ما هي النظرية الأمنية الإسرائيلية الداخلية و ما هي ابعادها
ختطت إسرائيل لنفسها منذ عام 1948 نظرية أمنية، وعملت على تطبيقها، وحققت وفقها الكثير من الإنجازات العسكرية، وألحقت بالعرب عددا من الهزائم أدت في النهاية إلى خضوع أغلب العرب لها، وتطبيع العلاقات معها، وإقامة علاقات دبلوماسية وتجارية واقتصادية معها. ووصل الحد ببعض العرب إلى التعاون الأمني معها ومن ضمنهم فلسطينيون.(1)
لكن معارك إسرائيل ضد المقاومة العربية سواء في جنوب لبنان أو جنوب فلسطين تلقي ظلالا ثقيلة على نظرية الأمن الإسرائيلية بحيث أنها غدت بلا جدوى، ومدمرة الأركان والأسس.
لبقاء قوة عسكرية أولى في المنطقة العربية الإسلامية بحيث تستطيع تحقيق نصر عسكري على الدول العربية والإسلامية فرادى ومجتمعة. كان الشعار الإسرائيلي الأمني المستمر أن بقاء إسرائيل مرتبط بقدراتها العسكرية الرادعة، ويجب أن يبقى جيشها أقوى جيش في المنطقة وقادرا على حسم المعارك بسرعة وكفاءة عالية.
وقد تبنت الولايات المتحدة الأميركية هذا الشعار وعملت على تمكين إسرائيل عسكريا حتى تبقى قوة عسكرية فوق التحدي. ومن هنا تولد شعار الجيش الذي لا يقهر ليكون جزءا من حرب نفسية مدعومة ميدانيا ضد العرب ومن والاهم.(2)
لم تعتمد إسرائيل على مساعدات عسكرية غربية فقط وإنما عملت على تطوير السلاح الذي تحتاجه، فطورت الدبابات والطائرات المقاتلة والطائرات الإلكترونية والصواريخ والزوارق الحربية والبنادق. إلخ. وفوق ذلك قررت إسرائيل امتلاك أسلحة الدمار الشامل وطورت قدرات نووية كبيرة يفتقر إليها خصومها.
_________________
1) المسيري ،عبد الوهاب ، الموسوعة اليهودية، دار الشرق القاهرة، ،1999،ص415.
2) بهاء الدين ، أحمد ، إسرائيليات، دار الهلال القاهرة، ص1965، ص178.
الفصل الاول
النظرية الأمنية الإسرائيلية1948
المبحث الاول :
النظرية الأمنية الإسرائيلية1948
المبحث الثاني :
انهيار أركان النظرية الأمنية
الفصل الاول :
النظرية الأمنية الإسرائيلية1948
المبحث الاول :
النظرية الأمنية الإسرائيلية1948
ولهذا عملت إسرائيل منذ عام 1948 على الاعتماد على نفسها في مختلف المجالات الاقتصادية والعلمية والسياسية والعسكرية والأمنية... إلخ. أسست الحركة الصهيونية للانطلاق العلمي على اعتبار أن النهوض العلمي هو أساس النهوض في مختلف المجالات فأقامت مدرسة زراعية في يافا عام 1870 لتعليم أبنائها فن الزراعة، ثم أقامت معهد رحوفوت للبحث العلمي ولم يكن له مثيل في المنطقة وذلك عام 1910، وأقامت أيضا معهد التخنيون في حيفا عام 1912، وافتتحت الجامعة العبرية عام 1925.(1)
انطلقت إسرائيل في أبحاثها العلمية، وركزت بداية على تطوير الزراعة على اعتبار أنها مصدر الغذاء الأول ويؤسس لإرادة سياسية مستقلة عن إرادات الآخرين الذين يملكون القمح. وانطلقت بعدها إلى تطوير قدراتها العسكرية من خلال التصنيع العسكري وتطوير التقنية العسكرية، واتجهت إلى صناعة المجوهرات، وإقامة المصانع والمعامل على اختلاف أنواعها حتى غدت من أوائل الدول المصدرة. استمرت إسرائيل بداية في الاعتماد على مساعدات مالية خارجية من الدول الغربية وعلى تبرعات أثرياء اليهود في العالم، لكن بقي هدفها التحرر من هذه المساعدات والاعتماد على نفسها حتى لا تعض أصابعها ندما في المستقبل.
