عمر نجيب: الصدمات في أسواق النفط تهدد بأزمة اقتصادية عالمية أخطر من كارثة 2008هجوم بقيق وخريص… عندما تتلبد السماء تكفي شرارة برق واحدة لبدء العاصفة
عمر نجيب
منذ منتصف سنة 2017 تكاثرت التوقعات الصادرة عن عدد كبير من الخبراء الإقتصاديين والسياسيين بشأن قرب نشوب أزمة إقتصادية عالمية تفوق في تأثيرلتها السلبية على غالبية دول العالم تلك التي وقعت سنة 2008. هؤلاء الخبراء اختلفوا حول موعد الأزمة القادمة، ولكنهم أجمعوا تقريبا على أن الحلول الجزئية وعمليات التهدئة التي اتبعت بعد سنة 2008 لم تكن كافية لإبعاد شبح تجدد الأزمة لأنها لم تعالج اسس الخلل.
هشاشة الوضعية الإقتصادية للعديد من الدول وخاصة الغربية وفي مقدمتها الولايات المتحدة التي تتحكم بعملتها الدولار في غالبية المبادلات التجارية والتعاملات المالية العالمية، وفر الأرضية لتحول أي حادث أو مشكلة عارضة على الساحة الدولية إلى أزمة إقتصادية عالمية جديدة بل ويمكن أن تفرخ مثل هذه الأزمة عن صراع يصل إلى حرب عالمية ثالثة.
الولايات المتحدة الأمريكية أصبحت أكثر دول العالم مديونية بعد أن كانت أكبر دائنيها، ومن المفارقات أنها أعانت أوروبا بخطة مارشال وأنفقت من أجل ذلك عشرات الملايير من الدولارات ولكنها اليوم تعاني.
والحالة تسوء إذ أن ميكانيكية خلق الوظائف في أمريكا ضعيفة، فنسبة الذين لا يعملون للعاملين تكاد أن تكون 200 في المئة حسب قول وتقدير شاك فولمر في كتابه الاقتصاد والوظائف خطة لأمريكا.
وهذا المعدل أكثر صدقا وتوضيحا في رأيه من معدل البطالة السائد إذ أن الأخير يحسب نسبة عدد الباحثين عن العمل على العدد الكلي للعمالة، وهذا العدد هو 10 في المئة في أمريكا اليوم حسب قول المؤلف أعلاه، كما يوضح الكاتب أن على القطاع الخاص الأمريكي أن يوفر 20 مليون وظيفة لإنقاذ الاقتصاد الأمريكي حتى عام 2020.
ويخشى الكثيرون من تضخم قادم إذا استمرت أمريكا في طبع الدولار دون تغطية وبشكل مستهتر للخروج من أزمة مديونيتها.. مع العلم أن هذا التضخم قد يحطم سعر الدولار ويفقد ثقة العالم فيه.
“العالم أصبح أكثر تقلبا من الناحية السياسية، وأكثر هشاشة من الناحية الاقتصادية مما كان عليه قبل عام مضى”، بهذه الكلمات وصفت مجلة “الإيكونوميست” البريطانية في إصدارها السنوي بداية عام 2019 التوقعات والتغيرات الاقتصادية التي ستطرأ عالميا.
الاقتصاد العالمي بات يواجه نهاية سنة 2019 تحديات جسيمة متراكمة قد تقود إلى الانفجار، أهمها الحروب التجارية العالمية وسياسة العقوبات والحظر، وتباطؤ نمو الاقتصاد العالمي، وتقلبات أسعار النفط، وتضخم حجم الدين العام عالميا، وكذلك التراجع المتواصل في البورصات العالمية، وتراجع معدلات التجارة والتصنيع على الصعيد العالمي، وتعرض بلدان الأسواق الناشئة لضغوط شديدة في الأسواق المالية العالمية.
عندما يتشاجر أكبر اقتصادين في العالم أي الولايات المتحدة والصين، فمن نافلة القول أن ذلك يضع الاقتصاد العالمي على حافة الهاوية، فالآثار الاقتصادية البعيدة المدى للنزاع التجاري بين هذين العملاقين لا ينبغي الاستهانة بها. وعلى الرغم من أن النفط ليس نقطة الخلاف الرئيسية بين الولايات المتحدة والصين، إلا أنه لا ينبغي تجاهل دوره، حيث ان وضعه غير المستقر بسبب التوترات في منطقة الخليج العربي والأزمة الفنزويلية يزيد الصورة تعقيدا خاصة بسبب الحصة الضخمة لسوق النفط الذي تهيمن عليها الولايات المتحدة إنتاجا وإستهلاكا والصين إستهلاكا.
