خبرة موثَّقة
ومن أوائل الكتب الشاملة التي تناولت هذا الموضوع كتاب ‘منافع الأغذية ودفع مضارها‘ لأبي بكر الرازي (ت 311هـ/923م)، الذي لم يكن راضيًا عن إنتاج كلّ مَن سبقه مِن المؤلفين في هذا الباب، فانتقد الكتب المؤسسة له مثل كتابٍ "عمِلَه الفاضل جالينوس، فإنه سها وغلط في كثير من كتابه".
وقد سبقه كتاب الطبيخ لابن ماسَوَيْه الصيدلاني (ت 243هـ/857م) ولكنه كان كتابًا تقليديًا لم يتجاوز عقلية الناقل الحافظ لما وجده من كتب يونان، فعرّض به الرازي في كتابه الذي أشرنا إليه آنفًا.
وفي القرن الرابع الهجري/الـ10 الميلادي؛ ألّف ابن سيّار الوراق (ت 368هـ/979م) كتابه المسمى ‘كتاب الطبيخ وإصلاح الأغذية المأكولات وطيبات الأطعمة المصنوعات مما استُخرج من كتب الطب وألفاظ الطهاة وأهل اللب‘؛ وقد وصلنا وطُبع.
ثم جاءت من بعد ذلك مجموعة صالحة من كتب هذا الفن ككتاب ابن جَزْلة البغدادي (ت 493هـ/1100م) ‘منهاج البيان فيما يستعمله الإنسان‘ (مطبوع)، وهو كتاب في الطب يتناول خصائص الطعام؛ و‘منهاج الدكان ودستور الأعيان في أعمال وتراكيب الأدوية النافعة‘ لابن أبي نصر العطار اليهودي (القرن السابع الهجري/الـ13 الميلادي).
وفي القرن نفسه؛ نجد عالم النبات ابن البيطار الأندلسي (ت 646هـ/1248م) يصنّف كتابه ‘الجامع لمفردات الأدوية والأغذية‘ (مطبوع)، وهو معجم طبي علاجي احتوى على 1400 مادة غذائية ودوائية.
وأما قواعد ترتيب المائدة وآداب الجلوس إليها فقد تنوعت الكتابات فيها بتفصيل يدعو إلى العجب، ويكفينا أن بدر الدين الغَزِّي (ت 984هـ/1576م) خصص كتابه ‘آداب المواكلة‘ لباب واحد منها هو "خروق الإتيكيت" التي ينبغي للآكلين تجنبها على المائدة؛ إذ ضمَّنه "جملة من العيوب التي من علمها كان خبيرا بآداب المؤاكلة، وعدتها أحد وثمانون عيبا"!!
حاضنة فنية
وقد فات ابن النديم أن يشير إلى أن المؤلفين في فن الطبيخ كانوا يتعاملون معه تعاملا فنيًا، لاشتغال كثير من مؤلفيه بالفنون الجميلة، وهذا ما نجده عند سرد أسمائهم؛ فهذا ‘كتاب الطبيخ‘ للحارث بن بُسْخُنَّر (ت بعد 170هـ/786م) وهو من مغني الخليفة العباسي هارون الرشيد (ت 193هـ/809م)، و‘كتاب الطبيخ‘ للأديب علي بن يحيى المنجِّم (ت 215هـ/830م).
وكذلك ‘كتاب الطبيخ‘ لإبراهيم بن المهدي (223هـ/838م) وهو أخو هارون الرشيد لأبيه وكان من كبار الموسيقيين، و‘كتاب الطبيخ‘ لإبراهيم الصُّولي الكاتب والشاعر (243هـ/857م)، وكتابا ‘الطبيخ‘ و‘فضائل السِّكْبَاج‘ (= لحم يُطبخ بالخلّ والتوابل) كلاهما لجَحْظة البَرْمَكي (ت 324هـ/936م) وهو شاعر ومغنٍّ.