البقاء قوة عسكرية أولى في المنطقة العربية الإسلامية بحيث تستطيع تحقيق نصر عسكري على الدول العربية والإسلامية فرادى ومجتمعة. كان الشعار الإسرائيلي الأمني المستمر أن بقاء إسرائيل مرتبط بقدراتها العسكرية الرادعة، ويجب أن يبقى جيشها أقوى جيش في المنطقة وقادرا على حسم المعارك بسرعة وكفاءة عالية.(2)
وقد تبنت الولايات المتحدة الأميركية هذا الشعار وعملت على تمكين إسرائيل عسكريا حتى تبقى قوة عسكرية فوق التحدي. ومن هنا تولد شعار الجيش الذي لا يقهر ليكون جزءا من حرب نفسية مدعومة ميدانيا ضد العرب ومن والاهم.
_________________
1) أحمد ،صلاح زكي ، نظرية الأمن الإسرائيلي، دار ابن زيدون بيروت، 1986، ص134.
2) المسيري ،عبد الوهاب ، الموسوعة اليهودية، دار الشرق القاهرة، ،1999،ص416.
لم تعتمد إسرائيل على مساعدات عسكرية غربية فقط وإنما عملت على تطوير السلاح الذي تحتاجه، فطورت الدبابات والطائرات المقاتلة والطائرات الإلكترونية والصواريخ والزوارق الحربية والبنادق... إلخ. وفوق ذلك قررت إسرائيل امتلاك أسلحة الدمار الشامل وطورت قدرات نووية كبيرة يفتقر إليها خصومها.
خوض المعارك الحربية في أراضي الغير، وتجنيب إسرائيل دائما ويلات القتال على مناطق سيطرتها. أقامت إسرائيل جيشا كبيرا وسريعا ومسلحا بأحدث أنواع الأسلحة، وكانت حركته متميزة من بين جيوش العالم من حيث الوصول إلى أماكن التوتر والقتال، والقدرة على الحشد وتوجيه الضربات السريعة والقاضية.(1)
ولهذا جنبت إسرائيل تجمعاتها السكانية الكبيرة والصغيرة ويلات الحروب، وحصرت حروبها في البلدان العربية المجاورة لها، وأحيانا في بلدان عربية بعيدة عنها مثل تونس والسودان.
دمرت إسرائيل تجمعات سكانية عربية وغزت دباباتها أراضي العرب، وهاجمت طائراتها العديد من المراكز والمؤسسات العربية، ولم تقو الجيوش العربية على الدفاع عن نفسها أو وقف الاعتداءات العسكرية الإسرائيلية المتكررة.(2)
شن حروب ناظرة تعتمد على جمع المعلومات حول العدو وقدراته العسكرية ومخازن أسلحته ومخططاته... إلخ. ولذا عملت إسرائيل باستمرار على توظيف عملاء وجواسيس عرب في كل البلدان العربية مع تركيز على الفلسطينيين ودول الطوق العربية. وظفت إسرائيل عملاء لها من ضباط الجيوش العربية، وربما من الوزراء والحكام العرب، ونشرت عملاءها في المؤسسات المختلفة الأمنية والمدنية، واستطاعت أن تقف على دقائق الأمور في الساحات العربية.
_________________
1) ربيع ،حامد ، نظرية الأمن القومي العربي، دار الموقف العربي القاهرة، 1980 ،ص123.
2) أحمد ،صلاح زكي ، نظرية الأمن الإسرائيلي، دار ابن زيدون بيروت، 1986، ص135.
"كان العراق أول دولة عربية تغزو إسرائيل بالصواريخ، لكن صواريخها كانت قليلة ولم تؤثر جذريا على نظرية إسرائيل الأمنية، لكنها أعطت مؤشرا حول اتجاهات المستقبل. المقاومة العربية في لبنان وفلسطين كانت الأكثر تأثيرا والأكثر قوة"
شنت إسرائيل حرب جمع معلومات شرسة وقوية وفعالة، وخاضت حروبها وهي تملك معلومات وفيرة حول الأهداف التي يجب ضربها أو تحييدها، فكانت خسائر الجيوش العربية كبيرة جدا، بينما بقيت الخسائر الإسرائيلية في أضيق نطاق ممكن، وقد اعتمدت باستمرار على أجهزتها الأمنية الداخلية والخارجية لتقدير موازين القوى، وقدرات العرب على المساس بها وبجيشها، وكانت تتصرف دائما بناء على علم مسبق.(1)
الحرب الاستباقية أو الوقائية هي أفضل الحروب وأقلها خسائر، منذ البدء اعتمدت إسرائيل على المثل القائل "تغدى فيه قبل أن يتعشى فيك" أي يجب ضرب أي قوة عربية ناهضة وتدميرها قبل أن تكبر وتصبح قادرة على ضرب إسرائيل عسكريا. ولهذا عملت إسرائيل بعد عام 1948 على القيام بأعمال استفزازية بهدف جر جيوش عربية إلى ميدان المعركة ومن ثم القضاء عليها قبل أن تصبح قادرة على الإقلاع والتحدي.