الخلل في أسواق النفط ربما سيكون القشة الأخيرة التي ستدفع العالم نحو هوة الأزمة.
هجوم بقيق وخريص
يوم السبت 14 سبتمبر 2019 تعرض قلب صناعة النفط السعودية لهجمات بواسطة 10 طائرات مسيرة، وذلك باستهداف معملين تابعين لشركة أرامكو، أحدهما أكبر معمل لتكرير النفط في العالم في بقيق. بينما تضم خريص “حقل خريص” الذي يعتبر أكبر مشروع بترول بالعالم حيث يقدر إنتاجه بـ1.2 مليون برميل يوميا من الزيت العربي الخفيف.
وكالة أنباء رويترز نقلت عن مصدرين مطلعين إن الهجوم أثر على إنتاج خمسة ملايين برميل يوميا و 700 الف من النفط وهو ما يقترب من نصف إنتاج السعودية ويشكل نحو ستة بالمئة من إمدادات النفط العالمية.
وتسبب الهجوم الذي استهدف بقيق وخريص قبل الفجر في اشتعال عدد من الحرائق لكن الرياض أكدت فيما بعد إنها تمكنت من السيطرة عليها.
وتقع بقيق على بعد 60 كيلومترا جنوب غربي مقر أرامكو في الظهران بالمنطقة الشرقية ويوجد بها أكبر معمل لتكرير النفط في العالم. وتعالج المنشأة النفط الخام القادم من حقل الغوار العملاق قبل نقله للتصدير إلى مرفأ رأس تنورة، أكبر منشأة لتحميل النفط في العالم، والجعيمة. كما يصل إنتاج هذه المصفاة غربا إلى محطات تصدير على البحر الأحمر.
وأفاد مصدران لرويترز إن حقل الغوار يحرق الغاز المصاحب بعد الضربات التي عطلت عمل منشآت المعالجة.
ويوجد في خريص الواقعة على بعد 190 كيلومترا إلى الجنوب الغربي من الظهران ثاني أكبر حقل نفطي في السعودية.
وأعلنت الرياض أنها ستلجأ لمنشآتها الضخمة لتخزين النفط المخصصة لأوقات الأزمات لتعويض الانخفاض الذي طرأ على الإنتاج.
وبنت الرياض خمس منشآت تخزين ضخمة تحت الأرض في مناطق عدة من البلاد قادرة على استيعاب عشرات ملايين البراميل من المنتجات البترولية المكررة على أنواعها.
وأوضح وزير الطاقة السعودي، أن الهجمات، نتج عنها توقف عمليات الإنتاج في معامل بقيق وخريص بشكل مؤقت، مشيرا إلى أنه “بحسب التقديرات الأولية أدت هذه الانفجارات إلى توقف كمية من إمدادات الزيت الخام تقدر بنحو 5.7 مليون برميل، أو حوالي 50 في المائة من إنتاج الشركة، إلا أنه سيتم تعويض جزء من الانخفاض لعملائها من خلال المخزونات”.
وأضاف وزير الطاقة السعودي، أن “هذه الانفجارات قد أدت أيضا إلى توقف إنتاج كمية من الغاز المصاحب تقدر بنحو ملياري قدم مكعب في اليوم، تستخدم لإنتاج 700 ألف برميل من سوائل الغاز الطبيعي، مما سيؤدي إلى تخفيض إمدادات غاز الإيثان وسوائل الغاز الطبيعي بنسبة تصل إلى حوالي 50 في المائة.
وتبلغ احتياطات أرامكو، أكبر شركة نفط بالعالم، 260.2 مليار برميل من المكافئ النفطي في عام 2017 وهي أكبر من احتياطات شركات إكسون موبيل ، وشيفرون، ورويال داتش شل، وبي.بي.، وتوتال مجتمعة.
وأنتجت الشركة 10.3 مليون برميل يوميا من النفط في عام 2018 مستفيدة من أقل تكلفة بالعالم لإنتاج الخام وهي 2.8 دولار للبرميل وفقا لوثائق من الشركة. وأنتجت أيضا 1.1 مليون برميل من سوائل الغاز الطبيعي، و8.9 مليار قدم مكعبة قياسية من الغاز الطبيعي يوميا.
ووردت أرامكو نحو ثلاثة أرباع صادراتها من الخام عام 2018 إلى مشترين في آسيا حيث ترى أن الطلب سيزداد بدرجة أسرع من أي منطقة أخرى بالعالم. ومن زبائن أرامكو الصين والهند وكوريا الجنوبية واليابان وتايوان. وبلغ حجم شحناتها لأمريكا الشمالية أكثر من مليون برميل يوميا عام 2018 و864 ألف برميل يوميا إلى أوروبا.
