«الرحلة» من الأفلام العراقية الحديثة، لذا يعتبر بارقة أمل للسينما العراقية في أن تنفض عن نفسها غبار الركود والاستسلام للأمر الواقع وتنطلق من جديد. يتناول الفيلم مسألة العنف والإرهاب، الذي مزّق النسيج الاجتماعي، ودمّر البنية التحتية للمجتمع وأغرقه في بحر من الدماء، إضافة إلى تفشي ظاهرة الأحزمة الناسفة، والتي يلبسها مجموعة من الوحوش البشرية، التي تريد أن تجتث جذوة الحياة، بحجة مقاومة الاحتلال. الفيلم من إخراج محمد الدراجي.
الحكاية
امرأة شابة تسير بخطوات ثقيلة وغير مترددة وبملامح حجرية، وتدخل بناية المحطة الرئيسية للسكك الحديدية في بغداد، والتي يُعاد تأهيلها بعد توقفها لسنوات عديدة.
المحطة في تلك اللحظة تعج بالمسافرين والحرس والموظفين وعمال النظافة، كما تحتضن فرقة موسيقية تحتفل بإعادة تأهيل المحطة، والعمل بإعادة تسيير أول قطار إلى البصرة. وفي هذه اللحظة المشحونة بضجيج الموسيقى. وحركة السفر وخشية الحرس والشرطة من عملية تفجير، تدخل (سارة) إلى الصالة الرئيسية، بنظرات زائغة وبخطوات حائرة، وكأنها تنتظر لحظة الذروة لتفجر نفسها مع الجميع. وفي تلك اللحظة يصادفها شابٌ اسمه (سلام) يحاول مغازلتها وإغواءها. وحينما تحاول التملص منه، يحاصرها فتضربه بقوة وتضع في جيبه حشوة متفجرة وتمسك بمفاتيحها، مما جعله ينقاد إليها وكأنه أسير تحت سيطرتها المطلقة. وحينما تذهب به إلى القطار الذي يهم بالسفر، يهرب منها ولكنها تقبض عليه بشدة بعد سقوطه على الحصى، فينقاد لها وهو تحت ألم السقوط ــ مع ملاحظة أنّ القوة الجسدية التي توفرت لسارة وسيطرتها العضلية على الشاب سلام، لم تكن مقنعة، فلو كانت السيطرة عن طريق إغوائه لكانت أكثر منطقية ــ وفي هذه اللحظة تأتي امرأة هاربة من انفجار في مكان ما من المحطة، فترمي على سلام حقيبة يكتشف أنّها تحتوي على طفلة رضيعة. وعنذاك يأتي بعض جنود المارينز. ويقومون باستجواب المرأة التي تركت الطفلة، فتجد الانتحارية سارة نفسها تقوم بالترجمة بين المارينز الغاضبين، والذين يشكّون في كل حركة، وبين المرأة التي تخلصت من طفلتها نتاج العلاقة غير الشرعية.
ملامح إنسانية
الانتحارية سارة كانت لديها فرصة لتنفيذ حالة التفجير. ولكنّها تناست مهمتها وانخرطت تحت وطأة ظرف غير متوقع، وهو وجود الطفلة بين يدي سلام. ومع أنّ سارة أرادت التخلص من الطفلة بأيّة وسيلة، لأنّ وجودها يتعارض مع مهمتها، ولكنّ سلام يتشبث بالطفلة. بعد ذلك تجد نفسها وقد تخلت عن مهمتها الانتحارية والإرهابية. ولكنّ الحزام الناسف يظل مطوقا خصرها دون أن تستطيع التخلص منه، ولا سلام يعرف تقنية ابطال مفعول التفجير.
أطياف المجتمع
رغم أن الفيلم يتناول قضية الإرهاب، لكنّه تعرض إلى الكثير من المعضلات والمشاكل التي تغلغلت في جسد المجتمع العراقي، فجعلته أشبه بمحطة قطار مهجورة حيث العربات المنسية والمتآكلة وغير العاملة، والسكك الحديدية التي تحولت إلى ما يُشبه مكبات النفايات، من حيث تراكم الأتربة والأزبال والمخلفات الأخرى.
