والتأييد، وعليكم   بالصدق مع الله - تبارك وتعالى - في الدعاء؛ فإن المؤمن في كل أحواله وجميع شؤونه؛ في شدته ورخائه، وسرائه وضرَّائه لا مفزع له إلا الله، ولا ملجأ له إلا إلى ربِّه وسيده ومولاه، يتوجه إليه بالدعاء والأمل والرجاء.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75517
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

مكانة بيت المقدس في الإسلام وعند المسلمين Empty
مُساهمةموضوع: رد: مكانة بيت المقدس في الإسلام وعند المسلمين   مكانة بيت المقدس في الإسلام وعند المسلمين Emptyالإثنين 24 يونيو 2019, 2:09 am

طبيعة الصراع على بيت المقدس
 

الحمد لله العليم الحكيم؛ خلق البشر فجعلهم فريقين:أهل حق وأهل الباطل، وقضى ببقاء الصراع بينهما إلى آخر الزمان؛ فلا يجتمعان ولا ينتفيان؛ ابتلاء منه سبحانه لعباده ﴿ ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ ﴾ [محمد:4] نحمده كما ينبغي له أن يحمد، ونشكره على عظيم منه وواسع فضله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ لا يقضي قضاء للمؤمنين إلا كان خيرا لهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فعليه السخط، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ ختم الله تعالى به النبوات، وقضى بهيمنة شريعته على الشرائع كلها، فلا حق يوصل إلى الله تعالى ورضوانه إلا ما جاء به محمد عليه الصلاة والسلام، وما عارضه فهو البعد عن الله تعالى ورضوانه ﴿ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الحَقِّ ﴾ [المائدة:48] صل الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه؛ قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.


أما بعد: فاتقوا الله أيها المؤمنون واعملوا صالحا؛ فإن أمامكم كربات وشدائد لا ثبات فيها، ولا مخرج منها إلا بتقوى الله عز وجل، وقوة اليقين به، والالتجاء إليه، وصدق التوكل عليه ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا ﴾ [الطَّلاق:3].


أيها الناس: من عدل الله تعالى في عباده أن جعل السيادة والريادة لمن يدين بدينه ويقيم شريعته، بغض النظر عن جنسه ولونه ولسانه وماله وسلطانه، وهؤلاء هم أهل الحق، والحق أقوى من الباطل وإن طغى أهله وظلموا ﴿ بَلْ نَقْذِفُ بِالحَقِّ عَلَى البَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ ﴾ [الأنبياء:18] وأهل الحق غالبون ولو كانوا قلة مستضامين مستضعفين؛ لأنهم جند الله تعالى، وقد قال سبحانه ﴿ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الغَالِبُونَ ﴾ [الصَّفات:173].


وبنو إسرائيل أمة قد فضلها الله تعالى على من كانوا قبلها من الأمم، بما آتاها الله تعالى من الحكم والنبوة ﴿ وَلَقَدْ آَتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الكِتَابَ وَالحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى العَالَمِينَ ﴾ [الجاثية:16] وفي الآية الأخرى ﴿ وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى العَالَمِينَ ﴾ [الدُخان:32].


وإذا أطلق إسرائيل في القرآن فهو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام، جعل الله تعالى النبوة في ذريته، وكان موطنهم بيت المقدس بعد أن اتخذه جدهم الخليل إبراهيم عليه السلام موضعا يعبد الله تعالى فيه، إلى أن جرى على يوسف ما جرى عليه في مصر من الرفعة والتمكين، فهاجر يعقوب ببنيه من بيت المقدس إلى مصر؛ كما في سورة يوسف عليه السلام ﴿ فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آَوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللهُ آَمِنِينَ ﴾ [يوسف:99] ومكثوا فيها أربعة قرون وزيادة، كان الكنعانيون الوثنيون فيها يحكمون بيت المقدس ويسمون العمالقة والجبارين، فلما بعث الله تعالى موسى من نسل يعقوب عليهما السلام، وجرى عليه ما جرى مع فرعون وقومه أنزل الله تعالى التوراة على موسى عليه السلام، وفرض فيها الجهاد على بني إسرائيل فأمروا بقيادة موسى عليه السلام أن يطهروا بيت المقدس من وثنية الكنعانيين؛ فامتنعت بنو إسرائيل عن القيام بأمر الله تعالى وقالوا ﴿ يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ ﴾ [المائدة:22] فعاقبهم الله تعالى بالتيه على عصيانهم أربعين سنة على ما جاء ذكره في سورة المائدة، توفي فيها موسى وهارون عليهما السلام، ونشأ جيل جديد من بني إسرائيل، أقوى إيمانا، وأصلب عودا، وأمضى عزيمة، فقادهم يوشع بن نون عليه السلام إلى بيت المقدس ففتح الله تعالى عليه، وطهرت الأرض المباركة من شرك الكنعانيين الوثنيين، وعمرها أتباع موسى بتوحيد الله تعالى، إلى أن دبَّ الشرك والعصيان في بعضهم، فكان من بني إسرائيل موحدون، كما كان فيهم مشركون، فلما كثر العصيان فيهم سلط الله تعالى عليهم الجبابرة من الكنعانيين، فاحتلوا بيت المقدس، ونكَّلوا بهم، فضاع بنو إسرائيل وتفرقوا، فعمدوا إلى نبي لهم لينصب عليهم ملكا يسوسهم، ويعيد مملكة القدس لهم، فأرسل إليهم طالوت، فكانت المعركة العظيمة المذكورة في سورة البقرة، التي انتصر فيها بنو إسرائيل على الوثنيين، وبرز فيها نجم داوود عليه السلام حين قتل جالوت، ثم آل الملك إليه بعد طالوت، وآتاه الله تعالى النبوة، فافتتح بيت المقدس، وسميت مدينة داوود، فعزم على أن يبني لله تعالى مسجدا سماه اليهود بيت الرب أو الهيكل، وتوفي عليه السلام قبل أن يتم له ذلك فخلفه ابنه سليمان عليه السلام، وآتاه الله تعالى الملك والنبوة، فابتنى المسجد على هيئة عظيمة تليق بملكه وملك أبيه عليهما السلام.


وظل بنو إسرائيل يعبدون الله تعالى في المسجد أو الهيكل على وفق شريعة موسى عليه السلام والنبيين من بعده، ومع تقادم العهد كان بنو إسرائيل يتحللون من شرائع أنبيائهم شيئا شيئا، فيبعث الله تعالى لهم أنبياء يدعونهم إلى التوحيد وإقامة الدين، فربما صدوا عن سبيلهم أو آذوهم أو قتلوهم، فيسلط الله تعالى عليهم من يسومهم سوء العذاب كما سلط عليهم الفراعنة والبابليين، ونتج عن ذلك هدم المسجد أو الهيكل، وخُرِّبت مدينة القدس في السبي البابلي، ثم أعيد بناؤها وبناء الهيكل لما انتصر الفرس على البابليين.


واستقر الحكم بعد حروب كثيرة للرومان على بيت المقدس، فاسترضوا بني إسرائيل، وتقربوا إليهم، ولكن بني إسرائيل تمادوا في البغي والظلم فبعث الله تعالى فيهم زكريا ويحيى عليهما السلام، وكان زكريا رئيس المسجد أو الهيكل، وهو الذي كفل مريم عليها السلام المنذورة لخدمة الهيكل، ومن مريم جاء المسيح عيسى عليه السلام بلا أب بمعجزة ربانية مذكورة في القرآن.


وبلغ من فساد بني إسرائيل أن قتلوا زكريا، ثم قتلوا ولده يحيى عليهما السلام لأنه رفض الفتيا لهم بجواز البغاء لأحد ملوكهم، ورموا مريم بالإفك والبهتان، ولما بعث فيهم عيسى عليه السلام انقسم بنو إسرائيل إلى فريقين: فريق آمن بعيسى وهم الأقل والأضعف وهم النصارى، وفريق كفر به وهم الأكثر والأقوى وهم اليهود، فوعظهم عيسى وذكرهم، وكانت عقائدهم وأخلاقهم قد بلغت المنتهى في الفساد والانحطاط حتى إنهم جعلوا مسجد داود ملهى لهم، وسوقا للمرابين منهم، فحذرهم عيسى عليه السلام من العقوبة قائلاً لهم (مكتوب أن بيتي بيت للصلاة وأنتم جعلتموه مغارة لصوص) ولما استيأس منهم حذرهم من أن الهيكل سوف يهدم فقال لهم (الحق أقول لكم: إنه لا يترك ها هنا حجر على حجر لا ينقض).


وانتشرت دعوة عيسى عليه السلام ومواعظه بين الناس، وتأثروا به، فخاف المتنفذون من رجال الدين والسياسة من اليهود على نفوذهم من دعوته، وحكمت المجامع الدينية اليهودية بقتل عيسى عليه السلام، وأغروا الحاكم الروماني بذلك، وفرَّ عيسى عليه السلام ومن معه بدينهم، وسمي المسيح لمسحه الأرض، وكثرة تنقله خوفا من اليهود، إلى أن عثروا عليه فنجاه الله تعالى منهم، ورفعه إليه.


وبعد سنوات من رفع عيسى عليه السلام، وأذية أتباعه بأيدي اليهود؛ سُلِّط اليهود على أنفسهم فحاولوا التمرد على الحاكم الروماني، فاستباحهم، وسبى كثيرا منهم إلى روما، وأحرق المدينة المقدسة، وهُدِم الهيكل للمرة الثانية، وتحققت فيهم نبوءة عيسى عليه السلام فلم يُبْق الرومان في المدينة المقدسة حجرا على حجر. وانتهى أمر اليهود في بيت المقدس، وتفرقوا في أرجاء الأرض، وانتقلت أحقية المدينة المقدسة من اليهود إلى النصارى لشرك اليهود وتوحيد النصارى.


ولكن أتباع عيسى عليه السلام وهم النصارى ما لبثوا إلا يسيرا حتى بدأ الانحراف يدب فيهم، ولم يبق على التوحيد منهم إلا طائفة قليلة؛ إذ بعد ثلاثة قرون من رفع المسيح عليه السلام أعلن حاكم الروم قسطنطين عقيدة التثليث عقيدةً موحدة للنصارى، ودخلت الأمة الرومانية في النصرانية المحرفة، وهرب الموحدون من أتباع عيسى عليه السلام في البراري والأدغال خوفا من بطش أهل الشرك والتثليث.


وابتنيت الكنائس في مدينة القدس وغيرها على هذه العقيدة الشركية، وأقيمت فيها التماثيل، وصورت فيها التصاوير التي تناقض دين المسيح عليه السلام.


وظل مسجد داوود عليه السلام سورا خاليا لا بناء فيه، ولما بعث الله تعالى محمدا صلى الله عليه وسلم، وأسرى به إلى المسجد الأقصى، وأمَّ فيه الأنبياء عليهم السلام كان ذلك إيذانا بانتقال الحق في المدينة المقدسة من النصارى إلى المسلمين، وتم ذلك في فتوح الشام في عهد عمر رضي الله عنه، الذي رحل من المدينة إلى بيت المقدس ليتسلم مفاتيحه من كبار النصارى، ودخلت المدينة المقدسة ومسجدها -مسجد داود عليه السلام- في حظيرة الإسلام، وشرع شد الرحال إلى مسجدها كما شرع لحرمي مكة والمدينة، ولا حقَّ فيها لغير أهل الإسلام بناء على أنها من حق من يقيم دين الله تعالى، ولا دينَ حقا بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم إلا دينُ الإسلام، وأما اليهود والنصارى فانحرفوا عن شرائع أنبيائهم، فكان المسلمون أولى بأنبيائهم عليهم السلام منهم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لليهود (نَحْنُ أَوْلَى بِمُوسَى مِنْكُمْ) متفق عليه. وفي شأن عيسى عليه السلام قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أنا أَوْلَى الناس بِابْنِ مَرْيَمَ) متفق عليه. وعيسى عليه السلام حين ينزل آخر الزمان فإنه يقاتل اليهود والنصارى على شريعة محمد صل الله عليه وسلم، ويحكم بين الناس بها.





أيها المسلمون: كان المسجد الأقصى على مرِّ التاريخ مسجداً للمسلمين من قبل أن يوجد اليهود ومن بعد ما وجدوا؛ فإبراهيم عليه السلام هو أول من اتخذ تلك البقعة مسجداً، وقد قال الله تعالى عنه ﴿ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِياًّ وَلاَ نَصْرَانِياًّ وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ ﴾ [آل عمران: 67]، وليس لبني إسرائيل يهودا ونصارى علاقة بالمسجد الأقصى إلا في الفترات التي كانوا فيها مسلمين مع أنبيائهم المسلمين عليهم السلام، أما بعد كفرهم بالله تعالى، وشتمهم إياه، وقتلهم الأنبياء فقد انبتت علاقتهم بهذا المسجد الذي تحول إلى إرث المسلمين المؤمنين بجميع الأنبياء عليهم السلام.

ولكن اليهود والنصارى في هذا الزمن لا يسلمون بذلك، ويحاربون المسلمين عليه؛ إذ يعتقد اليهود أن بناء الهيكل الثالث سيخرج ملكا من نسل داوود عليه السلام، يحكمون به العالم، ويقتلون غير اليهود، كما يعتقد صهاينة النصارى أن نزول المسيح سيكون في الأرض المباركة، وأنهم سيكونون أتباعه، ويقتلون به غير النصارى؛ فالصراع على بيت المقدس هو صراع ديني عقائدي، يعتقد صهاينة اليهود والنصارى أنهم لن يستطيعوا حكم العالم إلا بعد بناء الهيكل فيه؛ ولذا فلن يتنازلوا عنه مهما كلف الأمر.

وأما الملاحدة والعلمانيون من بني إسرائيل فيرون أن هذه العقائد الدينية التي تحرك صهاينتهم فرصة سانحة لإقناع شعوبهم وتحريكهم نحو استعمار منطقة الشرق الإسلامي، وبسط نفوذهم فيها؛ لتحقيق مكاسب سياسية واقتصادية بهذه المعتقدات. والعجيب أن الأهداف الصهيونية الدينية والأهداف العلمانية عند اليهود والنصارى قد التقت على هذه البقعة المباركة، واتفقت على لزوم السيطرة عليها، وكل واحد من الفريقين وإن كانت له مسوغاته ومشاريعه فإنه يدعم الفريق الآخر ويؤيده. بخلاف المسلمين فإن العلمانيين منهم يريدون التخلي عن الأرض، وبيعها للأعداء بثمن بخس، بل بلا ثمن، ويحاربون من لا يوافقهم في خيانتهم بلا هوادة.

إن الأرض المباركة هي أرض الله تعالى، ومسجدها أقيم لتوحيده سبحانه، وليس من حق أحد -كائنا من كان- أن يتنازل عن شيء منها للأعداء؛ فهي ملك لله تعالى، وأمانة عند المسلمين، ولن تحرر من رجس اليهود إلا بالتزام دين الله تعالى، وتحكيم شريعته، والتوبة من الذنوب والمعاصي التي هي سبب الذل والهوان المضروبين على المسلمين.

إن الأرض المباركة بمسجدها المقدس لن تحررها مؤتمرات تقام هنا أو هناك، يعقدها من سعروا الحروب لإشباع نزواتهم؛ فاستعمروا البلدان، وخربوا العمران، ونهبوا الثروات، وقتلوا الرجال والنساء والولدان.. هم الخصم في مؤتمراتهم وهم الحكم، وهم من يملون الاتفاقيات، ويشترطون الشروط، ويفرضون إرادتهم الظالمة بالقوة والبطش والتخويف والتهديد، ما يعقدون مؤتمراتهم إلا طمعا في تنازلات جديدة، ولن يكون حظ المسلمين من مؤتمرهم الأخير إلا كحظهم من اتفاقات مدريد وأسلو وغيرها من مؤتمرات الأعداء.