وفي عام 2018، تجاوزت صادرات أرامكو السبعة ملايين برميل يوميا من النفط الخام. وتملك السعودية احتياطيات تبلغ حوالي 188 مليون برميل أي ما يعادل طاقة المعالجة في بقيق لمدة 37 يوما تقريبا وذلك وفق ما ورد في مذكرة يوم السبت من رابيدان إنرجي غروب.
الآثار
السؤال الذي يطرحه المراقبون هو هل يؤدي الهجوم على المنشآت النفطية السعودية إلى إرتفاع كبير في أسعار النفط على المستوى العالمي وبالتالي تكوين صدمة في الأسواق تكون مع عوامل أخرى صانعة للأزمة الاقتصادية العالمية الجديدة.
مع مطلع يوم الاثنين 16 سبتمبر 2019 بدأ صعود أسعار النفط إذ سجل خام برنت أكبر مكسب بالنسبة المئوية خلال يوم واحد منذ بداية حرب الخليج في عام 1991.
وقفزت العقود الآجلة لخام برنت ما يصل إلى 19.5 في المئة إلى 71.95 دولار للبرميل خلال تعاملات يوم الاثنين في أكبر مكسب منذ 14 يناير 1991. وبحلول الساعة 0343 بتوقيت غرينتش ارتفع عقد شهر اكتوبر إلى 66.20 دولار للبرميل بزيادة 5.98 دولار أو 9.9 في المئة مقارنة بالإغلاق السابق.
وخلال تعاملات صباح يوم الاثنين قفزت العقود الآجلة لخام غرب تكساس الأمريكي الوسيط لما يصل إلى 15.5 في المئة إلى 63.34 دولار للبرميل وهو أكبر مكسب بالنسبة المئوية خلال يوم منذ 22 يونيو 1998. وبحلول الساعة 0343 بتوقيت غرينتش، ارتفع عقد الشهر المقبل إلى 59.73 دولار للبرميل بزيادة 4.88 دولار أو 8.9 في المئة.
وحسب وكالة رويترز كان متعاملون ومحللون قد توقعوا يوم الأحد قبل فتح الأسواق إن تشهد تعاملات النفط ارتفاعا في الأسعار يتراوح بين خمسة وعشرة دولارات للبرميل عندما تستأنف نشاطها وربما تقفز الأسعار إلى 100 دولار للبرميل إذا لم تستأنف السعودية سريعا الإمدادات التي تعطلت يوم السبت.
الخبير بوب مكنالي من رابيدان إنرجي قال:
أسعار النفط الخام سترتفع بما لا يقل عن 15-20 دولارا للبرميل في سيناريو اضطراب يستمر سبعة أيام وسترتفع لأكثر من 100 دولار في سيناريو يستمر 30 يوما.
”وهذا لا يشمل ما يرجح أن يكون علاوات كبيرة بما يعكس استنفاد الطاقة الإنتاجية الفائضة العالمية وسط مخاطر تعطل مستمرة وعمليات تخزين ومشاعر فزع“.
بينما قال غريغ نيومان الرئيس التنفيذي المشارك لشركة أونيكس للسلع الأولية أنه يتوقع ارتفاع أسعار مزيج برنت في المعاملات الآجلة دولارين للبرميل وأن تغلق الأسعار في نهاية معاملات بداية الاسبوع على ارتفاع بين سبعة وعشرة دولارات للبرميل.
ومن المحتمل أن تشهد السوق عودة إلى سعر 100 دولار للبرميل إذا لم يمكن حل المشكلة في الأجل القريب.
وسترتفع أسعار المنتجات المكررة ولا سيما زيت الوقود العالي الكبريت نظرا للنقص الحالي في المعروض منه ولأنه منتج مصافي التكرير الذي يرتبط أكثر من غيره بالخام السعودي الثقيل.
أدهم كامل من مجموعة يوراسيا صرح: ”سيشجع حجم الهجوم الأسواق على إعادة النظر في ضرورة دراسة علاوة للمخاطر الجيوسياسية التي يواجهها النفط… ومن المحتمل أن تعقد الهجمات خطط الطرح العام الأولي لأسهم أرامكو في ضوء ارتفاع المخاطر الأمنية وتأثيرها المحتمل على تقييم الشركة“.