وقد بلغ الترف والسرف غايتهما في الموائد وإعداد الطعام أيام حكم بني العباس؛ فكانت نفقة بعضهم على مطبخه تقارب ميزانية بعض وزاراتنا العربية اليوم، حيث كانت "قائمة الطعام" (منيو – Menu) لدى الرشيد تشتمل على ثلاثين لونًا من الطعام في اليوم الواحد، وكان ينفق عليها يوميا 10 آلاف درهم (= اليوم 12000 دولار أميركي تقريبا)؛ حسبما ذكره المسعودي في ‘مروج الذهب‘.
ولما تزوج الرشيد ابنة عمه زُبيدة بنت جعفر (ت 216هـ/831م)؛ أنفق خمسة وخمسين مليون درهم (= اليوم 68 مليون دولار أميركي تقريبا) على وليمة العرس؛ كما يقول قاضي القضاة المؤرخ ابن خلّكان (ت 681هـ/1282م) في ‘وفيات الأعيان‘.
وكانت نفقة ابنه الخليفة المأمون (ت 218هـ/833م) اليومية ستة آلاف دينار (= اليوم مليون دولار أميركي تقريبا) ينفق منها مبلغًا كبيرا على مطابخه، ويكفي أن تعرف أن مائدته ربما احتوت على 300 نوع من الطعام!!
تفنُّن واسع
فقد نقل مؤرخ الخلفاء العباسيين ابن طَيْفُور المَرْوَزي (ت 280هـ/893م) -في تاريخه ‘كتاب بغداد‘- شهادة عالم بغدادي اسمه جعفر بن محمد الأنماطي (ت بعد 218هـ/833م) قال إنه تغدى يوما مع المأمون بحضرة عشرات من العلماء دعاهم المأمون إلى مجلسه ومائدته.
ووصف الأنماطي هذا مائدة المأمون قائلا: "فظننتُ أنه وُضع على المائدة أكثر من ثلاثمئة لون، فكلما وُضع لون نظر المأمون إليه فقال: هذا يصلح لكذا وهذا نافع لكذا"!! وابن طيفور هذا يصفه الحافظ الخطيب البغدادي (ت 463هـ/1072م) -في ‘تاريخ بغداد‘- بأنه "من أهل الفهم المذكورين بالعلم".
وينقل لنا مؤلف ‘الرسالة البغدادية‘ صورة واضحة وشاعريّة لموائد بغداد في القرن الرابع الهجري؛ فيقول: "فنرى الرغيف الذي رُشّت عليه الحبة السوداء حتى أصبح كالبدر منقطًا بالنجوم، واللقمة منه تُبلغ القلبَ مُنى شهوته، والجبن الذي تدمع عين آكله من حرافته كأنه فارق أحبابه، والجوز الذي طعمه أحلى وألذّ من العافية في البدن، والمائدة التي كأنها عروس مجليّة".
وقد صرتُ -بعد قراءة هذا الوصف- ألتمس العذر لوالي البصرة ابن دِهْقانة العباسي (القرن الثالث الهجري/التاسع الميلادي) في قوله الذي أورده الشابُشْتي (ت 388هـ/999م) في كتابه ‘الدِّيارات‘: "قد أكَلتُ حتى زَمِنْتُ (= ضعفتُ)، وأريد [أن] آكل حتى أموت"!
وعلى سعة الخيارات كان اختلاف الأذواق؛ فوجدنا المأمون يميل إلى لحم الغنم، وقد قال يوماً لكاتبه الحسن بن سهْل (ت 236هـ/850م): نظرتُ في اللذات فوجدتها كلها مملولة خلا سبعة؛ قال الحسن: وما السبعة يا أمير المؤمنين؟ قال: خبز الحنطة، ولحم الغنم، والماء البارد…" إلخ؛ وفقا للإمام الطرطوشي المالكي (ت 520هـ/1126م) في ‘سراج الملوك‘.