اختطت إسرائيل برامج تثقيفية وتعليمية منذ قيامها بهدف تطوير العقلية العلمية لدى سكانها والتفكير العلمي، وبث الوعي بوجهة نظرها فيما يتعلق بالصراع العربي الإسرائيلي، وبرفع مستويات الالتزام والفداء والتضحية من أجل إسرائيل. وعملت على بث الثقة في نفوس سكانها والهدوء والطمأنينة لكي يكونوا قادرين على مقاربة همومهم ومشاكلهم بروية ومنطق وأسلوب علمي. الدولة قوية بقوة أبنائها، وأولئك غير الأحرار وغير العلميين لا ينفعون لإقامة دولة وصون وجودها.(2)
_________________
1) أحمد ،صلاح زكي ، نظرية الأمن الإسرائيلي، دار ابن زيدون بيروت، 1986، ص136.
2) المسيري ،عبد الوهاب ، الموسوعة اليهودية، دار الشرق القاهرة، ،1999،ص417.
سابعا: الهدف الأمني الإسرائيلي النهائي هو أن تبقى إسرائيل واحة الأمن الحاضنة لكل يهود العالم، وإبقاء جدلية الصهيونية بأن لا أمن لليهود إلا في إسرائيل قائمة ومقنعة.
المبحث الثاني :
انهيار أركان النظرية الأمنية
كان العراق أول دولة عربية تغزو إسرائيل بالصواريخ، لكن صواريخها كانت قليلة ولم تؤثر جذريا على نظرية إسرائيل الأمنية، لكنها أعطت مؤشرا حول اتجاهات المستقبل. المقاومة العربية في لبنان وفلسطين كانت الأكثر تأثيرا والأكثر قوة.
شكلت حرب عام 2006 على لبنان الهزة الكبيرة الأولى للجيش الإسرائيلي، وكل النسيج الأمني الإسرائيلي. أمطر حزب الله إسرائيل بوابل متلاحق من الصواريخ شلت الحياة المدنية، تساقطت الصواريخ على المدن الإسرائيلية والمستوطنات، وهرع الناس إلى الملاجئ. لم تعد شوارع إسرائيل وميادينها آمنة، وأصبح البشر والحجر مهددون بدمار الصواريخ. لم تعد منطقة شمال إسرائيل آمنة، وفقد الناس شعورهم بالأمن وثقتهم بقدرة دولتهم على حمايتهم.(1)
وتبنى حزب الله على مدى السنين نظرية التحصين الأمني بحيث يقضي على الجواسيس والعملاء، ويمنع بذلك عن إسرائيل مصادر المعلومات. صحيح أن إسرائيل تملك وسائل تقنية لجمع المعلومات، لكن الحزب عمل على امتلاك وسائل تقنية مشابهة، واعتبر أن العنصر البشري هو الأهم في جمع المعلومات. لاحق العملاء والجواسيس، وطور أساليب متعددة لاقتفاء أثرهم، ولهذا أقدمت إسرائيل على حرب شبه عمياء، غير ناظرة ففاجأها الحزب بقدراته العسكرية الميدانية والتكتيكية المتعددة.
أهم ما جرى هو أن الحزب استطاع تحييد الطيران الإسرائيلي وذلك من خلال إقامة شبكة أنفاق تحت الأرض حتى لا يستطيع الطيران الوصول إلى المقاتلين. فانتقم الطيران من المدنيين ومن بيوت المواطنين العاديين.(2)
_________________
1) المسيري ،عبد الوهاب ، الموسوعة اليهودية، دار الشرق القاهرة، ،1999،ص418.
2) ربيع ،حامد ، نظرية الأمن القومي العربي، دار الموقف العربي القاهرة، 1980 ،ص124.
