نشر هذا المقال في منبر الإسلام
العدد (12) السنة (37) ذو الحجة 1399هـ نوفمبر 1979م
----------------------------------------------
النظرية السياسية في فكر الفارا بي
ـ
إننا معاشر المفكرين والمشتغلين بالثقافة والمهتمين بالفكر الإسلامي محتاجون من وقت إلى آخر إلى مراجعة للأفكار الخاصة بالفلاسفة المسلمين الذين شغلوا أنفسهم بمختلف القضايا التي تهم الإنسان حين تتصل به من قريب أو من بعيد.
وتعتبر هذه المراجعة بالغة الحساسية لأن بها وحدها يتم تصحيح جدي لما عسى أن يكون قد وقع في أذهان المفكرين من لبس أو خلط.
ولقد كان هذا العنوان موضوعا لمحاضرة ألقيت من بعض رجال الفكر قد وقع في أذهانهم خلط في فهم النظرية من أساسها ، وخلط في المؤثرات التي أثرت في وجود هذه النظرية عند الفارابي.
ولسنا الآن بمعنيين بما وقع من خلط بقدر ما نحن معنيون بتقديم الصورة الواقعية للنظرية السياسية كما يفهمها الفارابي نفسه.
على أنه لا يغيب عن البال منذ اللحظة الأولى أن التفكير الإنساني في مسألة ما لا ينشأ من فراغ، ولا يتحدد اطاره بغير مثير ومؤثر وهدف.
وبغير المثير لا يندفع الإنسان إلى عمل فكري ما.
وبغير الهدف لا يجد الإنسان نفسه بحاجة إلى خوض التجربة.
وبغير المؤثر يجد المفكر نفسه ربما ينتج فكرا ولكن فكره هذا يظل محتاجا إلى ترتيب ومراجعة، وحذف وإضافة حتى يظهر على نوع من الكمال يحظى باحترام وتقدير بني جنسه وأفراد نوعه من المثقفين والدارسين.
ويستثني من هذا فئة من البشر تأتي أفكارهم طفرة وآراؤهم وثبة ثورية تأخذ بالألباب وتأثر العقول.
غير أن هؤلاء الذين يعرضون آراء مكتملة وأفكارا لا تحتاج إلى إضافة هم أولئك النوع من البشر الذين قد قدر لهم أن يتصلوا بالسماء، وهم رسل الحق إلى الخلق.
وما عدا هؤلاء الصنف فهم رجال تتفاوت درجات كمالهم وقيمة العطاء الذي يبذلونه خدمة للإنسانية في مجالات تمس حياتهم وتتصل بسعادتهم.
ولقد كان التفكير في النظام الذي يضبط المجتمع الإنساني ككل، والمجتمع المحدود بحدود الدولة السياسية ، والمجتمع المحدود بحدود ا لمدينة شغل المفكرين الشاغل منذ أن وجد الإنسان واحتاج إلى الاجتماع.
ولقد وضعت في هذا الغرض نظريات فلسفية مختلفة، فبعضها يقرب من الواقع وبعضها يحلق في سماء الخيال، وما بين هذين الطرفين صور تتعدد بحيث يقترب بعضها من هذا الطرف في حين أن البعض الآخر يقترب من الطرف المقابل.
والمتصفح لجمهورية أفلاطون، ونظام الأثينيين، والعقد الاجتماعي وغيرها من الكتب يجد أن الإنسانية متمثلة في عقول الفلاسفة، والمشتغلين بالعمران والسياسية قد وضعوا في هذا الطريق عشرات بل مئات من النظريات.
ولقد كان هؤلاء حراص على الوصول إلى الطريقة المثلى التي تضمن للمجتمع أكبر قدر من الاستقرار وأعلى درجة من السعادة والسكينة.
ولما كان الإنسان اجتماعي بطبعه عاجز عن الاستغناء بنفسه عما عداه محتاج إلى تعاور المصالح وتبادل أسباب المعايش، لما كان الإنسان هذا شأنه وحاله، كان لابد من مواصلة البحث الدؤوب للوصول إلى أمثل النظريات السياسية والاجتماعية التي تقود الإنسانية وسط مشاق الحياة وقسوة المعايش.
ولقد تحمل الفارابي عبء البحث عن مثل هذا النظام الأمثل والنظريات الفضلى.
