اليوميات المفقودة: هالة السكاكيني وحياة القدس في الثلاثينيات والأربعينيات
خليل السكاكيني مع زوجته وابنه
عرفت بدايات القرن العشرين ظهور عدد من النخب الثقافية العربية، وبالأخص الفلسطينية، التي اهتمت بكتابة يومياتها خلال النصف الأول من القرن العشرين، وفي تفسير هذا الظهور، ترى مثلا الباحثة لوسي ريزروفا، أن هذه النصوص تعكس محاولات من قبل الطبقة الوسطى الصاعدة في المنطقة، للتعبير عن وجودها وصعودها في مواجهة العالم القديم، أو بالأحرى مواجهة بعض الأساليب التقليدية في التعبير عن الذات، وتسجيل حياة بعض الأشخاص، وأيضا نقل صور عن ثقافة وفضاءات اجتماعية مختلفة.
وينبغي الملاحظة أن القول بوجود هذه الأساليب التقليدية، لا يعني بالمقابل أنّ المدن العربية لم تعرف تطورات جديدة، على مستوى إفراز أشكال جديدة من النصوص، وعلى صعيد التأريخ لحوادثها اليومية، كما نرى مؤخرا من خلال يوميات حائك في مدينة حلب، التي دونها في القرن السادس عشر تقريباً، ليأتي بعده بقرنين تقريبا حلاق دمشقي وتاجر من حلب وغيرهم من الناس العاديين ليدونوا يومياتهم، لكن يمكن القول إن طبيعة ما كتب في هذه اليوميات قد يبدو مختلفا عن فترة القرن العشرين واهتمامات النخب الجديدة.
ولعل من أهم الأسماء التي كتبت يومياتها في النصف الأول من القرن العشرين، الاستاذ الفلسطيني خليل السكاكيني، الذي كتب يوميات قد تعد الأطول عربياً، وصدرت منها ثمانية مجلدات، تتناول حياته منذ العقد الأخير من القرن التاسع عشر إلى النصف الأول وأكثر من القرن العشرين. وربما ما ميز السكاكيني، الذي أبدى اهتماما واضحا بموضوع اللغة العربية الجديدة، أن نصوصه تحولت مع مرور الزمن إلى نصوص إثنوغرافية غنية، عن واقع المدن الفلسطينية وأيضا عن المدن التي رحل إليها لفترات مؤقتة، كما في مثال مدينة نيويورك التي زارها عام 1907 تقريبا، ودوّن فيها يومياته في الحي السوري في مانهاتن، وحياة الجالية السورية هناك (الفلسطينيين واللبنانيين والسوريين) لكن أهمية السكاكيني لم تكمن في الاهتمام بأدب اليوميات في وقت مبكر وحسب، وإنما في تأثيره ودفع من في محيطه من تلاميذ وافراد عائلة إلى تدوين يومياتهم أيضا، ما وفّر لنا وثائق إضافية وأصيلة عن النصف الأول من القرن العشرين، وأيضا سمح لنا بفهم سبب اهتمام نخب تلك الفترة بكتابة اليوميات، وما هي الكتب التي اطلعوا عليها قبل وخلال تدوين تفاصيل حياتهم. وكمثال على هذا التأثر، نشير هنا إلى نصين فريدين، الأول كتبه الجندي إحسان الترجمان خلال الحرب العالمية الأولى، فقد كان الترجمان تلميذا للسكاكيني، الذي كان له تأثير كبير في كل من التقى به، لدرجة جعلت رستم حيدر في مذكراته، التي هي بالأساس عبارة عن يوميات متفرقة يثني على السكاكيني في أكثر من مكان، ووصفه بـ«المعلم» وهنا لا نعرف إن كان الأخير له دور أيضا في دفع حيدر لتدوين يومياته، لكن على صعيد التلميذ الترجمان، سيظهر هذا التأثير خلال الحرب العالمية الأولى، عندما ذهب الأخير إلى تدوين يومياته خلال عام واحد في الحرب (1915/1916) ما وفّر مادة جيدة وجديدة عن تأثيرات هذه الفترة في المقادسة، وكيف انتشر التسول والدعارة في المدينة، بسبب الظروف القاسية.
أما النص الثاني، الذي يبدو تأثير السكاكيني واضحاً فيه، فهو نص ابنته هالة التي بدأت بتدوين يومياتها في فترة مبكرة (15 سنة) بينما كان الترجمان في عامه الرابع والعشرين. بيد أن يوميات فتاة السكاكيني بقيت غير منشورة إلى أن نشرت بعضها في مذكراتها «أنا والقدس.. سيرة ذاتية» التي ستدون فيها جزءا من حياة الطبقة الوسطى المقدسية في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن العشرين، وما الذي كانت تقدمه في احتفالاتها وطقوسها وموائدها من أطعمة، كما أنها سترسم لنا صورا عن والدها، وما الذي كان يقرأه أو يحرضهم على قراءته، بالإضافة إلى طقوسه اليومية في القيلولة وشرب الأركيلة، التي كانت كما يبدو الذراع الثالثة له أينما حل أو وجد. وفي مذكراتها أيضا، سيتمكن القارئ من التقاط لحظة انتقال المدينة من فضاء كوزموبوليتاني، متعدد الثقافات والجاليات، إلى فضاء يسوده القتال اليومي، بعد الحرب العالمية الثانية، واضطرارهم لاحقا إلى مغادرة القدس والعيش في منطقة هليوبوليس (القاهرة) التي تحولت كما تذكر إلى تجمع كبير للفلسطينيين بعد عام 1948.
