جديد حكومة بينت: “تقليص الصراع”
حلمي الأسمر
لكل حكومةٍ رسالتها وفلسفتها، فما جديد حكومة رئيس وزراء العدو، نفتالي بينت؟ خصوصا بعد أن رحلت “صفقة القرن” مع عرّابها ترامب؟ في منطقتنا لا فراغ، فالصراع الساخن يحتاج كرة للعب بها، أو قل دميةً لإلهاء الأطراف والمعنيين، خصوصا رجال الإعلام والنخب، للعب بها، فما هي “اللعبة” الجديدة التي يحملها بينت، القادم من مجلس إدارة المستوطنات لرئاسة حكومة العدو؟
يمكن البحث عن هذا الجديد في الخطاب الأول الذي وجهه بينت إلى جمهوره، وإلى الفلسطينيين والمجتمع الدولي أيضا، بوصفه بطاقة اعتماده زعيما جديدا لكيان العدو. استعمل فيه مصطلحا جديدا ربما لم يلفت أنظار كثيرين، “تقليص الصراع”، حين قال إن على “الفلسطينيين أن يتحمّلوا المسؤولية عن أفعالهم وأن يفهموا أن العنف سيُواجه بردٍّ حاسم”. وأن “الهدوء الأمني وانشغال الفلسطينيين بالشؤون المدنية سيؤديان إلى تطورات في المجال الاقتصادي وتقليل الاحتكاك مع الجيش الإسرائيلي وإلى “تقليص الصراع”.
يختار السياسيون كلماتهم بعناية فائقة. ولهذا لا يمكن أن يكون استعمال هذا الاصطلاح مصادفةً، فهو في رأي من يرصد السياسة الإسرائيلية بدقة جديدٌ على الساحة، ولم يتم استعماله من قبل بمثل هذا الوضوح. كان نتنياهو يتحدّث عن “سلام مقابل سلام” و”السلام الاقتصادي” أما فلسفة بينت فتختلف كليا عن المفهوم الذي اعتمده نتنياهو في تعامله مع القضية الفلسطينية خلال العقد ونيف السابق، وهو يقوم على زيادة السيطرة على الفلسطينيين، ومراقبتهم، والتحكّم في مفاصل حياتهم من جهة، وتقديم تسهيلات اقتصادية إنعاشية من جهة أخرى، تُبقي القوم على قيد الحياة فقط. ولهذا لم يجد نتنياهو نفسه مضطرّا لخوض أي عملية سياسية مع الفلسطينيين في السنوات الأخيرة معتبرا أنه لا يوجد “شريك” فلسطيني.
مقولة “تقليص الصراع” لم يستعملها أي من الساسة الإسرائيليين، وهي تختلف عن “إدارة الصراع” و”حل الصراع”. ومع قليل من البحث نجد أنها من إنتاج أستاذ التاريخ الإسرائيلي، ميخا غودمان، وهو أحد الذين يستشيرهم بينت ويلهمونه بأفكارهم، طبعا إلى جانب طاقم كبير من المختصين ورجالات الاستخبارات والساسة المخضرمين والتكنوقراط. عبارة “تقليص الصراع” التي استخدمها بينت في خطابه مأخوذة من كتاب غودمان “مصيدة 67″، والذي صدر العام 2017. كان بينت قد نشر على صفحته على “فيسبوك” في مايو/ أيار 2017، تقييما للكتاب، وقال إنه قد لا يتفق مع كل ما جاء فيه، إلا أنه يعد عملا لامعا ومثيرا للنقاش البناء!