”ولن تسحب الولايات المتحدة الخام من الاحتياطي الاستراتيجي إلا إذا بدا أن الضرر الذي لحق بالبنية التحتية شديدا أو سجلت أسعار النفط ارتفاعا كبيرا“.
وقال جيسون بوردوف المدير المؤسس لمركز سياسة الطاقة العالمية بجامعة كولومبيا في نيويورك ”أسعار النفط ستقفز بفعل هذا الهجوم وإذا طال أمد تعطل الإنتاج السعودي فسيبدو السحب من المخزون الاستراتيجي… مرجحا ومنطقيا“.
كريستيان مالك من جيه.بي مورجان صرح:
”أتوقع ارتفاع أسعار النفط بما بين ثلاثة وخمسة دولارات في الأجل القصير. السوق كانت تسير وهي نائمة فيما يتعلق بعلاوة المخاطر في المنطقة مركزة بشكل غير متناسب على الخطر على نمو الطلب وإمدادات النفط الصخري“.
”هذا الهجوم يستحدث علاوة مخاطر جديدة لا رجوع عنها في السوق“.
ويتوقع ارتفاع سعر النفط إلى ما بين 80 و 90 دولارا للبرميل على مدار ثلاثة إلى ستة أشهر قادمة مع تحول اهتمام السوق إلى العوامل الجيوسياسية.
جون دريسكول من جيه.تي.دي إنرجي قال: ”هذا أمر جلل لأنه يستبعد مثلي حجم الطاقة الفائضة في السوق والتي تتراوح بين مليونين و2.5 مليون برميل يوميا“.
”سيحدث رد فعل أولي بفعل الذعر. وأي شخص تحوط لمركز مدين سيريد الخروج من هذا الوضع بسرعة. وهذا قد يسبب ارتفاعا كبيرا“.
بينما ذكر تيلاك دوشي من ميوز آند ستانسيل:
”في عالم النفط ربما يعادل هذا الهجوم هجمات 11 سبتمبر … فأبقيق بلا جدال هي أهم مواقع البنية التحتية في العالم لإنتاج النفط ومعالجته“.
”بالنسبة للحكومات الآسيوية ربما كان هذا يتجاوز الخوف المتواصل فيما يتعلق بسلامة حركة الناقلات في مضيق هرمز إلى مخاوف أكثر خطورة تتعلق بأثر تفجر أعمال عدائية مباشرة بين التحالف السعودي وإيران“.
”وربما ستكون الحكومات في مختلف أنحاء المنطقة الآسيوية الآن أكثر دعما لنظام العقوبات المشددة التي تفرضه الإدارة الأمريكية على إيران“.
نظرية الدومينو
يستخدم إصطلاح “تأثير الدومينو”، كتعبير مجازي عن تسلسل وتتابع الأحداث السياسية وتفاقمها. الدومينو في الأصل لعبة وهي حينما تضع عددا ضخما من قطع الدومينو بجوار بعضها البعض في شكل مميز ثم تدفع القطعة الأولى فقط فتبدأ سلسلة الاصطدامات بين قطع الدومينو وتستمر في صورة ممتعة حتى تقع آخر قطعة منها على الأرض.
النظرية ببعدها السياسي برزت بقوة في خمسينات القرن الماضي في الولايات المتحدة و تقول بأنه إذا كانت دولة في منطقة معينة تحت نفوذ الشيوعية فإن الدول المحيطة بها ستخضع لنفس النفوذ عبر تأثير الدومينو. و قد طرح الرئيس الأمريكي الأسبق دوايت أيزنهاور نظرية الدومينو في خطاب ألقاه في عام 1954.
الارتفاع الكبير المرجح في أسعار النفط وإستمراره لمدة طويلة سيشكل كارثة للكثير من الدول لأنه سيرفع تكاليف المعيشة ويزيد حجم العجز التجاري وسيدفع بعض الصناعات إلى الإفلاس وسيضخم البطالة وسيرفع تكاليف الانتاج وقد يتسبب في أزمات إجتماعية ومظاهرات الخ. هذه الوضعية ستنعكس على كل دول العالم بدرجات مختلفة وفي ظل التوترات العالمية الحالية ستقود إلى أزمة أكبر من تلك التي عرفها العالم سنة 2008.
توقعات صندوق النقد الدولي
لكي نفهم الأزمة وذلك حتى قبل صدمة تقلص الانتاج النفطي السعودي.. ما هو واقع الاقتصاد العالمي الآن؟.