الفارابي وحتمية الاجتماع :
إن الفكرة الأساسية في قيام نمط سياسي هي أن يكون هناك اجتماع على شكل ما، فإذا لم يكن هناك اجتماع فإن الضرورة للبحث عن نمط سياسي لا تجد لها من يتحمس لصالحها.
ويعتقد الفارابي أن الاجتماع والتجمع بين بني البشر ضرورة محتومة ترجع إلى الفطرة الإنسانية والطبيعة البشرية.
فالإنسان كفرد قد وجد في هذا ا لعالم له قدرات وله أهداف وغايات، وهو في أحسن حالاته لا تسعفه قدراته للوفاء بحاجاته التي تبلغ به إلى أهدافه وغاياته.
ولكنه من يمن الطالع أن قدرات أفراد الإنسان تتعدد بتعدد الحاجات العامة والأهداف الكلية والوسائل التي تؤدي إلى الأهداف الكلية والحاجات العامة.
وكل فرد من بني البشر قد منح من الاستعداد والقدرات ما حرم منه بعض أمثاله من بني جنسه، وهو في نفس الوقت قد حرم من القدرات ما توفر لغيره.
وهذا التقسيم في القدرات والامكانات يعتبر هو الضرروة الملجئة إلى الاجتماع بين أفراد النوع الإنساني.
فالإنسان الفرد قد يبدو أمامه من المسحتيل أن يحقق رغباته وأهدافه بنفسه، وما يقوم به مزاولات وممارسات يزيد على بعض احتياجاته من هذه الجهة، فكان لابد من الاجتماع لتبادل المنافع بقصد الوصول إلى أفضل النتائج، وتحقيق أسمى الغايات.
الدوائر الاجتماعية في فكر الفارابي :
ولقد قسم الفارابي أنواع الاجتماع وأشكال التجمع إلى عدة أقسام تعتبر في شكل دوائر بعضها أصغر من الأخرى، وهذا التقسيم يقوم على أساس فكرة الكمال في تحقيق الأغراض وتوفير الاحتياجات، ونيل الأهداف وتوفير المطالب.
وأكبر دائرة في هذه الدوائر هي الدائرة التي تنتظم المجتمع الإنساني ككل، والذي يعيش على ظهر اليابسة من هذا الكوكب (وهذا هو المجتمع الكبير)، وهناك دائرة أخرى أقل من هذه الدائرة وتندرج تحتها، وهي الدائرة التي تعبر عن الأمة في جزء من المعمورة، وتحت هذه الدائرة أيضا دوائر أصغر منها وأقل حجما وهي الدوائر التي تعبر عن المدن.
وفي هذه الأنماط الثلاثة من الاجتماع يجد الإنسان الفرد أنه يحقق ذاته ويمكن أن يصل إلى أهدافه لتوفر الخدمات ولتنوع القدرات والوسائل، ولذا فإن هذه المجتمعات على ما بينها من تفاوت في الحجم، وخريطة الامتداد العمراني إلا أنها تعتبر مجتمعات كاملة لقدرتها على تحقيق الأهداف العامة والخاصة.
وهناك مجتمعات غير كاملة لعدم وفائها بأغراض الأفراد ومتطلباتهم العامة والخاصة، وهي المجتمعات المتمثلة في : مجتمع القربة، واجتماع أهل المحلة، ثم اجتماع في سكة، ثم اجتماع في منزل.
ولهذا النقص في تلك المجتمعات تجدها مرتبطة ارتباطا ضروريا بمجتمع المدينة على أنها جزء هذا المجتمع أو مسخرة لخدمته.
ثم مجتمع المدينة ينتمي بحكم الواقع إلى الأمة التي هي أكثر منه نفعا في مجال الهدف العام، وعلى هذا الأساس نفسه تنتمي الأمة إلى المجتمع الإنساني الكبير، لأن المجتمع الإنساني الكبير يتحمل كله مسئولية هدف الإنسانية العامة.
السلم الاجتماعي :
وبعد أن حدد الفارابي أشكال وأنواع الاجتماع يدفع بنظريته خطوة نحو التحليل والفحص لوحدات المجتمع الكامل، أنه يريد أن يحلل المدينة إلى أبسط عناصرها، كما تحلل الفكرة أو الشئ المادي المركب.
فيرى الفارابي أن المدينة تتكون عادة من أفراد، وكل فرد من الأفراد له من القوى المتاحة والملكات الفطرية والإرادات ما لا يتوفر لغيره من بني جنسه.
والإنسان بطبعه ما دام في مجتمع لابد من أن يقوم بوظيفتين هامتين بحيث تكون إحدى الوظيفتين محققة لأهدافه وأغراضه الخاصة، في حين أن الوظيفة الثانية يناط بها تحقيق الهدف العام للإبقاء على الجماعة متناسقة مترابطة.
وعلى أساس من هذين العاملين أو هاتين الوظيفتين تتحدد مكانة الفرد ويتضح انتمائه الطبقي.
فبمقدار ما يكون الإنسان مستعد لخدمة الجماعة وقيادة بعض الطوائف نحو الهدف العام تتضح مكانته من السلم الاجتماعي، هذا السلم الذي يبتدئ بالرئيس معقد السيادة في المدينة وهو الذي يرأس بما أتيح له من الإمكانات جميع ما عداه من أفراد وطبقات ، فهو يعلو على جميع الأفراد ولا يعلو عليه أحد، وهو يعمل لخدمة الغرض العام الذي يتضح له هو ويتراءى لشخصه مستمدا من العقل الفعال وتجارب السابقين ، وما عداه يعملون لخدمة غرضه.
وعلى الطرف الآخر من السلم الاجتماعي تجد طبقة من الأفراد لم يمنحهم الله إمكانية رؤية الغرض ا لعام، ولم يتوفر فيهم سمات الرياسة فهم مؤهلون لأن يخدموا غيرهم دون أن يخدمهم غيرهم.
ونعني بالخدمة هنا أن يكون العمل موجها من قبلهم ليخدم غرض غيرهم من الناس وهم الطبقة الأعلى دون أن يكون عمل غيرهم لخدمة غرضهم هم.
وما بين طرفي السلم توجد طبقات على شكل درجات تقترب من هذا الطرف أو ذاك.
فالطبقة الثانية من جهة رئيس المدينة تعمل في خدمة غرض الرئيس نفسه، في حين تعمل الطبقة الثالثة من هذه الجهة في خدمة الطبقة الثانية ، وهكذا حتى نصل إلى أدون طبقة في السلم وهي التي تشكل الطرف المقابل للرئيس.
والنقطة الهامة التي يلفت أبو نصر الأنظار إليها هنا هي أن هذا الفريق المتكامل والذي يعمل لخدمة الغرض العام على هذا النموذج الطبقي لا يقوم بتأدية الأعمال قهرا أو قصرا، وإنما يقوم بهذه الأعمال على أساس من حرية الإرادة وملكة الاختيار.
وعلى أساس من هذه الحرية وتلك الملكة ترى نماذج بشرية تصل في تحقيق أهدافها الكلية إلى الخير والفضيلة، في حين أن بعض النماذج الأخرى تقعد بها إرادتها الشريرة عن بلوغ هذا الهدف، والوصول إلى المقصد الأسمى.
ولباب القول أن أجزاء المدينة على هذا ا لسلم ( وإن كانوا طبيعيين فإن ا لهيئات والملكات التي يفعلون بها أفعالهم للمدينة ليست طبيعية بل إرادية على أن أجزاء المدينة مفطورين بالطبع بفطر متفاضلة يصلح بها إنسان لإنسان لشئ دون شئ. غير أنهم ليسوا أجزاء المدينة بالفطر التي لهم وحدها بل بالملكات الإرادية التي تحصل لها وهي الصناعات وما شاكلها ).
ويستطيع المرء هنا أن يلحظ أن الطبقة في فكر الفارابي الاجتماعي تقوم على أساس من الملكات والطبائع، ولا تقوم على عوارض الدنيا وزخارفها، وما يمكن أن يحصله المرء من متاعها بحق أو بغير حق.
والسلم الطبقي لا يشبه طبقية أفلاطون من قريب أو من بعيد.
فطبقية أفلاطون تميز بين ثلاث طوائف من البشر فقط هم الحكماء، والجنود، وسواد الشعب.
أما طبقية الفارابي فهي لا تقوم على حصر الطبقات ولا تحديدها، ولم يخطر لذهن ا لفارابي أن يتحكم بوضع عدد معين من الطبقات داخل المجتمع الواحد.
وهناك نقطة أخرى هامة تميز بين النظامين وهي: أن طبقية أفلاطون تعني عزل الطبقات ووضع ستار كثيف بين كل طبقتين لا يمكن اجتيازه، بحيث يصبح التقسيم عنده والفرق بين الطبقات في نظريته يشبه أن يكون فرقا بالنوع .
أما الفارابي فإنه يتيح الفرصة أمام الملكات كي تشحذ وتتدرب، فالطبقة السفلى بإمكانها أن تتدرب على ما أتيح لمن فوقها من الطبقات فتجيد ممارسته ، وهنا يمكن القول بالترقي من طبقة إلى طبقة أخرى على أساس من التدريب والمران، الأمر الذي يجعل الفارابي في نظريته الاجتماعية وكأنه يؤكد أن الفرق بين الطبقات هو فرق بالدرجة وهو أمر يمكن اجتيازه وتخطيه.
والفرق الطبقي على هذا النحو السالف الذكر عند الفارابي يقرب من مثل هذه الآية الكريمة " ورفعنا بعضكم فوق بعض درجات " وغيرها مما يشبهها.
معقد السيادة :
تلك نقطة أخرى لا تقل أهمية عن تصور النمط الاجتماعي ، وإن كانت ترتبط به ارتباطا عظيما.
ففكرة اختيار الرئيس أو نموذج الحكم فكرة حار فيها الكثير من الكاتبين والمفكرين الاجتماعيين.
ويتصور الفارابي رئيس المدينة الفاضلة على أساس من فكرة الكمال البشري، لأن هذا المنصب منصب له من القداسة بحيث لا يليق بغير المؤهلين أن يوضع فيه.
فرئيس الدولة سوف يكون عمله موجها بالكلية إلى الغرض العام، وسوف يكون مسئولا مسئولية مباشرة عما تحته من القيادات، و عن بلوغ المدينة إلى هدفها المأمول، وهو سوف يكون صاحب القرار وفصل الخطاب في أهم القضايا وأعوص المشكلات، وهو لابد أن يكون موضع القداسة والتقدير من الجميع بحيث يتأتى له أن يطاع، وأن يعمل الجميع على خدمة ما يريد هو.
ويبدو إلى الآن أن الفارابي مقدم على اختيار شخصية بالغة الصعوبة، إذ أن هذا المنصب كما يتصوره لا يصلح لكل أحد، أن من يصعد إلى هذا المنصب لابد أن تتحقق فيه أمور ويتوفر له شرائط يتعلق بعضها بخلقه، كما يتعلق البعض الآخر بخلقه، في حين تتصل المجموعة الثالثة من القيود بتكوينه العلمي.
إنه في جانب الخلق الجسمي لابد وأن يكون تام الأعضاء. قواها مواتية أعضاءها على الأعمال التي شأنها أن تكون بها. ومتى هم عضو ما من أعضائه بعمل يكون به أتى عليه بسهولة.
جانب الأخلاق :
وفي جانب الأخلاق يبالغ الفارابي في الاحتياط والحذر كي لا يصعد إلى منصب القيادة رجل يشهد له ماضيه أو حاضره باهتزاز خلقي أو نقص في كمال متاح.
وهو لذلك يشترط في رئيس المدينة من هذه الجهة أن يكون ضابطا لجميع قواه الشهوانية متنزها عن جميع أدرب الشهوات والملذات، وأن يكون محبا للصدق وأهله مبغضا للكذب وأهله، ثم أن يكون كبير النفس محبا للكرامة، تكبر نفسه بالطبع عن كل ما يشين من الأمور، وتسمو نفسه بالطبع إلى الأرفع منها. ثم أن يكون الدرهم والدينار وسائر أعراض الدنيا هينة عنده، ثم أن يكون بالطبع محبا للعدل وأهله ومبغضا للجور والظلم وأهلهما يعطي النصف من أهله ومن غيره ويحث عليه ويؤتي من حل به الجور مؤاتيا لكل ما يراه حسنا وجميلا. ثم أن يكون عدلا غير صعب القياد ولا جموحا ولا لجوجا إذا دعى إلى العدل، بل صعب القياد إذا دعى إلى الجور وإلى القبيح، ثم أن يكون قوي العزيمة على الشئ الذي يرى أنه ينبغي أن يفعل جسورا عليه مقداما غير خائف ولا ضعيف النفس.