لن ينال المسلمون منها إلا تكريس الاحتلال، ومكافأة الظلمة، وجلد الضحية، وتشريع الفساد في الأرض، فلا أمل فيهم ولا في مؤتمراتهم، وإنما الأمل في الله تعالى، ثم في رجال مؤمنين مرابطين في الأرض المباركة، قد تحملوا عن الأمة كلها مسئولية الدفاع عن المسجد الأقصى، ففدوه بدمائهم وأبنائهم وأموالهم.. ما وهنت لهم عزيمة، ولا لانت لهم عريكة، جوعهم أهل الأرض على ما اختاروا فصبروا وما ضجروا.. هدم اليهود ديارهم، وأتلفوا زروعهم، وفعلوا بهم ما لا يحتمله غيرهم، وهم صابرون صامدون مرابطون، فلهم على المسلمين حق الدعاء والتضرع بأن يفرج الله تعالى كربتهم، ويقوي عزيمتهم، ويربط على قلوبهم، وينصرهم على أعدائهم، ويحرر الأقصى على أيديهم ﴿ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ الله العَزِيزِ الحَكِيمِ ﴾ [آل عمران:126].








الفتح الأول لبيت المقدس
 

الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شُرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضِلّ له، ومن يُضْلِلْ فلا هَادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صل الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، ومن التزم سنتهم، وسار على هديهم إلى يوم الدين: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ ﴾ [الحشر: 18 - 19].

أيها المُؤْمِنُون: قراءة الحوادث، والإلمامُ بالتواريخ، والاطِّلاعُ على أحوال الدول، ومصير الأمم؛ يقود إلى الاعتبار والادِّكَار، ويكون سببًا للزُّهد في الدنيا، والرغبة في الآخرة؛ لأنَّ العبد يرى فيما يقرأ أشخاصًا تملَّكوا ثم مُلكوا، وأممًا عزت ثم ذلت، ودولاً أقبلت ثم أدبرت، ولا يبقى إلا وجهُ ربك ذو الجلال والإكرام: ﴿ لِمَنِ المُلْكُ اليَوْمَ للهِ الوَاحِدِ القَهَّارِ ﴾ [غافر: 16].

ومما سجله التاريخُ: ما وقع في شهر ربيع[1] من فتح بيت المقدس، معدن الأنبياء من لدن إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام ثُمَّ كان مَسْرَى خاتم النبيين محمدٍ صل الله عليه وسلم إذ جمع له فيه الأنبياءُ كلّهم عليهم الصلاة والسلام فأمّهم في محلتهم ودارهم[2].

كان هذا الفتحُ العظيمُ في عهدِ الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه ولكن بشائره كانتْ زمنَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم قبل أن تدين له العرب، وقبل أن تفتح على يده مكَّة. كانت تلك البِشَارةُ حينما قابل هِرَقلُ الروم أبا سفيانَ، وكفار قريش وسألهم جملة من الأسئلة عن رسولِ الله صل الله عليه وسلم وكانت تلك المقابلةُ بإيلياء؛ أي (بيت الله) الذي هو بيت المقدس.

فما أن انتهى هرقلُ من أسئلته، والمشركون من إجابة تلك الأسئلة، حتى أطلق هرقلُ تلك البشارة التي أَذْهَلَتْ كفار مكة. قالها وهو يتحسَّر على ملكه، ونفسُه يتنازع فيها داعي الإسلام وداعي الملك، وقلبُه يضطرب بين حظّ الدنيا وفوزِ الآخرة؛ لكنه في نهاية المطاف اختار الملك والدنيا؛ فخسر الملك والدنيا والآخرة.

قال هرقلُ لأبي سفيان رضي الله عنه: "فإن كان ما تقولُ حقًّا فسيملك موضعَ قدميَّ هاتَيْن، وقد كنتُ أعلمُ أنَّه خارج، لم أكن أظنّ أنه منكم، فلو أعلمُ أني أخلصُ إليه لتجشَّمتُ لقاءه، ولو كنت عنده لغسلتُ عن قدمه"[3].

إنها آيةٌ بينة، وبشارةٌ مُتَقَدِّمَة، بشارةٌ بفتح بيت المقدس، وإزالة عرش الرومان، وكانت تلك البشارةُ قبل أن تُفْتَح مكَّة، فما أعظمها من آية!! وما أطيبها من بشارة!!

ودار التاريخ دورته، وتوفي رسول الله صل الله عليه وسلم بعد أن كمل به الدين، وتَمَّتْ به النِّعْمَة، ثم تَوَلَّى خليفتُه الصديقُ الأول فقضى على الرِّدَّة، وأرسى دعائم المِلَّة، ثم انسابَتْ جُيُوشُه الفاتحة صوبَ الشَّام تحقيقًا للبِشَارة، ومات الصِّدّيقُ رضي الله عنه وجيوشُ الإسلام قاب قَوْسَيْن أو أدنى من تحقيق البشارة، وخَلَفه الفاروقُ عُمرُ، وجيوشُ الحق تواصل فتحها؛ حتى بلغت بيت المقدس، فحاصر المُسْلِمُون أهلها، ثم تصالحوا بعد الحصار، وقيل: بعد القتال[4] على أن يقدم الخليفة عمرُ رضي الله عنه من المدينة ليباشرَ الصلح بنفسه؛ لما علموا من سيرته وعدله.

فكتب أبو عبيدة إلى عمر يخبره بشرطِ أهل إيلياء، فشاور عمرُ أصحابه في الخروج، ثم انشرح صدرُه إلى القدوم على بيت المقدس، واستخلف عليًّا على المدينة[5]، وسار إلى حيثُ مدينة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وكتب إلى أُمَراء الأجناد أن يستخلفوا على أعمالهم ويوافوه بالجابية، وفي رواية أخرى: أنه وافاهم عند بيت المقدس[6].


فلما بلغ الجابية من أعمال الشام نزل بها، وخطب خطبة بليغة طويلة مشهورة كان منها قوله رضي الله عنه: "أيها الناس، أصلحوا سرائركم تصلح علانيتكم، واعملوا لآخرتكمُ تُكْفَوْا أمر دنياكم، واعلموا أنَّ رجلاً ليس بينه وبين آدم أب، ولا بينه وبين الله هوادة، فمن أراد لَحْـبَ وجه الجنة - أي طريقها - فليلزم الجماعة؛ فإن الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد..." إلخ خطبته البليغة[7].

 وجاءه رجل من يهود دِمَشْق فقال له: "السلام عليك يا فاروق، أنت صاحبُ إيلياء لا والله لا ترجعُ حتى يفتحَ اللهُ إيلياء"[8].

وصالح عمرُ أهل الجابية ثم سار وقادته إلى بيت المقدس، وكان رضي الله عنه في غايةِ التواضع والاستكانة والذّلَّة لِله رب العالمين، قال أبو الغادية المزني: "قدم علينا عمرُ الجابية، وهو على جمل أورق، تلوح صلعته للشمس، ليس عليه عمامةٌ ولا قلنسوة، بين عُودَيْن، وطَاؤه فرو كبْش نجدي، وهو فراشه إذا نزل، وحقيبتُه شملةٌ أو نَمِرةٌ مَحْشوةٌ ليفًا وهي وسادته، عليه قميص قدِ انخرق بعضه، ودَسَم جيبُه"[9]. 

هكذا نقلوا في وصف مركبه وملبسه، وهيئته وعُدَّتِه، ولو أراد رضي الله عنه للبس الحرير، ومشى على الديباج، وركب أصيلات الخيـل. ولو شاء لحمل معه المتاع الكثير، ولأحاطت به المراكب، وحفّت به المواكب؛ ولكنه رضي الله عنه علم قيمة الدنيا فأعطاها مُستحقها، وعلم قدر الآخرة ففرغ قلبه لها، وعمل عملها، وسعى لها سعيها.

وقد حاول أمراءُ الجيش أن يُحسِّنوا من هيئته المتواضعة أمام الأعداء؛ ولكن مَنْ يقدرُ على مَنْ؟ أيقدرون على عمرَ الذي كان كبيرُ الشياطين يخافُه، ويسلكُ فجًّا غير فجّهِ؟!


قال له أبو عبيدة رضي الله عنه:"يا أمير المؤمنين، لو ألقيت عنك هذا الصوف، ولبست البياض من الثياب، لكان أهيبَ لك في قلوب هؤلاء الكفار، فقال عمر رضي الله عنه: "لا أحب أن أُعَوّد نفسي ما لم تعتده، فعليكم معشر المسلمين بالقصد"[10].

وباءت مُحَاولة أبي عبيدة بالفشل فحاول يزيدُ بنُ أبي سفيان رضي الله عنهما فقال: "يا أمير المؤمنين، إنَّا في بلد الخَصْب والدعة، والسعر عندنا بحمد الله رخيص، والخيرُ عندنا كثير من الأموال والدوابّ والعيش الرفيع، وحالُ المسلمين كما تحب، فالبس ثيابًا بيضًا واكسُها الناس، واركب الخيل واحمل الناس عليها؛ فإنه أعظم لك في عيون الكفار، وألْقِ عنك هذا الصوف؛ فإنَّه إذا رآك العدوّ على هذه الحال ازدراك، فقال عمر رضي الله عنه: "يا يزيد ما أُريد أن أتزيَّا للنَّاس بما يَشِينُني عند الله عزَّ وجلَّ ولا أريد أن يعظم أمري عند الناس، ويصغر عند الله عز وجل فلا ترادّني بعدها في شيء من هذا الكلام"[11].

وواصل عمر رضي الله عنه مسيره إلى بيت المقدس على تلك الحال المُتَواضِعَة؛ فعرضت له مخاضة طين فَنَزل عن بعيره، ونزع نَعْلَيْه فأمسكها بيدٍ وخاض الماء ومعه بعيرُه، فقال له أبو عبيدة: "قد صنعت اليوم صُنعًا عظيمًا عند أهلِ الأرض، صنعت كذا وكذا، قال: فصكَّ في صدره وقال: أولو غيرك يقولها يا أبا عبيدة، إنكم كنتم أذلَّ النَّاس، وأحقر النَّاس، وأقلَّ النَّاس، فأعزَّكم الله بالإسلام فَمَهْمَا تَطْلُبوا العزَّ بغيره يذلكم الله"[12].

فلما بلغ بيت المقدس خرجَ إليه بطْريَرْكها صفرونيوس وكتب عمر رضي الله عنه لهم الأمانَ لأنفسهم وأموالهم وكنائسم وصلبانهم، ولا ينتقص شيء من أموالهم، ولا يُكرهون على دينهم في مقابل أن يعطوا الجزية للمسلمين[13]، وسلَّم البَطْريَرْك مفاتيح القُدس لعمرَ بن الخطاب رضي الله عنه ثُمَّ بَكَى البَطْريرك فقال له عمر: "لا تحزن، هَوِّنْ عليك، فالدنيا دواليك، يومٌ لك ويومٌ عليك"، فقال البطريرك: "أظننتني على ضياع الملك بكيت، والله ما لهذا بكيت، وإنما بكيتُ لما أيقنت أن دولتكم على الدهر باقية، ترق ولا تنقطع، فدولةُ الظلم ساعة، ودولةُ العدلِ إلى قيام الساعة، وكنت حسبتها دولة فاتحين تمر ثم تنقرض مع السنين"[14].

وتَمَّ الفَتْحُ، ودخل عمر بيت المقدس من الباب الذي دخل منه رسول الله صل الله عليه وسلم ليلة الإسراء، وصَلَّى فيه مستقبلاً القبلة، وجعل يزيح بردائه الأقذار التي رماها النصارى في قبلته. ولما رأى المسلمون فعْلَ عمرَ أخذوا في تنظيف المسجد من أقذار النصارى[15]، ثم بعد الفتح عاد رضي الله عنه إلى المدينة على ذات الجمل الذي قدم عليه، وعلى نفس الهيئة التي كان عليها قبل الفتح؛ لأنَّ اهتمامه رضي الله عنه ما كان بالشكليات والمظاهر، وإنما كان بأصول الشيء ومعانيه.
 

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: 
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ ﴾ [محمد: 7 - 8].

 

افْتَتَحَ بيتَ المقدس عمرُ بن الخطاب رضي الله عنه في السنة الخامسة أو السادسة عشرة للهجرة[16]، وظَلَّ تحت حكم المسلمين خمسة قرون؛ حتى استولى عليه الصليبيون في أثناء حكم العبيديين الباطنيين حينما حكموا الشام، ومكث في أيدي الصليبيين قريبًا من تِسْعينَ سنةً، ثُمَّ استردَّه المسلمون في حكم الأيوبيين، وظل في حوزة المسلمين أَكْثَرَ من ثمانية قرون، إلى أن جاء الاستعمارُ الظالم فاستولى عليه وسلّمه لليهود في أواسط القرن الهجري الماضي.


إنَّ الملاحظ - أيها الإخوة - أنَّ المسلمين لما فتحوا بيتَ المقدسِ تحت إمرة عمر رضي الله عنه ما استلموا مفاتيحه من اليهود وإنما من النصارى؛ بل اشترط النصارى على عمر رضي الله عنه أن لا يسمح لليهود بدخوله؛ لأنَّهُمْ قَتَلَةُ المسيح حسب زعم النصارى، فكيف يسكنون بلد المسيح عليه السلام؟! ووافق عمر على هذا الشرط. وفي العهد الأموي تسلَّل إلى بيت المقدس عشرة يهود، واشتغلوا فيه خدمًا فَطَرَدَهُم عمرُ بن عبدالعزيز لما تَوَلَّى[17]، ولما استولى الصليبيون عليه أبادوا من كان به من اليهود، وأحرقوا عليهم دورهم[18]. ثم فجأة إذا بالاستعمار النصرانيّ يُسلّم القدس لليهود، فلماذا هذا التغير؟ وما الذي دهى النصارى؟! 


لقد لعِبتِ العصاباتُ الصِّهْيَوْنِيَّة الإنجيلية النصرانية لعبتها، وقذفت في روعِ النصارى أن نُزول المخلصِ عيسى - عليه الصلاة والسلام - الذي سيخلصهم من المسلمين حسب زعمهم لن يكون إلا باستيلاء اليهود على القدس، وتجمعهم فيها، وجعلها عاصمة لليهود، وأنَّ الحروب الصليبيَّة لن تتوقف إلا بذلك؛ فوافقت هذه الفكرةُ هوًى في نفوس النصارى خاصَّةً بعد أن أنهكوا من جراء الحروب مع المسلمين، وبعد أن فَشِلَتْ مساعي الاستعمار الحديث بالمقاومة الصَّامدة من قِبَلِ الشُّعوب الإسلامية المستعمرة؛ فتآزرت الصِّهْيَوْنِيَّة النصرانية مع الصِّهْيَوْنِيَّة اليهودية في هذا السبيل؛ تحقيقًا للعقيدة الألفية التي أصلها عقيدة يهودية[19].

وملاحظةٌ أخرى جديرة بالتأمل وهي: أن اليهود ما حاربوا عبر تاريخهم الطويل ولو مرَّةً واحدة من أجل الاستيلاء على بيت المقدس؛ ففي تاريخهم الحديث سلّمهم النصارى بيتَ المقدس، وفي تاريخهم القديم دعاهم موسى عليه الصلاة والسلام لمحاربة الكنعانيين ودخولها فامتنعوا ورفضوا[20].

