الإصلاحات الاقتصاديَّة والماليَّة في العراق: جدليَّة الربح والخسارة
الجزء الثاني
سعد داود قرياقوس
تناولنا في القسم الأوَّل من المقال الذي نشرته "إيلاف" مشكورة الأبعاد الخطرة للتسهيلات التي قدَّمتها سلطات الاحتلال للمستثمرين الأجانب في العراق كجزء من التغيرات الهيكليَّة التي تخطِّط السلطات القيام بها لتغيير ملامح العراق الوطنيَّة وتركيبتية الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة.
استندنا في تحليلنا التسهيلات المذكورة على تصريحات وزير الماليَّة العراقي والمسؤولين الأمريكيِّين المشاركين في الندوة التي نظَّمها صندوق النقد الدولي في دبي مؤخَّرًا. لقد أثارت الأفكار التي أوردتها تلك التصريحات ردود أفعال سلبيَّة على الصعيدين الوطني والعالمي. ويبدو أنَّ هذه المواقف النقديَّة دفعت سلطات الاحتلال لإعادة النظر في بعض تصوُّراتها، فتجنَّب الأمر الإداري (39) الصادر عن سلطة الاحتلال "التحالف" في التاسع عشر من سبتمبر (أيلول) تحديد نسبة ضريبة الدخل والضريبة المفروضة على أرباح الشركات العراقيَّة والأجنبيَّة التي سبق أن حدَّدها الوزير والمستشارون الأمريكيُّون بـ15%.
سنحاول في هذا القسم "الثاني" تقديم عرضٍ نقديٍّ لأهمِّ فقرات "الفرمان الاستثماري" مستندين على النص الرسمي للأمر الإداري (39)، وتسليط الضوء على الجوانب الخطرة وأبعادها الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة. وسنطرح بعض التساؤلات المشروعة عن الدوافع الحقيقيَّة لإصداره. أشرنا في القسم الأوَّل إلى أنَّ المقال سيتكَّون من قسمين، إلاَّ أنَّ أهميَّة الموضوع وخطورة القرار الجديد وتزامن صدوره مع عرض بعض المسؤولين الاقتصاديِّين العراقيِّين تصوراتهم عن أهميَّة الاستثمار الأجنبي، وعن الملامح المستقبليَّة للاقتصاد العراقي، استوجبت عرضًا أشمل، وبالتالي الحاجة إلى قسم ثالث.
تتيح قراءة متمعِّنة لفقرات هذا الأمر للقاري ملاحظة فجوات وبنود غير متوازنة وإجحافٍ كبيرٍ للمستثمر والمستهلك العراقي. وألاهم ملاحظة خطورة التسهيلات الاستثماريَّة المقدَّمة للأجانب على الأمن الاقتصادي للعراق وسيادته الوطنيَّة.
1. تبيِّن المادَّة (2) الأسباب الموجبة لإصدارالامر الاستثماري الجديد تناقضًا ومغالطة واضحة. فالفقرة تنصُّ على أنَّ الهدف الأساس لإصداره يتمثَّل في "تشجيع وحماية رفاه ومصلحة العراق العامَّة عن طريق تشجيع الاستثمار الأجنبي من خلال حماية حقوق وملكيَّة المستثمرين الأجانب في العراق....." إلاَّ أنَّ تحليل فقراته تعكس بشكل جليٍّ تركيزه على حماية حقوق المستثمر الأجنبي وإخلالاً بحقوق الجانب العراقي باستثناء بعض الفقرات التي وفَّرت حماية جزئيَّة، إلاَّ أنَّها تضمَّنت في الوقت نفسه ثغرات تسمح للالتفاف حولها وإبطال مفعولها.