وكان المأمون متشبعًا بثقافة الطعام وخصائصه الصحية كما مرّ في خبر الأنماطي، وكان خبيرا بالأوقات المناسبة لتناول أصنافه؛ قال ابن طيفور: "بلغني أن المأمون قال لأبي كامل الطباخ يوماً..: اتخذ لنا رؤوس حملان تكون غداءنا غداً…، وقال: إن من آيين (= قواعد تناولها) الرؤوس أن تؤكل في الشتاء خاصة، وأن يُبكِّر آكلها عليها، وألا يُخلط بها غيرها، ولا يُستعمل بعقبها الماء".
ذوق خاص
ويبدو أن المأمون كان مختلفًا عن أسرته وذوق الطبقة المترفة بتفضيله للحم الغنم؛ فالجاحظ يقول -في ‘الحيوان‘- إن "ملوكنا [العباسيين] وأهل العيش منا لا يرغبون في شيء من اللُّحْمان رغبتهم في الدجاج..، وهم يأكلون الرواعي كما يأكلون المسمَّنات".
ثم علَّلَ الجاحظ رغبتَهم في الدجاج بكونها "أكثر اللحوم تصرُّفا لأنها تطيب شواء.. وتطيب طبيخا"، فهي تدخل في وصفات مطبخية كثيرة.
وقد بالغوا في استجادة الدجاج واستطعامه، حتى إن فراريجهم كانت "تُعلَف الجوزَ المقشَّر وتُسقى اللبنَ الحليب" ليكون ذلك زيادة في جودة لحمها؛ كما يخبرنا ابن أبي أصيبعة (ت 668هـ/1269م) في ‘طبقات الأطباء‘.
ولم يكن بعض الوزراء يحتكر لذة الطعام دون الناس؛ فكان بعضهم يستلذّ بإطعامه كما يلتذّ بتناوله. ولذا نقل أبو إسحق الصابئ (ت 384هـ/995م) -في ‘كتاب الوزراء‘- أن الوزير العباسي ابن الفُرات (ت 327هـ/939م) كان عنده مطبخان أحدهما للخاصة والآخر للعامة، ويقدَّم للأخير تسعون رأسًا من الغنم وثلاثون جديًا ومئات الدجاج.
ونقل الذهبي -في ‘تاريخ الإسلام‘- عن ملِك فارس عمرو بن الليث الصَّفّار (ت 289هـ/902م) قوله: "كان مطبخي يُحمل على ستمئة جمل"! وأما أخوه -الذي تولى المملكة قبله- يعقوب بن ليث الصفّار (ت 256هـ/870م) فكانت القُدُور في مطبخه تتسع إحداها لأربع من الماعز!
ومن طقوس الطعام التي تفنن فيها ملوك بني العباس إجراؤهم لمسابقات الطبيخ ومشاركتهم فيها أحيانا، ويحكي لنا المسعودي (ت 346هـ/957م) -في ‘مروج الذهب‘- مسابقة طريفة في ذلك كان من المشاركين فيها المأمون وولي عهده المعتصم (ت 227هـ/842م).
سرّ عريق
وقد يشتهي أحدنا "طعام الشوارع" (STREET FOOD) ويرى له مزيّة على طبخ البيت أو المطعم مع ورود مخاطر عدم النظافة فيه، لكنْ ثمة سرٌّ في أكل الشوارع قديم لم نهتدِ إليه منذ أيام المتوكل (ت 247هـ/861م) وإلى اليوم.
فقد روى المسعودي عن الوزير العباسي الفتح بن خاقان (ت 247هـ/861م) أنه قال: "كنت عند المتوكل وقد عزم على الصبوح بالجعفري (= أحد قصوره)، وقد وَجَّه خلف الندماء والمغنين، قال: فجعلنا نطوف وهو متكئ علي وأنا أحادثه، حتى وصلنا إلى موضع يشرف منه على الخليج، فدعا بكرسي فقعد عليه وأقبل يحادثني، إذْ بصُر بسفينة مشدودة بالقُرْب من شاطئ الخليج، ومَلّاح بين يديه قدر كبيرة يطبخ فيها سِكْبَاجاً من لحم بقر، وقد فاحت روائحها، فقال: يا فتحُ، رائحة قِدر سكباج واللّه! ويحك، أما ترى ما أطيب رائحتها! عليَّ بها على حالها.