فمتى كان اليهود أهل حرب ومبادأة بها؟ أيوم قال لـهم موسى عليه الصلاة والسلام: قاتلوا، فقالوا: ﴿ فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ﴾ [المائدة: 24] أم يوم دعاهم عليه الصلاة والسلام إلى الفتح وقد مهَّد الله لهم أسبابه، وفتح لهم بابه؛ فارتجفوا كالشياه المذعورة وقالوا: ﴿ إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ ﴾ [المائدة: 22].

هذه بطولات اليهود! يريدون من يحارب عنهم، ويُخرجُ لهم العدو من القلعة ليدخلوها فاتحين، وما تبدَّلت حالهم. إنَّهُمْ كما كانوا من قبل يقاتلون بسلاح سواهم، ويُلوحون بقوةِ غيرهم[21].

 ليس بلاءُ المسلمين من قُوَّة اليهود؛ وإنَّما من ضعفِ المسلمين أنفسهم، حينما انتشرت فيهم العقائد المنحرفة، والأخلاقُ الفاسدة. حينما اعتمدوا على حولهم وطولهم، واغترّوا بعددهم وكثرتهم؛ فوكلهم الله إلى أنفسهم. حينما تخلَّوْا عن هدى الله، وركنوا إلى الذين ظلموا، في عصبيَّاتٍ جاهليَّة، وأحزابٍ ضالَّة، وقوميَّات ضيِّقة، ينفخ فيها دعاةُ كنعان، ودعاةُ العروبة، ودعاةُ التراب والوطن، فما زادهم ذلك إلا ذُلاًّ وانهزامًا.

أما آن للأمة أن تستفيد من تلك النتائج المرَّة، التي أفرزتها التجارب المخزية، فتعود - أفرادًا وجماعات - إلى كتاب ربها، وسنةِ نبيها بفَهْم سَلَفِها قولاً وعملاً؟! وبذلك سيكونُ النصر والخير، والصلاح في الدنيا والآخرة، ولن يَصلُحَ آخرُ هذه الأمة إلا بما صلَحَ به أولها.

 

[1] قيل: كان فتحه في ربيع الأول، وذكر الطبري أنه كان في ربيع الآخر، وأما سنته فذكره كل من الطبري وابن الجوزي وابن كثير في حوادث سنة (15هـ)، وذكره الذهبي في حوادث سنة (16هـ)، وهو قول ذكره الطبري أيضًا، وذكر البلاذري أنه كان في سنة (17هـ)، وانظر: "تاريخ الطبري" (2/ 45)، و"المنتظم" (4/ 193)، و"البداية والنهاية" (7/ 45)، و"تاريخ الإسلام" للذهبي (3/ 162)، و"فتوح البلدان" للبلاذري (144)، و"فتوح الشام" المنسوب للواقدي (1/ 228).

[2] حديث صلاته صل الله عليه وسلم بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام في بيت المقدس مُخَرج في "مسند الإمام أحمد" (1/ 257)، وصححه ابن كثير في "تفسيره" فقال: إسناده صحيح ولم يخرجوه (3/ 25)، عند تفسير أول سورة الإسراء، وصحَّحه الشيخ أحمد شاكر في "شرح المسند" (2324).

[3] قصة هرقل مع أبي سفيان مُخَرَّجة في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أخرجها البخاري في بدء الوحي باب (7) حديث (6)، وانظر: "فتح الباري" (1/ 42 - 44)، ومسلم في الجهاد باب كتابة النبي صل الله عليه وسلم إلى هرقل يدعوه إلى الإسلام (1773)، والترمذي في الاستئذان باب ما جاء كيف يكتب لأهل الشرك (2718).

[4] والراجح أنه لم يحصل قتال؛ بل حاصرهم المسلمون فاشترطوا أن يقدم عليهم عمر حتى يباشر الصلح بنفسه لما علموا من عدله رضي الله عنه وقيل: "إن صفة من ينتزع بيت المقدس موجودة في كتبهم؛ فأرادوا قبل تسليمه التحقق من كون الوصف الذي جاءت به كتبهم منطبقًا على عمر فكان كذلك فسلموه. انظر: "تاريخ الطبري" (2/ 449)، و"البداية والنهاية" (7/ 45).

[5] انظر: "الفتوح" لابن أعثم (1/ 224 - 225)، و"تاريخ الطبري" (2/ 449)، و"البداية والنهاية" (7/ 45 - 46)

[6] وقيل: بل إن أبا عبيدة والقادة لما بلغهم مقدم عمر ذهبوا يستقبلونه حال دخوله الشام، وانظر: "الفتوح" لابن أعثم (1/ 226)، و"البداية والنهاية" (7/ 46).

[7] "البداية والنهاية" (7/ 46)، قال الذهبي: "وقدم إلى الجابية - وهي قصبة حوران - فخطب بها خطبة مشهورة متواترة عنه" انظر: "تاريخ الإسلام" (3/ 162)، و"معجم البلدان" لياقوت (2/ 91).

[8] "تاريخ الطبري" (2/ 448)، و"المنتظم" (4/ 192).

[9] "تاريخ الإسلام" (3/ 162)، وانظر: "الفتوح" لابن أعثم (1/ 226)، و"البداية والنهاية"، وفيه أطول مما ذكرت، وعزاه لابن أبي الدنيا (7/ 49).

[10] "الفتوح" لابن أعثم (1/ 226).

[11] "الفتوح" لابن أعثم (1/ 227).

[12] "البداية والنهاية" (7/ 49)، وقصة خَوْضِه رَضِي الله عنه في الطين أخرجها الحاكم بسياق أطول وصححها، وقال: على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي. انظر: "المستدرك" (1/ 61 - 62) برقم (207).

[13] انظر كتابة الصلح في: "تاريخ الطبري" بأطول مما ذكرت (2/ 449).

[14] لم أعثر على هذا فيما وقفت عليه من كتب التاريخ وقد ذكره عبدالله التل في: "خطر اليهودية على الإسلام والمسيحية" (129)، وانظر: "بيت المقدس وما حوله" للدكتور محمد عثمان شبير (44).

[15] "البداية والنهاية" وعزاه ابن كثير للإمام أحمد وللضياء المقدسي، وقال: "وهذا إسناده جيد" (7/ 48).

[16] انظر: هامش (1) في "تاريخ فتح بيت المقدس".

[17] انظر: "القدس مدينة الله"، للدكتور حسن ظاظا (97).

[18] المصدر السابق (99)

[19] وملخص هذه العقيدة الألفية اليهودية: أن اليهود ينتظرون منتظرًا من نسل داود يخرج في آخر الزمان؛ ليحكم العالم ألف سنة يسمى "ملك السلام"، وانسحبت هذه العقيدة على الأصوليين الإنجيليين الذي يحاولون إقناع سائر النصارى بها.

[20] انظر: "محاسن التأويل" للقاسمي (3/ 92 - 93)، و"التحرير والتنوير" لابن عاشور (6/ 161 - 166) عند تفسير الآيات (22 - 26) من سورة المائدة.

[21] بتصرف من: قصتنا مع اليهود للشيخ علي الطنطاوي (37).
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75517
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

مكانة بيت المقدس في الإسلام وعند المسلمين Empty
مُساهمةموضوع: رد: مكانة بيت المقدس في الإسلام وعند المسلمين   مكانة بيت المقدس في الإسلام وعند المسلمين Emptyالإثنين 24 يونيو 2019, 2:09 am

فتح بيت المقدس على يدي عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -


لما انتهى أبو عبيدة بن الجراح - رضي الله عنه - من فتح دمشق، كتب إلى أهل إيلياء يدعوهم إلى الله وإلى الإسلام، أو يبذلون الجِزْيَة، أو يؤذِنون بحربٍ، فأَبَوا أن يُجِيبوا إلى ما دعاهم إليه، فركب إليهم في جنوده، واستخلف على دمشق سعيد بن زيد، ثم حاصر بيت المقدس، وطلب من أهلها الصلح، ولكنهم رفضوا، وقال رهبانهم: لن يفتحها إلا رجلٌ، وذكروا بعض الأوصاف، وكان عمرو بن العاص - الذي فتح غزة - قد أرسل إلى أرطبون، وكان أميرًا على أهل إيلياء كتابًا للصلح، وذلك قبل وصول أبي عبيدة، وكتب كتابًا لرسوله الذي كان يعلم اللغة الرومية، وقال له عمرو: اسمع ما يقولونه، فوصل الرسول، ودفع الكتاب إلى أرطبون وعنده وزراؤه، فقال أرطبون: لا يفتح والله عمرو شيئًا من فلسطين بعد أجنادين، فقالوا له: من أين علمت هذا؟ فقال: صاحبها رجلٌ صفته كذا وكذا، وذكر صفة عمر بن الخطاب، فرجع الرسول إلى عمرٍو فأخبره الخبر، فكتب إلى عمر بن الخطاب يقول: إني أعالج عدوًّا شديدًا وبلادًا قد ادُّخِرتْ لك، فرأيك، فعلم عمر أن عمرًا لم يقل ذلك إلا بشيء سمعه، وكتب أبو عبيدة أيضًا كتابًا بذلك إلى عمر، فاستشار عمر الناس في ذلك، فأشار عثمان بن عفان بألاَّ يركب إليهم؛ ليكون أحقر لهم، وأرغم لأنوفهم.

وأشار علي بن أبي طالب بالمسير إليهم؛ ليكون أخف وطأة على المسلمين في حصارهم بينهم، فهوى ما قال عليٌّ، وسار بالجيوش نحوهم، واستخلف على المدينة عليَّ بن أبي طالب، وسار العباس بن عبدالمطلب على مقدمته.

وقد قال عمر - ردًّا على مَن رفضوا خروجه إلى المقدس -: أُبَادِر بالجهاد قبل موت العباس، إنكم لو فقدتُم العباس لانتقض بكم الشرُّ كما ينتقض الحبل، فمات العباس لست سنين من خلافة عثمان، فانتقض بالناس الشر.

وكتب عمر إلى أمراء الأجناد أن يُوافُوه بالجابية ليومٍ سمَّاه لهم في المجرَّدة، ويستخلفوا على أعمالهم، فلقوه حيث رُفِعت لهم الجابية، فكان أول مَن لقيه يزيد بن أبي سفيان، وأبو عبيدة، ثم خالد على الخيول، عليهم الديباج والحرير، فنزل وأخذ الحجارة ورماهم بها، وقال: ما أسرع ما رجعتم عن رأيكم! إياي تستقبلون في هذا الزيِّ وإنما شبعتم مذ سنتينِ! وبالله لو فعلتُم هذا على رأس المائتين لاستبدلتُ بكم غيرَكم، فقالوا: يا أمير المؤمنين، إنها يلامقة، وإن علينا السلاح، قال: فنعم إذًا.

وركب حتى دخل الجابية، وعمرو وشرحبيل بأجنادين كأنهما لم يتحرَّكا من مكانهما، وقد نزل عمر عن بعيرِه، وخلع ما كان يلبس في قدمه، وأمسكهما بيده، وذلك لوجود بركة من الماء، وخاض الماء ومعه بعيره، فقال له أبو عبيدة: قد صنعتَ اليوم صنيعًا عظيمًا عند أهل الأرض، صنعت كذا وكذا، قال: فصكَّ في صدرِه، وقال: أَوَلَو غيرك يقولها يا أبا عبيدة، إنكم كنتم أذل الناس، وأحقر الناس، وأقل الناس، فأعزَّكم الله بالإسلام، فمهما تطلبوا العز بغيره يذلكم الله، وضمَّ عمرًا وشرحبيل إليه بالجابية، فلقياه راكبًا فقبَّلا ركبتيه، وضمَّ عمر كل واحد منهما محتضنهما.

ولما قدم عمر الجابية قال له رجل من اليهود: يا أمير المؤمنين، إنك لا ترجع إلى بلادك حتى يفتح الله عليك إيلياء.

وذكر أن عمر - رضي الله عنه - قدم الجابية على طريق إيلياء على جملٍ أورقَ تلوح صلعته للشمس، ليس عليه قَلَنْسُوة ولا عمامة، تصطفق رجلاه بين شعبتي الرَّحْلِ بلا ركابٍ، وطاؤه كساء أنبجاني ذو صوف، هو وطاؤه إذا رَكِب، وفراشه إذا نزل، حقيبته نمرة أو شملة محشوة ليفًا، هي حقيبته إذا رَكِب ووسادته إذا نزل، وعليه قميص من كرابيس، قد رسم وتخرق جنبه، فقال: ادعوا لي رأس القوم، فدعوا له الجلومس، فقال: اغسلوا قميصي وخيِّطوه، وأعيروني ثوبًا أو قميصًا فأتي بقميص كتان، فقال: ما هذا؟ قالوا: كتان، قال: وما الكتان؟ فأخبروه فنزع قميصه، فغسل ورقِّع وأتي به، فنزع قميصهم، ولبس قميصه، فقال له الجلومس: أنت ملك العرب، وهذه البلاد لا تصلح بها الإبل، فلو لبستَ شيئًا غير هذا، وركبت برذونًا، لكان ذلك أعظم في أعين الروم، فقال: نحن قوم أعزَّنا الله بالإسلام، فلا نطلب بغير الله بديلاً، فأتي ببرذون فطرح عليه قطيفة بلا سرج ولا رحل، فركبه بها، فقال: احبسوا احبسوا، ما كنت أرى الناس يركبون الشيطان قبل هذا فأتي بجمله فركبه.

ثم سار عمر حتى صالح نصارى بيت المقدس، واشترط عليهم إجلاء الروم إلى ثلاث، ثم دخلها إذ دخل المسجد من الباب الذي دخل منه رسول الله -صل الله عليه وسلم- ليلة الإسراء.

ويقال: إنه لبَّى حين دخل بيت المقدس، فصلى فيه تحية المسجد بمحراب داود، وصلى بالمسلمين فيه صلاة الغداة من الغد، فقرأ في الأولى بسورة "ص" وسجد فيها والمسلمون معه، وفي الثانية بسورة بني إسرائيل، ثم جاء إلى الصخرة فاستدلَّ على مكانها من كعب الأحبار، وأشار عليه كعبٌ أن يجعل المسجد من ورائه، فقال: ضاهيتَ اليهودية، ثم جعل المسجد في قِبْليِّ بيت المقدس وهو العُمَري اليوم.

ونقل عمر التراب عن الصخرة في طرف ردائه وقبائه، ونقل المسلمون معه في ذلك، وسخَّر أهل الأردن في نقل بقيتها، وقد جعل الرومُ الصخرة مزبلة؛ لأنها قِبْلَة اليهود، فكانوا يكرهون اليهود، حتى إن المرأة كانت تُرسِل خرقة حَيْضَتها من داخل الحوز لتُلقَى في الصخرة؛ وذلك ردًّا على ما قام اليهود بفعله عندما صلبوا فيه المسيح عيسى ابن مريم في هذا المكان، وهذا حسب عقيدتهم، فجعلوا يُلقُون القمامة في هذا المكان، فلأجل ذلك سمِّي ذلك الموضع القمامة، وانسحب الاسم على الكنيسة التي بناها النصارى هنالك.

وبسبب القمامة التي كان يَرْمِيها النصارى على الصخرة، قال هرقل لهم خاصة، لما بالغوا في إلقاء الكناسة على الصخرة حتى وصلت إلى محراب داود: "إنكم لخليق أن تقتلوا على هذه الكناسة مما امتهنتُم هذا المسجد؛ كما قتلت بنو إسرائيل على دم يحيى بن زكريا"، ثم أُمِروا بإزالتها فشرعوا في ذلك، فما أزالوا ثُلُثَها حتى فتحها المسلمون، فأزالها عمر بن الخطاب.