"لم يعد الفلسطينيون يحاربون من دول الجوار وإنما من بلادهم وانطلاقا من أرض محررة محاصرة. وليس هذا فحسب، وإنما يعمل سكان التجمعات السكانية اليهودية في جنوب فلسطين الآن على الرحيل ليخرجوا من همّ الصواريخ الفلسطينية"
المهم أن المعركة لم تجر على أرض لبنان فقط، وأن إسرائيل لم تفاجئ حزب الله، بل هو الذي فاجأها، وواحة الأمن الإسرائيلية أصبحت تقض المضاجع، ونظرية الجيش الذي لا يقهر لم تعد موجودة، وثقة الإسرائيليين بجيشهم أصيبت بضربة قوية.(1)
كما يندرج ذات المفهوم ضمن سياق مرتبط بالنظرة الإسرائيلية إلى الذات ونظرة اليهود إلى غير اليهود، فالنظرة إلى الذات تعني ذلك الشعور النفسي الداخلي للإنسان اليهودي القادم من الخارج بحثاً عن تحقيق الذات بعيداً عن "موروث الهولوكست"، و الاغتراب في أرض الميعاد في أجواء دولة عسكرية تعتمد على القوة - في المقام الأول - لاستمرارية وجودها والحفاظ على ما سلبته من الأراضي العربية، وهي بذلك تكون نظرة مستغرقة في البحث عن الأمن أولاً وقبل كل شيء، وبالمقابل نجد نظرة اليهود إلى غير اليهود نظرة تشوبها مقومات الإستعلاء الحذر وعدم الثقة انطلاقاً من دوافع دينية صرفة أو من دوافع أفرزتها دواعي احتلال أراضي الغير، واستيطان الأرض وإبادة شعبها أو تهجيره في سياق يُذكّر بالمعتدي النازي، وذلك إلى الحد الذي يعبر عنه مصطلح "الصهيونازية" أصدق تعبير عن هذا التوحد.(2)
_________________
1) العاجز ، صائب ، نظرية الأمن الإسرائيلي وأثرها على الأمن القومي العربي، مؤسسة الفيروز عمان، 1989 ، ص195.
2) ربيع ،حامد ، نظرية الأمن القومي العربي، دار الموقف العربي القاهرة، 1980 ،ص125.
وفي ضوء ذلك لا يمكن النظر إلى نظرية الأمن الإسرائيلي باعتبارها أداة للحماية الذاتية كما عبرت عن ذلك تاريخياً تلك التقاليد السياسية الثابتة، التي اتبعتها الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، إنما يمكن التعامل معها كونها المنطق الفكري الذي يراد به تبرير سياسة السيطرة وفرض الهيمنة الكاملة على الأرض ومن حولها من دول الجوار، بهدف ردع أية محاولات لاختراقات أمنية محتملة لاستعادة الحقوق المسلوبة.
وفي هذا السياق يمكن الإشارة إلى أن مفهوم الأمن الإسرائيلي يرتبط دراماتيكياً بالنظرة الإسرائيلية إلى الذات ونظرة اليهود إلى أنفسهم، وهو الأمر الذي يؤدي إلى توظيف التفوق العسكري لتحقيق التوازن والاستقرار كما تراه المؤسسة العسكرية الحاكمة في إسرائيل. "غادة كنفاني، نظرية الأمن الإسرائيلي". وتحديداً فهو يربط مفهوم الاستقرار بالردع والقدرة على التهديد به ومن ثم إجبار الطرف الآخر (دول الجوار العرب) على الاستجابة لما تراه إسرائيل مناسباً لأجوائها.(1)
كما يمكن أن يتشكل مفهوم الأمن الإسرائيلي بصورة تعتمد على تفوق قدرته العسكرية في المنطقة، الأمر الذي يفرز حالة من عدم التفكير (من قبل دول الجوار والدول العربية مجتمعة) في محاولة اختراق هذا التفوق والتسليم بالأمر الواقع واتخاذ خطوات وقائية، بدلاً من التفكير في حشد القوات العسكرية العربية لاختراق ذلك التفوق العسكري الإسرائيلي الذي يشكل قوة ردع ضاربة في المنطقة بأسرها. "صلاح إبراهيم، إستراتيجية الأمن القومي الإسرائيلي".
