التداعيات الاجتماعية والاقتصادية الراهنة في المجتمع الفلسطيني
بالرغم من كل الممارسات العدوانية الإسرائيلية الهادفة إلى تمزيق وتجزئة الوحدة الجغرافية للأراضي الفلسطينية من ناحية والوحدة المجتمعية والسياسية الفلسطينية من ناحية ثانية، وبالرغم من دور العوامل الداخلية التي أسهمت في تردي وهبوط الأوضاع السياسية الاقتصادية الاجتماعية الفلسطينية في كل من الضفة والقطاع، إلا أننا نؤكد على استمرار ثبات عناصر ومكونات الهوية الوطنية ببعديها السياسي والاجتماعي كسمة أساسية لشعبنا الفلسطيني عموماً وفي الضفة والقطاع خصوصاً، رغم العديد من العوامل والمستجدات الطارئة التي تهدد جدياً عناصر ومكونات تلك الهوية في هذه المرحلة المملوءة بالتعقيدات والمخاطر.
وفي تناولنا للتداعيات الاجتماعية الاقتصادية على الشارع الفلسطيني، أعتقد أنه من المفيد _لغايات التحليل_ رؤية التباينات التي ميزت -وما زالت- تطور "مجتمع" الضفة عن "مجتمع" القطاع بسبب ظروف وعوامل خارجية وداخلية متعددة، آخذين بعين الاعتبار أن مجتمعنا الفلسطيني عموماً، يندرج في إطار التشكيلة الاجتماعية الاقتصادية الطرفية شبه الرأسمالية، وهي تشكيلة لا تزال مشتملة على علاقات إنتاج اجتماعية ما قبل رأسمالية حرص الاحتلال على استمرار بقاءها ، بحيث يوصف مجتمعنا اليوم ، بأنه مجتمع شبه تقليدي، ارتباطاً باستمرار بقاء الدور المهيمن للعائلة/الحمولة على اقتصاده في الصناعة والتجارة والزراعة، كما في معظم العلاقات الاجتماعية السائدة في المدن والقرى والمخيمات، وهي علاقات تعرضت لكثير من عوامل التشوه والتراجع بسبب أداء بعض مؤسسات وأجهزة السلطة الفلسطينية من ناحية وبسبب تداخل الأنماط الاجتماعية القديمة وتجاورها أو تحالفها مع الفئات المتنفذة من التحالف البيروقراطي الكومبرادوري المهيمن من ناحية ثانية، وهي أسباب لم يكن ممكناً بروز تأثيرها بهذا الشكل الضار لولا تضخم مظاهر الخلل والفساد وتراكم الثروات غير المشروعة التي شكلت وعاءً رئيسياً وواسعاً لمعظم التداعيات السلبية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في مجتمعنا طوال الأحد عشر عاماً الماضية عموماً، وفي خلال سنوات الانتفاضة 2000-2005 خصوصاً، حيث استمر التكوين الاجتماعي/الطبقي الهش في بلادنا محكوماً حتى اللحظة بأصوله الرئيسة –القديمة المتجددة- المتمثلة في ملكية الأرض والعقارات والتجارة ورأس المال والمنصب الحكومي ، دون أن نلغي الدور الرئيسي للعدو الصهيوني في تعطيل بلورة التشكيل أو الكيان السياسي الفلسطيني الموحد والمستقل، وآثار غياب هذا التبلور على الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية في الضفة والقطاع، إلى جانب ما تحاول أن تفرضه علينا شروط ومتطلبات وتطبيقات كل من "خارطة الطريق" و "خطة شارون" الهادفة إلى خلق واقع طارئ ومستحدث يسهم في تفعيل الدور السياسي/الاقتصادي/الاجتماعي للمجموعات والشرائح ، البيروقراطية الكومبرادورية المتنفذه ، ومنحها المزيد من القوة السياسية/الاقتصادية تكريساً لمصالحها، وبما سيدفع إلى تفاقم الأزمات الاجتماعية/الاقتصادية التي يعيشها مجتمعنا الفلسطيني– خاصة في السنوات الخمس الأخيرة 2000-2005- وأبرزها غياب الشعور بالذنب عند هدر المال العام, والاتكالية واللامبالاة والرشوة, وانتشار الميل إلى الإحباط أو الاستسلام, والنفاق بكل بصوره الاجتماعية والسياسية, والخضوع, ومظاهر البذخ, وسيادة منطق وقوة العشيرة أو الحمولة على منطق النظام العام والقانون, وتراكم الخوف في صدور الناس, لدرجة أن الكثيرين في مجتمعنا أصبح همهم الانخراط في الحياة الاجتماعية لتأمين مصالحهم الخاصة والحفاظ على سلامتهم, والنتيجة الحتمية لهذا المسار الاجتماعي الشاذ تقضي بأن تحل روح الخضوع محل روح الاقتحام والكرامة, وروح المكر محل روح الشجاعة, وروح التراجع محل روح المبادرة, ورح الاستسلام محل روح المقاومة, ورح الفوضى والانفلات محل روح النظام والقانون, وكل هذه المظاهر لم يكن ممكناً انتشارها بدون هذا التوسع المذهل في فساد السلطة, الذي لم يعد هامشياً أو استثنائياً, ولم يعد مجرد مسألة انحطاط قيمي وأخلاقي فحسب, بل تعبيراً عن درجة عالية ومقلقة من انفصام السلطة عن الشعب, نتيجة انعدام الدور القوي للسلطة المركزية المعبرة عن إرادة جميع الأفراد و التي تتيح التعبير المتساوي لجميع الإرادات داخل المجتمع .
