بين هجرة المسلمين إلى يثرب… وهجرة الصهاينة إلى فلسطين
إحسان الفقيه
تقول الشاعرة البريطانية ذات الأصول الصومالية وارسان شاير: «لا أحد يرحل عن وطنه إلا إذا كان الوطن فمَ قِرش».
في مثل هذه الأيام، قبل 1441 عامًا، كانت هجرة الرسول، صل الله عليه وسلم، وأصحابه من مكة (فم القرش) سفرا واغترابا ووعورة طريقٍ وهجران المنشأ، تلوح في الأفق أرضٌ للأمان وإطلاق لحرية الدين ومحطةٌ لأفواج الطيور المهاجرة فرارًا بالعقيدة، واستيلاد مجتمع جديد ينبعث منه النور إلى البشرية المظلمة.
وبينما كان الفكر سابحًا في أحداث هذه الذكرى التي أرّخ بها المسلمون لحضارتهم، تراءت لي مقارنة سخيفة يراها البعض ضربًا من الإنصاف، إذ تقول المُخيِّلات المريضة، إن هجرة اليهود إلى فلسطين وإقامة وطن لهم على أرضها، شبيه بهجرة النبي صل الله عليه وسلم من مكة إلى يثرب لإقامة مجتمع إسلامي فيها.
وكما قال الحارث بن عباد في المثل السائر «عش رجبًا، ترَ عجبًا»، فإنه كلما طال أمد القضية الفلسطينية، سنظل نصطدم بالعجائب، فتارة يقولون أن لليهود حقا في فلسطين، وتارة يقولون بضرورة التعايش بين الشعبين الفلسطيني والإسرائيلي على قاعدة الأمر الواقع، وتارة يُسوغون الاحتلال الصهيوني لأرض فلسطين بأنها تشبه هجرة النبي صل الله عليه وسلم وأصحابه إلى يثرب.
هجرة المسلمين إلى يثرب كانت من أجل توفير بيئة آمنة لحَمَلة هذا الدين حتى يتعبدوا خالقهم، بعيدًا عن تلك الأرض الظالم أهلها، والتي كان فيها ساحة للمعذبين والشهداء، شبهها المفكر الجزائري مالك بن نبي بساحة (دو جريف Degréve) في باريس أثناء الثورة الفرنسية، إلا أن الجلادين في ساحة مكة كانوا ضد الثورة، والمعذبين كانوا شهداء الثورة (يعني بها الإسلام).
فأما اليهود، فلم تكن هناك مبررات لتجمُّعِهِم من شتى بلدان العالم في أرض فلسطين، فقد كانوا منخرطين في المجتمعات الغربية، كجماعات وظيفية متفرقة تنتظمها شبكة من العلاقات التجارية الوثيقة، كما يقول الدكتور عبد الوهاب المسيري في موسوعته، وتحقق من خلالها قدرا كبيرا من النجاح التجاري والمالي. وحقق العلماء اليهود في أوروبا شهرة واسعة ليس باعتبارهم أصحاب عقلية يهودية فذة، وإنما على أساس انصهارهم في المجتمعات الأوروبية، واتكائهم على الجهود التراكمية للحضارة الغربية، فلم يكونوا في حقيقة الأمر يعيشون في شتات أو منفى كما يدعون، حيث أن وجودهم في تلك الدول كان دائما، ولهم ثقلهم السياسي والإعلامي والاقتصادي فيها، (عائلة روتشيلد مثالًا). بل مما يبرهن على ثقلهم الاقتصادي والسياسي والإعلامي في أوروبا قبل الهجرة إلى فلسطين، أن هناك رأيًا سائدًا حتى الآن، مفاده أن أوروبا أرادت من وراء جمع اليهود في فلسطين التخلص من يهود أوروبا، واستخدامهم في تحطيم وحدة المنطقة، بزراعة عدو للمسلمين والعرب في أقدس بقاعهم، يثير القلاقل السياسية والاجتماعية والأخلاقية والاقتصادية، يتمكن معها الأوروبيون من التدخل بين الطرفين بما يمرر مصالحهم في المنطقة.
لم تكن هناك مبررات لنزوحهم إلى أرض فلسطين، بل إن اليهود المتدينين يؤمنون بأن الخلاص لابد أن يكون بتدخل إلهي، بعيدا عن التدخلات البشرية والصراعات العسكرية والسياسية، لأنهم يرون أن اليهود جماعة لا دولة، وأن ازدواجية الانتماء للديانة والأرض معا يصادم عقيدتهم التوراتية، لكن الصهيونية استثمرت العقيدة اليهودية من أجل الزج باليهود إلى أرض فلسطين، وتبنى هؤلاء الصهاينة علمانيو التوجّه فكرة أرض الميعاد، والديباجات الدينية، لاقتناعهم بأهمية الدين في تعبئة اليهود.
اليهود المتدينون يؤمن بأن الخلاص لابد أن يكون بتدخل إلهي، بعيدا عن التدخلات البشرية والصراعات العسكرية والسياسية
هجرة المسلمين إلى يثرب لم تكن عنوة وقهرًا لأهل المدينة، بل سبقتها وفودٌ من أهل المدينة للنبي صلى الله عليه وسلم للبيعة وحمل رسالة الإسلام إلى دور يثرب، في ما يعرف ببيعة العقبة الأولى والثانية، وسبقها إرسال الصحابي مصعب بن عمير ليعرض رسالة الإسلام على أهلها، ونتيجة لجهوده لم تبق دار بيثرب إلا ودخلها الإسلام أو سمعت به، ولذا عندما هاجر النبي، صل الله عليه وسلم، استقبلته الجموع بملحمة عظيمة من الاحتفاء والترحاب.
أما الهجرة الصهيونية إلى فلسطين، فكانت ولا تزال سرقة ونهبًا وسطوًا وفرضا للقوة وسياسة الأمر الواقع، ومؤامرات حيكت على مدى عقود برعاية دول استعمارية ارتبطت بالصهيونية ارتباطات متعددة الأوجه، مكنت لها عن طريق الهجرة الجماعية لأرض فلسطين، تحت غطاء وعد بلفور، الذي منحهم حق تكوين وطن لهم في فلسطين، في ظل الانتداب البريطاني الذي أقرته عصبة الأمم، لتنسحب بريطانيا من فلسطين عام 1948، لتفسح المجال للصهاينة لإعلان دولة إسرائيل في اليوم نفسه.
هجرة المسلمين إلى يثرب التي عرفت بمدينة الرسول، حملت معها السلام والأمن والأمان، وصناعة شبكة من العلاقات كانت بمثابة العمل التاريخي الأول الذي يقوم به المجتمع ساعة ميلاده ، فآخى النبي صل الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار، وأصلح بين الأوس والخزرج، وأبرم معاهدات مع يهود المدينة في ما يُعتبر أول وثيقة تاريخية تحث على المواطنة.
وفي المقابل ماذا حملت الهجرة الصهيونية إلى فلسطين؟ حملت الدمار وعقودا من الحرب مع دول المنطقة، مذابح وتشريد ونفي وإحراق وتزييف للحقائق التاريخية، وتدنيس للمقدسات والتراث، وسياسة استيطانية بغيضة بقوة السلاح، تلتها حرب أخرى من نوع آخر، عن طريق السلام المزعوم القائم على مد الجسور مع الأنظمة العميلة والمتواطئة على حساب الشعب الفلسطيني آخرها صفقة القرن التي يجرى العمل لها على قدم وساق، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون