بيروت بين انفجاري 2005 و2020: قراءة في الظروف والتداعيات
لن أبدأ مقالتي برثاء بيروت التي عودتنا أن تنهض دائماً من تحت الركام , كما أنني لست بصدد البحث عن الفاعل أو الجهة التي تقف وراء هذا الانفجار سواء بشكل مباشر أو غير مباشر , و لكنني سأحاول استقراء الظروف والتداعيات السياسية و مقارنتها بانفجارات 2005 و اغتيال رفيق الحريري , ففي الحالتين نحن أمام زلزال سياسي بدأت ملامحه الأولى بالظهور عقب زيارة الرئيس الفرنسي ماكرون ( و يبدو انه له من اسمه نصيب ) إلى بيروت و تصريحاته و تهديداته. ان سلوك ماكرون المستفز و المهين لا يختلف من حيث الشكل و لا المضمون عن سلوك و خطابات و تغريدات ترامب تجاه المنطقة العربية . ان فرنسا الماكرونية تحاول إعادة مد يدها من جديد إلى منطقة البحر المتوسط ( مجالها الحيوي لعدة اعتبارات اقتصادية و استراتيجية ) من خلالها تدخلها القوي و المناكف لتركيا في ليبيا و الآن في لبنان.
في البداية ونحن نتابع زيارة ماكرون شعرنا – كعرب و لبنانيين – بحالة من الإحباط و الذل , نعم كنا نعرف بل و مدركين تماماً – ومنذ البداية – ان استقلال الدول العربية بعد الحرب العالمية الثانية هو استقلال منقوص, و لم يخرج عن اطار إعادة ترتيبات وتوازنات و حسابات داخلية و خارجية للدول الاستعمارية الكبرى في منطقتنا العربية , و هو عبارة عن إعادة انتشار و تموضع و استبدال الهيمنة و الاستعمار المباشر بغير المباشر, و إلا كيف سنقنع أنفسنا ان الدول العربية التي استقلت عن- أي هزمت – بريطانيا وفرنسا عام 1945 و 1946, عجزت عن هزيمة إسرائيل عام 1948 التي هي وليدة و صنيعة هذه الدول ؟ و كيف لدول نالت استقلالها من خلال مفاوضات أو من خلال قرار صادر عن الأمم المتحدة من دون تقديم تضحيات, أو حتى وجود حركات تحرر لديها أن نسميها مستقلة .
ان سلوك فرنسا الماكرونية في لبنان بعد انفجار مرفأ بيروت ( بيروتشيما ) ليؤكد على تلك الحقيقة , حيث يقف المندوب السامي الفرنسي ماكرون ليعقد مؤتمره الصحفي و حيداً في بيروت , متجاوزاً أدنى حدود اللباقة و البروتوكول مهدداً حيناً و عازفاً على أوتار الإنسانية حيناً آخر . إن هذا السلوك ما هو إلا تجسيد لهذه النظرة الاستعمارية الاستعلائية , و ما تجاوب و انفعال شريحة من الشعب اللبناني مع هذا المستعمر, إلا استفزاز للمشاعر الوطنية و القومية , و لكننا في الوقت ذاته نراهن على الجزء الحي النابض بالكرامة و الوطنية و العروبة من باقي المجتمع اللبناني, ذلك الشعب الذي ضرب أعلى درجات الانسجام و التناغم مع جيشه و مقاومته محققاً انتصاراً عسكرياً على إسرائيل و ردعاً و توازناً حقيقياً معها . كما ان هذا الشعب هو الذي رفض الهيمنة و الوصاية الغربية الفرنسية و الأمريكية والتي حاولت النفاذ إلى القرار السياسي اللبناني من بوابة الاقتصاد ( التجويع للتركيع ) حيناً , ومن البوابة الإنسانية و الأخلاقية حيناً آخر .
إن التحركات الإسرائيلية و الفرنسية و الأمريكية تجاه لبنان ( قبل انفجار مرفأ بيروت وبعده, تشبه تماماً أجواء ما قبل وما بعد اغتيال الحريري عام 2005) في محاولة منها لاحتوائه واحتواء سياساته قد بدأت منذ فترة , وما تصريحات أركان الإدارة الأمريكية – و كان آخرها تدخلات السفيرة الأمريكية في بيروت- ثم زيارة وزير خارجية فرنسا الفاشلة إلى لبنان, و الاستفزازات الاسرئيلية وحربها العسكرية و الإعلامية , هذا بالإضافة للحراكات و الاحتجاجات الداخلية الموجهة من قبل أطراف معينة داخل الدولة اللبنانية , ما هي إلا دلائل تشير بكل وضوح بان هناك شيئاً ما يخطط للبنان سواء وقع الانفجار أم لم يقع.