وفي هذا السياق نشير إلى أن منطق الاستبداد والهيمنة في ظل النظام الأبوي, الفردي شبه المطلق في السطلة الفلسطينية منذ قيامها, أدى بدوره إلى تشجيع بروز أشكال مماثلة من التفرد والهيمنة لدى العديد من المسئولين في مؤسسات وأجهزة السلطة, وذلك بالاستناد إلى مجموعات الولاء الشخصي أو الاستزلام التي تضخمت وتعددت واستطاعت أن تفرض وجودها بمسميات مختلفة في ظروف الانتفاضة وتحت مظلتها دون أي اعتبار للقواعد والآليات التنظيمية أو الالتزام الحزبي, ودون أي التزام حقيقي للنظام أو القانون من ناحية, علاوة على خروج معظمها عن الأعراف والتقاليد المجتمعية من ناحية ثانية, وفي مثل هذه الأوضاع, كان طبيعياً إزاحة الولاء التنظيمي, لحساب الولاء الشخصي, بهذه الدرجة أو تلك, وفق حجم التراكم في المصالح الشخصية, ومؤثراتها أو دوافعها الداخلية والخارجية, الأمر الذي مهد لإثارة المزيد من الأزمات الداخلية, وبدرجات متفاوتة, في هذا الحزب أو الفصيل أو ذاك, وهي أزمات قد لا تتوقف عند الصراعات الداخلية لهذه الأحزاب أو الفصائل, بل تنذر بالانتقال من الحيز التنظيمي الضيق إلى الحيز الاجتماعي والسياسي العام, وما يمكن أن ينتج عن ذلك من تداعيات خطيرة على مجمل نسيج الحركة الوطنية, ومجمل الوحدة الوطنية والأمن الاجتماعي, خاصة إذا لم تتدارك جميع القوى للإسهام بدورها في إطفاء الصراع الداخلي ووقف أسباب الأزمة على قاعدة وضوح الرؤية والاستراتيجية الوطنية أو العقد الاجتماعي الناظم للجميع.
إن استعراضنا لهذه المظاهر والتداعيات الاجتماعية يظهر مجموعة من الحقائق و المفاهيم و المؤشرات الدالة على الظروف والعوامل الموضوعية والذاتية ( الداخلية والخارجية) التي أدت إلى انتشار هذه المظاهر, وأبرزها طبيعة الخارطة أو التركيبة الطبقية الفلسطينية ، التي لم تتبلور بصورة نهائية بعد ، بسبب استمرار هذا التداخل و التقاطع للأشكال الحديثة للتقسيم الاجتماعي للعمل ، ونقصد بذلك البيروقراطية الحاكمة في اجهزة السلطة المختلفة، مع الأشكال القديمة المتوارثة – التي أشرنا إليها - ، و التي ما زالت تملك دوراً و تأثيراً ملموسا في عملية توزيع الدخل و الثروة و السلطة ، و لنا في تجربة الأحد عشر عاماً الماضية أن نستنبط العديد من الأمثلة على هذه العلاقة التي ينجم عنها ما نسميه بإعادة إنتاج العلاقات المتخلفة بما فيها ظاهرة الولاء الشخصي والاستزلام, خصوصاً في أوساط الجماهير الفقيرة, حيث يتم استغلال هذه العلاقة عبر أشكال الدعم الانتخابي في الظروف الراهنة, علاوة على الأشكال والعلاقات الأخرى بحيث يمكن توصيف علاقات " الاستزلام " السائدة عندنا اليوم على أنها تأكيد لمجتمع ما قبل الحداثة أو الرأسمالية ، حيث تمتزج و تنصهر فيها علاقات الإنتاج الاقتصادية من ناحية و علاقات التبعية و الولاءات ذات الطابع الفردي أو الجهوي من ناحية أخرى ، و كما هي الحال عندنا في الضفة و القطاع فإن هذه العلاقات الاستزلامية تأخذ شكل العلاقات الشخصية القائمة على المصالح الاقتصادية الآنية والمباشرة، عبر النخب السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي أفرزها الوضع الراهن خلال مرحلة ما بعد أوسلو، والذين تتجلى قوتهم الأساسية في الجهاز البيروقراطي المدني والعسكري والأمني من ناحية أخرى.
وفي هذا الجانب, نشير إلى أن تشخيص جوانب الأوضاع والمتغيرات في سياق التطور الاجتماعي ، اظهر مجموعة من الحقائق والمؤشرات :
أ-تطورت العلاقات الاجتماعية في اتجاه تبلور مجتمع طبقي مشوه ، وتابع ، في سياق نسيج اجتماعي مفكك ومتنوع في سماته الطبقية بين القديم والحديث والمعاصر .
ب- تميز هذا التطور في شكله وجوهره ، بطابع تراكمي كمي مشوه ، بحيث لم يستطع أن يفرز بوضوح ملموس أية أطر برجوازية تنويرية أو ليبرالية ، فكرية ، أو ثقافية معاصرة ، وبقيت القيم والأفكار القديمة والتقليدية الموروثة سائدة في أوساط الوعي الاعتيادي (العفوي) للجماهير الشعبية بالرغم من بعض أوجه الحداثة الشكلية المستوردة التي اسهمت في تعميق حالة التبعية والتخلف الاجتماعي الى جانب الهبوط السياسي .
ج- إلا أن الانقسام الاجتماعي الداخلي ، في جوهره وحقيقته الموضوعية يعبر عن نفسه في صفوف أبناء شعبنا ، في الضفة والقطاع ، على قاعدة توزع السكان في السُلَّم الطبقي أو الاجتماعي ، بين القلة من الأغنياء ، والأغلبية الساحقة من الفقراء في المدن والقرى والمخيمات.