أبطال الفيلم جميعا على حافة القهر واليأس، ابتداءً من سارة والتي قامت بدورها الممثلة زهراء غندور، والتي تمثّل دور الانتحارية مسلوبة الإرادة، فثمة قوى غير مرئية فخخوا جسدها الفتي بالمتفجرات المميتة، ولكنهم قبل ذلك فخخوا عقلها وسلوكها ومشاعرها بسلاح الكراهية، لذلك فقد كانت أشبه بالروبوت الذي يتم السيطرة عليه عن بعد، أما الشاب سلام والذي يقوم بدوره الفنان أمير جبارة، فيمثل الوجه الآخر لها، فهو من شريحة الشباب الضائع والذي تحوّل إلى إنسان مشوّه القيم، يتاجر بكل شيء: السمسرة والتزوير وبيع الأعضاء الصناعية، والدجل واغتنام الفرص، لا يتورع عن استخدام أحط العبارات البذيئة التي تعبر عن سوقيته، فهو نتاج سنوات الحصار التي سبقت الغزو، حيث شاع التصحر المعرفي وانتشرت الأمية لجيله. أما الطفلان بائعة الورد وماسح الأحذية، فيمثلان الطفولة التي فتحت عيونها على الفاقة والفقر والقسوة والحرمان، أطفال الشوارع الذين وجدوا أنفسهم على أرصفة البؤس، وفي أحزمة الحرمان التي تطوّق المدن. هؤلاء الأطفال الذين فقدوا طفولتهم وجزءا من إنسانيتهم، وظلوا يصارعون من أجل البقاء، فما أن يحصلوا على بعض المال من عمل أشبه بالتسوّل، حتى تأتي عصابة أطفال لتعتدي عليهم، وتستولي على ما حصلوا عليه في يومهم. إنها شريعة القــــوّة والبطــــش واليأس، تلك التي عبرت عنها الطفلة بائعة الورد بسحق بضاعتها احتجاجا على القسوة، حينما عاملتها سارة بقسوة. كذلك عازف الموسيقى والمغني يعبر عن شريحة اجتماعية شاخت وانهارت قواها، وهي تقضي شبابها بين الأسر والحرب، وهاهو عاطل عن العمل لا يستطيع أن يلبي وعده لحبيبته التي انتظرته كلّ هذه السنوات.
لقد كانت المحطة صورة للوطن في أغلب تعبيراته، فالبناء المعماري لهذه المحطة قد رافق نشوء الدولة العراقية، حيث تم بناء الحجر الأساس لها بعد أن تأسست الدولة، ولكنها بدأت العمل عام 1948، ولكنها أهملت بفعل الحروب والحصار، ثم نُهبت وخربت وعاثت بها يد الخراب والتدمير بعد الغزو الأمريكي، وها هي المحطة تولد من جديد بعد إعادة تأهيلها وافتتاحها في اول أيام عيد الأضحى من عام 2006. تتجسد المحطة كفضاء شامل يحتضن شرائح مختلفة من الناس، كالعابرين والمسافرين، والذين يتسكعون على أرصفتها، كما تضمّ العمال والموظفين والشرطة والكسبة، وأطفال الشوارع واللصوص والمزورين والباحثين عن الفرص الطارئة. كما تضم توابيت الموت للشـــهداء وذويــهم المفجوعين، في ظل الأغاني التي تحتفل بالمناسبة. ولكنّ الفرقة تغني بحزن، وكأنها تعبر عن حالة اللوعة التي تخيم على روح المكان.
الفكرة وتقنياتها
أظهر الفيلم بأنه من الممكن إنهاء الإرهاب، بواسطة اجتثاث مسبباته والظروف التي تساهم في خلقه. وذلك باشاعة العدل الاجتماعي والمساواة.
لقد كان تخلي سارة عن تفجير نفسها، ورفضها الانقياد بالقوى التي أجبرتها على فعلها، لهو انتصار لقيم الحياة التي أراد الفيلم أن يؤكدها. كما أكدت التجربة الحادة التي مرّ بها سلام قد حولته من شخص انتهازي تافه، إلى شخص آخر، يؤمن بقيم الحياة العالية.
أما من الناحية الفنية فقد كان فيلم الرحلة منعطفا في بناء أسس جديدة لسينما عراقية متميزة على صعيد التقنية الحِرفية في التصوير وهندسة الصوت والاضاءة. أما استخدام الشتائم السوقية، بما فيها من ابتذال، فيعبر عن واقعــــية الفيلم، فهو يعكس الواقع كما هو، الواقع الذي تعيشه هذه الطبقات المتعبة، دون محاولة تشويهه بالفاظ مهذبة. إنها الواقعية في حدتها وصدقها وقوّتها التعبيرية