2. تمنح المادَّة (4) المستثمر الأجنبي الحقَّ في إقامة استثمارات أجنبيَّة في العراق بدون سقف استثماري، وبشروط تفضيليَّة لا تقلُّ عن تلك الممنوحة للمستثمر العراقي. الإشكال في هذه المادَّ يكمن في المساواة غير العادلة وغير المتكافئة بين حقوق المواطنين العراقيِّين وحقوق المستثمرين الأجانب بشكل يضع المستثمر العراقي في موقع تنافسي ضعيف. إنَّ لجميع الدول الصناعيَّة بما فيها الولايات المتَّحدة مؤسَّسات مالية متخصِّصة في تقديم إعانات وتسهيلات ائتمانيَّة لشركاتها الوطنيَّة لدعم موقعها التنافسي وزيادة حصصها التسويقيَّة. هذه الإعانات مصحوبة بالقدرات الماليَّة والتقنيَّة للشركات الأجنبيَّة يقابلها عدم توفُّر مثل هذه البرامج الداعمة في العراق تضع المستثمر العراقي في موضع تنافسي ضعيف، إن لم تدفعه لمغادرة السوق كليًّا!
الغريب، أنَّ الإدارة الأمريكيَّة، الجهة المشرِّعة للأمر الإداري الجديد لا تطبِّق معايير المساواة بين المستثمر الأجنبي والمنتج الأمريكي، بل على العكس تمامًا. فهي في دأب مستمر لحماية المنتج المحلِّي الأمريكي عن طريق خلق العوائق التجاريَّة ورفع نسب التعريفة الجمركيَّة وتعقيد الشروط والمقاييس ورفع نسب الضرائب المفروضة على الاستثمارات الأجنبيَّة.
3. نصَّت الفقرة (2) من المادَّة (6) على حقِّ المستثمر الأجنبي في إقامة المشاريع الاستثماريَّة في كافَّة أنحاء العراق بدون أيَّة ضوابط أو محدِّدات جغرافيَّة. هذه الحريَّة المطلقة في اختيار الموقع الاستثماري قد تفرز مستقبلاً تبعات وإشكالات اجتماعيَّة وسياسيَّة، لا بل قد تشكِّل انتهاكًا لأعراف وتقاليد عربيَّة وإسلاميَّة متعارف عليها! فاستنادًا إلى هذه الفقرة، قد ترتئي الاستثمارات الأجنبيَّة ومن ضمنها الإسرائيليَّة على سبيل المثال، إنشاء مشاريع ترفيهيَّة أو مصانع لإنتاج المشروبات الكحوليَّة في إحدى مدن العراق المقدَّسة، ومع ذلك، لا يتمكَّن العراق قانونيًّا من منع ذلك!
4. عرَّضت فقرات المادَّة (7) العراق لكلَّ إشكال الاستباحة الاقتصاديَّة. وهي تشكِّل إلى جانب فقرات المادَّة (
أخطر ما ورد في هذا "الفرمان الاستثماري". استنادًا إلى فقرات هذه المادَّة، فإنَّ للمستثمر الأجنبي حريَّة التحويل الخارجي الفوري لأرصدة العملات الأجنبيَّة والعراقيَّة الناتجة عن استثماراته ومن ضمنها الأرباح والأسهم والسندات ومردودات البيع وعوائد تصفية المشاريع وتحويل الملكيَّة والفوائد ومدفوعات العمالة والأجور الإداريَّة، بالإضافة إلى إمكانيَّة التحويل لأسباب أخرى بموافقة وزارة التجارة.
من الواضح أنَّ الهدف من منح هذه التسهيلات الماليَّة تشجيع تدفُّق رأس المال والاستثمار الأجنبي إلى العراق ولا سيَّما في ظلِّ عجز المصادر الوطنيَّة عن توفير رأس المال اللازم لعمليَّة النهوض الاقتصادي. ومن هنا، فإنَّ الاستثمارات الأجنبيَّة قد تكون البديل الطبيعي لتغطية الطلب الاستثماري وباستطاعتها "ضمن شروط معيَّنة" أن تلعب دورًا إيجابيًّا في دفع عجلة نموِّ الاقتصاد العراقي. إلاَّ أنَّ ذلك لا يبرِّر التفريط بالمصالح الوطنيَّة الثابتة لتغطيَّة فجوات استثماريَّة آنيَّة.
إنَّ السماح المطلق للاستثمارات الأجنبيَّة بتحويل أرباحها بدون أيَّة ضوابط أو جدولة سيحرم الاقتصاد العراقي من فوائد تراكم رأس المال الضروري للنمو الاقتصادي. فالقانون الجديد لا يتضمَّن أيَّة محفِّزات تشجِّع المستثمر الأجنبي لإعادة تدوير الأرباح المتحقِّقة من نشاطاته الاستثماريَّة داخل العراق.