د- تعاظم دور الكمبرادور ، والشرائح الرأسمالية الطفيلية بالتحالف مع بيروقراطية السلطة (المدنية والعسكرية) والرأسمالية التقليدية القديمة ، في الصناعة والزراعة والخدمات وغيرها من القطاعات، بحيث أن رموز هذا التحالف يشكلون اليوم القاعدة الأساسية –المادية والاجتماعية - للسلطة السياسية، ما يفسر النزوع صوب الهبوط السياسي والتعاطي مع اطره وأدواته الخارجية والداخلية.
هـ- تزايد انتشار الفقر الذي لم يتوقف عند الفقر المادي أو الفقر في الدخل بل تخطى هذه الحدود إلى الفقر في القانون والنظام والقيم ، وتزايد التفاوت اتساعا بين مستويات المعيشة ، في معظم مناطق الضفة وقطاع غزة ، علاوة على مخيمات اللاجئين إلى جانب ذلك نلاحظ استمرار التفاوت الاجتماعي –في سياق التخلف التاريخي- بين الجنسين الناجم عن تكريس الهيمنة الذكورية والمجتمع الابوي بصورة صارخة .
و- ونتيجة تراكمات الخمس سنوات الماضية 2000-2005 ودون القفز عن الحالة الثورية والتضحيات النضالية التي قدمها ابناء شعبنا في انتفاضته المجيدة ، الا اننا لا نستطيع اغفال العديد من المظاهر التي تسود مجتمعنا اليوم عبر سلوكيات أنانية تتسم بالراهنية والتركيز على حل قضايا الأجل القصير دون أن تعطي الاهتمام المطلوب لقضايا المستقبل ، ويمكن الاستدلال على ذلك من خلال تفاقم مظاهر التخلف الاجتماعي ، وتراجع العلاقات القائمة على أساس المشروع الوطني والعمل الحزبي المنظم – وتراجع دور الأحزاب الوطنية عموما واليسارية خصوصا– لحساب العشيرة والعائلة ، وقيم النفاق والإحباط وقوة التخلف الظالمة بدلا من قيم التكافل والتضامن والمقاومة . ترافق إلى جانب ذلك ، غياب المجتمع السياسي الفلسطيني ليحل محله – في الفترة الأخيرة قبل واثناء انتفاضة أيلول 2000 – مجتمع اقرب إلى الفوضى والانفلاش، محكوما بالمصالح والثروات الشخصية، على قاعدة أن السلطة مصدر للثروة وليست مصدرا للنظام والقانون والعدالة – إلى جانب الجرائم والانحرافات بكل أنواعها الأخلاقية والمجتمعية التي لم يعرفها مجتمعنا من قبل .
ز-تدني حجم ونسبة الخدمات المقدمة للمناطق الفقيرة في الضفة والقطاع.
ح- منذ قيام السلطة عموما، وفي السنوات الخمس الاخيرة خصوصا ، برز دور السلطة الفلسطينية في تشغيل ما يزيد عن (140) ألف موظف مدني وعسكري، بنسبة تصل إلى 17% من اجمالي القوى العاملة الفلسطينية و هي نسبة بالغة الارتفاع بالنظر إلى عدم قدرة الاقتصاد الفلسطيني المحلي على تمويل عمالة حكومية مرتفعة، خصوصاً و أن الرواتب تستحوذ على أكثر من 60 % من مخصصات الإنفاق الجاري من جهة ، إلى جانب أن معظم التعيينات و الوظائف لا يحكمها قانون يقوم على أساس تكافؤ الفرص بل هي مخصصة أساسا وبالدرجة الرئيسية لحزب السلطة بمعناه الواسع الذي يضم حركة فتح و مجموعات متنوعة من المحاسيب و أبناء و أقارب كبار المسؤولين ممن يعيشون أوضاعاً مريحة في حين يحرم من هذه الوظائف مستحقيها من الفقراء الذين لا واسطة أو محسوبية لديهم رغم كفاءتهم و شهاداتهم العليا أو خبراتهم.
ي- و في ما يتعلق بمؤشرات الجريمة ، التي لم تتراجع أو تقل نسبتها ، في رأينا ، بسبب تزايد سطوة المتنفذين من رموز الاستزلام في أوساط بعض الاجهزة الامنية الى جانب بعض العشائر و الحمائل و العائلات – على مستوى الضفة و القطاع في الأوساط الشعبية الفقيرة المستضعفة بصورة خاصة – و انتشار ظاهرة السلاح في المجتمع الفلسطيني إلى جانب عمليات التهريب غير المشروعة بكل أنواعها ، و صمت الأجهزة الأمنية – بل و تواطئها أحيانا-، كل ذلك أدى إلى تزايد نسبة الجريمة و انتشار الزعران " و القبضايات " ذات الطابع العشائري و السلطوي معاً في إطار واحد.
كل ما تقدم ، و غيره الكثير من تفاصيل الحياة المجتمعية والمعيشية، يؤكد على ثقل العبء الذي يجب أن تتحمله القوى السياسية الفلسطينية بمختلف تلاوينها من أجل تثبيت وبلورة النظام الديمقراطي البرلماني في بلادنا ، حيث أن دور هذه القوى في الجانب الاجتماعي لا يقل أهمية و خطورة عن دوره في جانب التحرر الوطني وحق العودة والتمسك بـ م.ت.ف ككيان سياسي ووطن معنوي لابناء شعبنا في الشتات ، و هو أيضاً يعزز رؤيتها لطبيعة هذه المرحلة، كمرحلة تحرر وطني و ديمقراطي ، عبر العلاقة الجدلية بين التحرر الوطني و البناء المجتمعي القائم على الديمقراطية و العدالة و سيادة القانون و النظام العام و تكافؤ الفرص, خاصة وأن الوضع الفلسطيني اليوم, يبدو في مأزق عميق نتيجة الاختلال الشامل لميزان القوى، حيث يتبين بوضوح، بعد قيام العدو الإسرائيلي بإخلاء قطاع غزة، أن هذا الإخلاء في جوهره، هو تجسيد لمخططات الدولة الصهيونية الهادفة الى فرض " خريطة التوسع الإسرائيلي " مدعومة بقوة الدولة الأمريكية التي باتت تعمل على تحقيق السيطرة على العالم، وأولاً على الوطن العربي كله.