وبعد الصلح سأل عمر أحدَ اليهود عن الدجَّال، وكان كثير السؤال عنه، فقال له: وما مسألتك عنه يا أمير المؤمنين؟ أنتم والله، تقتلونه دون باب لدٍّ ببضع عشرة ذراعًا، وجعل عمر علقمة بن حكيم على نصف فلسطين، وأسكنه الرملة، وجعل علقمة بن مجزز على نصفها الآخر، وأسكنه إيلياء، وكان فتح بيت المقدس أو إيلياء سنة ست عشرة في ربيع الأول.







الوثيقة العمرية في فتح بيت المقدس
 
منذ أُبرِمت الوثيقة العمرية والقدس تَحظى بعناية المسلمين على نحو عنايتهم بالمسجد الحرام والمسجد النبوي الشريف.

في سنة 15 هجرية - أي: بعد وفاة الرسول - عليه الصلاة والسلام - بخمسة أعوام - تمكَّن المسلمون من فتح كثير من بلاد الشام على إثر معركة اليرموك، ودانت لهم حمص وقنسرين، وقيسارية وغزة، واللاذقية وحلب، وحيفا ويافا، وغيرها.


وقد اتجه لفتح بلاد فلسطين قائدان مسلمان؛ هما:

عمرو بن العاص، وأبو عبيدة بن الجراح الذي إليه يُعْزَى فضل إدخال بيت المقدس في الإسلام، وكانت تسمَّى بإيليا.

وكان المسلمون قبل تقدُّمهم لفتح بيت المقدس (إيلياء)، قد اشتبكوا مع الروم في معركة حامية الوطيس هي: معركة أجنادين، وانتصروا فيها بعد قتال شديدٍ يشبه قتالهم في اليرموك، وفرَّ كثير من الرومان المهزومين، ومنهم: "الأرطبون" نفسه إلى إيلياء.

وقد تقدَّم المسلمون بفتح (إيلياء) في فصل الشتاء، وأقاموا على ذلك أربعة أشهر في قتال وصبر شديدين، ولَما رأى أهل إيلياء أنهم لا طاقة لهم على هذا الحصار، كما رأوا كذلك صبْر المسلمين وجَلَدهم - أشاروا على (البطريرك) أن يتفاهم معهم، فأجابهم إلى ذلك، فعرَض عليهم أبو عبيدة بن الجراح إحدى ثلاث: الإسلام، أو الجزية، أو القتال، فرضُوا بالجِزية والخضوع للمسلمين، مشترطين أن يكون الذي يتسلَّم المدينة المقدسة هو أمير المؤمنين عمر بن الخطاب نفسه - رضي الله عنه!!.

 قد أرسل أبو عبيدة بن الجراح إلى أمير المؤمنين عمر بما اتَّفق عليه الطرفان، فرحَّب عمر بحقْن الدماء، وسافر إلى بيت المقدس، واستقبله المسلمون في الجابية - وهي قرية من قرى الجولان شمال حوران - ثم توجَّه إلى بيت المقدس، فدخلها سنة 15هـ - 636م، وكان في استقباله "بطريرك المدينة صفرونيوس" وكبار الأساقفة، وبعد أن تحدَّثوا في شروط التسليم، انتهوا إلى إقرار تلك الوثيقة التي اعتُبِرت من الآثار الخالدة الدالَّة على عظمة تسامُح المسلمين في التاريخ، والتي عُرِفت باسم العهدة العمرية.

 نظرًا لمكانة هذه الوثيقة في الحضارة الإسلامية، ولأنها دالة أبلغ الدلالة على مدى تسامح الفتوحات الإسلامية والفاتحين المسلمين، نظرًا لهذين الاعتبارين، نُورد نصَّها الذي تكاد تُجمع عليه المصادر التاريخية الوثيقة:

"بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أعطى عبد الله أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان: أعطاهم أمانًا لأنفسهم وأموالهم، ولكنائسهم وصُلبانهم، وسقيمها وبريئها، وسائر مِلَّتها؛ أنه لا تُسكَن كنائسهم، ولا تُهدم ولا يُنتقص منها، ولا من خيرها، ولا من صليبهم، ولا من شيء من أموالهم، ولا يُكرهون على دينهم، ولا يُضام أحد منهم، ولا يَسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود، وعلى أهل إيلياء أن يُعطوا الجزية كما يُعطي أهل المدائن، وعليهم أن يُخرجوا منها الروم واللصوص، فمن خرَج منهم، فإنه آمِنٌ على نفسه وماله حتى يبلغوا مأمنهم، ومن أقام منهم، فهو آمِنٌ، وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية، ومن أحب من أهل إيلياء أن يَسير بنفسه وماله مع الروم، (ويُخلي بِيَعهم وصُلُبهم)، فإنهم آمنون على أنفسهم وعلى بِيَعهم وصُلُبهم، حتى يبلغوا مأمنهم، ومن كان بها من أهل الأرض قبل مقتل فلان، فمن شاء منهم قعَد، وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية، ومن شاء سار مع الروم، ومن شاء رجَع إلى أهله، فإنه لا يُؤخذ منهم شيء حتى يُحصَد حصادُهم، وعلى ما في هذا الكتاب عهد الله وذِمة رسوله، وذمة الخلفاء وذمة المؤمنين، إذا أعطوا الذي عليهم من الجِزية.
 

شهِد على ذلك:

خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وعبدالرحمن بن عوف، ومعاوية بن أبي سفيان. وكتَب وحضر سنة خمس عشرة هـ.

وهذه الوثيقة دالة أبلغ الدلالة - كما ذكرنا - على أصالة التسامح الإسلامي من جانبٍ، ودالة على المكانة التي تتبوَّأها القدس من جانب آخرَ، ولعل التاريخ لا يذكر إلى جانب صفحة هذه الوثيقة صفحة أخرى من تسامح الأقوياء المنتصرين مع المحاصرين المستسلمين على النحو الذي ترد عليه بنود هذه الوثيقة.

ولعل أيَّة دراسة نقدية لبنود هذه الوثيقة تكشِف عن مدى التسامح الإسلامي الذي لا نظير له في تاريخ الحضارات.

 ومنذ أُبرمت هذه الوثيقة التاريخية الخالدة، وبيت المقدس يحظى بعناية الحكام المسلمين على نحو قريبٍ من عنايتهم بالمسجد الحرام والمسجد النبي الشريف.

وقد تعاقب عليها الحكام المسلمون من الراشدين إلى الأمويين إلى العباسيين، إلى بني طولون إلى الإخشيديين، إلى الفاطميين إلى السلاجقة، فالمماليك فالأتراك، وكلهم يُولِيها الاهتمام الجدير بها.

وقد ظلت إسلامية عربية منذ العهدة العمرية الآنفة الذكر سنة (15هـ -  636م)، حتى سنة (1387هـ - 1967م)، باستثناء فترة الحروب الصليبية (1099م - 1187م).

وقد توالت عصور التاريخ الإسلامي والمسلمون يعاملون أبناء الأديان الأخرى في القدس وغيرها أفضل معاملة عُرِفت في التاريخ، لدرجة أن المؤرخ الإنجليزي الكبير "أرنولد توينبي" اعتبر ظاهرة التسامح الإسلامي ظاهرة فريدة وشاذة في تاريخ الديانات.

وكان أهل الذمة الأصليون يعاملون كأهل البلاد الأصليين دائمًا، لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم، في إطار ما نصَّ عليه الإسلام، وقد نص القرآن على معاملتهم بالحسنى، ومجادلتهم بالتي هي أحسن، إلا الذين ظلموا منهم، كما أوصى الرسول بهم خيرًا، وقد كان الخليفة العباسي هارون الرشيد يعامل الزوَّار النصارى للقدس المعاملة الإسلامية المعتمدة لأهل الكتاب، وقد سمح الرشيد للإمبراطور "شارل مان" بترميم الكنائس، وفي سنة 796م أهدى هارون الرشيد "شارل مان" ساعة دقاقة وفيلاً، وأقمشة نفيسة، وتعهَّد بحماية الحجاج النصارى عند زيارتهم للقدس؛ لذلك كان شارل مان يرسل كل سنة وفدًا يحمل هدايا إلى الرشيد.

وقد زار القدس في القرن التاسع عشر "برنار الحكيم"، وذكر أن المسلمين والمسيحيين النصارى في القدس على تفاهُم، وأن الأمن مستتبٌّ فيها، وأضاف قائلاً: وإذا سافرت من بلد إلى بلد ومات جملي أو حماري، وتركت أمْتِعتي مكانها، وذهبت لاكتراء دابة من البلدة المجاورة، سأجد كل شيء على حاله لم تَمَسَّه يدٌ.

إن الوثيقة العمرية لم تقم على مجرد أصول إسلامية عامة في العلاقات الدولية، بل قامت على أصول إسلامية خاصة ومحددة، تتصل ببيت المقدس، وعلى أصول مرتكزة على كتاب الله وسُنة رسوله وسلوك المسلمين من بعده، فإن المسلمين منذ أربعة عشر قرنًا ينظرون إلى بيت المقدس نظرة تقديسٍ، على أنه مركز لتراث ديني كبير تجب حمايته، وهم يربطون ربطًا كاملاً وثيقًا بين المسجد الحرام في مكة، والمسجد الأقصى في القدس، وينظرون إلى القدس نظرة تقترب من نظرتهم إلى مكة.

فإليهما يشدون الرِّحال، وفي كليهما تراث ديني ممتد في التاريخ، فإذا كان أبو الأنبياء إبراهيم قد وضع قواعد الكعبة في مكة، فإن جسده الشريف يرقُد على مَقربة من القدس في الخليل، فيما يرى كثير من الرواة والمؤرخين، وإذا كان المسلمون في كل بقاع الأرض أصبحوا يتجهون في صلاتهم إلى المسجد الحرام، فإنهم لا ينسون أن نبيَّهم محمدًا وأسلافهم الصالحين، قد اتجهوا قبل نزول آيات تحديد القِبلة إلى الكعبة، اتَّجهوا إلى المسجد الأقصى أُولى القبلتين، وما زالت مدينة الرسول - عليه الصلاة والسلام - تضم مسجدًا يُسَمَّى مسجد القبلتين، شاهدًا حيًّا على الترابط الديني بين مكة والقدس، والمسجد الحرام والمسجد الأقصى.

وإذا ذُكِّر المسلم بحسه الديني الممتد ووَعْيه التاريخي الإسلامي بيت المقدس، فإنه يذكر أنه المكان الذي كلَّم الله فيه موسى، وتاب على داود وسليمان، وبشَّر زكريا ويحيى، وسخَّر لداود الجبال والطير، وأوصى إبراهيم وإسحاق أن يُدفنا فيه، وفيه وُلِد عيسى وتكلَّم في المهد، وأُنزِلت عليه المائدة، ورُفِع إلى السماء، وفيه ماتت مريم، إن هذا هو موقف المسلم من الأنبياء وتراثهم ومن بيت المقدس، وهو موقف يقوم على التقدير والتقديس، والشعور بالمسؤولية الدينية والتاريخية.

وعلى العكس من هذا الإجلال الإسلامي لبيت المقدس، وللأنبياء والأخيار الذين اتَّصلوا به، كان موقف اليهود.

فكل هؤلاء الأبرار الذين ذكرناهم وغيرهم، قد نالهم من اليهود كثير من الأذى، ولولا عناية الله بهم، لَمَا أدَّوا رسالتهم، ولولا تنزيه القرآن لهم ودفاعه عنهم، لوصَل تاريخهم إلى البشرية مشوَّهًا بتأثير تحريف اليهود عليهم، وظُلمهم لهم، وكما نقلنا عن تَوراتهم في النصوص السابقة.

إن المسلم إزاء كل هذا يحس بمسؤوليته الدينية العامة تُجاه بيت المقدس، باعتباره مركزًا أساسيًّا لتراث النبوة.

 ووَفقًا لتعاليم الإسلام:

فإنه ليس مسلمًا من لا يحمي تراث الأنبياء - كل الأنبياء - من التدمير المادي أو التشويه المعنوي، وهو الأمر الذي سعى إليه اليهود في كل تاريخهم على مستوى الفكر حين حرَّفوا التوراة، وابتدعوا التلمود، وملَؤوها بما لا يرضي الله، ولا يَقبله دين سماوي، وعلى مستوى التطبيق حين عاثوا في كل بلاد الله الفساد، وحاربوا كل الأنبياء، وأشعلوا الحروب، وجعلوا أنفسهم شعبَ الله المختار، وبقية الشعوب في منزلة الكلاب والأبقار؛ ولذا ينبغي على المسلم الصادق جهادهم؛ دفاعًا عن شريعة الله الحقَّة، واستنقاذًا لتراثهم المعنوي والمادي.

إن المؤرخ الإنجليزي الموسوعي الأستاذ "أرنولد توينبي" صاحب أكبر دراسة للحضارات، وأحدث نظرية ظهرت في تفسير التاريخ - قد تنبَّه إلى هذا الخطر الذي يتجاهله الكثيرون في العالم، والذي يوشك أن يهزَّ البناء الإنساني كله، وقد وجه في سنة 1955م نداءً إلى الشعب اليهودي في إسرائيل، وإلى العالم كله يقول لهم فيه: "لا تَقترفوا أخطاء الصليبيين"، ويقول لهم فيه أيضًا: لقد كان التخلف والتفسُّخ، والفوضى والفساد - يسيطر على العرب، فصال الصليبيون وجالوا، وانتصروا في عشرات المعارك، وهدَّدوا واستفزوا ما شاء لهم زَهْوُهم وخُيَلاؤهم، معتقدين أنهم قادرون على طرْد العرب، وطَمْس معالم العروبة والإسلام بحد السيف، كما اعتقد حكام إسرائيل بعد كل جولة منذ عام 1948، غير أن انكسارات العرب المتتالية في عهد الصليبيين قد فتَحت عيونهم على عيوبهم، فعرَفوا أن سرَّ قوتهم في وَحدتهم وتفانيهم، ووراء صلاح الدين ساروا، فقطَفوا ثمار النصر يوم 3 تموز/ يوليو 1187م في حطين.

وفي النهاية يطالب "توينبي" الأقلية اليهودية أن تعيش كأقلية مع العرب والمسلمين في أمن وسلام.

والحق الذي يستأهل أن يضاف إلى ما ذكره "توينبي" الذي سجَّل نداءه قبل أحداث 1967م، أن قمة المأساة في قضية القدس هي مأساة القدس، فإن الأفراد والجماعات على السواء، هي مخلوقات عابرة وذات أجلٍ، وتنتهي مآسيها بزوالها عن الحياة، ولكن هذا الشيء لا يَنطبق على الحضارات التاريخية، والتي تشكِّل أبنيتها وحجارتها وأزِقَّتها وأماكنها المقدسة، وذكرياتها والارتباط بها، رمزًا تاريخيًّا وحضاريًّا لا يُمكن نسيانه، إنها رُوح وجزء من دين، وإنها حضارة وتاريخ، وهذا هو حال الفلسطينيين والعرب المسلمين مع القدس.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75517
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

مكانة بيت المقدس في الإسلام وعند المسلمين Empty
مُساهمةموضوع: رد: مكانة بيت المقدس في الإسلام وعند المسلمين   مكانة بيت المقدس في الإسلام وعند المسلمين Emptyالإثنين 24 يونيو 2019, 2:17 am

علماء بيت المقدس في القرن الحادي عشر الهجري (17م)
(التكوين الاجتماعي - النشاط الثقافي)

اتسمت الحياة الثقافية في مدينة القدس إبان العهدين الأيوبي والمملوكي، بنشاط ظاهر لم تشهده المدينة من قبل. فقد أثار احتلال الفرنجة لها واحتفاظهم بها هدفاً معنوياً مؤثراً في مجرى الحرب، اهتمام المسلمين عامة بهذه المدينة، مما دفعهم إلى إعادة اكتشافهم لها، بالبحث في تاريخها ومنزلتها الخاصة بين مدن العالم، وهو ما أثمر تلك السلسلة القيمة من كتب فضائل القدس، التي شجعت بدورها عدداً من العلماء لاتخاذها موطناً لهم، تقديراً منهم لأهمية تلك "الفضائل" وطلباً للبركة التي يضفيها المكان على ساكنيه[1].