جاء في تقرير نشر في نيويورك خلال الربع الثالث من سنة 2019:
يستند خبراء اقتصاديون إلى ملامح اقتصادية واضحة، باحتمال حدوث أزمة اقتصادية كبيرة خلال عامي 2019 و2020، ترتكز أولا على توقعات صندوق النقد الدولي، إذ تراجعت معدلات النمو في العالم عام 2019 مقارنة بعام 2018 بشكل كبير، سواء بالولايات المتحدة أو بمنطقة اليورو، خاصة في ألمانيا وإيطاليا وإسبانيا، التي خفض توقعه لنسبة النمو فيها من 1.9 في المئة إلى 1.6 في المئة، أو حتى بالدول النامية، أو المتحولة، خاصة الصين وروسيا.
ليس هذا فحسب، فقد ارتفعت مستويات الدين العام والخاص عالميا خلال عام 2018 إلى أعلى مستوى له في التاريخ، مسجلا 237 تريليون دولار، كما ارتفعت نسب معدلات “الحمائية” السياسة الاقتصادية لتقييد التجارة بين الدول، من خلال طرق مثل رفع الرسوم الجمركية، وزادت التوترات التجارية بسبب عدة مشاكل مثل خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، والتوترات الداخلية في فرنسا وامتدادها لبعض الدول الأوروبية، وكذلك الخلافات الفرنسية الإيطالية.
الحرب التجارية بين أمريكا والصين أثرت على أسعار النفط والبورصات وشكلت أزمة مالية وتجارية دولية عميقة
يقول د. جواد العناني، الخبير الاقتصادي الأردني، ورئيس مجلس إدارة بورصة عمان، لـ “عربي بوست”، إن هناك مشاكل بالفعل يعاني منها الاقتصاد العالمي منذ الآن، تدلل على أن معدلات النمو الاقتصادي ستتراجع أكثر خلال الفترة المقبلة.
لهذا يتوقع كثير من المراقبين الاقتصاديين ويحذرون، وآخرهم كريستين لاغارد المديرة السابقة لصندوق النقد الدولي، من أن عام 2020 سيشهد أزمة اقتصادية هبوطية في العالم، وربما تدخل هذه الأزمة الكبيرة العالمَ فيما يعرف بدورة الكساد التضخمي، وهي من أصعب الأزمات الاقتصادية التي ترتفع فيها الأسعار وتزداد نسب البطالة ويتراجع حجم الإنفاق الكلي على الاستهلاك والاستثمار، كما يقول العناني.
ويرى الخبير الاقتصادي أن الأمر المقلق بالطبع هو التوترات العسكرية والسياسية بين الدول الكبرى والحرب التجارية وحرب العملات، بين الولايات المتحدة من ناحية، والصين ودول الاتحاد الأوروبي من ناحية أخرى. وهذه التوترات تؤثر على أسعار النفط والبورصات، وإذا استمرت فإنها ستشكل تحديات مالية ونقدية وتجارية دولية عميقة.
الركود والأزمة المالية لعام 2020
جاء في تقرير نشره بروجيكت سينديكيت نهاية سنة 2018 ووضعه “نورييل روبيني وبرونيللو روزا”:
15 سبتمبر 2008، إنها الآن الذكرى السنوية العاشرة لانهيار ليمان براذرز، ولا تزال المناقشات دائرة حول أسباب الأزمة المالية والعواقب التي ترتبت عليها، وما إذا كنا استوعبنا الدروس اللازمة للتحضير للأزمة التالية. ولكن عندما ننظر إلى المستقبل، يصبِح السؤال الأكثر أهمية هو ما الذي قد يشعل حقا شرارة الركود العالمي التالي والأزمة العالمية المقبلة، ومتى؟.
من المرجح أن يستمر التوسع العالمي الحالي في عام 2019، نظرا للعجز المالي الضخم الذي تديره الولايات المتحدة، والسياسات المالية والائتمانية المتساهلة التي تنتهجها الصين، واستمرار أوروبا على مسار التعافي. ولكن بحلول عام 2020، ستكون الظروف مهيأة لأزمة مالية، يعقبها ركود عالمي.
وهناك عشرة أسباب وراء هذا. فأولا، من الواضح أن سياسات التحفيز المالي التي تدفع النمو السنوي في الولايات المتحدة حاليا فوق مستوى 2 في المئة، الذي يعبر عن إمكاناتها، ليست مستدامة. فبحلول عام 2020، سوف تنفد أموال التحفيز، وسوف يسحب الثقل الضريبي المتواضع النمو من 3 في المئة إلى أقل قليلا من 2 في المئة.