أما بالنسبة لتداعيات الانفجار على الصعيد الداخلي, فأكثر ما يلفت الانتباه هنا, سلوك بعض الشخصيات و التيارات السياسية , الذين سرعان ما تلقفوا الانفجار و كأنه هدية السماء, مطالبين بلجنة تحقيق دولية و بوصاية دولية , ونحن نعرف تمام المعرفة ان هذا الغرب الاستعماري لن يكون منصفاً لنا و لقضايانا , فبدلاً من أن يسارع هؤلاء لطلب تشكيل لجنة تحقيق دولية , كان الأجدر بهم المطالبة بتشكيل لجنة تحقيق لبنانية مستقلة, أو لجنة بمشاركتهم : لجنة مكونة من كل القوى و التيارات اللبنانية. ألهذه الدرجة فقدت هذه الفئة ثقتها بنفسها وبشعبها و بكفاءاته ؟
إن سرعة ردود الأفعال الداخلية من بعض الجهات, و تناغمها مع تصريحات و سياسات الولايات المتحدة الأمريكية و فرنسا المعنية بإجراء تغييرات لبنان( بحسب رؤى هذه الدول ), تضع علامات استفهام حول هذا الانسجام و التناغم . وهذا ما يذكرنا بانفجارات كبرى حدثت في بيروت و لاسيما انفجار عام 2005 و اغتيال رفيق الحريري , و ما تلا ذلك من محاولة خلط وإعادة ترتيب أوراق لبنان داخلياً و خارجياً . ألم يتعلم اللبنانيون من درس تسييس محكمة الحريري التي تلاعبت بهذه القضية منذ أكثر من خمسة عشر عاماً , ألم تتنقل هذه المحكمة من اتهام أشخاص إلى اتهام جماعات و أحزاب و دول بحسب مصلحتها .
أتريدون من فرنسا (ماكرون ) و الولايات المتحدة ( ترامب ) إنصافكم, و هل الإنصاف بحسب رأيكم هو إحكام السيطرة من قبل هذه الدول على اقتصادكم و أموالكم و موانئكم و مرافئكم , و التحكم بعلاقاتكم الداخلية والخارجية,هل الإنصاف أن يوجه ماكرون تهديداً – من قلب عاصمتكم – لكم و لقيادتكم بأن تغيروا أنفسكم و إلا سيغيركم هو . إن لبنان – و على غرار الدول العربية – يعاني بشكل عام من فساد النخبة الحاكمة, و الطائفية و الشللية و المحسوبية و( الإقطاع السياسي) و (التوريث السياسي و الحزبي ), وهي سلبيات قاتلة للشعب و لمستقبله ولطموحاته , لكن من المؤكد تماماً ان تغيير ذلك لن يكون بزيارة خاطفة من ماكرون الى لبنان مهدداً متوعداً , و إنما بإرادة شعبية حقيقية .
ندرك تماماً ان الفساد تحديدا ًهو السبب الرئيس لقتل التقدم والتحرر, لأنه لا يمكن للدول ولا لحركات التحرر أن تنتصر إلا بالتحرر من الفساد أولاً, فالتحرر من الفساد يسبق التحرر من الاستعمار و ليس العكس نهائيا ً. ومع إيماني بوجود السلبيات في لبنان و الوطن العربي , و ضرورة التخلص منها, إلا أنني أكثر إيماناً بان الدول الاستعمارية لا يمكن أن تقدم لنا تغييراً حقيقياً أو نخباً سياسية و طنية حريصة علينا , وعلى مصالحنا و أوطاننا , بل على العكس تماماً ستأتي بمجموعة تمثل مصالحها رافعة شعارات براقة تخطف بها ومن خلالها قلوب وعقول الجماهير المتعطشة للحرية و الديمقراطية و الشفافية .
ان النخبة السياسية الحاكمة في لبنان و الوطن العربي – و التي لم تعد تعجب فرنسا – هي نفسها التي نالت حظوة و دعم فرنسا و غيرها من الدول الكبرى منذ عقود فما الذي جرى الآن ؟ هل انتهى دورها ؟ إن تلك الدول التي تذرف الدموع على بيروت , و انفجارها و فساد نخبتها , هي نفس الدموع التي ذرفها جورج بوش الابن على العراق و شعبه قبل احتلاله و تمزيقه و إغراقه في الفساد. آن الأوان لبنانياً و عربياً قراءة حاضرنا ورسم مستقبلنا بأيدينا نحن, و ليس بأيدي الاستعمار و الدول الاستعمارية ووكلائها و أعوانها .