وإذا ما علمنا أن دولة إسرائيل قد نشأت "وسط بحر من الأعداء" كما يقول الكاتب الاسرائيلي هارون باريف في مقالة له نشرتها "المنار للصحافة والنشر"، فإن تمتع دولة إسرائيل بمساحة جغرافية صغيرة يفقدها العمق الإستراتيجي، لذلك فإن نظرية الأمن لديها تخضع للتغيير والتجديد والتطور باستمرار مقارنة بما يحدث من تطورات داخلية أو إقليمية وعالمية تجري ضمن ظروف تاريخية معينة، أي أن موضوع الأمن مصدر قلق دائم للمؤسسة العسكرية الإسرائيلية وهو يمثل بؤرة إهتمام قصوى تسبق أياً من الأولويات الأخرى.
يقول شمعون بيريز فى كتابة "الشرق الأوسط الجديد" حول هذه المسألة: "إن موضوع الأمن لا يمكن اعتباره موضوعاً قابلاً للنقاش أمام أي رئيس حكومة إسرائيلية، إنه موضوع حياة أو موت بالنسبة لنا جميعاً، وعليه فإن النظر للأمن الاسرائيلي يجب أن يتقدم سلم الأولويات قبل تنفس الهواء، فبقدر ما نضغط أمنياً على أعدائنا بقدر ما تتوفر فرص البقاء والوجود".(2)
_________________
1) صحيفة "الحياة الجديدة ،ص52.
2) العاجز ، صائب ، نظرية الأمن الإسرائيلي وأثرها على الأمن القومي العربي، مؤسسة الفيروز عمان، 1989 ، ص196.
كما يشير أحمد بهاء الدين في كتابه "إسرائيليات" إلى أن مفهوم الأمن الإسرائيلي قد تنامى وأصبح من أهم ضرورات البقاء، وذلك يعود إلى عاملين أساسيين داخل إطار الدائرة الدينية والتي تؤكد أولاً أن إسرائيل هي "وعد الرب لنبيه إبراهيم "، وهي حلم صهيون، وأن هذا الحلم الذي توارى في سنوات الشتات والاضطهاد بفعل ظلم وطغيان قوى القهر والبغي لم يكن غائباً عن وجدان بني إسرائيل، والثاني ينبع من كون إسرائيل أقيمت فوق أراضي فلسطين التاريخية وسط موجة من العداء المستحكم والمفروض فرضاً على أرض الواقع، ففي الإعتقاد الإسرائيلي: "إن تقديم تنازلات من أراضي إسرائيل الكبرى يجب ألا يمس بجوهر الأمن الإسرائيلي بأي حال من الأحوال. "بنيامين نتنياهو، مكان تحت الشمس".
ويرى "إيغال الون" أن مفهوم الأمن الإسرائيلي - حتى قبيل إنشاء الدولة يعتمد على ما ورد في التوراة من نصوص، حيث ذكر أن من يصادر أحلام أو طموحات بني إسرائيل إنما يصادر حقاً شرعه الرب، كما أنه يصادر القوة الروحية الجبارة التي تدفع اليهود دفعاً للعمل والمثابرة والتضحية، بالإضافة إلى أن حلم صهيون وأرض الميعاد ما هي إلا عوامل ربط يهود الشتات بأرض يهود إسرائيل، وكل من تجرأ على حلم صهيون فإنه يجرد الصهيونية من مقوم الوحدة بين يهود العالم وبين أرض صهيون، وهو ما يقوض أركان الأمن الإسرائيلي.(1)
وعلى الرغم من هذه النظرة لمفهوم الأمن نجد إتساع رقعة التوجه استراتيجياً فى السنوات التى تلت إعلان الدولة، في الوقت الذي ربحت به إسرائيل بقرار التقسيم عام 1947. وقد اكتفت بالحدود الضيقة التى منحها القرار لها، ووجدناها عام 1967 تجاوزت تلك الحدود الأمنية وانطلقت لتهديد أمن ثلاث دول عربية مجتمعة، بدعوى الحفاظ على الأمن وإجبار تلك الدول على التسليم بسياسة الأمر الواقع الأمنية، والتي سرعان ما تراجعت في حرب أكتوبر عام 1973 ، لترسم صورة مغايرة لمفهوم الأمن بامتلاكها للقوة النووية الضاربة بعد ذلك، وإن كان المشروع النووي الإسرائيلي قد بدأ بالفعل قبل ذلك.