فبادر الفراشون فانتزعوها من بين يدي الملاحين..، وجاءوا المتوكل بالقدر تفور كهيئتها، فوُضعت بين أيدينا، فاستطاب ريحها واستحسن لونها، ودعا برغيف فكسر منه كسرة ودفعها إليَّ، وأخذ هو منه مثلها، وأكَل كل واحد منا ثلاث لُقم، وأقبل الندماء والمغنون، فجعل يلقم كل واحد منهم لقمة من القدر، وأقبل الطعام ووُضعت الموائد.
فلما فرغ [المتوكل] من أكله أمر بتلك القدر ففرغت وغُسلت بين يديه، وأمر أن تُملأ دراهم، فجيء بَبَدرة (= ألف دينار ذهبي/عشرة آلاف درهم فضي) ففُرغت فيها، فَفَضَلَ من الدراهم مقدار ألفيْ درهم، فقال لخادم كان بين يديه: خذ هذه القدر فامض بها حتى تدفعها لأصحاب السفينة، وقل لهم: هذا ثمن ما أكلنا من قدركم، وادفع إلى مَنْ طبخها ما فضل من هذه البَدْرَة منِ الدراهم هِبَةً له على تجويده طبخها. قال الفتح: فكان المتوكل كثيراً ما يقول إذا ذُكر قِدر الملّاح: ما أكلتُ أحسن من سكباج أصحاب السفينة في ذلك اليوم"!!
ويخبرنا المسعودي أيضا أن الخليفة العباسي المستكفي (ت 338هـ/949م) جلس يومًا فجعل "قائمة طعام" (منيو – Menu) مائدته ما يرد في محفوظ جلسائه من أوصاف الطعام في الشعر، وقال: "هاتوا، ما الذي أعَدَّه كل واحد منكم" من أنواع الأطعمة المفضلة عنده؟ فليس نأكل اليوم إلا ما تصفون؛ فوُصفت له كوامخ (= نوع من الإدام) من شعر ابن المعتز (ت 296هـ/907م)، و"سلّة بَوارِد" (= بُقول تطبخ بمواد حامضة) من شعر أبي الفتح الرملي المعروف بـ‘كَشاجم‘ (ت 360هـ/971م)، وسنبوسج (أو السنبوسك/ السنبوسق = السنبوسة) من شعر لإسحق إبراهيم الموصلي (ت 235هـ/849م).
وقد جدّت أمور أيام العباسيين في المطبخ وتنوّعت المواد المحضّرة للأكل، مثل زيت النارجيل الذي كان يطيّب به الأرز؛ كما يفيدنا الثعالبي (ت 429هـ/1039م) في ‘يتيمة الدهر‘. ويصف لنا ابن بطوطة (ت 779هـ/1377م) -في رحلته- طريقة استخراج هذا الزيت؛ فيقول إن أصحابها "يأخذون النارجيل بعد نضوجه وسقوطه من شجره فيزيلون قشره ويقطعونه قطعا ويُجعل في الشمس، فإذا ذبُل طبخوه في القدور واستخرجوا زيته".
نظافة غذائية
وقد اهتموا ببيئة صنع الطعام ونظافة العاملين فيها؛ فأوجبوا على الطباخ قص أظافره وغسل يديه على الدوام، وغسل قدوره مرات حتى بلغ الحال ببعضهم ألا يرى الطبخ في قِدر الفخار مرتين، ويرى استبدالها كل يوم لتنقيتها من رواسب الطعام المفسدة للطبخ والضارة بالصحة؛ كما يقول ابن سَيّار في ‘كتاب الطبيخ‘. وحكى علاء الدين الغُزولي (ت 815هـ/1412م) -في ‘مطالع البدور‘- أن أحدهم كان يطيل غسل يده ويقول: "حُكم اليد أن يكون زمانُ غسلها بمقدار زمان أكلها".