إن هذا المشهد الفلسطيني المأزوم الذي يعيشه شعبنا الفلسطيني اليوم، ارتبط ومازال بعجز كل أطراف الحركة الوطنية والإسلامية عن التوصل الى الاستراتيجية أو الرؤية المشتركة للمهام التحررية الوطنية والمهام الديمقراطية والمطلبية الداخلية من جهة، بمثل ما ارتبط- وبصورة أساسية- بأداء السلطة وممارستها التي أسست وراكمت للعديد من مظاهر التراجع والخلل والفساد والفوضى على الصعيد الداخلي، في موازاة هبوطها السياسي وتقديمها لأقصى التنازلات من أوسلو الى واي بلانتيشن الى خارطة الطريق وصولاً الى " خطة شارون " دون أي خطوة إيجابية ملموسة أو تنازل صغير من العدو الإسرائيلي، الأمر الذي يدل على حقيقة ساطعة، تنجلي في أن التفاوض وتقديم التنازلات لا يتعلق بما يسمى بالمرونة أو الواقعية السياسية، بل إن المسألة تتعلق بميزان القوى أولاً، والتمسك بثوابتنا الوطنية ثانياً، حيث لا مفاوضات ولا تسويات ممكنة ( ولا نقول عادلة ) في ظل ميزان قوى مختل مهما كان مستوى التعاطف الدولي معنا.
وها نحن اليوم، وبعد مرور اثنا عشر عاماً على أوسلو، بالرغم من كل ما عقدته السلطة الفلسطينية من اتفاقات، لم يلتزم العدو الإسرائيلي بأي من نصوصهاـ فإن مشروع دولتنا الوطنية الفلسطينية يتعرض للمزيد من التفكك والتراجع بحيث باتت " الدولة " الفلسطينية في اللحظة الراهنة هي دولة " السلطة " لا تملك أياً من المقومات الأساسية للسيادة، ولا يمكن أن تصبح دولة في ظل اشتراطات خطة شارون والدعم الأمريكي اللامحدود حتى لو اعترفت بها الولايات المتحدة وإسرائيل كدولة قابلة للحياة كما يزعمون، وهم يدركون أنهم يدفنون حلمنا الفلسطيني في دولتنا على كل أرضنا المحتلة. ذلك أن قيام دولة فلسطينية حقيقية، يتطلب تحقيق متطلبات السيادة الفلسطينية الكاملة على ارضنا المحتلة 1967.
لكن هذا الهدف لم يعد قابلاً للتحقق برؤى أو ببرنامج وأدوات فلسطينية معزولة عن محيطنا العربي، فالدولة الفلسطينية- كما القضية نفسها- ترتبط ارتباطاً وثيقاً بمحيطها على قاعدة أن الصراع هو صراع عربي- صهيوني في شكله وجوهره, لذلك وفي ظل استمرار غياب هذه القاعدة, سنظل نشهد تحقق الحل الصهيوني الذي تفرضه الدبابات الصهيونية على أشلاء الجماهير الفلسطينية معمداً بالدم، الأمر الذي يفرض البدء بإعادة التأسيس لتغيير ميزان القوى، كما يفرض إعادة بناء الرؤية المتعلقة بالمسألة الفلسطينية ارتباطاً بمبدأ وقواعد الصراع العربي الصهيوني، دون أن يعني ذلك تأجيلاً أو تراجعاً عن ضرورة استمرار حركة التحرر الوطني الديمقراطي في فلسطين- بكل فصائلها وأحزابها- عن ممارسة دورها النضالي الطليعي في كل الظروف، انطلاقاً من أن ظروفنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية المعقدة التي نعيشها اليوم تحدد لنا وتعرفنا على المشكلة المباشرة أو العقبة المباشرة، إنها المشكلة والحل في آن واحد- وهي تتمثل في تغيير هذا النظام السياسي الذي نعيشه عندنا بصورة ديمقراطية ضاغطة، لأن "الحرية والتطور والتقدم السياسي تحتاج الى وسط لكي تنمو في إطاره" ...، ولن يتهيأ هذا الوسط إلا عبر نظام سياسي ديمقراطي يعبر عن مصالح الأغلبية الساحقة "من خلال مؤسسات تتيح للحرية وللعقل أن يفعلا فعلهما"... هذا النظام الوطني الديمقراطي يجب أن يصبح الهدف الاستراتيجي الأساسي والفكرة المركزية التوحيدية لجماهيرنا وقواها السياسية في بلادنا، وذلك بالارتكاز الى العناصر الأساسية التالية :
- الثوابت الوطنية الفلسطينية في تقرير المصير وحق العودة والحرية والاستقلال وإقامة دولتنا المستقلة كاملة السيادة على أرضنا المحتلة في حزيران 1967 وعاصمتها القدس.
- تعزيز خيار مقاومة الاحتلال عموماً، وفي الضفة الفلسطينية خصوصاً.
- إقامة المؤسسة الديمقراطية تطبيقا لمبدأ سيادة القانون العادل .
- تحقيق وتعزيز الوحدة السياسية العامة في صفوف الشعب في إطار التعددية والديمقراطية لجميع القوى والفصائل والأحزاب الفلسطينية .