ما هي قصة غودمان وكتابه الذي أثار جدلا كبيرا في مجتمع الكيان، ولم يحظ باهتمام القارئ العربي، ولا من يتابع الشأن الصهيوني إلا بالحد الأدنى من الاهتمام، على أهميته خاصة في مقبل الأيام؟ لحسن الحظ، أصدر مركز الهدهد للشؤون الإسرائيلية (يعنى بالشأن الصهيوني ويديره الأسير المحرّر سعيد بشارات في غزة) أخيرا ترجمة للكتاب إلى العربية، في أقل من مائة صفحة، وتشرح مفهوم “إدارة الصراع”. والكتاب متاح للقراءة المجانية والتنزيل من الموقع الإلكتروني للمؤسسة. ويلاحظ أن غودمان نشر في 2019 مقالة في مجلة “ليبرال” الإسرائيلية الشهرية بعنوان “ثماني خطوات لتقليص الصراع” ضمّنها خلاصة فلسفته في هذا الشأن. ويمكن العودة إلى المقالة في موقع المجلة على شبكة الإنترنت، وسمّاها خطة ثمانية + خمسة، وتستهدف تقليل الاحتكاك بين الفلسطينيين والإسرائيليين، من دون أي حلول سياسية سيادية، ومن دون أن تهدّد “أمن إسرائيل”… والثمانية باختصار شديد، كما ضمنّها في مقاله، وكتابه:
1- ربط كل مناطق “أ” و”ب” داخل الضفة الغربية مع بعضها، من خلال إنشاء بنية تحتية من الشوارع السريعة والأنفاق والجسور، كي يتنقل الفلسطيني من الخليل إلى جنين مرورا بأريحا بدون أن يشعر أنه تحت احتلال، وبدون أن يلتقي بجندي إسرائيلي واحد أو يتوقف عند حاجز. بهدف تغيير الواقع المرير الذي يعيشه الفلسطيني. 2- منح مساحات إضافية للسلطة الفلسطينية تكون على أطراف القرى والمدن، وهي أطراف قام الفلسطينيون أصلا بالتوسع عليها بشكل “غير قانوني”. ويمكن ضرب عصفورين بحجر، إذ إن إقامة بنية تحتية لربط المناطق الفلسطينية ستتطلّب أن تقدّم إسرائيل “تنازلات” في المناطق “ج” والتي يمكن أيضا الاستفادة منها للتوسّع العمراني والتكاثر الطبيعي. 3- السفر إلى الخارج من أهم التجارب التي تجعل الفلسطيني يشعر بوجود الاحتلال. يقترح غودمان توسيع جسر اللنبي وتسهيل تنقل الفلسطينيين، بحيث لا يمكث الفلسطيني في الجسر أكثر من نصف ساعة لاجتيازه بدلا من ثماني ساعات. ومثل هذه الخطوة لن تضرّ بالأمن الإسرائيلي، كما يقترح غودمان إضافة إلى ذلك افتتاح محطة مغادرين في الضفة الغربية تكون مرتبطة مباشرة مع مطار بن غوريون، وتسيير خط حافلات بينهما. هذه القضية وحدها قادرة على أن تُحدث نقلة نوعية في مفهوم الفلسطينيين حول الاحتلال. 4- زيادة عدد تصاريح العمال الفلسطينيين ليصل إلى حوالي 400 ألف. 5- تخصيص مساحات في المنطقة “ج” لغرض إنشاء مدن صناعية. 6- ربط التجار الفلسطينيين بخطوط مباشرة مع الموانئ البحرية والجوية الإسرائيلية على نمط الخطوط اللوجستية المسماة “باب إلى باب” والتي ستعفي التاجر الفلسطيني من المرور عبر المعابر التجارية المرهقة من خلال فتح مسار “آمن” له. 7- إلغاء اتفاقية باريس الاقتصادية التي يعتبرها الفلسطينيون إعادة إنتاج للاحتلال بأدوات اقتصادية. ويقترح غودمان منح استقلالية اقتصادية شبه كاملة للفلسطينيين. 8- انضمام إسرائيل إلى جهود القيادة الفلسطينية الرامية إلى الاعتراف بفلسطين دولة في الأمم المتحدة! بيد أن اعتراف العالم يجب أن يكون اعترافا بدولة فلسطين، وليس بحدودها (دولة بلا حدود). هذا قد يفتح الباب لتحوّل السياسات الإسرائيلية من سياسات “الضم الزاحف” إلى سياسات “الانفصال الزاحف” بدون التزامات جغرافية مقيتة.
أما “المبادئ” الخمسة فهي تخص استمرار “الأمن” الإسرائيلي: سيستمر جهاز الأمن العام والاستخبارات الإسرائيلية في العمل في أنحاء الضفة الغربية. سيواصل جيش الاحتلال العمل، حيث يقتضي الأمر، في جميع مناطق الحكم الذاتي الفلسطيني كما هو الآن. استمرار الوجود العسكري الإسرائيلي في غور الأردن. سيبقى المجال الجوي تحت السيطرة الإسرائيلية الكاملة. سيبقى الفضاء الكهرومغناطيسي تحت السيطرة الإسرائيلية الكاملة.
باختصار شديد، هي عملية تزيين جديدة للاحتلال، مع توسّع ملحوظ، وتكريس وجود المستوطنات، وهي لا تشمل غزّة كما هو واضح، ولا تحتاج لا عملية تفاوض ولا موافقة الشعب الفلسطيني، لأنها في الأصل محاولة لحل مشكلة “إسرائيل” لا فلسطين، إذ تدور رحى انشقاق “قومي” بين يمين يدعو إلى ضم الضفة الغربية ويسار رافض للاحتلال. وقد جاءت نتيجة مشاورات ودراسات، وحاصل جمع عدد كبير من آراء واجتهادات ساسة وكتاب ومفكرين إسرائيليين كما يقول غودمان الذي يعتقد أنها “الحل السحري” للمواءمة بين الانفصال والاحتلال وتحقيق معادلة “الأمن” إذ يقول: “على الرغم من أنه لا يمكن الانفصال عن الفلسطينيين بشكل كامل من دون تعريض أمن الإسرائيليين للخطر، فإن البديل ليس الشلل. من الممكن الانفصال بشكل شبه كامل عن الفلسطينيين من دون تعريض أمن الإسرائيليين للخطر”