وفي مجال العلوم وتحصيل المعارف وإدارة الحوار والسيطرة على المجالس، والصواب في القول والحكمة في الخطاب، يشترط في الرئيس أن يكون بالطبع جيد الفهم والتصور لك ما يقال له فيلقاه بفهمه على ما يقصده القائل وعلى حسب الأمر في نفسه، ثم أن يكون جيد الحفظ لما يفهمه ولما يراه ولما يسمعه ولما يدركه وفي الجملة لا يكاد ينساه، ثم أن يكون جيد الفطنة ذكيا إذا رأى الشئ بأدنى دليل فطن له على الجهة التي دل عليها الدليل، ثم أن يكون حسن العبارة يؤاتيه لسانه على إبانة كل ما يضمره إبانة تامة، ثم أن يكون محبا للتعليم والاستفادة منقادا له سهل القبول لا يؤلمه تعب التعليم ولا يؤديه الكد الذي يناله منه.
وعلى الجملة يشترط في الرئيس أن يكون تاما في خلقه ، تاما في خلقه، تاما في قواه.
وهذه الشخصية التي رسمها أبو نصر ليست شخصية خيالية كما يتوقع البعض، وإنما هي متأبية على الكثرة لا ترى في الكون من هذه الشخصية إلا الواحد بعد الواحد.
فإذا وجدت هذه الشخصية في المدينة أو الأمة أو المجتمع الكبير كانت أولى بالقيادة وأجدر بالزعامة.
أما إذا لم توجد هذه الشخصية على هذا النمو المتكامل ، فليتولى الزعامة والقيادة شخصية أخرى تلي هذه الشخصية في الشرف والقدر.
ويشترط في هذه الشخصية التالية التي ستشغل المكانة الشاغرة أن تمر بها هذه الصفات جميعها الذي اشترطت في شخصية القائد السالف الذكر، وكل ما يتنازل عنه الفارابي هنا هو أنه لا يشترط اجتماع هذه الخصال في وقت القيادة على القائد الثاني كما فعل بالنسبة للقائد الأول، غير أنه يتمسك بست خصال لابد من اجتماعها على القائد الثاني، بحيث لا يصلح للقيادة إن غاب واحد منها، فالقائد لابد أن يكون حكيما، ولابد أن تكون لديه قدرة على استيعاب الشريعة أو الشرائع التي كانت للقائد أو الزعيم قبله بحيث يكون قائدا أو زعيما قد اكتملت فيه شرائط القيادة والزعامة، وأن يطبق هذه الشريعة على مدينته محذيا حذو واضعها، ويشترط كذلك أن تكون لديه قوة الاجتهاد والاستنباط في الأمور التي لا يجد فيها تشريعا عند من سبقوه بشرط أن يحذي في ذلك حذو الأئمة المجتهدين في تلك الشريعة، وقد يقف الحاكم الجديد على أمور جديدة في المجتمع كل الجدة، ولابد أن يكون لديه قوة استنباط الحكم السريع آخذا في الاعتبار مصالح الناس، وتحقيق سعادتهم، ولا يكفي أن يستنبط الحكم وأن يجتهد في استنباطه مقيسا على ما سبقه، أو مأخوذا من الشرائع التي سبقته، وإنما لابد أن تكون لديه قوة بيان وفصاحة بحيث يستطيع أن يوجه الناس إلى شرائع الأسلاف وطرائق الآباء والأجداد حتى يملك قيادهم ويوجههم إلى الهدف العام بعد اقناع يسهل عليه ذلك القيادة، والمجتمع لا يظل دائما ساكنا بل قد يدوس على عرينه عدو أو مهاجم أو مشاكس، ولا يكفي في هذه الحال أن يملك الرئيس قوة إصدار قرار خوض المعارك ونزول ساحات القتال، بل لابد أن يكون خبيرا بالحرب قويا على القتال بصيرا بفنونه وأساليبه غير هياب إذا دعته القدرة أن يكون أماما في ميدان القتال.
والمتأمل في نموذج القيادة الأول بشرائطه ومقعد السيادة الثاني بقيوده ومؤهلاته، يستطيع أن يفهم بلا شك أن القائد الأول لا يكون إلا نبي ، وأن القائد الثاني بالضرورة متبع لذلك النبي.