- الانتخابات الديمقراطية وفق مبدأ التمثيل النسبي ، وبصورة دورية ، بما يحقق مبدأ المشاركة الشعبية بصورة واسعة .
إنّ مخاطر الظرف الراهن وتعقيداته ، تفرض على كل من قيادة م.ت.ف وقيادة السلطة وكافة القوى الوطنية والإسلامية المعارضة أن تتداعى في مجابهة " خطة شارون " لصياغة الرؤية والاستراتيجية السياسية والمجتمعية الفلسطينية التي تتضمن أولا:ً رفض الاعتراف المحتمل المتبادل بين " دولة غزة " ودولة العدو الإسرائيلي، وثانياً: الربط المتزامن والمتداخل لكل قضايانا الوطنية المرتبطة بانسحاب العدو الإسرائيلي وإزالة مستوطناته وجداره الفاصل من كل أرضنا الفلسطينية المحتلة عام 1967 من ناحية ولكل قضايانا الديمقراطية المطلبية الداخلية ، بدءا من تطبيق الانتخابات للمجلس الوطني ، والتشريعي ، والهيئات المحلية وغير ذلك من المؤسسات بصورة دورية ، وتطبيق عملية التغيير الداخلي ومأسسة كافة الوزارات والهيئات والمنظمات الحكومية وغير الحكومية في القطاعين العام والخاص وفق قواعد الإدارة الحديثة ، وبالالتزام الكامل بتطبيق سيادة القانون العادل على قاعدة الفصل بين السلطات وتطبيق مبدأ تكافؤ الفرص وفق مبدأ الكفاءة والخبرة على الجميع بديلا لمبدأ أهل الثقة والمحاسيب الذي استندت اليه السلطة في معظم ممارساتها طوال الأحد عشر عاماً الماضية .
ثانياً: التحديات الاقتصادية:
منذ بداية العام الثاني على قيام السلطة، اصطدمت آمال وتطلعات شعبنا ، بممارسات سياسية واقتصادية واجتماعية داخلية ، شكلت نقيضا لكل ما توقعته أو عولت عليه جماهيرنا .
وارتباطاً بهذا الواقع ، تشكلت بيئة مواتيه لتوليد ، مظاهر الفوضى والاحتكار وتراكم الثروات الخاصة والطارئة بصورة غير مشروعة ، وتراجع النمو الاقتصادي المرتبط بالبعد التنموي المجتمعي ، وعدم توظيف أو استغلال الإمكانات والتوجهات ذات البعد الإيجابي للقطاعين العام والخاص لرأس المال الفلسطيني في الداخل والشتات ، وتقديم الاعتبار الفئوي السياسي فيما يتعلق بالجوانب الاقتصادية – الاجتماعية، واستمرار التفرد المطلق في القيادة على صعيد السياسة والاقتصاد والإدارة ، كل هذه العوامل وما أنتجته من آثار سلبية ، علاوة على استمرار العدوان والحصار الإسرائيلي ، دفعت إلى تعزيز المسار الهابط في الأوضاع الاقتصادية والمجتمعية خلال الأحد عشر عاماً العجاف الماضية .
وفي هذا المناخ اعلنت "إسرائيل" "خطة شارون" أو الانسحاب الأحادي من قطاع غزة للخروج بما يضمن استمرار تفاقم المزيد من الأزمات السياسية والاقتصادية الفلسطينية ، والتي شهدنا ومازلنا نشهد تداعياتها على الشارع الفلسطيني عبر العديد من المؤشرات :
1- تسارع عملية الاستقطاب الطبقي الفلسطيني واتساع الفجوة الطبقية في المجتمع الفلسطيني ليس عبر اتساع وتزايد نسبة الفقراء والفقر المدقع فحسب، بل باتجاه تزايد انحسار الطبقة الوسطى أو البرجوازية الصغيرة التي يتزايد انضمام غالبية أفرادها إلى طبقة الفقراء.
2- انخفاض الدخل الحقيقي للفرد إلى أكثر من 50% عما كان عليه عام 1999 ، إذ أنه بلغ في ذلك العام حوالي 1750 دولار للفرد في السنة، هبط إلى حوالي 850 دولار فقط عام 2004 حسب تقرير البنك الدولي الصادر في حزيران 2004 الذي اشار إلى أن حجم الناتج المحلي الفلسطيني وصل إلى (3141) مليون دولار وهذا يعني انخفاض في الناتج المحلي بما يزيد عن 40% قياسا بعام 1999 ، مع العلم بان السوق الفلسطيني يسوده نفس مستوى الاسعار السائدة في السوق الاسرائيلي، الذي يبلغ متوسط نصيب الفرد فيه من الناتج القومي الاجمالي 18000 دولار، أي اكثر بـ 21 ضعفاً من الناتج الفردي للضفة والقطاع . بل انه حتى عند مقارنة القوة الشرائية لتلك المبالغ مع الاردن وسوريا ومصر، فان القيمة الحقيقية لمتوسط نصيب الفرد الفلسطيني من الدخل القومي الاجمالي وفقا لدراسات مقارنة جرت في مطلع التسعينات تصل الى نحو 72% من متوسط نصيب الفرد في مصر و45% في سوريا و49.6% في الاردن .