ومن ناحية أخرى فقد عُنى السلاطين والأمراء من الأيوبيين والمماليك، بتعويض المدينة عما عانته خلال سِني الاحتلال، بتوزيع الهبات السخيّة، وانشاء المؤسسات الوقفية، من دينية وثقافية وصحية، وهي مؤسسات لا تنكر أهميتها في رعاية الحركة الثقافية بما قدمته من أماكن مخصصة للتعليم، ورواتب ثابتة، ومخصصات عينية، ورعاية صحية، تموّل ذاتياً عن طريق الأوقاف الضخمة المرصدة لذلك[2]، فلم يكن غريباً اذاً أن تحفل كتب التراجم الخاصة بالعلماء، من أهل القرون الثلاثة التي تلت تحرير المدينة من الاحتلال الفرنجي، بالعدد الكبير من العلماء المقادسة الذين استوطنوها وانتظموا في سلك مدارسها الكثيرة، وشرعوا يبثون - من خلالها- العلم بين الطلبة والوافدين.

ولقد استعادت المدينة خلال وقت قصير نسبياً أهميتها كمركز إشعاع ثقافي، وتدلنا تراجم أولئك العلماء على سعة اهتماماتهم العلمية، وتفرغ أكثرهم للبحث والتأليف، فضلاً عن التدريس، متخذين من المسجد الأقصى نفسه والمدارس المنبثقة عنه، مجالاً لممارسة دورهم الثقافي[3]. وفي الواقع فإن الأوقاف الكثيرة المُرصدة للإنفاق على العلماء كانت تكفي لجعلهم مستقلين - مادياً في الأقل- عن السلطة القائمة، ومن هنا لم تتأثر الحركة الثقافية في المدينة، شأنها في ذلك شأن مدن المنطقة الأخرى، بالتبدلات السياسية والإدارية العديدة التي حدثت في تلك الحقبة، لا سيما في أواخر عهد المماليك. فمن تلك المنشآت الوقفية نذكر من المدارس:

المدرسة النصرية (نحو سنة 450هـ/1058م)، والمدرسة الختنية (587هـ/1191م)، والمدرسة الصلاحية (588هـ/1192م)، والمدرسة الأفضلية (نحو 590هـ/1193م)، والمدرسة النحوية (604هـ/1207م)، والمدرسة الطشتمرية (784هـ/1382م)، والمدرسة الجاولية (707هـ/1207م)، وغيرها.

ومن الرُّبط: رباط البصير (666هـ/1267م)، والرباط المنصوري (6811هـ/1282م)، ورباط الكُرد (693هـ/1293م) ورباط المارديني (763هـ/1361م) والرباط الزمني (881هـ/1476م).

ومن المستشفيات: البيمارستان الصلاحي (583هـ/1187م) وغير ذلك كثير مما حفلت به القدس عهد ذاك[4].

ونتيجة للاستقرار الاجتماعي - الثقافي، فقد برزت إلى الوجود أسر تخصص أفرادها بالعلم، أو بضرب منه، فورَّثوه لأبنائهم أجيالاً عدة، فأنمت هذه الظاهرة تقاليد الحياة الثقافية، ونقلت الخبرة اللازمة للبحث من جيل لآخر، وفي أقل تقدير فإنها أثمرت إنشاء خزائن كتب توسعت بما أضافه الأبناء إلى ميراث آبائهم، ووقفها بعضهم على المدارس والمساجد، وبخاصة المسجد الأقصى، فعمم بذلك فوائدها وصيّرها مورداً لطالبي العلم من غير تلك الأسر.

في مثل تلك الظروف فتح العثمانيون بلاد الشام، فلم يؤثر تغير الدولة، وتبدل مؤسساتها الإدارية، من وضع المدينة الثقافي، فلبثت الأسر العلمية ترفد الحياة الثقافية بعدد من أبنائها النابهين، وظلت المدينة تستقبل بين حين وآخر بعض العلماء الذين كان يطيب لهم مجاورة مسجدها الأقصى المبارك، فيلقون المحاضرات ويجيزون الطلبة.

ومع أن العصر العثماني لم يشهد إنشاء مدارس مهمة في القدس[5]، وإن شهد أعمالاً خدمية عدة ذات نفع عام،[6]، إلاّ أن من المؤكد أن أكثر مدارس العهدين الأيوبي والمملوكي لبثت تؤدى إبان هذا العصر، المهام التي أوكلها إليها الواقفون الأوائل، وظلت أوقافها تدرّ ما يكفي مدرسيها وطلبتها على حد سواء. وكانت الأوقاف تشمل مزارع وحقول وقرى كاملة في مناطق شتى من بلاد الشام، وفي غيرها أيضاً. هذا فضلاً عن هبات السلاطين والأمراء التي كان يجري توزيعها على أهل العلم خاصة. وعلى هذا فقد بلغ عدد حجرات المدارس الكائنة في الساحة الكبيرة المحيطة بالأجزاء المنخفضة للحرم إبان أواخر القرن الحادي عشر الهجري (السابع عشر الميلادي) مائتا حجرة، أما المدارس والزوايا في القدس فإن عددها بلغ 360 مدرسة وزاوية، من صغيرة وكبيرة[7]، وظلت أسماء المدارس الشهيرة كالصلاحية والنحوية والعثمانية والنصرية والتنكرية وغيرها تتردد في هذا العصر، من خلال تراجم علمائه ومدرسيه.

وإذا كانت حركة التعليم، والحياة الثقافية بعامة، قد أصابها شيء من الفتور في هذه الحقبة، فليس ذلك لأسباب تتعلق بموقف رسمي أملته سياسة الدولة مباشرة، وانما لأن الركود الذي أصابها كان جزءً من ركود ثقافي عام شمل الأقاليم التي دخلت في نطاق سيطرة الدولة ولم يقتصر على منطقة أو مدينة بذاتها، وهو ركود يمكن أن نجد أسبابه في عوامل عدة اقتصادية وسياسية واجتماعية، قبل أن نجده في عوامل ثقافية بحتة. صحيح أن بعض موارد الأوقاف قد أخذ بالنضوب مما أثر على مصير هذه المؤسسة وتلك، ولكن ذلك النضوب لم يكن نتيجة لمصادرة أو الغاء بقدر ما كان يعود لاضطراب الأحوال الأمنية في الريف[8] واضطرار القرويين إلى هجر قراهم وترك أراضيهم الزراعية لتبور، وفيها ما هو موقوف على مثل تلك المنشآت.

ولا شك في أن ظاهرة تناقص القرى، التي برزت في هذه الحقبة، مسؤولة - إلى حدٍ كبير- عن اضطراب الإنفاق من موارد الأراضي الموقوفة، وهو الأمر الذي شجع عدداً من الواقفين على وقف العقارات المدنية، كالأسواق والحوانيت والحمامات والخانات والدور والأفران وغيرها بوصفها أكثر ضماناً لمصالح الوقف، وربما لجأ بعض متولي الوقف إلى استبدال المزارع والحقول خارج المدن، بمثل تلك العقارات خدمة لمصالح المؤسسة الوقفية ولتحقيق زيادة في مواردها المالية.

ولقد برز خلال الحقبة الممتدة من دخول العثمانيين مدينة القدس في أوائل القرن العاشر للهجرة (السادس عشر للميلاد) وحتى نهاية القرن التالي عدد من الأسر العلمية، بعضها كان امتدادا للأسر التي ظهرت في الحقبة السابقة، بينما عرف البعض الآخر في العهد العثماني. وفي وسعنا أن نلاحظ تعدد أجيال الأسرة الواحدة من تلك الأسر، وقدرتها على توريث اهتماماتها العلمية إلى أبنائها عبر قرون من الزمن، وبمكن أن نعزي هذه الظاهرة إلى عدة عوامل، لعل أبرزها أن تلك الأسر كانت تحصل على مصادر دخلها من الأوقاف المُرصدة على المؤسسات الدينية والعلمية التي تتولى وظائفها الشرعية من إمامة وخطابة ووعظ وتدريس وإفتاء، ولما لم يكن ممكناً الحصول على تلك الدخول إلاّ بشغل الوظائف المذكورة، تحقيقاً لشروط الواقفين، فإن تأهيل الأسرة أبناءها للعمل في مجالات العلم والتعليم يصبح ضرورة تفرضها تلك الشروط نفسها. ومن ناحية أخرى فإن تولي عدة أجيال من الأسرة وظائف محددة ذات قيمة روحية واجتماعية عالية، من شأنه أن يُضفي على الأسرة مقاماً اجتماعياً رفيعاً في مدينتها، بل أن يحدد مستواها الاجتماعي بسبب نوع ما تشغله من وظائف، وبالطبع فإنه ليس بالإمكان الحفاظ على ذلك المستوى إلاّ بسَيْر الأبناء على هدى خطى الآباء. ومن ناحية ثالثة فإن رتابة الحياة السياسية والاجتماعية، وضعف تأثرها بأية تيارات ثقافية جديدة خلال تلك الحقبة التي اتسمت بالركود عامة، أدت إلى استمرار أبناء الأسر العلمية في تولي مراكز آبائهم، واهتماماتهم أيضاً، فلم يكن ثمة مبرر يقضي بإحداث أي تغيير في نظام اجتماعي ثابت، عَرَف كل عضو فيه موقعه منه. ولا نشك في أن استمرار هذا التواصل العلمي لمدة طويلة، قد عزز من قوة التقاليد العامة للحياة الثقافية، فلم نقرأ عن استثناءات تذكر في طبيعة تلك الحياة، سواء ما يتعلق منها بالعلم والتعليم ووسائله، أو الاتجاهات الفكرية العامة، المتمثلة بمناهج البحث وأهدافه ومجالاته.

ولنا أن نلاحظ أن أكثر الأسر العلمية التي برزت في عهد المماليك السابق، ظلت موجودة في هذا العهد أيضاً، إلاّ أنها تعرضت -لأسباب مختلفة- إلى منافسة أسر جديدة وفدت إلى القدس في حقبة متأخرة، ومنها ما كان وفوده في أواخر عهد المماليك، وليس من الواضح السبب الذي دفع بهذه الأسر الجديدة إلى تبوء مكان الصدارة في الحياة الثقافية للمدينة، على الرغم من وجود أسر أقدم منها، وذات إرث ثقافي كبير، أمثال بني القلقشندي وبني جماعة وبني الديري وبني قدامة وبني غانم، ونرى أن سبب ذلك اجتماعي بالدرجة الأولى، يتعلق بتناقص عدد رجال تلك الأسر عهد آنذاك لتعرضهم لتأثير الأوبئة العديدة التي وفدت إلى المدينة في أواخر عهد المماليك أو لأسباب وراثية معينة[9]، وهي ظاهرة لا نعدم أن نجد لها أمثلة أخرى في مجتمعات عاشت ظروفاً مشابهة.

ومن المؤكد أن شغرُ أي منصب في المؤسسات الشرعية والعلمية، بسبب وفاة صاحبه وعدم وجود مرشح مؤهل من أسرته، يعني تقديم فرصة لأسرة علمية أخرى لأن تدفع بأحد أبنائها لشغل ذلك المنصب، وهكذا فقد وجدت أسر حديثة العهد بالمدينة المجال لتثبيت أقدامها في مجتمعها فاتحة المجال لأجيال أخرى من تلك الأسر لأن تسلك السبيل نفسه، فتدفع بأبنائها لتولي المناصب الشرعية والعلمية، وتبوئها - من ثم- منزلة اجتماعية رفيعة. وعلى أية حال فقد تمكنت هذه الأسر، من الهيمنة على معظم النشاط الثقافي في مجتمعها، وهي ظاهرة وإن لمسناها في العهد السابق، فإنها بدت أكثر بروزاً في هذا العهد. وليس أدل على ذلك من أن المحبّي أورد في (خلاصة الأثر) نحو خمسين ترجمة لعلماء مقادسة عاشوا في القرن الحادي عشر الهجري (السابع عشر الميلادي) فكان نصفهم تقريباً ينتمي إلى خمس أسر علمية فحسب، هذا بينما يكشف كتاب (الكواكب السائرة) للغزي عن تنوع الشديد لأصول علماء القدس في القرن العاشر للهجرة (السادس عشر الميلادي) فبينهم دمشقيون وحلبيون ومصريون وبغداديون وموصليون ومغاربة وحجازيون.. الخ، جمع بينهم العلم، وليس الانحدار من مَحتد محدد او أسرة معينة.. وأبرز الأسر المقدسية التي اشتغلت بالعلم، إبان القرن الحادي عشر للهجرة (السابع عشر للميلاد) هي:

1- بنو أبي اللطف:

تنسب هذه الأسرة إلى أول من استقر من أسلافها في مدينة القدس، وهو الشيخ شمس الدين محمد بن علي بن منصور بن زين العرب الحَصْكَفي، المُكنّى بأبي اللطف (ولد سنة 815 وتوفي سنة 859هـ/ 1416- 1455م) وكان عالماً مشهوراً له تآليف عدة، ويكشف لقبه فضلاً عن ترجمته[10]، كونه من أهل حصن كيفا من مدن أعالي الجزيرة، وتشير المصادر إلى أنه كان يعرف هناك بابن الحمصي، مما يدل على أن أباه لم يكن من أهل حصن كيفا، وإنما انتقل إليها من حمص. وقد تزوج من ابنة أحد كبار علماء القدس، وهو شيخ الإسلام تقي الدين القرقشندي المصري، فولد له محمد الذي سرعان ما لاحت دلائل نبوغه فنال شهرة عريضة حتى عرف بشيخ الإسلام، واستقر محمد ابو اللطيف في القدس حيث ولد له أبناء لم يقل عددهم عن ستة، وكان لجميعهم ذرية، فبلغ عدد من عرفتهم مصادر القرنين السابع عشر والثامن عشر نحو 16 رجلاً برز جميعهم في مجال العلوم والتعليم، منهم:

• محمد بن ابي اللطف: ولد سنة 859هـ/1454م، وأخذ علومه الأولى على أيدي علماء القدس، ثم واصل دراسته في القاهرة حيث تتلمذ على يد العلامة محمد بن عبدالمنعم الجوجري (821-889هـ/1418-1484م) وسمع الحديث وقرأه على جماعة، وأذن له بالإفتاء والتدريس "وصار من أعيان العلماء والأخيار الموصوفين بالعلم والدين والتواضع". وتوفي سنة 928هـ/1521م[11].

• عمر بن محمد أبي اللطف: تولى إفتاء الحنفية بالقدس سنة 990هـ/1582م، والتدريس بالمدرسة العثمانية (المفتتحة سنة 840هـ/1436م) حيث تقاسم راتب هذه الوظيفة مع أحد علماء بني جماعة من الأسر العلمية القديمة[12].