ومن هنا يندفع وهم علمي قد وقع فيه المستشرق الفرنسي المعاصر الأستاذ"أنديز" حين ألقى محاضرته وذهب إلى أن الحكيم مستمر الاتصال بالسماء، وأن نور الوحي لم ينقطع بعد في رأى الفارابي.
إن القادة بعد الأنبياء متبعون وليسوا بمبتدعين عند الفارابي، فهم يتبعون الأنبياء فيما لا يحتاج إلى تأويل ولا جدل، وهم يقيسون على شريعة الأنبياء فعلا يشابه فعلا وقع في زمانهم في نفس الظروف والعلة، وهو يضيف إلى ذلك مراعاة مصالح الأمة أو الجماعة في إطار الهدف العام عندما يكون هناك موقف ليس له نص صريح، ولا موقف مشابه في العلة فلا مفر من الاحتكام إلى المصلحة العامة.
وهذه الزعامة ومعقد السيادة في مدينة أبي نصر الفاضلة تشبه معقد السيادة في الإسلام شبها لا نشك فيه، وإن كنا نخالف أبا نصر في تصوراته لنظرية النبوة وكيفية الوحى، وصعود الزعيم إلى مكان القيادة.
السلطة التشريعية والقيادة :
عندما نصل مع الفارابي إلى قضية العلاقة بين التشريع والقيادة نجدنا مع الفارابي أمام نقطة قد أغنى فيها برأى هو له قدم صدق، وحل تحليلات أجاد في مبدئها العام وأخطأ في التفصيلات ونحن نقدر الرجل حين يصيب، ونلتمس له العذر حين يخطئ "فكل ابن آدم خطاء " وهذه القضية التي يتصدى لها الفارابي قضية شائكة منذ عصر اليونان إلى اليوم، فمن الذي يتصدى إلى التشريع هل هو القائد ؟ أم الأمة ؟ أم شئ آخر تستورده الأمة من خارج البلاد ؟ أم سنلجأ إلى حل السماء ؟ .
إنك لو استعرضت التاريخ السياسي والاجتماع للبشرية لتفحص نظرياتهم في هذه القضية ، لن تجد خروجا على هذه الاحتياجات السالفة الذكر.
أما أبو نصر فإنه يشك في صلاحية الأمة للتشريع كما لا يسلم بإمكانات القائد ومعقد السيادة في هذا المجال، لأن الأمة أفرادا وجماعات لا تخلو من النقص البشري، ولا من الميل الشخصي، ولا من الهوى والرغبة ، وكل هذه أمور تقدح في نزاهة القانون، وتقض مضجع العدالة فيه.
ولذا فهو يلجأ في هذه القضية كلها إلى السماء وعدالة الشرائع الإلهية، إنه يرى حتمية هذا الحل الذي يطلق عليه الفلاسفة الحل المتيافيزيقي وترفضه الوضعية الاجتماعية، ويحبذه الكثرة من الاجتماعيين وأصحاب النظريات، ويقف إلى جواره بحزم أصحاب الأديان ورجال التنسك.
إن الفارابي حين يلجأ إلى شرائع السماء لحل معضلة العلاقة بين التشريع والسيادة في الأمة يكون قد عبر عن رغبة في نفسه تفرض عليه أن يتخطى حواجز الزمن والوطن ليأخذ بنصيب وافر من احتلال مكانة علمية في كل زمن، وفي كل وطن.
فنظريته على هذا النحو وإلى الآن واقعية ميدانية بعيدة كل البعد عن مجال الخيال أو التحليق في سماء الوهم.
إن القائد المتكامل عنده هو النبي، وإن النبوة تعني الاتصال بالسماء.
أما كيفية الاتصال، وكيفية الوحي والتقريب بين العقول والملائكة، فتلك أمور نعتبرها خارجة عن نطاق النظرية السياسية ، فليس للنظرية السياسية منها إلا بمقدار الفتوى في قضية التشريع والقيادة.