وموضوع النظافة ينقلنا إلى الهيئة الرسمية التي كانت تخصَّص لمراقبة الجودة والنظافة في أسواق المسلمين وهي جهاز "الحِسْبة"، فكان من فروعها قسم مختص بمراقبة الصناعات الغذائية لحماية صحة المستهلكين بعد أن أوجب العلماء أن "يكون على الخبّازين والطباخين محتسِب"؛ كما يقول الإمام ابن القَيِّم (ت 751هـ/1350م) في ‘إعلام الموَّقِّعين عن رب العالمين‘. ولذا نجد في كتب "المحتسِبين" تفاصيل وافية عن أحوال المطاعم العامة وأفران الخبز التي يطعم منها عوام الناس.
ومن هؤلاء المحتسبين جلال الدين الشَّيْزَري الشافعي (ت 590هـ/1194م) الذي تولى رئاسة الحِسْبة في وقته، وكتب كتابه الماتع ‘نهاية الرتبة الظريفة في طلب الحسبة الشريفة‘، الذي يضعنا في قلب أسواق الشام في القرن السادس الهجري/الـ12 الميلادي وخاصة المطاعم، إذ خصص قرابة نصف أبواب الكتاب (15 بابا) لأصحاب المهن المرتبطة بالطعام صناعةً وتمويناً.
يذكر لنا الشيزري شروط الجودة والنظافة لدى الخبازين فيقول: "ينبغي أن تُرفع سقائف حوانيتهم، ويُجعل في سقوف الأفران مَنافِس (= مداخن) واسعة يخرج منها الدخان لئلا يتضرر بذلك المسلمون، وإذا فرغ الخبّاز من إحمائه مسح داخل التنور بخرقة نظيفة..، ويأمرهم المحتسِب بنظافة أوعية الماء وتغطيتها، وغسيل المعاجن ونظافتها، وما يغطى به الخبز، وما يُحمل عليه".
ويضيف أنه من لوازم نظافة الطعام وإكرامه أن "لا يعجن العجّان بقدميه ولا بركبتيه ولا بمرفقيه لأن في ذلك مهانة للطعام، وربما قطر من عرقه.. فلا يعجن إلا وعليه مِلْعَبَةٌ (= ثوب بلا كُمٍّ) أو بِشْتٌ (= عباءة صوف) مقطوع الأكمام، ويكون ملثّمًا (= يلبس كمّامة) لأنه ربما عطس أو تكلم فسقط شيء من بصاقه في العجين، ويشدّ على جبينه عصابة بيضاء لئلا يعرق فيسقط شيء منه في العجين، ويحلق شعر ذراعيه لئلا يسقط منه شيء في العجين…".
رقابة دقيقة
وقد كانت الرقابة دقيقة على المطاعم فشملت مكافحة أنواع الغش في الغذاء، وفرض إجراءات نظافة صارمة للأواني التي يحضّر فيها الطعام، ونظافة صانعه، وسلامة المواد والمكونات من الغش والخلط، وتخصيص الأفران والتنانير لكل نوع من الطعام، فلا يخبز الخبز في تنور يُشوى فيه السمك، وأوجبوا تغيير زيت القلي.
كما فرض مسؤولو جهاز الحسبة على الخبازين الذين يوفرون خدمة "توصيل الخبز" إلى المنازل (Delivery) أن "يكون غلمانهم وأجراؤهم صبيانا دون البلوغ، لأنهم يدخلون بيوت الناس وعلى نسائهم"؛ وفقا للشيزري.