3- ارتفاع نسبة الفقراء إلى إجمالي السكان من 20.1% عام 97 إلى أكثر من 60% عام 2002 في الأراضي الفلسطينية، وقد اظهر مؤشر الفقر النسبي ان 67.6% من الأسر قد عانت من الفقر عام 2003 ، كما اظهر مسح نتائج الإجراءات الإسرائيلية على الأوضاع الاقتصادية للأسر الفلسطينية في أيلول 2004 ان 63.8% من الأسر الفلسطينية تقع تحت خط الفقر بواقع 53.5% في الضفة الغربية و82.7% في قطاع غزة والأكثر أهمية في هذا الخصوص ، هو أن أسرتين من ثلاثة اسر فقيرة في قطاع غزة تعاني من حالة الفقر المدقع ، أي أنها غير قادرة على توفير المتطلبات الدنيا من الطعام والملبس والمسكن ، مقارنة مع أسرة واحدة في الضفة من كل أسرتين فقيرتين تعيش حالة من الفقر المدقع ، ما يعني تزايد نسبة الفقر بحيث وصلت في ظروف الانتفاضة خلال الفترة (2000 – 2005) –وبسبب البطالة- إلى 60% من مجموع الطبقة العاملة في السوق المحلي الفلسطيني، ولا نعتقد أن هذه النسبة ستتراجع بصورة ملموسة في ظل ما يسمى بالانسحاب الإسرائيلي والوعود والأوهام التي ارتبطت بذلك طالما بقيت اوضاع ومؤسسات السلطة الفلسطينية دون تغيير ديمقراطي يفسح المجال للمشاركة الديمقراطية لجميع القوى السياسية الفلسطينية .
وفيما يتعلق باستفحال ظاهرة الفقر والفقر المدقع وانتشارها بصورة لم يسبق لها مثيل من قبل، فإننا، لا بد من أن نؤكد على أن انتشار هذه الظاهرة، واستفحالها في ظروف الانتفاضة في مجتمعنا، لم تكن بسبب السياسات العدوانية الإسرائيلية –التي نقر بها سببا أساسيا- فحسب، ولكنها أيضا نتيجة للتراكمات السلبية للسياسات الداخلية طوال الأحد عشر عاما الماضية، وتعمق الخلل والانحطاط والفساد والتلوث الإداري والمالي، بحيث باتت ظاهرة الفقر والفقر المدقع لا تقتصر على المعيشة فقط، بل تتخطاها إلى الفقر في النظام وسيادة القانون العادل، وفقرا في القيم والعلاقات الاجتماعية والمشاركة، يتبدى ذلك مع استشراء مظاهر البذخ والإنفاق الجاري الذي يصل إلى 60 ألف دولار يوميا تصرف على المهمات والسفر للخارج والمباني الحكومية المستأجرة والتليفونات المحمولة والسيارات الفارهة، يترافق كل ذلك مع الاستيراد المفتوح بلا قيود أو ضوابط من السوق الإسرائيلي الذي زاد عن 2.2 مليار دولار عام 2003 أكثر من نصفه كماليات لا معنى لها سوى أنها تنسجم مع تراكم الثروات الطفيلية لدى العديد من رموز السلطة، بمثل ما تعبر عن هذه الفجوة التي تتسع باستمرار بين توزيع الدخل والثروات.
وفي هذا السياق، فإننا نؤكد أن تزايد نمو الفئات والشرائح الفقيرة في مجتمعنا –وهي الأغلبية الساحقة- لا يتحقق كنتيجة لأسباب خارجية (إسرائيل وغيرها) فحسب، ولكن كنتيجة لسياسات السلطة على الصعيد الداخلي وأفعالها الاقتصادية الأنانية الضارة ، مما يؤدي موضوعيا إلى زيادة مساحة ونوعية وحجم التدهور الاقتصادي والاجتماعي ، وما يعنيه ذلك من استمرار التراكم الصاعد للعاطلين عن العمل وحجم الفقر بكل أشكاله ودرجاته .
4- التناقص المضطرد في قدرة الاقتصاد المحلي الفلسطيني على خلق فرص عمل جديدة وتراجع قدرته على التشغيل واستيعاب العمالة الفلسطينية في ظل تنامي ظاهرة البطالة بشكليها السافر والمقنع التي تصل إلى حوالي 30% من القوى العاملة في العام 2005 ، حيث لم يستطع سوق العمل الفلسطيني أن يوفر جزءا كبيرا من فرص العمل الجديدة خلال الاعوام 2003/2004/2005، فيما انخفضت الأهمية النسبية للعمالة الفلسطينية في سوق العمل الإسرائيلي من 22.9% في نهاية عام 1999 إلى 9.7% في 2003 " . علاوة على اتساع الفجوة بين نمو القوى العاملة والقدرة على التشغيل ، واستمرار تراجع مستوى المعيشة ، ما يؤكد على استمرار معاناة اقتصادنا الفلسطيني وبقاءه ضمن حالة الانكشاف والضعف والهشاشة .
5- تواصل الهجمات التدميرية للعدو الإسرائيلي على مقدرات شعبنا عموما ، وفي القطاعات الانتاجية خصوصا في الصناعة والزراعة والسياحة إلى جانب استمرار الحصار والاغلاق داخل المدن والقرى الفلسطينية ، وفصل الضفة عن القطاع ، وما نتج عن هذه الاجراءات العدوانية من تخريب للمنشآت الزراعية والصناعية واضعاف حركة التجارة والصادرات الفلسطينية ، حيث تقدر الخسائر المباشرة خلال السنوات الخمس الماضية ما يقارب من خمسة عشر مليار دولار بمعدل 255 مليون دولار شهريا .
6- بالنسبة لتطورات التجارة الخارجية الفلسطينية، فما زالت إسرائيل تهيمن على هذه التجارة حيث أن نسبة وارداتنا منها تصل إلى 73% مقابل 2% فقط من الدول العربية، و 25% من باقي بلدان العالم، ولا يختلف الأمر بالنسبة للصادرات التي تصل حصة إسرائيل فيها أكثر من 92% ، هذه الأرقام تجعل الاهتمام بتطوير العلاقة التجارية مع البلدان العربية باتجاه توسيع قاعدة المصالح المشتركة وتعزيز فرص نمو هذا التعاون مع الأولويات الضرورية في هذا الجانب .