• جار الله بن أبي بكر محمد أبي اللطف: واصل دراسته في مصر حيث أخذ العربية والفقه، وبعد وفاة عمه عمر اضطر للسفر إلى الدولة العثمانية ليَرث وظائفه الشرعية فتولى الإفتاء والتدريس في المدرسة المذكورة، وتوفي سنة 1028هـ/1618م[13].

 • إسحاق بن عمر بن أبي اللطف: نبغ في الفرائض والحساب، وتولى التدريس في المدرسة العثمانية اسوة بابيه، ثم انتقل للتدريس في المدرسة الصلاحية، أشهر مدارس القدس، وهي "مشروطة لأعلم العلماء الشافعية في ديار العرب وعلوفتها[14] كل يوم مثقال من الذهب"، وتولى إفتاء الشافعية، ولم يُعرف تاريخ وفاته[15].

• يوسف بن محمد أبي اللطف: تقاسم مع ابن عمه إسحاق تدريس المدرسة الصلاحية "لكن التصرف في الغالب إنما هو لإسحاق[16].

• محمد بن يوسف بن محمد أبي اللطف: دَرَس العربية على ابن عم ابيه عمر بن محمد وتفقه على والده يوسف، وعين نائباً للقضاء في القدس ثم كاتباً لقاضيها، ووضع شرحاً لمنظومة أبيه في الفقه، وتوفي سنة 1028هـ/1618[17].

• محمد بن عبدالحق بن محمد ابي اللطف: رحل إلى القاهرة وأقام فيها سنين عديدة ودرس على يد علمائها، ثم سافر إلى الدولة العثمانية ليتولى تدريس المدرسة العثمانية فتولاها، وكان شاعراً مطبوعا. توفي سنة 1033هـ/1623[18].

• أبو اللطف بن اسحاق بن محمد محمد ابي اللطف: كان فقيها شاعراً، ولي افتاء الشافعية وتدريس المدرسة الصلاحية، وتوفي سنة 1071هـ/1660م[19].

• عبدالرحيم بن أبي اللطف: أخذ العلم في مدينته، ثم واصل دراسته في مصر، وتولى إفتاء الحنفية بالقدس وتدريس المدرسة العثمانية، وتوفي 1104هـ/1692م[20].

  محمد بن عبدالرحيم (السابق) تولى إفتاء الحنفية في القدس، وكان أفقه الحنفية في وقته، وله فتاوى، ولم يعلم تاريخ وفاته[21].

• علي بن جار الله بن ابي بكر: ولي افتاء الحنفية في القدس وخطابة المسجد الأقصى، توفي سنة 1070هـ/1659م[22].

• علي بن حبيب الله بن محمد بن نور الدين بن أبي اللطف: انتقل إلى مصر حيث مكث في الأزهر خمس عشرة سنة، وسافر إلى القسطنطينية حيث درس البخاري مدة خمس وعشرين سنة. تولى تدريس المدرسة الصلاحية، وكانت قبله لابن عمه محمد جار الله، والمدرسة الحنفية وإفتاء الشافعية والمدرسة المأمونية ومشيخة المدرسة الملكية، ونزل في المدرسة الحسنية، ودرس في باب الأقصى، ثم في المدرسة الفنازية، وتوفي سنة 1144هـ/1731م[23].

 

2- بنو العلمي:

نزحت هذه الأسرة من منطقة هكاري في كردستان[24]، وعرفت باسمها هذا نسبة إلى أحد أجدادها وهو علم الدين بن ربيع بن سليمان بن المهذب بن قاسم بن علي بن حسن بن احمد الهكاري، ويؤكد قدم إقامة الأسرة في مدينة القدس أن إحدى حاراتها عرفت بحارة العلم، نسبة إلى مؤسسها. واشتهر أبناؤه بالدين والمَيل إلى التصوف حتى عُرف حفيده المباشر موسى بالولاية وإتيان الكرامات، ويظهر أنه كان للزيادة المطردة في عدد أبناء الأسرة دور أساس في توطيد مكانتها فضلاً عن صفاتهم المحببة الأخرى، وقد نال موسى نفسه لقب أمير، وذلك لتوليه بعض المناصب الإدارية الرفيعة[25]، إلا أن الأجيال التالية لم تعرف إلا بالولاية والصلاح[26]. ويذكر المحبي أنهم بيت الولاية والصلاح لهم الرتبة العلية في القدس، وخرج منهم علماء وصلحاء كثيرون[27]. ولم يؤثر على أكثرهم إشغال الوظائف التدريسية في مدارس القدس الموقوفة إلا أن قسماً منهم تولى منصب الخطابة في المسجد الأقصى والإمامة في الصخرة المشرفة، وكان لبعضهم أوقاف على أهل المدينة. ولقد أمكن لنا أن نُحصي عدداً وافراً ممن اشتهر بالعلم والتقى من أهل هذا البيت، زاد على العشرين عالماً، وقد برز اكثرهم بعد الفتح العثماني للمدينة، وبالتحديد في القرن الحادي عشر (السابع عشر للميلاد) والنصف الاول من القرن التالي منهم:

• سيدي محمد بن عمر بن محمد العَلمي المعروف بالقطب: ولد بالقدس وسكن دمشق زمناً، وحج وجاور، وعاد إلى القدس، وتوفي فيها سنة 1038هـ/ 1639م وله مؤلفات وشعر[28].

• محمد بن علي العلمي: خال محمد بن عمر المتقدم. طلب العلم في القدس ثم ارتحل إلى القاهرة حيث تفقه على يد كبار علمائها، منهم الشيخ ابن نجيم الحنفي وغيره، واستقر في دمشق حيث درس في بعض مدارسها وتوفي سنة 1018هـ/1609م[29].

 • عبدالصمد بن عمر العلمي: صوفي استخلفه أبوه في مجلس الذكر شاباً فكان "على وقار الأشياخ"، عاش شبابه في دمشق وجلس في حلقة الذكر شاباً، وحج مع أبيه سنة 1011هـ/1602م، واستقر في القدس وتوفي سنة 1032هـ/1622م[30].

 • أحمد بن صالح بن عمر العلمي: أخو القطب محمد بن عمر المتقدم، كان صوفياً ورعاً، أخذ التصوف عن عمِّه ولازم المسجد، توفي سنة 1054هـ/1643م[31].

 • مصطفى بن فخر الدين بن عثمان العلمي: طلب العلم في القدس وعمل كاتباً للصكوك في محكمتها، وولي النيابة، ووقف أوقافاً عدة على المؤذن في المسجد الأقصى وعلى أعمال خيرية أخرى، وتوفي سنة 1075 هـ/1664م[32].

• عبدالقادر بن محمد بن عمر العلمي: من العلماء الأجلاء توفي سنة 1079هـ/1668م[33].

• ابو الوفا بن عبدالصمد بن محمد العلمي: صوفي ولد سنة 1052هـ/1642م وأدرك جده القطب سيدي محمد العلمي، وحفظ القرآن الكريم ولبس خرقة الصوفية من أخيه الشيخ عمر (السابق)[34]، وصار شيخ الشيوخ بالقدس وكبير الصوفية، توفي سنة 1109هـ/1697م.

• أحمد بن صلاح الدين العلمي: كان عالما صوفياً، ولد سنة 1055هـ/1655م، وأخذ التصوف عن أحد المغاربة الشاذليين فجعله هذا خليفة له في القدس. وتولى الخطابة والوعظ في المسجد الأقصى توفي سنة 1116هـ/1704م[35].

• أبو بكر بن أحمد بن صلاح الدين العلمي: كان زاهداً خيِّراً تولى افتاء الحنفية بالقدس، وتوفي سنة 1044هـ/1731[36].
 

3- بنو الدجاني:

ينتسبون إلى بيت دجن، قرية بالقرب من بلدة يافا، وانحدروا منها في وقت غير محدد ليستوطنوا مدينة القدس. وقد برزت منهم إبان هذه الحقبة أسماء لامعة، ترجم لهم معاصروهم وهم:

• عرفة بن أحمد الدجاني: كان عالماً فاضلاً منقطعاً في منزله، وارتحل مع أبيه وأخوَيه إلى مصر وقرأوا بالجامع الأزهر، ثم عادوا إلى القدس ليشتغلو بالعلم، وتوفي عرفة سنة 1003هـ/1594م[37].

• محمود بن أحمد الدجاني: أخو سابقيه. وصفه معاصروه بأنه الشيخ الكبير الفقيه الثبت الرحلة، وتوفي بعد سنة 1003هـ[38].

• محمد بن صالح بن محمد الدجاني: أقام بالأزهر سنين عديدة، ودرس الفقه والحديث على يد كبار علماء مصر، ثم أخذ التصوف وهو في أواسط عمره، وله تأليف. توفي سنة 1071هـ/1660م[39].

• درويش بن سليمان بن محمد بن أحمد الدجاني: كان شيخاً صالحاً زاهداً، واخذ العلم في القدس، ثم أقام في دمشق واشتغل بالتصوف. وتوفي سنة 1088هـ/1677م[40].

• يحيى بن درويش الدجاني: من صلحاء القدس عمل خادماً لضريح النبي داود، وكانت له رحلات عدة إلى دمشق، وتوفي سنة 1133 هـ[41].

• خليل بن أبي الوفا الدجاني: المتولي والناظر والشيخ في المدرسة الأوحدية في القدس سنة 1124 هـ/1712م[42].
 

4- بنو الديري:

ينسبون إلى قرية الدير من أعمال نابلس، ومنها نزحوا إلى القدس في القرن الثامن الهجري (14م)، وأول من استوطنها منهم شيخ الإسلام شمس الدين محمد بن جمال الدين سعد بن عبدالله بن مصلح الديري العبسي الحنفي المتوفى سنة 867هـ/ 1462م[43]. ولقد عرف أبناؤه وأحفاده بالفقه، وهو ما أهّلهُم للعمل في وظائف علمية وشرعية مرموقة، كالتدريس في المدارس، ونيابة الحكم (القضاء) وكتابة الصكوك، ورئاسة الكتاب في محكمة القدس، والنظارة على الاوقاف، وكانت هذه الوظائف تنتقل إلى الأبناء من آبائهم بصفة وراثية. وقد لمع شأن الأسرة في العصر العثماني بمن أنجبتهم من أولئك العلماء، فأوردت كتب التراجم تراجم عدد منهم، كما وردت الإشارات إلى عدد آخر في سجلات المحكمة الشرعية في القدس، فمن العلماء الذين نبغوا في القرن السابع عشر وحده نذكر:

• محمود بن أحمد الديري: تولى نصف وظيفة النظارة على أوقاف المدرسة الفارسية ونصف مشيختها عما لها من العلوم، عوضاً عن والده بحكم فراغه له سنة 971هـ/1563م[44].

• طه بن صالح بن يحيى الديري: أخذ العلم من علماء بلده، وكانت له اليد الطولى في علوم الأصول والتفسير والنحو، وولي نيابة الحكم وكتابة الصكوك في القدس، ثم ولي نيابة الحكم بمكة، وأخذ فيها الحديث عن علمائها ثم عاد إلى القدس واشتغل بالتدريس. توفي سنة 1071هـ/1660م[45].

• فتح الله بن طاهر الديري: تولى مشيخة المدرسة الفارسية بعد والده سنة 1077هـ/1666م، وأذن له الحاكم بالتصرف بالوظيفة والسكن في المدرسة سنة 1080هـ/1669م، وتوفي بعد سنة 1094هـ/1682م[46].

• خليل بن عفيف الديري: تولى نصف وظيفة التدريس بالمدرسة الفارسية سنة 1079هـ/1668م[47].

• صنع الله الديري: تولى النصف الآخر من الوظيفة المذكورة سنة 1049هـ/سنة 1682م[48].

• محمد بن عيسى بن عبدالرحمن الديري: مؤلف، له بعض الشروح. توفي سنة 1087هـ/ 1676م[49].

 • محمد الخالدي الديري: طلب العلم، وتولى رياسة الكتابة بمحكمة القدس وهي وظيفة آبائه وأجداده، وتوفي سنة 1139هـ/1726م[50].

 
5- بنو الخربيشي:

انحدروا إلى القدس من قرية تدعى (خربيش) في جبل نابلس، وعمل أول أسلافها المعروفين واسمه أحمد في أعمال البناء، لكنه كان حسن تلاوة القرآن فتأثر به ولده محمد وطلب العلم، وواصل دراسته في الأزهر حيث أقام هناك مدة طويلة، تأهل بعدها للتدريس والفتوى، ثم عاد إلى مدينته القدس ليعمل إماما للحنابلة بالمجمع الذي تحت المدرسة القايتبائية، وتوفي سنة 1001هـ/1592م[51]. وقد اقتدى بسيرته ابنه اسحاق، فطلب العلم وأمَّ بالمسجد الاقصى، وكانت له مؤلفات جمة. وتوفي سنة 1035هـ/1625م[52].

وثمة أسر اخرى، يظهر أنها كانت أقل شأناً في الحياة الثقافية لقلة من قدمتهم من أهل العلم، مثل أسرة الكرمي (نسبة إلى بلدة طول كرم)، ومنها الفقيه المؤرخ مرعي بن يوسف بن أبي بكر بن أحمد الكرمي المتوفي سنة 1033هـ/1623م[53]. وأسرة العسيلي التي نزحت من مصر في القرن التاسع للهجرة (الخامس عشر للميلاد)، وبرز منها علماء كبار منهم محمد بن موسى بن علاء الدين العسلي الذي برع في الفقه والحديث، وألف فيها مؤلفات مهمة، وتوفي سنة 1031هـ/1621م[54]. وأسرة أولاد تامر، ومنها يحيى بن زكريا المعصراني، وكان فقيها نحويا يقرئ بالخلوة النحوية في سطح الصخرة القبلي، وقد أوصى بجميع كتبه إلى طلبته، وتوفي سنة 1083هـ/1672م[55]. وأسرة الشهواني التي ذكر المرادي أنها "من البيوت القديمة بالقدس" [56] وغيرها.


وتكشف دراسة عنوانات الكتب والرسائل التي وضعها العلماء المقادسة إبّان هذه الحقبة، عن جملة من الأمور المهمة، منها أن شيئاً من الفتور قد أصاب حركة التآليف، قياساً إلى ما كانت عليه هذه الحركة في العهدين الأيوبي والمملوكي، فلم تعد تراجم العلماء مكتظة بعناوين مؤلفاتهم، وانما طغت على هذه التراجم الإشارات إلى وظائفهم، والشيوخ اللذين أخذوا عنهم، ويمكن أن تعزى هذه الظاهرة إلى الركود العام الذي سار البلاد إبان العصر العثماني، وزوال دولة المماليك التي شهدت القدس، في أثناء حكمها، ذروة مجدها الثقافي. ويمكن القول أن التراث الفكري المتنوع الذي نتج عن علماء ذلك العهد، كان من الغنى والأهمية ما أغنى -إلى حد ما- عن مظاهاته بمؤلفات جديدة، ونرجح أن يكون التراث المذكور قد أصبح المعين لعلماء العصر العثماني، في التدريس والفتوى. لا سيما وأن ظروفاً جديدة لم تستدع وضع مؤلفات تلبي حاجة أبناء العصر المذكور.
 