وثانيا، لأن توقيت التحفيز كان سيئا، يعاني الاقتصاد الأمريكي الآن من فرط النشاط، ويرتفع التضخم فوق المستوى المستهدف. وعلى هذا فسوف يواصل بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي رفع أسعار الفائدة الفيدرالية من مستواها الحالي عند 2 في المئة إلى 3.5 في المئة على الأقل بحلول عام 2020، ومن المرجح أن يؤدي هذا إلى رفع أسعار الفائدة القصيرة الأجل والطويلة الأجل فضلا عن سعر الدولار الأمريكي.
“من المؤكد أن نزاعات إدارة ترامب التجارية مع الصين وأوروبا والمكسيك وكندا ومناطق أخرى سوف تتصاعد إلى الحد الذي يؤدي إلى إبطاء النمو وزيادة التضخم”.
من ناحية أخرى، يرتفع معدل التضخم في اقتصادات رئيسية أخرى أيضا، ويساهم ارتفاع أسعار النفط في فرض ضغوط تضخمية إضافية. وهذا يعني أن بنوكا مركزية رئيسية أخرى سوف تسير على خطى بنك الاحتياطي الفيدرالي نحو تطبيع السياسة النقدية، وهو ما سيقلل من السيولة العالمية ويفرض ضغوطا تدفع أسعار الفائدة إلى الارتفاع.
ثالثا، من المؤكد أن نزاعات إدارة ترامب التجارية مع الصين وأوروبا والمكسيك وكندا ومناطق أخرى سوف تتصاعد إلى الحد الذي يؤدي إلى إبطاء النمو وزيادة التضخم.
رابعا، سوف تستمر سياسات أمريكية أخرى في إضافة المزيد من الضغوط التضخمية المصحوبة بالركود، وهو ما من شأنه أن يدفع بنك الاحتياطي الفيدرالي إلى رفع أسعار الفائدة إلى مستويات أعلى ولو أن الرئيس نرامب يريد العكس. والواقع أن الإدارة تقيد الاستثمارات الداخلة الخارجة وعمليات نقل التكنولوجيا، وهو ما من شأنه أن يؤدي إلى تعطل سلاسل الإمداد. فهي تقيد المهاجرين المطلوبين للحفاظ على النمو في ظل الشيخوخة السكانية في الولايات المتحدة. وهي تثبط الاستثمار في الاقتصاد الأخضر، ولا تتبنى سياسة خاصة في التعامل مع قضايا البنية الأساسية لمعالجة اختناقات جانب العرض.
خامسا، من المرجح أن يتباطأ النمو في بقية العالَم، وبشكل أكبر كلما سنحت لدول أخرى فرصة الانتقام من سياسات الحماية الأمريكية. ويتعين على الصين أن تعمل على إبطاء نموها للتعامل مع القدرة الفائضة والإفراط في الاستعانة بالروافع المالية، وإلا فإن هذا من شأنه أن يشعل شرارة الهبوط الحاد. وسوف تستمر الأسواق الناشئة الهشة بالفعل في الشعور بالضائقة الناجمة عن سياسات الحماية والظروف المالية المتزايدة الإحكام في الولايات المتحدة.
اوروبا وتباطؤ النمو
سادسا، سوف تشهد أوروبا أيضا تباطؤ النمو، نظرا لإحكام السياسة النقدية والاحتكاكات التجارية. وعلاوة على ذلك، ربما تؤدي السياسات الشعبوية في دول مثل إيطاليا إلى انطلاق ديناميكية ديون غير مستدامة داخل منطقة اليورو. وسوف تعمل “حلقة الهلاك” التي لم تحل بعد بين الحكومات والبنوك التي تحتفظ بديون عامة على تضخيم المشاكل الوجودية المترتبة على اتحاد نقدي غير مكتمل في ظل قدر غير كاف من تقاسم المخاطر. وفي ظل هذه الظروف، ربما تدفع دورة انكماش عالمية أخرى إيطاليا وغيرها من الدول إلى الخروج من منطقة اليورو بالكامل.
سابعا، تتسم أسواق الأسهم الأمريكية والعالمية بالسطحية. فقد أصبحت نسب السعر إلى الربحية في الولايات المتحدة أعلى بنحو 50 في المئة من المتوسط التاريخي، كما أصبحت تقييمات الأسهم الخاصة مفرطة، والسندات الحكومية باهظة الثمن، نظرا لعوائدها المنخفضة وعلاوتها الزمنية السلبية. كما أصبح الائتمان العالي الربحية متزايد التكلفة الآن بعد أن بلغ معدل الروافع المالية في الشركات الأمريكية ارتفاعات غير مسبوقة تاريخيا.