7- تزايد الاتجاه نحو إحلال القروض محل المنح في تمويل الاستثمار العام حيث تدل معطيات تقرير معهد ماس المشار إليه ، على ارتفاع حجم الدين العام الخارجي الفلسطيني ليتجاوز 990 مليون دولار عام 2003 ،ارتفع إلى 1239مليون دولار في تشرين اول 2004 ، بما يعني استمرار ارتهان الإنفاق الحكومي التطوري لما يتوفر من عون دولي ، سواء كمنح أو قروض .
8- استمرار محدودية حجم الائتمان المصرفي حيث لم تزد نسبة القروض للودائع عن 40% –كما صرح محافظ سلطة النقد الفلسطينية د. جورج العبد في مايو 2005- وبالطبع فإنها تتراجع وتنخفض بدرجات عالية في ظروف الانتفاضة الراهنة، رغم أن السياق الطبيعي أو المنطقي في العلاقة في ظروفنا الراهنة يتطلب تزايد الدور الوطني للبنوك المحلية في دعم قطاعي الصناعة والزراعة والمشاريع الصغيرة، إلا أن استمرار الهبوط العام وغياب النظام وتفاقم مظاهر الخلل والفساد وعم الاستقرار، ساهم كل ذلك في تغييب الدور الواجب أن تقوم به البنوك في هذا الظرف.
9- انخفاض حجم الاستثمار الكلي من 2162.4 مليون دولار عام 1999 الى 727.2 مليون دولار عام 2002 ( ). اضافة لتراجع مضطرد في معدلات نمو الاستثمار الخاص، سواء بالنسبة لإنشاء المشاريع الجديدة، أو بالنسبة للقيام بالتوسعات في المشاريع القائمة، بل أن هناك عديد من المشروعات القائمة بدأت تغلق أبوابها، ولا نعتقد بتحولات نوعية في المشاريع الاستثمارية بعد إخلاء الاحتلال الإسرائيلي لقطاع غزة، حيث ان رموز التحالف الكومبراودري والبيروقراطي ستسخر مساحة كبيرة من الاستثمارات الممكنة في قطاع غزة لحساب مصالحها الشخصية أولا وبالارتباط بالخطة الأمريكية الإسرائيلية الهادفة لعزل الاقتصاد في قطاع غزة عن امتداده في الضفة الفلسطينية ضمن المشهد الغزاوي. وذلك كله يعود إلى عزوف القطاع الخاص الداخلي عن المشاركة الفعالة في القطاعات الانتاجية بسبب العوامل التي أشرنا إليها، والى ضعف مشاركة رأس المال الفلسطيني المغترب وإحجامه عن الاستثمار ليس بسبب العوامل السلبية الداخلية المشار إليها فحسب، بل أيضا –وبصورة رئيسية- لأن رأس مال الشتات هو جزء من رأس المال المالي المعولم أكثر منه رأس مال ذو هوية وطنية أو قومية، فالمعروف عن رأس مال الشتات أنه رأس مال مالي يتركز في مجال الخدمات والتجارة العامة وليس رأس مالا إنتاجيا في الصناعة أو الزراعة، وهو مرتبط قبل كل شئ بالمسار السياسي لرأس المال المالي المعولم .
10- بطء النمو في العلاقات الاقتصادية الفلسطينية- العربية، لكنه أيضا يتخذ طابعاً مشوهاً حيث يتسارع نمو الواردات بمعدلات تفوق كثيراً معدلات نمو الصادرات الفلسطينية إلى تلك الأسواق. الأمر الذي يلقي بظلال الشك على إمكانية نمو وتطور هذه العلاقات بشكل صحي وبما يعزز الترابط والتكامل ويؤسس لإرساء علاقات قادرة على النمو على أساس تبادل المنافع وتكافؤها، خاصة في ظل قابلية الدول العربية للتطبيع مع إسرائيل والتوافق مع سياساتها، وأن المؤشر الإيجابي لنمو علاقات اقتصادية فلسطينية مباشرة مع العالم الخارجي، رغم أهميته في كسر احتكار إسرائيل للسوق الفلسطيني إلا إنه يتخذ طابعاً تجارياً بحتاً، ويحول السوق الفلسطيني الى سوق استهلاكي/ لوكالات وعقود التوزيع/ ويؤثر سلباً على القدرة التنافسية للصناعات الوطنية الفتية في الأسواق المحلية ويهدد وجودها. وهناك العديد من الأمثلة على ذلك مثل صناعة الأحذية والجلود- الملابس-الأدوية...... الخ.
إنّ هذه الصورة القاتمة للأوضاع الاقتصادية الفلسطينية بكل مكوناتها وأنشطتها وقطاعاتها الإنتاجية وغير الإنتاجية ، تتطلب تداعي واستنهاض كافة الفعاليات والقوى السياسية والكفاءات الاقتصادية في القطاعين العام والخاص لصياغة خطط الطوارئ والسياسات والآليات المطلوبه للخروج من هذه الأزمة المستحكمة عبر رؤية اقتصادية تنموية وطنية فلسطينية ارتباطاً بالمحيط العربي من حولها، تستهدف إلغاء التبعية للاقتصاد الإسرائيلي، في موازاة التخطيط الشامل للتحولات الاقتصادية الفلسطينية عموما ولقطاعي الصناعة والزراعة خصوصا ، في إطار التحولات التطويرية الشاملة لتحديث مجتمعنا الفلسطيني في الضفة والقطاع كوحدة سياسية مجتمعية اقتصادية واحدة ، لكن هذا الهدف الوطني الذي تتطلع اليه جماهيرنا، سيصطدم في الظروف الراهنة باستمرار المواقف العدوانية السياسية والإجرائية التي كرست المعاناة والحصار والإغلاقات لمعابرنا وحدودنا والسيطرة على أرضنا وسماؤنا وبحرنا نقيضاً لكل أوهام وديماغوجية بعض أطراف السلطة والقوى السياسية التي روجت لهذا الإخلاء، وها هي اليوم تعيش حالة من الإرباك بعد أن فقدت مصداقيتها في ضوء فشلها المريع لتطبيق " خططها التنظيمية والتنموية " في الأراضي المخلاة التي باتت مرفقاً للفوضى والتلوث البيئي والمصالح الأنانية .