إنَّ أخطر أبعاد هذا القانون الاستثماري الذي يفتح أبواب العراق للمستثمرين والمضاربين الأجانب تتمثَّل في إمكانيَّة تحويل العراق إلى مركز عالميٍّ لعمليَّات غسيل الأموال "تبيض الأموال"! فحريَّة الاستثمارات الأجنبيَّة المطلقة وحريَّة التحويل الخارجي وإنشاء المصارف الأجنبيَّة وفقدان الرقابة الماليَّة على نشاطات المصارف الأجنبيَّة من جرَّاء إلغاء سلطة البنك المركزي العراقي على مراقبة المصارف وفقًا لقانون البنك الجديد المزمع إعلانه قريبًا، ستساعد مجتمعة على جعل العراق مرتعًا لعمليَّات غسيل الأموال.
5. توحي فقرات المادَّة (
بحرص المشرِّع على حماية مصالح العراق. إلاَّ أنَّها في تقديري أكثر فقرات الأمر الإداري خطورة على مصالح العراق وسيادته. الفقرة (1) تتضمَّن عبارة: "بعد التاريخ الذي يلي هذا الأمر، لا يُسمح للمستثمرين الأجانب، وتحت أيَّة ظروف شراء حقوق التصرُّف والانتفاع من العقارات الخاصَّة.."
بشكل عام، فإنَّ الفقرة أعلاه توحي بعدم السماح للمستثمر الأجنبي حيازة أصول عقاريَّة. إلاَّ أنَّ فحصًّا دقيقًا للفقرة، يفرز النقطتين التاليتين:
ا. من المبادئ المتعارف عليها أنَّ القوانين والتشريعات لا تتضمَّن عبارات لا دلالة لها. ورود عبارة: "بعد تاريخ توقيع الأمر"، يمكن تفسيرها بأنَّ إجراءات تحويل الملكيَّة الحاصلة قبل تاريخ نفاذ الأمر الإداري في 19/9/2003، مستثنية من أحكام هذا الأمر. المسلَّم به أنَّ القوانين العراقيَّة لم تسمح لغاية يوم 9/4/2003، بالملكيَّة الأجنبيَّة على الإطلاق. فما هي الصفقات غير المشمولة بهذا الأمر الإداري؟ ومن هم الباعة والمشترون؟ والأهم، من هم سماسرة تلك الصفقات؟ وأيَّة أراضٍ بيعت ولمن؟ أسئلة مشروعة، إلاَّ أنَّنا لا نتوقَّع ردًّا عليها.
ب. الفقرة أعلاه تشير أيضًا بغموض إلى حصر المنع بعقارات الملكيَّة الخاصَّة. والسؤال، هل تسري أحكام المادَّة على الملكيَّة العامَّة، أو ما يطلق عليها في العراق: "الأراضي الأميريَّة"؟
أتاحت الفقرة (2) المادَّة (
للمستثمر الأجنبي حقَّ استئجار الأصول العقاريَّة لمدَّة لا تتجاوز أربعين عامًا قابلة للتمديد. وتوحي هذه الفقرة أيضًا بحرص المشرِّع على حماية الممتلكات العقاريَّة من الاستحواذ الأجنبي! إلاَّ أنَّها قد تشكِّل التفافًا ذكيًّا وخبيثًا على استثناء قطاع المعادن، ومنها النفط من الملكيَّة الأجنبيَّة المنصوص عليها في فقرة (1) من المادَّة (6). فباستطاعة المستثمر الأجنبي استئجار أصول عقاريَّة ولآجال طويلة في مناطق ذي قيمة اقتصاديَّة كتلك التي تتواجد فيها كميَّات تجاريَّة من النفط أو المعادن الأخرى. ومن ثمَّ استثمار هذه الأراضي وإعادة بيعها إلى العراق بمبالغ باهظة.