ومن ناحية أخرى فإن لدراسة الأغلبية الساحقة من علماء القدس في القاهرة، وأخذهم العلم على أيدي كبار العلماء المصريين، جعلتهم يكتفون بنتاج أولئك العلماء الذين أخذوا عنهم، فتعددت نسخ الكتاب الواحد في خزائن المدينة ومدارسها، بينما ضعفت الرغبة في الاضافة اليه، أو تأليف كتب بديلة. وربما أدى انتشار المفاهيم الصوفية في هذا العهد انتشاراً واسعاً، سبباً آخر لعزوف بعض الصوفية عن الانشغال بالبحث والتأليف، والانصراف، بدل ذلك، إلى حلقات الذكر والتربية الروحية العامة.

بيد أن علينا أن لا نتصور بأن هذا الفتور النسبي كان يعني توقفاً لحركة التأليف، وانتهاءً للبحث في شؤون المعرفة، إذ أن رصد النتاج الفكري لهذه الحقبة يكشف عن أن حركة التأليف والبحث لم تتوقف قط، رغم كل الظروف السائدة. وأن ترتيب اهتمامات المؤلفين كان، بحسب عنوانات مؤلفاتهم، يأخذ السياق الآتي: فروع الفقه، التفسير، اللغة والنحو، السيرة والتاريخ، التصوف، العلوم البحتة.

ففي الفقه كتب محمد بن يوسف بن ابي اللطف المقدسي الحنفي (المتوفى 1028هـ/1618م) شرحاً لكتاب (جواهر الذخائر في الكبائر والصغائر) لبدر الدين الحسن بن علي الغزي (المتوفى سنة 753هـ/1352م)[57].، ووضع مرعي بن يوسف الكرمي المقدسي (المتوفى سنة 1033هـ/1623م) عدداً من الكتب والرسائل الفقهية التي عالج أكثرها موضوعات محددة كانت تشغل أهل عصره، منها مثلاً (أزهار الفلاة في آية قصر الصلاة) و(إيقاظ العارفين على حكم أوقاف السلاطين) و(تهذيب الكلام في حكم أرض مصر والشام) و(تحقيق الرجَحَان بصوم يوم الشك من رمضان) و(الحجج المُبيَّنة في إبطال اليمين مع البيِّنة) و(دليل الطالب) في الفقه و(غاية المنتهى) في الفقه، و(اللفظ الموطأ في بيان الصلاة الوسطى) و(المسائل اللطيفة في فسخ الحجج إلى العمرة الشريفة) و(مقدمة الخائض في علم الفرائض) [58].

ووضع محمد بن صالح الدجاني الشافعي (المتوفى سنة 1071هـ/16660م) رسالة في حكم الأمرد، وأخرى في فصل المساجد[59]. وكتب عبدالباقي بن عبدالرحمن الخزرجي (المتوفى سنة 1078هـ/1667) شرحاً سماه (الرمز) على كتاب (كنز الدقائق) لأبي البركات النسفي (المتوفى سنة 710هـ/1310م)[60]، وجمع عبدالرحيم بن أبي اللطف المقدسي (المتوفى 1104هـ/1692م) فتاواه التي أفتى بها في كتابٍ سماه (الفتاوى الرحيمية في الواقعات الحنفية)، وكتب تعليقات على الفتاوى البزازية لحافظ الدين محمد بن البزاز الكردري (المتوفى سنة 827هـ/1423م) وعلى غيرها أيضاً، فجمعها ولده وسماها (الفوائد الرحيمية على كتب كثيرة من كتب السادة الحنفية)[61].
 

وفي التفسير كتب رضي الدين يوسف بن أبي اللطف المقدسي (المتوفى سنة 1006هـ/1574م) "تعليقة عظيمة" على تفسير أبي السعود العمادي (المتوفى سنة 982هـ/1574م) المسمى " إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم" وقد علقها إلى قريب النصف وأهداها إلى أحد القضاة الذين زاروا القدس يومذاك[62]. وكتب محمد بن يوسف بن أبي اللطف حاشية على "أنوار التنزيل" للبيضاوي[63]، بينما وضع مرعي بن يوسف الكرمي نحو عشرة كتب ورسائل في التفسير، منها تفسيره المسمى (البرهان في تفسير القرآن)، ورسائل متنوعة في تفسيرات آيات معينة مثل (إتحاف ذوي الألباب في قوله تعالى: ﴿ يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ﴾ [الرعد: 39]، و(أحكام الأساس" في قوله تعالى: ﴿ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ.... ﴾ [آل عمران: 96]، والكلمات السنية في قوله تعالى: ﴿ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ..... ﴾ [البقرة: 25]، و(بهجة الناظرين في آيات المستدلين) وكتاب في علم الناسخ والمنسوخ سماه (قلائد المرجان) وآخر في الآيات المحكمات والمتشابهات[64] وغير ذلك.

وعُني آخرون بالكتابة في التصوف والدفاع عن مبادئه، فكتب محمد بن علي العلمي (المتوفى سنة 1018هـ/1609م) (النصيحة المرضية إلى الطريقة المحمدية) [65]، ورد عبدالباقي الخزرجي (المتوفى سنة 1078هـ/1667م) على منكري كرامات الأولياء برسالة سماها (السيوف الصقال في رقبة من ينكر كرامات الأولياء بعد الانتقال) [66]، ووضع مرعي بن يوسف الكرمي رسالة في (تسليك المريدين)، ودافع عن الصوفية برسالة (الأدلة الوفية بتصويب قول الفقهاء الصوفية) وحاول التوفيق بين الفقه والتصوف برسالة عنوانها (سلوك الطريقة في الجمع بين كلام أهل الشريعة والحقيقة)، وبحث في مسألة الروح برسالة سماها (أرواح الأشباح في الكلام على الأرواح)، وتناول تحديد مصطلح الولاية في رسالته (تحقيق المقالة هل الأفضل في حق النبي صل الله عليه وسلم الولاية او النبوة والرسالة) [67] وغير ذلك.
 

وفي العقائد وضع مرعي بن يوسف المذكور نحو اثني عشر كتابا ورسالة، بحث فيها مسألة نزول عيسى (عليه السلام) في آخر الزمان، ومسألة حياة الخضر وأخباره، وأوضح في بعض رسائله حقيقة الميزان، وتكلم في الفرق بين الإسلام والإيمان، وفي الصفات الإلهية، ورد على كل من كان يحتج على فعل المعاصي بالقدر في رسالته (دفع الشبهة والغدر) وكتب في (تحقيق الخلاف في أصحاب الأعراف) و(توقيف الفريقين على خلود اهل الدارين)، ووضع رسالة بعنوان (رفع التلبيس عمن توقف فيما كفر به ابليس) وغير ذلك[68].
 

وفي علوم العربية وضع محمد بن موسى العسيلي المقدسي (المتوفى سنة 1031هـ/1621م) حاشيتين، الاولى على (قطر الندى) لابن هشام النحوي، والاخرى على شرحه المعنون (مجيب الندا) لأحمد الفاكهي المكي (المتوفى سنة 1972هـ/1564م)، ثم نظم متن القطر المذكور[69], وألف مرعي بن يوسف الكرمي (دليل الطالبين لكلام النحويين) وكتاباً سماه (قرة عين الودود بمعرفة المقصور والممدود)، وآخر في علم البديع سماه (القول البديع)،[70] وعني أحمد بن مفرح بن عيسى المقدسي (المتوفى بعد 1093هـ/1681م) بالمنظومة النحوية التي وضعها عمر ابن الوردي (المتوفى سنة 749هـ/1348م) فشرحها بعنوان (الهدية الغربية على التحفة الوردية)[71]، ووضع حسن بن محمود المقدسي (المتوفى سنة 1100هـ/1688م) عدة حواس على شرح (المفتاح في المعاني والبيان) للسكاكي[72]، بينما كتب عبدالرحيم بن أبي اللطف (المتوفى سنة 1104هـ/1692م) كتابا في الاشتقاق سماه (دلالة الاشتقاق) ثم عاد فشرحه، ووضع آخرون رسائل أخرى في مثل هذه المباحث[73].
 

وشهدت الحقبة محاولات متفرقة في الكتابة التاريخية لم تبلغ بمجموعها ما بلغته هذه الكتابة من شأو على أيدي المؤرخين المقادسة في الحقب السابقة. ولعل من أبرز من عانوا كتابة التاريخ والسيرة مرعي بن يوسف الكرمي، فقد ألف كتاباً اشتمل على السيرة النبوية وسيرة الخلفاء من بعده وسماه (تلخيص أوصاف المصطفى وذكر من بعده من الخلفاء)، وأفرد كتابا آخر في (مناقب الأئمة المجتهدين)، وثالث في مناقب ابن تيمية بعنوان (الكواكب الدرية)، وكتب كتابا في تاريخ مصر سماه (نزهة الناظرين في تاريخ من ولي مصر من الخلفاء والسلاطين) [74]. وعني محمد بن موسى العسيلي بالسيرة النبوية، فعمد إلى نظم كتاب (التقرب في خصائص الحبيب) وكتب حسن بن محمود المقدسي، رسالتين، يبدو أنهما تدخلان في فن الترجمة للمعاصرين، الأولى (حمد اللطيف الرؤوف في مدح القاضي عبدالرؤوف) والأخرى (قرة العين لمقدمة أوصاف الملا حسين) [75].
 

ويلاحظ في هذه الحقبة تدني العناية بالكتابة الأدبية المحضة، فلم نقف، على طول بحثنا، على أدباء وشعراء اختصوا بالكتابة في هذا الفن، وجميع ما وقفنا عليه هو نتاجات لفئة "العلماء"، من ذلك ما كتبه مرعي بن يوسف بعنوان (تسكين الأشواق بأخبار العشاق) [76]، والكتاب الذي وضعه عبدالباقي الخزرجي بعنوان (روضة الآداب) ويقع في أربعة مجلدات[77]، وبضعة دواوين شعرية لعلماء آخرين.

ولم تشهد القدس إبان هذا العهد اهتماماً يذكر في العلوم البحتة، وأبرز ما وقفنا عليه في هذا الصدد رسالتان في الفلك والحساب لعبد الله بن أحمد بن يحيى المقدسي (كان حياً سنة 1078هـ/1667م) أولهما (تحفة الأحباب في بيان حكم ذوي الأذناب)، وهي تبحث عن المُذنّبات السماوية، بينما تبحث الأخرى في الهندسة المستوية، وعنوانها (تحفة اللبيب وبغية الأريب في رُبع الدائرة والجَيب) [78].

 وفضلاً عما تقدم فإن الحقبة لم تعدم ظهور مؤلفات متفرقة تناول فيها مؤلفوها موضوعات محددة كانت تفرضها مستجدات العصر، أو ظروفه العامة، فكتب محمد صالح بن محمد الدجاني مثلاً رسالة (في عمارة حُدوث المسجد الاقصى) [79]. ويظهر أنها كانت بمناسبة القيام ببعض أعمال التعمير في المسجد. ووضع مرعي بن يوسف رسالة في (حكم السماع والأوتار والغناء والأشعار) دلت على عناية بعض معاصريه بفنون الموسيقى والغناء، كما كتب في (استعمال الذهب والحرير)، ووضع رسالة (في فضل السلطنة والوزارة) لعله كتبها على سبيل التهنئة لأحد معاصريه بنيله منصباً ما، وتناول إحدى أشد الكوارث التي كانت تهدد البلاد في رسالتين سماهما (تحقيق الظنون بأخبار الطاعون) و(ما يفعله الأطباء والداعون لدفع شر الطاعون)، وحث أهل عصره على الجهاد في رسالة يظهر أنه ألفها بمناسبة بعض الحروب، ولم يفته أن يتناول ظاهرة التدخين الذي أخذت ملامحها المبكرة تظهر عهد ذاك في رسالته (تحقيق البرهان في شأن الدخان الذي يستعمله الناس الآن) [80].

ومع أن أكثر هذه الكتب والرسائل لم يطبع بعد، بل فُقد أكثر نسخها الخطية، فإن عنواناتها تكشف عن طبيعة الاتجاهات الفكرية التي كانت تسود ذلك العهد، وهي اتجاهات تعد استمراراً لجهود الأجيال السابقة من العلماء العرب، وتمثل في الوقت نفسه جزءاً من النسيج الثقافي الواحد في المنطقة.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75517
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

مكانة بيت المقدس في الإسلام وعند المسلمين Empty
مُساهمةموضوع: رد: مكانة بيت المقدس في الإسلام وعند المسلمين   مكانة بيت المقدس في الإسلام وعند المسلمين Emptyالإثنين 24 يونيو 2019, 2:39 am

ملاحق البحث:
مشجرات أنساب الأسر العلمية في القدس في القرن 11هـ/17م
أ- بنو أبي اللطف
ب- بنو العلمي
جـ- بنو الدجاني
 
شجرة آل العلمي كما في وثائق الأسرة ويظهر فيها أن نسبها يتصل بالأدارسة من ذرية الحسن بن علي بن أبي طالب (ع)
مكانة بيت المقدس في الإسلام وعند المسلمين P_12692wl4f1
مكانة بيت المقدس في الإسلام وعند المسلمين P_1269ebm9m2