ويظهر لنا من كتاب الشيزري أن عموم الأطعمة -من خبز وحلويات ولحوم ونحوها- كانت تباع بالوزن، ولذلك كانوا يشدّدون الرقابة على دقة الموازين؛ ففي باب الحسبة على الشوائين يقول: "ينبغي على المحتسب أن يزن عليهم الحملان قبل إنزالها [في] التنور ويكتبها في دفتره، ثم يعيدها إلى الوزن بعد إخراجها، فإن كان الشواء قد نقص منه الثلث فقد تناهى نضجه..، ويعتبره (= يختبره) عند وزنه وهو لحمٌ لئلا يُخْفوا فيه صنج الحديد وثقاقيل الرصاص، وعلامة نضج الشواء أن يجذب الكتف بسرعة فإن جاءت فقد انتهى في النضج، وأيضًا يُشقّ الوَرِكَ فإن ظهر فيه عروق حمر ونزل منها ماء اللحم فهو نيْءٌ".
وينبّه الشيزريُّ المحتسِبين إلى ضرورة منع أصحاب المطاعم من الخلط في طبخ اللحوم "فلا تُطبخ لحوم الضأن ولا لحوم الإبل مع لحوم البقر، لئلا يأكلها ناقِهٌ (= متماثل للشفاء) من المرض فتكون سببًا لنكسه (= انتكاس صحته)".
كما يرشدهم إلى أساليب غش صنّاع النقانق الذين يخلطون اللحم بالكلى والبصل والتوابل، "ومنهم من يحشو السنبوسك بلحوم السمك المشوية والتوابل، ومنهم من يغشها بالباقلا.. المقشور وبياض البصل. ويُعرف جميع ذلك بأن يشق [المحتسب] النقانق قبل قليها، فيظهر ما فيها للعين".
غش كيميائي
ويشير الشيزري إلى نوع متقدّم من الغشّ تدخل فيه صنعة الكيمياء الغذائية التي ذكرها الفيلسوف الطبيب يعقوب الكندي (ت 256هـ/870م) في كتابه الغريب العنوان في زمانه ‘كيمياء الطبائخ‘.
ومن ذلك "ألوان لحم تُبطخ من غير لحم، وقلْيْ كبود من غير كبود، ونقانق من غير لحم، وعجّة من غير بيض، وحلاوة من غير عسل ولا سكّر، وأنواع من غير عناصرها يطول شرحها". وقد أضرب الشيزري عن ذكرها مبررًا ذلك بقوله: "ولولا أني أخاف أن أنبّه مَنْ لا دين له على غشّ الأطعمة لذكرتُ من ذلك جُمَلًا كثيرة"!!
ولم يكن الطبخ مقتصرًا على الذكور فحسب، وإنما كانت الجواري يبرعن فيه ولا سيما في عهد الفاطميين؛ حيث يذكر لنا المقريزي (ت 845هـ/1441م) -في ‘السلوك في أخبار الملوك‘- وجود الجواري الطباخات في قصورهم، ويقول: "ولهنّ في الطبخ صناعة عجيبة ورئاسة متقدمة". ويضيف أنه كانت في دار أحد أصدقائه جاريتان "تُحسن كل واحدة منهما ثمانين لونًا من التَّقالي (= جمع تقلية: المقليات) سوى بقية ألوان الطعام"!
ويشهد على تميز الطباخات المصريات وتفننهن أيضا أنه لما أراد ملكُ ديار بكر نصرُ الدولة أحمد بن مروان ابن دُوسْتك الكردي (ت 453هـ/1062م) أن يبلغ طهاتُه مستوى رفيعًا في إجادة صنعة الطِّباخة لم يرسلهم إلى بغداد مع قربها الجغرافي من بلاده، بل "أرسل طباخين إلى الديار المصرية، وغَرِم (= أنفق) على إرسالهم جملة وافرة [من المال] حتى تعلموا الطبخ من هناك"؛ طبقا للمؤرخ ابن الأثير (ت 630هـ/1233م) في كتابه ‘الكامل‘.
بيد أن أبا العلاء المعري (ت 449هـ/1058م) كان يرى ألا مزيد على كفاءة طهاة حلب؛ فقد ذكر -في ‘رسالة الغفران‘- أنهم سيتكفلون بمطبخ الجنة حين ينادي المنادي فيها: "أحضِروا في الجنة من الطهاة الساكنين في حلب على مرّ الأزمان"!