إنَّ الأمر الإداري موضوع البحث لا يتضمَّن آليَّة تعالج هذه الفجوة، لذا، لحماية حقوق العراق الوطنيَّة، يتطلَّب الأمر معالجتها بعدم السماح للاستثمارات الأجنبيَّة استئجار الأراضي الواقعة ضمن الخارطة الجيولوجيَّة- النفطيَّة للعراق، وأن يتضمَّن قانون الاستثمار مواد قانونيَّة تتيح للجانب العراقي إلغاء عقود الاستئجار في حال اكتشاف النفط أو أيَّة ثروة معدنيَّة فيها، وكذلك أن تتضمَّن عقود الاستئجار فقرة واضحة تمنح المستأجر حقَّ استخدام ظاهر العقار "الأرض" وليس ما في باطنها كما هو العرف السائد في معظم الدول.
6. إنَّ جميع التشريعات الاقتصاديَّة تأخذ في الاعتبار تأثيراتها المباشرة وغير المباشرة في جميع القطاعات والوحدات الاقتصاديَّة. والأهم، دراسة تأثيرها في الطبقة العاملة، الشريحة الاجتماعيَّة الأكبر في أيِّ بلد بما فيه العراق. إلاَّ أنَّ هذا الأمر الإداري يخلو تمامًا من أيَّة ضوابط تحمي العمالة العراقيَّة وتضمن مستوى معاشي جيِّد للفرد العراقي.
7. إنَّ آليَّة حسم النزاعات المنصوص عليها في المادَّة (10) لا تتضمَّن أيَّة ضوابط أو أسس ثابتة لحسم الخلافات المستقبليَّة بين الجانبين العراقي والأجنبي، بل إنَّ النص الوارد يتَّسم بالغموض، ويشير بشكل عام إلى إمكانيَّة لجوء الطرفين إلى أيَّة اتفاقيَّة تعالج مسألة النزاع بين الأطراف، كما تمنح هذه المادَّة الطرفين حقَّ اختيار أيَّة اتفاقيَّة تعالج آليَّة التسوية في القانون العراقي دون تحديد.
هذه المعالجة الناقصة لا تضمن حقوق الطرف العراقي في ظل الفجوة الكبيرة بين إمكانيَّات الطرفين وتعقيدات القوانين الدوليَّة التي صيغت أصلاً من الدول الصناعيَّة الكبرى لحماية مصالحها. كما أنَّ العراق في ظلِّ غياب المؤسَّسات وإلغاء القوانين الوطنيَّة ليس في وضع يتيح له التفاوض مع الشركات الأمريكيَّة بقدراتها الفنيَّة والقانونيَّة المعروفة، وبالتالي حماية مصالحه الوطنيَّة. إنَّ توقيت إصدار هذا القانون والارتجال الواضح في إعداده سيؤدَّيان إلى خسارة العراق مكاسب اقتصاديَّة كبيرة.
8. لا يتضمَّن الأمر الإداري ما يشير إلى ربط الاستثمارات الأجنبيَّة بمتطلَّبات التنمية الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة للعراق. حالة عدم الارتباط هذه قد تؤدَّي إلى قيام ثنائيَّة اقتصاديَّة ونشوء صناعات ونشاطات لأغراض لا علاقة لها بالاقتصاد الوطني، بل لخدمة الأهداف الربحيَّة للمستثمرين الأجانب.
إنَّ الفجوات والمخاطر المشار إليها أعلاه، تسمح لنا اعتبار التسهيلات الواردة في الأمر الإداري 39 الخاص بالاستثمارات الأجنبيَّة تفريطًا بمصالح العراق وثرواته الماديَّة والبشريَّة، وأنَّ هذا القرار المجحف يدفع العراق قسرًا لمجزرة الاستثمارات الأجنبيَّة، ويقود الاقتصاد العراقي إلى مطبَّات واختناقات ستعمِّق اختلالاته الهيكليَّة. إخضاع بنود هذا القرار الارتجالي وفقراته للتحليل المالي والاقتصادي والسياسي الموضوعي، سيؤكِّد كونه صفقة خاسرة للعراق. صفقة سيتمتَّع بأرباحها المستثمرون الأمريكيُّون ووكلاؤهم العراقيًّون، وسيعاني من خسائرها شعبنا المحتل وأجياله القادمة. المطلوب من العراقيِّين جميعًا، مهما تقاطعت مواقفهم السياسيَّة أو تباعدت، رفض هذا القرار المشبوه. قرار بيع العراق الوطن والهويَّة.