مكانة بيت المقدس في الإسلام وعند المسلمين P_1269r7cqy4



مكانة بيت المقدس في الإسلام وعند المسلمين P_1269pqaaf3




مكانة بيت المقدس في الإسلام وعند المسلمين P_1269cy8511


مكانة بيت المقدس في الإسلام وعند المسلمين P_1269xz6882



[1] انظر د. محمود إبراهيم: فضائل بيت المقدس في مخطوطات عربية قديمة (الكويت 1406هـ/1985م) ففيه تفاصيل وافية عن عدة مؤلفات.
[2] انظر عن عناية السلاطين بإنشاء هذه المؤسسات ورعايتها د. علي السيد علي: القدس في العصر المملوكي (دار الفكر القاهرة) ود. يوسف درويش غوانمة: تاريخ نيابة بيت المقدس في العصر المملوكي (عمان 1982) ود. رشاد الامام: مدينة القدس في العصر الوسيط (تونس 1976).
[3] مجير الدين الحنبلي: الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل ج2 (النجف 1968) في مواطن عديدة.
[4] - المصدر نفسه 33-34 ود. كامل جميل العسلي: معاهد العلم في بيت المقدس (عمان 1981) 34-45.
[5] - العسلي معاهد العلم ص153
[6] - من الأعمال المهمة في هذا المجال ما قام به السلطان سليمان القانوني، وتشمل إعادة بناء جانب من سورها، وترميم حصنها وبواباتها ، وحفر خندقها، وإنشاء عدد كبير من مشاريع مياه الشرب (الأسبلة) وحمامان وتكية فضلا عن مدرسة لطلبة العلم في تكية خاصكي سلطان. ولا شك في أن هذه الأعمال وهي خدمية في مجملها، كانت تساعد على تهيئة مستلزمات الحياة في المدينة، ينظر عارف العارف: المفصل في تاريخ القدس، المؤسسة العربية، بيروت 2005، ص431 وخليل طوطح: تاريخ القدس، مطبعة مرآة الشرق، القدس 1922، ص29 وكامل العسلي: وثائق مقدسية تاريخية، عمان 1983، ص145.
[7] - عارف العارف: تاريخ القدس (القاهرة) ص105-101 عن أوليا جليي سياحتنامه سي.
[8] كانت فلسطين تابعة ادارياً في هذا العهد لولاة دمشق ونظراً لبعدها عنها جغرافياً ولقلة إنتاجها من الحبوب على خلاف الحال في منطقة حوران، فإن الدولة لم تبد اكتراثاً كبيراً بأحوالها ولم تبذل لها الحماية التي بذلتها لمنطقة حوران ومن ثم كانت أكثر مناطق بلاد الشام احتياجا من قبل البدو، د. ليلى الصباغ: المجتمع العربي السوري في مطلع العهد العثماني (دمشق 1972) 64- 65.
[9] - تعرضت مدينة القدس، منذ منتصف القرن التاسع الهجري (15 م) إلى تناقص حاد في أعداد السكان لفت نظر بعض الرحالة من الحجاج المسيحيين واليهود، انظر د. علي السيد: مصدر سابق ص70-71.
[10] - السخاوي: الضوء اللامع ج8 ص220.
[11] - الغزي: الكواكب السائرة 1/17 والضوء اللامع 9/164، والعماد الحنبلي: شذرات الذهب 8/161.
[12] - الكواكب السائرة ج3 ص220 والعسلي: كصدر سابق ص178
[13] - المحبي: خلاصة الأثر ج1 ص481-483.
[14] العلوفة لغة طعام الحيوان، ومن الواضح أنه يقصد هنا مخصصاتها المالية.
[15] - خلاصة الأثر ج4 ص394.
[16] - خلاصة الأثر ج4 ص272 والبغدادي هدية العارفين ج2 ص71 وكحالة: معجم المؤلفين ج12 ص134.
[17] - خلاصة الأثر ج1 ص481-482
[18] - خلاصة الأثر ج3 ص482
[19] - خلاصة الأثر ج ج4 ص272 والبغدادي هدية العارفين ج2 ص71
[20] - كحالة: معجم المؤلفين 12/ 134.
[21] - خلاصة الأثر ج1 ص151
[22] - خلاصة الأثر ج1 ص145
[23] المرادي: سلك الدرر 4/58.
[24] تشمل بلاد هكار في العصور الإسلامية رقعة واسعة تمتد من بلاد آذربيجان ايران شرقاً ومنطقة وان شمالا ومنطقة جزيرة ابن عمر (بوتان) من الغرب والموصل جنوباً، على أن معظم القسم الجنوبي منها سيعرف منذ القرن التاسع الهجري (الخامس عشر الميلادي) باسم جديد هو (بهدينان) نسبة إلى الأمراء من آل بهاء الدين الذي اتخذوا من العمادية عاصمة لإمارتهم[24]. وثمة حجة شرعية متأخرة صادرة عن محكمة القدس تشير إلى أن هذه الأسرة تنتسب إلى الفقيه ضياء الدين بن محمد عيسى الهكاري أحد أمراء السلطان صلاح الدين الأيوبي، ولكنها تشير إلى أن نسب الهكاري هذا يتصل بالشرفاء الأدارسة الحسنيين، ينظر عن هذه الوثيقة ومصادر أخرى موقع آل العلمي alamifamily وموقع مؤسسة مدينة القدس alquds-online وتتصل بهذه الأسرة عدد كبير من الأسر اليوم في مدن فلسطينية شتى.
[25] خلاصة الاثر 3/151.
[26] سلك الدرر 3/209
[27] خلاصة الاثر 1/219.
[28] انظر الحنبلي: الأنس الجليل 2/281.
[29] سلك الدرر 1/71.
[30] - خلاصة الأثر 4/44 وهدية العارفين 2/276 وLrocl, S,I , 470
[31] - خلاصة الأثر 4/45
[32] - خلاصة 2/ 421
[33] - خلاصة 1/219
[34] - خلاصة 4/275
[35] - خلاصة 2/467
[36] - خلاصة 1/70
[37] - سلك الدرر 1/70
[38] - خلاصة الأثر ج2 ص156.
[39] - خلاصة ج2 ص156
[40] - نفسه ج2 ص156
[41] سلك الدرر ج4 ص228
[42] - العسلي ص224 عن سجلات المحكمة الشرعية.
[43] - خلاصة الأثر ج2 ص260وفي وثيقة صادرة عن السلطان المملوكي جقمق مؤرخة في سنة 851هـ إشارة إلى شيخ الإسلام الإمام العالم العلامة.. سعد الدين أبو السعادات بن شيخ الإسلام شمس الدين أبي عبدالله محمد الخالدي المعروف بابن الديري الحنفي. ينظر شجرة الأسرة وتفرعاتها الموقع الرسمي لعائلة الخالدي khalidi
[44] - العسلي: مصدر سابق ص234
[45] - خلاصة الأثر ج2 ض260
[46] - العلي: مصدر سابق 253 عن سجلات المحكمة الشرعية في القدس.
[47] - خلاصة ج2 ص260
[48] - العسلي ص234
[49] - العسلي ص234
[50] - خلاصة 2/260
[51] - العسلي 234
[52] - العسلي 234
[53] - نفسه 234
[54] - البغدادي، هدية العارفين 2/295
[55] - خلاصة 3/340   سلك الدرر 4/123
[56] - سلك الدرر 4/123
[57] - خلاصة الأثر 1/394
[58]- نفسه 4/358 وهدية العارفين 2/426 وكحالة 12/218
[59] - نفسه 4/234
[60] - نفسه 4/472
[61] - سلك الدرر 2/ 104
[62] - هدية العارفين 2/271
[63] - نفسه 2/427
[64] - نفسه 2/488
[65] - البغدادي: ايضاح المكنون 1/583
[66] - هدية العارفين 1/564
[67] - كشف الظنون 66
[68] - هدية العارفين 2/427
[69] - إيضاح المكنون 2/654 وهدية العارفين 1/496
[70] - هدية العارفين 2/427 وإيضاح المكنون 2/25 و1/52 و64
[71] - هدية العارفين 2/427
[72] - هدية العارفين 2/272
[73] - هدية العارفين 2/427
[74] - هدية العارفين 1/479
[75] - هدية العارفين 1/295
[76]- هدية العارفين 1/564
[77] - هدية العارفين ج2 ص496
[78] - إيضاح المكنون ج2 ص237 وهدية العارفين ج1 ص479
[79] - هدية العارفين 2 ص288.
[80] - نفسه ج 1 ص427 وإيضاح المكنون ج1 ص266 و264 وص321 وج2 ص478.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75517
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

مكانة بيت المقدس في الإسلام وعند المسلمين Empty
مُساهمةموضوع: رد: مكانة بيت المقدس في الإسلام وعند المسلمين   مكانة بيت المقدس في الإسلام وعند المسلمين Emptyالإثنين 24 يونيو 2019, 3:16 am

الوارثون لبيت المقدس


الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد:
فقد أخرج أحمد وابن ماجه - بسند صحيح - من حديث ميمونة بنت سعد مولاة رسول الله صل الله عليه وسلم أنها قالت: قلت: يا رسول الله، أفتِنا في بيت المقدس، فقال: ((أرض المحشر والمنشر، ائتوه فصلُّوا فيه؛ فإن صلاة فيه كألف صلاة))، قلت: يا رسول الله، فمن لم يستطع أن يأتيه، أو يتحمل إليه؟ قال: فليُهدِ إليه زيتًا يسرج فيه؛ فإنه من أهدى إليه زيتًا، كان كمن صلى فيه)).
 
مشاعر وخواطر كانت تراود الصحابة، وأعْينهم وأرواحهم تشخص إلى بيت المقدس: "يا رسول الله، أفتِنا في بيت المقدس"، إنهم يعلمون عظيم الإرث الذي أحيل لهم، والأمانة التي أنيطت بهم، إنهم تعلموا منه صل الله عليه وسلم شد الرحال إليه، فإن كانوا شدوا الرحال إلى البيت الحرام والمسجد النبوي، فمن سيشد الرحال إلى بيت المقدس؟
 
وكأنه صل الله عليه وسلم يعلِّم أصحابه والأمة من بعدهم فيقول بلسان الحال: إن مُنعتم من شد الرحال إليه بالجسد، فشدوا الرحال إليه بالروح.
 
دعونا نشد الرحال بالأرواح إلى بيت المقدس لتبدأ الحكاية فيما رواه البخاري ومسلم في الصحيح من حديث أبي ذر - رضي الله عنه - قال: سألتُ رسول الله صل الله عليه وسلم عن أول مسجدٍ وُضع في الأرض، قال: ((المسجد الحرام))، قلت: ثم أي؟ قال: ((المسجد الأقصى))، قلت: كم بينهما؟ قال: ((أربعون عامًا)).
 
ليستوطنه بعد ذلك الأنبياء، فيهاجر إليه إبراهيم، ويرزق فيه بإسماعيل وإسحاق، ويعيش في كنفه يعقوب، فيرزق فيه بيوسف، ثم يقصده موسى ويحدِّث قومه بالوصول إليه: ﴿ يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ ﴾ [المائدة: 21]، فيَتِيه القوم بعد عنادهم لرسولهم: ﴿ قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ﴾ [المائدة: 26]؛ ليبقى الأمل في موسى لبلوغ بيت المقدس حتى جاءت ساعة الموت، والحديث في الصحيحين من رواية أبي هريرة، قال: قال صلى الله عليه وسلم: ((أرسل ملَك الموت إلى موسى، فلما جاءه صكَّه ففقأ عينه، فرجع إلى ربه قال: أرسلتَني إلى عبدٍ لا يريد الموت، فرد الله إليه عينه، وقال: ارجع إليه فقل له: يضع يده على متن ثورٍ، وله بكل ما غطت يده بكل شعرة سنةٌ، قال: أي رب، ثم ماذا؟ قال: ثم الموت، قال: فالآن، فسأل اللهَ أن يدنيَه من الأرض المقدسة رميةً بحجر، فقال رسول الله صل الله عليه وسلم: فلو كنتُ ثَمَّ لأريتُكم قبره، إلى جانب الطريق تحت الكثيب الأحمر)).
 
أمنيَّة يتمناها موسى عليه السلام عند موته، وهي أن يتقرب من بيت المقدس، إنه إرث النبوة الذي وصى به موسى إلى يوشع بن نون، لتحبس الشمس عند دخوله إلى بيت المقدس؛ فقد صح في الأثر عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صل الله عليه وسلم: ((إن الشمس لم تحبَسْ لبشر، إلا ليوشع لياليَ سار إلى بيت المقدس، وفي رواية: غزا نبي من الأنبياء فقال لقومه: لا يتبعني رجل قد ملَك بُضْعَ امرأة وهو يريد أن يبني بها ولم يبنِ، ولا أحد قد بنى بنيانًا ولما يرفع سقفها، ولا أحد قد اشترى غنَمًا أو خَلِفاتٍ وهو ينتظر وِلادَها، فغزا، فدنا من القرية حين صلاة العصر، أو قريبًا من ذلك، فقال للشمس: أنت مأمورةٌ وأنا مأمور، اللهم احبسها عليَّ شيئًا، فحُبِست عليه حتى فتح الله عليه...)).
 
فيحمل الرسالة زكريا، ويركع في محراب بيت المقدس، ويرزق بيحيى، وتنشأ فيه مريم، ويولد على أبوابه عيسى - عليهم الصلاة والسلام جميعًا.
 
ثم تسلَّم الراية إلى خاتم النبيين وإمام المرسَلين صل الله عليه وسلم، فينال الشرف الرفيع في رحلة الإسراء؛ ليعقد لقاء القمة في أكناف بيت المقدس، يا محمد، قد جمع لك الأنبياء جميعًا في هذا المكان الطاهر، فأوصِ أمتك ألا تفرِّط فيه.
 
فيصلي - عليه الصلاة والسلام - ستة عشر شهرًا إلى بيت المقدس، ويغرس حب البيت في أصحابه وأمته وهو يقول: ((لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، ومسجد الأقصى)، ويذكِّر أصحابه بوصايا إخوانه الأنبياء من قبله، فيقول - كما روى ابن ماجه وغيره بسند صحيح من حديث عبدالله بن عمرو -: ((لما فرَغ سليمان بن داود من بناء بيت المقدس، سأل الله ثلاثًا: حُكمًا يصادف حُكمَه، ومُلكًا لا ينبغي لأحد من بعده، وألا يأتي هذا المسجدَ أحدٌ لا يريد إلا الصلاة فيه إلا خرج من ذنوبه كيومَ ولدَتْه أمه))، فقال النبي صل الله عليه وسلم: ((أما اثنتان فقد أُعْطِيَهما، وأرجو أن يكون قد أُعْطِيَ الثالثة)).
 
ويعلمهم أن يحتمُوا بكنَفه عند الفتن؛ فقد قال - كما في الصحيح -: ((أُنذِركم الدَّجَّالَ، أنذركم الدجال، أنذركم الدجال.. ثم قال: وإنه لا يقرَبُ أربعة مساجد: مسجد الحرام، ومسجد الرسول، ومسجد المقدس، والطور))، فيسعى صلى الله عليه وسلم في حياته للوصول إليه، فيرسل أكرم أصحابه لغزوة مؤتة: "بوابة بيت المقدس"، ويذهب بنفسه إلى تبوك، ويجهز جيش أسامة للشام في حياته، فيرث الصديق الأمانة، ويعقد لواء أسامة على عقد النبي صل الله عليه وسلم، فيفتح للفاروق بيت المقدس، ورغم أن فتح العراق وبصرى الشام قد سبق للفاروق، لكنه لم يذهب بنفسه إلا بيت المقدس؛ لعلمه بعظيم تلك الأمانة التي ورثتها هذه الأمة، فيذهب رضي الله عنه وأرضاه بثيابه البسيطة المتواضعة، ويدخل بيت المقدس، ويقف في محراب داود عليه السلام فيصلي الفجر وهو يقرأ: ﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [الإسراء: 1].
 
فيتلقى الصالحون من أبناء هذه الأمة الرسالة، فينهضون لنصرة بيت المقدس كلما صرخ؛ فصلاح الدين الابن البار لهذه الأمة يدخله باثني عشر ألف مقاتل ليهزم ثلاثين ألفًا من الصليبيين، ويأسر مثلهم، فيُباع الأسير الصليبي بدرهم، وبعضهم بنعلين، فيقال: لماذا تبيعونهم بنعلين؟ فيقولون: ليسجل التاريخُ أن عبَّاد الصليب أهونُ علينا من نعلين!
 
أيها الكرام:
بيت المقدس اليوم بحاجة إلى رجال من أمثال أولئك العظام الذين عرَفوا عظيم الترِكة التي تحملوها، بيت المقدس يبحث عن رجال كأمثال عبدالله بن جحش يوم أحد، يوم أن سأل ربه فقال: اللهم إني أسألك عدوًّا شديد البأس، فيقتلني، ويبقر بطني، ويجدع أنفي، ويفقأ عيني، ويقطع أذني، حتى إذا ما وقفتُ بين يديك وسألتَني: لم فُعل ذلك بك؟ فأقول: فيك يا رب، ومِن أجلك يا رب!
 
إن أرحام الأمَّة التي أنجبت أمثال هؤلاء الصالحين لم تعقم بعدُ؛ ففي أمتنا أمثلة كثيرة من هؤلاء في كل زمان ومكان.
 
أيها الكرام، لو تأملتم في وسط المصحف الشريف لنظرتم إلى سورة الإسراء التي تقع في وسطه وقلبه؛ لتعيش آياتها العظيمة في قلب كل مسلم، وليبقى ذكر المسجد الأقصى خالدًا، يتوارثه الصالحون خلفًا عن سلف، فلا تضيِّعوا تلك الأمانة، ولا تتغافلوا عنها: ﴿ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ ﴾ [محمد: 38].
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
 
مكانة بيت المقدس في الإسلام وعند المسلمين
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» مكانة العقل ودوره في الإسلام
» مكانة المسجد الأقصى في الإسلام // للشيخ عكرمة صبري
» رمضان الإسلام ورمضان المسلمين
» الأدب قبل الإسلام ! - اسهامات علماء المسلمين في علم الأدب 
» مكانة الحامل عند الله عز وجل

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتدى الشنطي :: فلسطين الحبيبة :: القدس-
انتقل الى: