السرقات العلمية في الحياة الأكاديمية العربية… وضع النقاط على الحروف
مصطفى عطية جمعة
1 حجم الخط
إن مشكلة السرقات العلمية التي شاعت كثيرا في السنوات الأخيرة في الحياة العلمية العربية؛ تُعَدُّ عرضا، وليست جوهرا، لأنها أشبه برأس جبل الجليد، وما أسفلها ليس بجليد فقط، وإنما يعبر عن أزمة تعصف بالأوطان والأمة، لأنها دالة على أن الثمرة النهائية التي تطرحهـا الجامعات العربية وبرامج الدراسات العليا؛ ليست ذات جدوى، أو أنها ثمار معطوبة، فجذوع الأشجار مخوَّخةً، وجذورها معطوبة.
وبالطبع هذه الظاهرة لا تنطبق على الجميع، فهناك الباحثون الجادون، والأكاديميون المبدعون، والمفكرون الحالمون، ووجود هؤلاء لا ينفي ظاهرة السرقات، بقدر ما ينبه إلى خطورتها، لغايات عدة؛ فالباحث الذي سرق جهد الآخرين، سيقاتل إلى النهاية، من أجل إثبات ذاته، لكن بطرق مختلفة، عبر التسلق والتزلف إلى أولي الجاه، ومحاربة الأكفاء، ونشر الانتهازية، وتضييع الأمانات العلمية. والأمر لا يقتصر على السرقة وحدها، وإنما يتعداه لضعف البحوث العلمية المقدمة على مستوى الطروحات الفكرية، والمنهجيات العلمية، والصياغات البحثية، والإضافات الفكرية. فأعمال كثير من الباحثين هي اجترار لبحوث سابقة، أو إعادة صياغة لها، أو تجميع مع اقتباسات في الآراء والفقرات.
ومن هنا تبرز المشكلة، فالسرقة لم تعد مباشرة فقط بالدلالة المعهودة، ألا وهي النقل دون توثيق، وعدم مراعاة الأمانة العلمية، والسطو على أفكار وجهود الآخرين؛ فذلك في رأينا هو المستوى الأدنى من السرقة، وإنما تتدرج إلى مستويات أعلى، تظهر في الاقتباس، دون إشارة، وسرقة الفكرة مع تغيير العبارة، والسطو على الإبداع البحثي، وتغييب الخيال العلمي، وإماتة الجهود والأفكار المبدعة، من أجل رقي المجتمع والنهوض به. ومن هنا، فإن تجريم السرقة والكشف عنها؛ يُعَدّ في رأينا الدرجة الأولى في العلاج، ويكمن العلاج الأساسي في النظر إلى تكوين الباحث العلمي ذاته، فالواقع في الجامعات العربية، ومراكز البحث يكشف سوءات لا آخر لها.
فمن المهم الوعي أن لبّ التقدم العلمي في المجتمعات الراقية يعود إلى وجود مؤسسات تعليمية وعلمية وبحثية، تضطلع بالتعليم، وتقوم على إعداد الطلاب والباحثين والعلماء، مع وجود تشريعات ومعايير وسياسات بحثية، ترسخ البحث العلمي على المستوى الفردي والجمعي؛ ما يتطلب مناخا من الحريات الفكرية والعلمية والأكاديمية، مع تمويل كاف، وخطط وبرامج من أجل مأسسة البحث العلمي، ليكون سبيلا لنهضة المجتمع، وحل مشكلاته، كما أن الباحث العلمي، الذي يتم إعداده في رحم المؤسسة البحثية، جامعةً كانت أو مركزا، أو معهدا علميا؛ يخضع لضوابط نظامية، تجعل من تفكيره منهجيا، واستنتاجاته موضوعية، فلا يبقى من الخطأ في اجتهاده العلمي سوى الحد الأدنى والمقبول. فالبحث العلمي ـ بوصفه نشاطا- مخصص لصالح البشرية، وهو أداة فعالة للتقدم الإنساني. وإذا تفهّم صانع القرار السياسي أهمية البحث العلمي، فإن النزعة المؤسسية بكل أبعادها ستدب في مفاصل البحث العلمي: باحثين ومناهج وأدوات. وهذا يستلزم وجود تقاليد بحثية مؤسساتية، تترسخ في تكوين الباحث العلمي، وتوفير المعلومات والبيانات والحقائق، وتقديم التسهيلات الإجرائية والتنفيذية لعملياته البحثية، مع تقديم أوجه النصح والإرشاد في حالة الضرورة العلمية، بجانب التمويل والعون المادي الكافي.