إن هذه المرحلة الحرجة ، تحمل في طياتها جملة من المخاطر الجدية غير المسبوقة على قضيتنا الوطنية وثوابتنا في حق العودة والاستقلال والدولة ، إلى جانب مخاطرها التدميرية على اقتصادنا الفلسطيني باستمرار إلحاقه وتبعيته للاقتصاد الاسرائيلي ، علاوة على تفكيكه وتقسيمه إلى اقتصادين منفصلين في الضفة والقطاع ، يملي علينا مزيدا من الصعوبات والتحديات الاقتصادية –علاوة على التحديات السياسية التي أشرنا إليها- وأهمها ، تحدي التنمية الوطنية الشاملة لكل من الضفة والقطاع كوحدة سياسية اقتصادية واحدة عبر تطبيق استراتيجية وطنية تنموية فلسطينية، وهو شعار أو مطلب شعبي فلسطيني أصبح أقرب الى الابتدال والسخرية نتيجة عجز الحركة السياسية الفلسطينية عن بلورته أو تطبيقه ولو في الحدود الدنيا، بحيث بات تناول موضوع الاستراتيجية التنموية في أرضنا الفلسطينية المحتلة لا تعترضه ضبابية المستقبل وتعقيدات الحاضر ، ليس بالنسبة للاقتصاد فحسب ، بل تعترضه أيضا إشكالية عدم اليقين بالنسبة للمستقبل السياسي أيضا ارتباطا بالموقف العدواني الإسرائيلي المسنود بدعم أمريكي صريح ومباشر، ذلك انه في حال تكريس العدو لعملية الفصل الاقتصادي بين الضفة والقطاع، وما سينتج عن ذلك من متغيرات وتراكمات سلبيه في العلاقات الاجتماعية والسياسية التي قد تصيب مجتمعنا الفلسطيني كانعكاسات للواقع السياسي الاقتصادي الجغرافي والاجتماعي " الجديد "، وهو أمر قابل للتحقق، في ظل التفكك المجتمعي والاقتصادي الراهن بين الضفة والقطاع، وغياب وحدة العلاقات الاجتماعية ووحدة السوق الفلسطيني بينهما بسبب الإجراءات العدوانية الإسرائيلية الى جانب تعقيدات وقيود بروتوكول باريس الاقتصادي من ناحية وتراخي السلطة الفلسطينية في تطبيق عملية توحيد القوانين عموماً والقوانين الاقتصادية ( الشركات وغيرها ) خصوصاً من ناحية ثانية، الأمر الذي أصبح معه الاقتصاد الفلسطيني قابلاً للتراجع والانقسام الى اقتصاد مشوه في الضفة، وآخر أكثر تشوهاً وضعفاً وهشاشة في قطاع غزة ، ومخاطر هذا الانقسام او التشتت الذي سيؤدي –اذا ما قدر له الاستمرار- إلى انقسام المجتمع الفلسطيني إلى "مجتمع" في الضفة وآخر في قطاع غزة .
- لذلك فإننا لا نبالغ في القول إن اقتصادنا الفلسطيني – خاصة في ظروف الحصار والتدمير الإسرائيلي طوال الخمس سنوات الماضية – بات أكثر ضعفا وانكماشا مما كان عليه من قبل ، الأمر الذي أدى إلى تغييب الوضوح أو التأكيد بالنسبة للمستقبل على الصعيد الاقتصادي والسياسي معا ، نتيجة للدور الإسرائيلي – الأمريكي على وجه التحديد من ناحية ونتيجة لعجز وتراخي أطراف الحركة السياسية، في اطار المعارضة الديمقراطية واليسارية خصوصاً ، عن ممارسة الضغط الجماهيري الديمقراطي لتطبيق برامجها وشعاراتها من ناحية ثانية.
- ولكننا على ثقة من أن إعادة بناء العلاقات الداخلية الفلسطينية ، وفق ثوابتنا الوطنية والمجتمعية ، وبإرادة وطنية تقوم على المشاركة والتعددية أمر ممكن قابل للتحقق من خلال اجراء عملية الانتخابات الديمقراطية الفلسطينية في مواعيدها المحددة والتزام الجميع بتوفير البيئة الايجابية المناسبة لهذه العملية وحماية واحترام نتائجها على اساس امتثال الجميع لقواعد واسس مبدأ تداول السلطة في إطار الديمقراطية والمشاركة ... حينئذ نكون قد امتلكنا فعلا ، المدخل القادر على تجسيد الوحدة الوطنية الداخلية بما يمكننا من امتلاك القدرة على تحديد معالم مستقبلنا السياسي/الاجتماعي/الاقتصادي والتنموي بوضوح ، على قاعدة التمسك بثوابتنا واهدافنا الوطنية والديمقراطية من اجل التحرر والعودة والاستقلال والعدالة الاجتماعية وسيادة القانون