حضور رمضاني
وتخبرنا كتب الطبيخ أن موائدنا الرمضانية عريقة النسب في مطابخ المسلمين؛ حيث نجد في كتاب ‘الوصلة إلى الحبيب في وصف الطيبات والطيب‘ لابن العَديم (ت 660هـ/1262م) ذكرا لمكونات السُّفْرة الرمضانية، مثل القطايف والحريرة والكسكس المغربي والسنبوسة ولقمة القاضي (= اللقيمات)، و"السُّوبِية" التي قال عنها مجد الدين ابن الأثير -في كتابه ‘النهاية‘- إنها "نبيذ.. يُتخذ من الحنطة، وكثيرا ما يشربه أهل مصر". وهي مشروب رمضانيّ ما زال عند أهل الحجاز إلى اليوم.
أما ‘كتاب الطبيخ‘ لمحمد بن حسن البغدادي (ت 637هـ/1239م) فنجد فيه وصفة قديمة لما يسمى اليوم في المطبخ الحديث "الطبخ البطيء" (SLOW COOKING)، وهو ترك الطبق فترة طويلة على النار أو في الفرن.
وأطرف ما وقفت عليه -عند البغدادي هذا- أن الطبخة الفرنسية المسماة "لحم البقر بالبورغينيون" (bœuf bourguignon) -والتي يُطبخ فيها لحم العجل بالطريقة الفرنسية لمدة ست ساعات- كانت معروفة في وطننا العربي منذ ما قبل القرن السابع الهجري/الـ13 الميلادي.
هذا رغم أن هذه الطبخة لم تصل إلى العالم الجديد (الأميركتين) إلا في نهايات القرن العشرين، عندما أدخلتها للمطبخ الأميركي عميلة وكالة الاستخبارات الأميركية (CIA) جوليا تشايلد (ت 1425هـ/2004م) حين توجهت للطبخ في آخر حياتها.
ويطلعنا البغدادي على الاسم القديم لهذه الأكلة وهو "سكباج تنوري"، وطريقة تحضيرها: "أن يقطع اللحم ويُلقى في القِدر، وتجعل معه الأبازير (= البهارات) والتوابل، ويُحَلّ الدِّبس بالخل (الغربيون اليوم يضعون فيه نبيذ العنب بدلًا من الخلّ)، ويُصبغ ذلك جميعه بالزعفران، ثم يُعدل ملحها، وتُحط في التنور مغطاةَ الرأس من أول الليل إلى بكرة، ثم تُرفع".
مطبخ زريابي
وفي المطبخ الأندلسي خلال القرن السادس الهجري/الـ12 الميلادي؛ نجد وصفة "الدجاج المُسحّب" (Boneless chicken) التي جاءت إشارة لها في مخطوط أندلسي مجهول المؤلف يعود إلى القرن السادس الهجري/الـ12 الميلادي، وقد نشره المستشرق الإسباني أمبروزيو ميراندا تحت عنوان ‘كتاب الطبيخ في المغرب والأندلس في عصر الموحدين‘.
ففي هذا الكتاب ورد ذكر للآلات التي ينبغي أن تتوفر لدى الطباخ، مثل: المِهراس الذي يُستحسن أن يكون من الرخام أو الخشب، أما النحاس فإنه يُفسد بعض المدقوقات من الطعام كالملح والثوم والكزبرة الرطبة والبصل والخردل.. لأن النحاس عرضة للصدأ والتغيّر. كما يُتخذ من الخشب الصلب المغارف والملاعق، واللوح الذي يقطّع عليه اللحم، ولوح الحلوى والكعك، وينبغي أن يكون أملس في غاية الصقالة.
كما نجد في هذا المخطوط الأندلسي تفضيل الأندلسيين لطريقة تقديم الطعام منجَّمًا أي طبقًا بعد الطبق، دون أن تجمع كل الأطباق والأصناف على المائدة مرة واحدة. ويذكر أن الألوان المقدمة على المائدة الأندلسية كانت تصل إلى سبعة ألوان وخاصة في ولائم الأعراس؛ وكانت يبتدأ فيها بالبقوليات، ويتوسط بالمخلل والمعسل، ثم يفصل بينها لون آخر، ويُختَم بالمعسّل.