علاوة على ذلك، من الواضح أن مستوى الروافع المالية في العديد من الأسواق الناشئة وبعض الاقتصادات المتقدمة مفرط. وأصبحت العقارات التجارية والسكنية مكلفة للغاية في العديد من أجزاء العالَم. وسوف يستمر التصحيح في الأسواق الناشئة للأسهم والسلع الأساسية وحيازات الدخل الثابت في حين تتجمع سحب العاصفة العالمية. ومع بدء المستثمرين الذين ينظرون إلى المستقبل في توقع تباطؤ النمو في عام 2020، سوف تعيد الأسواق تسعير الأصول المحفوفة بالمخاطر بحلول نهاية عام 2019.
ثامنا، بمجرد حدوث التصحيح، سيصبح خطر نقص السيولة والبيع بأثمان زهيدة أو أقل من سعر السوق أكثر حدة. وهناك انخفاض في أنشطة الصنع والتخزين في السوق من قِبَل وسطاء التداول. وسوف يعمل التداول العالي التكرار الخوارزمية على رفع احتمالات “الانهيار السريع”. كما أصبحت أدوات الدخل الثابت أكثر تركيزا في صناديق الائتمان غير المحددة المتداولة في البورصة والمخصصة.
“بما أن ترامب بدأ بالفعل حربا تجارية مع الصين ولأنه ما كان ليجرؤ على مهاجمة كوريا الشمالية المسلحة نوويا، فإن آخر أفضل أهدافه سيكون إيران. ومن خلال استفزاز مواجهة عسكرية معها، فإنه قد يشعل شرارة صدمة جيوسياسية ركودية تضخمية”.
في حالة العزوف عن خوض المخاطر، لن يصبح بوسع القطاعات المالية في الأسواق الناشئة والاقتصادات المتقدمة المثقلة بالديون المقومة بالدولار الوصول إلى بنك الاحتياطي الفيدرالي بوصفه مقرض الملاذ الأخير. ومع ارتفاع التضخم وبدء تطبيع السياسة، لم يعد من الممكن الاعتماد على الدعم الذي قدمته البنوك المركزية خلال سنوات ما بعد الأزمة.
تاسعا، كان ترامب يهاجم بنك الاحتياطي الفيدرالي بالفعل عندما كان معدل النمو في الآونة الأخيرة 4 في المئة. ولنتخيل كيف قد يتصرف في العام الانتخابي 2020، عندما يكون النمو قد انخفض على الأرجح إلى ما دون 1 في المئة وبدأت تظهر الخسائر في الوظائف. الواقع أن احتمالات استسلام ترامب لإغراء “التأثير على عامة الناس” من خلال اختلاق أزمة في السياسة الخارجية مرتفعة، وخاصة بعد أن استعاد الديمقراطيون السيطرة على مجلس النواب عام 2019.
وبما أن ترامب بدأ بالفعل حربا تجارية مع الصين ولأنه ما كان ليجرؤ على مهاجمة كوريا الشمالية المسلحة نوويا، فإنه بهذا قد يشعل شرارة صدمة جيوسياسية ركودية تضخمية لا تختلف عن ارتفاعات أسعار النفط التي حدثت في أعوام 1973، و1979، و1990. وغني عن القول إن هذا من شأنه أن يجعل الركود العالمي القادم أشد حدة.
أخيرا، بمجرد حدوث العاصفة الكاملة المبينة أعلاه، سوف تصبح أدوات السياسة العامة اللازمة للتصدي لها منقوصة إلى حد مؤلم. الواقع أن الحيز المتاح للتحفيز المالي محدود بالفعل بسبب الديون العامة الهائلة. وسوف تكون احتمالات الاستعانة بالمزيد من السياسات النقدية التقليدية محدودة بفِعل الميزانيات المتضخمة والافتقار إلى المساحة اللازمة لخفض أسعار الفائدة. وسوف تكون عمليات الإنقاذ في القطاع المالي غير محتملة في دول تشهد حركات شعبوية وحكومات شبه معسرة.
في الولايات المتحدة بشكل خاص، عمد المشرعون إلى تقييد قدرة الاحتياطي الفيدرالي على توفير السيولة للمؤسسات المالية غير المصرفية والأجنبية من خلال ديون مقومة بالدولار. وفي أوروبا، يتسبب صعود الأحزاب الشعبوية في زيادة صعوبة ملاحقة الإصلاحات على مستوى الاتحاد الأوروبي وإنشاء المؤسسات اللازمة لمكافحة الأزمة المالية المقبلة والتباطؤ التالي.