نقول هذا لكي نضع الأمور في وضعها الصحيح، فإننا عندما كنا نستمع إلى النظرية السياسية عند الفارابي من الأستاذ "أنديز" وجدناه قد ركز على نظرية النبوة، وشرح كيفية الوحى والعلاقة بين العقول والملائكة، ومدى الربط بين فكر أبي نصر، ونظرية المثل عند أفلاطون إلى غير ذلك من القضايا المتصلة بالفكر الميتافيزيقي عند الفارابي، ورأى أن هذه النظرية الميتافيزيقية هي النظرية السياسية كما يرسمها الفارابي.
ولو كان الأمر كذلك لصغر الفارابي في فكره، وانحصر عن المكانة العلمية التي سجلها التاريخ له، فرأيت إحقاقا للحق أن أضع النظرية من هذا الجانب الذي تتكامل فيه الأفكار، وتمتزج فيه التجارب عند أبي نصر فتتضح لنا مدينة تكتمل تشريعا وقيادة وعلما وعملا وأخلاقا وسلوكا.
ويتضح لنا كاتبها كرجل واقعي النظرة أسهم بجهد وافر في خدمة الإنسانية كعالم لا يقل عن متقدمي واضعي السياسة والاجتماع.
هدف المدينة الفاضلة :
ويرتبط هدف المدينة الفاضلة عند الفارابي بنظرته إلى الإنسان وإلى ما يسعده ويريحه ، ولما كانت العقيدة الخاصة بالفارابي تعتبر الإنسان يعيش مرحلتين يعيش في الدنيا ويعيش في الآخرة، فإنه لذلك يعتبر هدف المدينة الفاضلة هدفا مزدوجا بحيث يوفر الراحة للإنسان في الدنيا، ويوفر له السعادة في الآخرة، إنه يوفر له الراحة في الدنيا إذا حصل الانسجام الاجتماعي وتوفر الجو الملائم لتبادل المنافع وتعاور الحاجات، وتحص ل السعادة في الآخرة إذا بصر الأفراد بأوامر الأول وما يطلب منهم تجاههم سواء في شكل عبادات أو معاملات أو سلوك وأفعال أو في الفكر والاعتقاد.
وعلى أساس من هذا الهدف المودوج تجد المدينة الفاضلة التي كتبها الفارابي تتضمن الحديث عن مشكلة الألوهية ، وعن مشكلة النبوة، وعن نظرية الفارابي في النفس، وعن النظرية الاجتماعية والنظرية السياسية .
كلمة قبل الختام :
وينبغي بعد أن اتضح الأمر على هذا النحو أن نهيب بالمفكرين أن لا يخلطوا نظرية بأخرى، وأن يستبدلوا فكرة بسواها، وأن يضعوا كل نظرية وضعا مستقلا ثم يحددوا صلتها بالنظريات الأخرى بشرط أن يكون ذلك مفهوما بأنه بيان لصلة بين نظريتين.
وإني أعتب على رجل يتصدى إلى نظرية معينة ثم يضع مكانها نظرية أخرى يعتبرها أصل يعول عليه في شرح نظريته الأولى.
فليست نظرية النبوة مثلا هي النظرية السياسية عند الفارابي، وإن كانت تتصل بها في بعض جوانبها، وليست النظرية السياسية عند الفارابي برمتها فكرة ميتافيزيقية لا صلة لها بالواقع المحسوس.
على أني أقول: أن النظرية السياسية عند الفارابي كما شرحتها يمكن أن أسجل عليها ملاحظتين هامتين:
الملاحظة الأولى: أنها قد وردت في آخر كتب الفارابي على الاطلاق كما ذهب إلى ذلك المحققون.
الملاحظة الثانية : أن النظرية بوضعها هذا تقرب إلى حد كبير (ولا أقول أنها تشابه النظرية الإسلامية من جميع جوانبها ) من النظرية الإسلامية في السياسة وإن كانت تقصر عنها في بعض الجوانب.
أما النظرية السياسية إذا فهمت عند الفارابي فهما ميتافيزيقيا أو خياليا فإنه يمكن أن نسجل عليها ملاحظات : أولا: أنها ليست من فكر الفارابي وإنما هي استنتاج من فكره غير صحيح . ثانيا: أنها بعيدة عن الفكر الإسلامي كل البعد. ثالثا: أنها تكون مدينة خيالية لا يمكن تطبيقها على الواقع العملي ـ رحم الله أبا نصر فلقد تعدى حدود الزمان والمكان ليأخذ بنصيب وافر من كل زمان ومكان.