ثم يقول: "وقد كان كثير من أكابر الناس وأتباعهم رسموا أن يوضع على كل مائدة بين يديْ الرجال ألوان مفردة لون بعد لون آخر مرتبة، وهو لعمري أحسن من أن يجعل أغضِرة (= أواني خزفية) كثيرة كلها على المائدة، وأجمل وأكثر تأدبًا وأطرف، وهي طريقة أهل الأندلس والغرب ورؤسائهم وخواصهم وذوي الفضل من أهلها، من أيام عمر بن عبد العزيز (ت 101هـ/720م) وبني أمية إلى هلم". ونحن نرى أن هذا التقليد لم يزل معمولًا به في بلاد المغرب، مع اختلاف في عدد الأصناف.
ولا ينبغي أن نغادر المطبخ الأندلسي والغربي -الذي سنختم به هذه الجولة التاريخية داخل عالم الطبيخ في الحضارة الإسلامية- قبل أن نأتي على ذكر الدور التأسيسي في تطوير هذا المطبخ وتأثيثه بأفانين الطهي، وهو الدور الذي اضطلع به الموسيقار العراقي زِرْياب الموصلي (ت 243هـ/857م) منذ وصوله إلى الأندلس سنة 206هـ/821م، وربما يكون هو أصل ترتيب المائدة الذي ذكره المؤلف الأندلسي المجهول.
فقد قال المقري (ت 1041هـ/1631م) -في ‘نفح الطيب‘- إن زرياب أجاد من "مهارة الخدمة الملوكية ما لم يُجده أحد من أهل صناعته [الغنائية]، حتى اتخذه ملوك أهل الأندلس وخواصهم قدوة فيما سنّه لهم من آدابه واستحسنه من أطعمته، فصار إلى آخر أيام أهل الأندلس منسوبا إليه معلوما به: فمن ذلك… مما اخترعوه من الطبيخ: اللونُ المسمى عندهم بالتفايا، وهو مصطنع بماء الكزبرة الرطبة محلى بالسنبوسق والكباب، ويليه عندهم لون التَّقْلية المنسوبة إلى زرياب".
ويضيف المقري أن "مما أخذه عنه الناس بالأندلس تفضيله آنية الزجاج الرفيع على آنية الذهب والفضة، وإيثاره فَرْشَ أنْطاع (= جمع نَِطْع: البساط) الأَدِيم (= الجلد) اللينة الناعمة على ملاحف الكتان، واختياره سُفَر (= جمع سُفْرة) الأديم لتقديم الطعام فيها على الموائد الخشبية، إذ الوَضَر (= الوسخ) يزول عن الأديم بأقل مسحة".
وعدّد لنا المستشرق ليفي بروفنسال (ت 1376هـ/1956م) -في كتابه ‘تاريخ إسبانية المسلمة‘- طائفة من "آيين الطعام" وآداب المائدة التي جاء بها زرياب معه من بغداد؛ فقال: "علَّم زرياب أهالي قرطبة إعداد المآكل البغدادية الأكثر تعقيدًا، وترتيب أطباق الوجبة على الموائد الأنيقة، فأفتى بألا يقدم الطعام دفعة واحدة، أو كيفما اتفق، بل يجب البدء بالحساء، وتتبعه أطباق اللحوم والطيور المطيبة بالتوابل الحارة، ثم الأطباق المحلّاة، فالحلوى المصنوعة من الجوز واللوز والعسل، أو الفاكهة المجففة المعطرة المحشوة بالفستق والبُنْدق، ونصح بتغطية موائد الطعام بأغطية من الجلد الناعم الرقيق بدلًا من شراشف الكتان الخشنة، وبيّن أن الكؤوس الزجاجة الفاخرة آنق من آنية الذهب والفضة".