على النقيض مما حدث في عام 2008، عندما كانت أدوات السياسة العامة اللازمة لمنع السقوط الحر متاحة للحكومات، فإن أيدي صناع السياسات الذين يتعين عليهم أن يواجهوا دورة الانكماش التالية ستكون مقيدة في حين ستكون مستويات الدين الكلية أعلى مما كانت عليه خلال الأزمة السابقة. وربما تكون الأزمة والركود التاليان أكثر حِدة وأطول أمدا من سابقتيهما.
الركود يضرب أكبر اقتصاد عالمي
حتى قبل صدمة تقلص انتاج النفط السعودي توقع عدد من خبراء الاقتصاد ركودا في الاقتصاد الأمريكي للعامين المقبلين، رغم اعتبارهم في الوقت نفسه أنه يمكن لقرارات المصرف الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي تأخيره، بحسب استطلاع للرأي نشر يوم 19 أغسطس 2019.
ووفقا لـوكالة الانباء الفرنسية، فإنه من بين 226 خبيرا استطلعت آراءهم الرابطة الوطنية لاقتصاديي الأعمال، توقع 38 في المائة، دخول أول اقتصاد عالمي في ركود عام 2020، بينما تكهن 34 في المائة، دخوله في ركود عام 2021، فيما قدر 14 في المائة، أن ذلك سيحصل في وقت أبعد من ذلك.
وقالت كونستانس هانتر رئيسة الرابطة وكبيرة الاقتصاديين في مجموعة “كي بي إم جي”، إن “الأشخاص المستطلعين توقعوا توسع نمو النشاط الاقتصادي عبر تغيير في السياسة النقدية” لـ”الاحتياطي الفيدرالي”، الذي خفض نسبة الفائدة للمرة الأولى منذ 11 عاما في أواخر يوليو 2019.
ووفق الاستطلاع، توقع 46 في المائة من الاقتصاديين خفضا جديدا لنسب الفوائد من جانب “البنك المركزي” بحلول نهاية العام، فيما رأى 39 في المائة، أن “الاحتياطي الفيدرالي” سينهي عام 2019 دون تغيير نسب الفائدة.
وخفض “المركزي الأمريكي” في 31 يوليو معدلات الفائدة الرئيسة للإقراض وثبتها بين 2 و2.5 في المائة.
يأتي ذلك في وقت أكد فيه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، أن الاقتصاد الأمريكي هو الأفضل في العالم حتى الآن، بحسب “الألمانية”.
وأضاف في تغريدة على “تويتر”: “أدنى معدل بطالة على الإطلاق داخل جميع الفئات تقريبا، مع الاستعداد لنمو كبير بعد إتمام الاتفاقات التجارية”.
وتابع، “أسعار الاستيراد انخفضت. الصين تتحمل تبعات التعريفات الجمركية، وهناك مساعدات بانتظار المزارعين من وراء الرسوم الكبيرة.. مستقبل عظيم للولايات المتحدة”.
وحسب “بلومبيرغ”، فإن حالة الاقتصاد تعد من الأمور الأساسية في حملة إعادة انتخاب ترامب عام 2020.
وذكرت أن أي تراجع في الاقتصاد ستجعل التوقعات سيئة بالنسبة إليه، خاصة في ظل تراجع شعبيته في استطلاعات الرأي.
يشار إلى أن النمو الاقتصادي الأمريكي تباطأ بوتيرة تقل عن المتوقع في الربع الثاني من عام 2019، حيث قلص ارتفاع إنفاق المستهلكين أثر بعض الانخفاض الناتج من هبوط الصادرات وتراجع وتيرة تكوين المخزونات، ما قد يسهم في تخفيف مخاوف بشأن متانة الاقتصاد.
وكتب استراتيجيو “جيه بي مورغان تشيس آند كو” المؤسسة المصرفية الأمريكية العملاقة بقيادة ماركو كولانوفيتش، في خطاب دعوة إلى العملاء حصلت عليه “بلومبيرغ”، أنه “في أعقاب تراجع أكثر عنفا في العوائد وانقلاب المنحنى وتقلب أسواق الأسهم، نعد أن السيولة الضعيفة والتدفقات المنظمة كان لها دور في تفاقم تحركات هذه الأسواق”.
وتأتي هذه التطورات بعد أن منيت الأسهم الأمريكية في 14 أغسطس، بيوم كان الأكثر بيعا خلال العام، وانقلب جزء رئيس من منحنى عائد أذون الخزانة الأمريكية للمرة الأولى في 12 عاما، ما يؤجج المخاوف بحدوث ركود.