وكما نرى في عالمنا العربي، فإن المؤسسية العلمية اتسعت وصارت شاملة، وهذا واضح جلي في زيادة أرقام الجامعات والمراكز البحثية في العالم العربي، التي غطت مختلف التخصصات العلمية، إلى جانب تكوين العلماء والباحثين، بحيث نأت الفردية، وأضحى السبيل للترقي العلمي سائرا ضمن أطر الجامعات والمراكز البحثية، وفق برامجها، وتخصصاتها ومساراتها المعتمدة، التي توفر أنظمة للإعداد والتخصص للباحث العلمي. وقد زادت هذه المؤسسات بشكل كبير في العقود الأخيرة، وهي بلا شك ظاهرة صحية، وتصب في صالح المجتمعات العربية كلها.
وإذا تركزت أبصارنا على الجامعات العربية، فإن الأدوار المأمولة منها تتمثل في ثلاثة: أولها: نشر المعرفة والعلوم بالتعليم الفعال، وإعداد القوى البشرية ذات المهارات الفنية والإدارية والعلمية، لتزويد المجتمع بها، في مختلف التخصصات، وفي مختلف مواقع العمل والإنتاج. وثانيها: دعم البحث العلمي في مختلف مجالات المعرفة الإنسانية، مع التشخيص العلمي لمشكلات التنمية والاقتصاد والمجتمع. وثالثها: خدمة المجتمع عن طريق دور الجامعة التثقيفي والإرشادي والتوعوي.
أما مراكز البحوث فهي متخصصة في إنجاز الدراسات البحثية العلمية، ويمكن أن تكون فيها برامج لإعداد الطلاب والباحثين أيضا، ووجود المراكز البحثية تعد مؤشرا إيجابيا يفيد المنجزات الحضارية والنهضوية، وتساهم في رسم السياسات، ودراسة القضايا والمشكلات دراسة علمية، وبلورة الرؤى والمقترحات لها. وللمراكز البحثية أدوار عظيمة، سواء كانت مستقلة أو تابعة للجامعات، فهي بمثابة مراكز تفكير استراتيجي وعلمي ومستقبلي، لأنها ببساطة تمثل نقطة تقاطع بين الأكاديمية والسياسات، وهي تسعى لتقديم براهين والأفكار الضرورية، لصوغ سياسات قائمة على الأدلة، فهي بمثابة وسائط بين المعرفة والسلطة، أو بين السياسيين والأكاديميين، حيث يحتاج السياسيون إلى أفكار خلاقة، وإلى توصيات مبنية على مناهج علمية، في حين يحتاج الأكاديميون إلى السياسيين الذين يطبقون رؤاهم في أرض الواقع، كي يتم اختبارها وتطويرها. هذا الدور في رأينا لا ينصب على مجال بعينه، وإنما يشمل مختلف العلوم الإنسانية والتطبيقية، خاصة ما يتعلق منها بواقع الحياة والمجتمع والناس، حتى في مجال الآداب والفنون، فهي أيضا جزء لا يتجزأ من السياسات التنفيذية، من خلال وجود مراكز بحثية، وباحثين ومفكرين، يقرأون المشهد الأدبي والفني، ويقيمونه ويناقشونه بجدية؛ يرشدون المواهب، ويبرزون الإبداع، ويميزون الرديء من الجيد، والأمر نفسه في التعاطي مع الأدباء والمثقفين وغيرهم، فالأمر يشمل كل المجالات، وبذلك ينتقل النقاش من دائرة الرأي الشخصي، الذي يخضع غالبا إلى الأهواء أو التجربة الشخصية، إلى العلمية والرؤية المتخصصة النابعة من خبراء وعلماء.