وعليه فإننا نحاول من خلال هذا الكتاب - أن نرصد ونحلل التطورات المختلفة فى نظرية الأمن الإسرائيلي، وما تنطوي عليه من مضامين سيكولوجية، وذلك وفق مفاصل الحروب التي خاضتها الدولة العبرية ضد العرب، فمن مرحلة " العمق الاستراتيجي" و"الضربة المضادة الاستباقية" كما أشار شمعون بيريز، إلى "استراتيجية الردع النووي" منذ العام 1975 ، وإلى "استراتيجية الهجوم الاستباقي" المتبعة حالياً في الأراضي المحتلة وغيرها من الإستراتيجيات الأخرى.(2)
_________________
1) ربيع ،حامد ، نظرية الأمن القومي العربي، دار الموقف العربي القاهرة، 1980 ،ص123.
2) العاجز ، صائب ، نظرية الأمن الإسرائيلي وأثرها على الأمن القومي العربي، مؤسسة الفيروز عمان، 1989 ، ص197.
ومثال على ذلك التأرجح والتغير فى مفهوم الأمن الإسرائيلي ونظريته، نجد أن الدولة العبرية قبيل إندلاع حرب 1967، قد شددت على ناحيتين إيجابيتين في وضع الحرب، أولهما إيجاد خطوط دفاعية مثالية جغرافية على طول خطوط المجابهة مع الجيوش العربية، وثانيهما امتلاك فترة مطولة من الإنذار المبكر، وخاصة بالنسبة للجبهة الجنوبية في شبه جزيرة سيناء، وقد نجم عن هذا الوضع الجديد تبنّي إسرائيل "نظرية الحدود الأمنية" لحرص الدولة العبرية على إيجاد مسوغ تبرر بواسطته الاحتفاظ بالأراضي المحتلة، تحقيقاً "لنظرية العمق الإستراتيجي" المطلوب تحقيقها للأمن. لذلك فإن المبدأ الأمني القديم الداعي إلى "نقل الحرب إلى أراضي العدو" لم يعد ملزماً بالنسبة للجيش الاسرائيلي. "هيثم الكيلاني - نظرية التفوق الإسرائيلي".(1)
ومن هنا يمكن القول إن مفهوم الأمن الإسرائيلي، وكذلك نظرية الأمن الإستراتيجي الإسرائيلي قد عبرت مراحل مختلفة متناقضة تبعاً للظروف الإقليمية والدولية، وفي ضوء تعاقب حكومات إسرائيل نفسها، وتباين أهدافها الانتخابية والمرحلية، إلا في قواسم مشتركة أبقت على معيار هام جداً لا يمكن الحيدة عنه بأي ثمن، ألا وهو أن مقولة الأمن، أو الهاجس الأمني في الدولة العبرية لا بد أن يظل طوقاً للبقاء والنجاة أولاً وقبل كل شيء. وحتى مع تغيرات هذا المفهوم وتلك الاستراتيجية عبر تواريخ تأسيس الدولة العبرية، ومروراً بحروبها مع الدول العربية، خاصة حرب 1973، وانتهاء بالإنتفاضة الفلسطينية الأولى والثانية، وبما حققتاه من اختراق واضح وتاريخي لمفهوم الردع الاسرائيلي، ظلت مفاهيم الأمن واستراتيجياته تدور في فلك عملية البحث الدؤوب عن الصورة المثلى، لإبقاء الدولة العبرية متفوقة على العرب جميعاً في جميع مناحي التفوق العسكري، والتكنولوجي، والاقتصادي.
إن التقلبات التى طرأت على مفهوم الأمن الإسرائيلي، قد ارتكزت على أطر وتحليلات سيكولوجية لموقف هذه الدولة منذ بنائها التأسيسي، الذي أفرزته وقائع دولية أبرزها شعور أوربا بما لحق من ضيم بالشعب اليهودي، نتيجة لما حدث فى "الهولوكوست" النازية وما سببه شتات اليهود من مخاوف لتلك الدول الأوروبية، أبرزها شعور اليهود بالإحباط والرغبة الجامحة في الإنتقام، وهو الأمر الذي جعل تلك الدول مجتمعة تسعى للبحث عن موطئ قدم لليهود أو "مكان تحت الشمس" كما قال نتنياهو (رئيس وزراء إسرائيل الأسبق) في معظم صفحات كتابه الذي حمل العنوان نفسه.(2)
_________________
1) العاجز ، صائب ، نظرية الأمن الإسرائيلي وأثرها على الأمن القومي العربي، مؤسسة الفيروز عمان، 1989 ، ص198.
2) صحيفة "الحياة الجديدة ، عدد 4،ص53.
.... يتبع