وهكذا على امتداد النص، نعثر على صور للحياة في المدينة وطباع أهلها واهتمامات البيت ووالدها، كما تأتي في أماكن من سيرتها على ذكر تفصيل مهم يتعلق بكتابة اليوميات، وهو أنه خلال إعداد والدها لكتاب «الجديد في القراءة العربية» كانت تحيط به كتب تحتوي على صور ملونة تروي التجارب اليومية لأسرة إنكليزية صغيرة.
بيوت القدس
في الفصول الأولى، تروي لنا الفتاة هالة المولودة عام 1928 حياة عائلتها والمنازل التي انتقلت بينها خلال فترة قصيرة، قبل أن يستقر بهم الحال في حي الألمان أو (الكولونية الألمانية) ليتاح لها ولأختها دمية، التعلم في مدرسة ألمانية، وفي هذه الفترة كان والدها موظفا في جهاز التعليم، في فترة الانتداب البريطانية، وكانت فترة الغداء معه بمثابة دعوة للضحك، وسماع الروايات التي كانت ذاكرة الفتاة تتناولها، كما تتناول وجبات والدتها الفلسطينية من مسخن ومقلوبة، ومما تذكره أيضا عن والدها أنه كان يستمتع بالغناء وترديد أغان عربية ويونانية وإنكليزية، كما تذكر أنه لم يشجعهم قط على التنافس، لا في المدرسة ولا في البيت، ولذلك لم يكن يهتم أبدا بتقارير المدرسة، وإنما كان يركز على ضرورة أن يفهموا الأفكار والمعاني، ومما يبدو في صورتها لوالدها، أن خليل السكاكيني لم يذهب قط إلى الكنسية لحضور الجنائز، لكن على الرغم من هذا الجو العلماني كان يتحدث عن المسيح بمحبة. كان السكاكيني قد ثقف نفسه بنفسه، لم يذهب قط إلى الكلية، ولم يحصل على شهادة جامعية، لكنه كان كثير القراءة، وكان شديد الإعجاب ببرتراند راسل وجوليان هوكسلي وألفرد أدلر، وكان يناقش مع طلابه السابقين ممن تخرجوا من كليات غربية، آخر الكتب الصادرة حديثا بالعربية، أو بالإنكليزية، وكان من بين هؤلاء موسى العلمي، رجائي الحسيني، جورج أنطونيوس، أحمد طوقان وغيرهم. وفي رسائله إلى ابنه الذي ذهب في الثلاثينيات للدراسة في أمريكا، كان يأتي على ذكر بعض العناوين الجديدة التي قرأها مثل «رسائل متشككة» «انتصار السعادة» «فهم الطبيعة البشرية». وبعيدا عن صورة الوالد، تبدو القدس في هذه الفترة مدينة للفرص وللحياة الاجتماعية الغنية، فهي تتيح لأبنائها التعلم في مدارس عديدة، وهذا ما انعكس من خلال ثقافتهم ومعرفتهم باللغات مثلا، إذ نادرا ما تأتي على ذكر أحد أبناء تلك الفترة، دون ذكر اللغات التي كان يجيدها مثل الإنكليزية والفرنسية والألمانية، كما تبدو القدس في هذه الفترة مدينة تعج بالحياة والتفاصيل والطقوس والسهرات، وهي تفاصيل ستدونها هالة بأسلوب سلس وغني بالوصف، بل قد يحتار القارئ من قدرة هذه الفتاة على وصف أدق التفاصيل بأسلوب واضح وغني، وأيضا من قدرتها على تقديم لوحات وصفية غاية في الدقة عن بعض أشخاص تلك الفترة وصفاتهم، كما في وصفها مثلا لجيرانها «كانت العمة فروسو قصيرة وسمينة وداكنة اللون. كانت شخصية ذات سطوة، يشع الذكاء من عينيها الواسعتين الثاقبتين، بينما كان العم متري طويل القامة ووسيما، وكانت فيه سمات عابثة أعطته مظهرا صبيانا» وهكذا على امتداد النص، نعثر على صور للحياة في المدينة وطباع أهلها واهتمامات البيت ووالدها، كما تأتي في أماكن من سيرتها على ذكر تفصيل مهم يتعلق بكتابة اليوميات، وهو أنه خلال إعداد والدها لكتاب «الجديد في القراءة العربية» كانت تحيط به كتب تحتوي على صور ملونة تروي التجارب اليومية لأسرة إنكليزية صغيرة.
كاتشاب هاينز وشاي مثلج
خلال انتفاضة 1936 في فلسطين، لن يكون لتدوين تفاصيل الحياة وصفات زوارهم مكان يذكر، بل ستتحول هموم العائلة إلى سماع أسماء أبطال تلك الانتفاضة، والتعرف على قرى بعيدة لأول مرة، بسبب المعارك الشرسة، لكن هذا الاهتمام لن يستمر لفترة طويلة، فبعد عام من هذه الانتفاضة كان خليل السكاكيني قد انتقل بعائلته إلى حي القطمون، وهناك ستعود الفتاة لهوايتها في تدوين تفاصيل زوارهم في ذاكرتها، كما ستخصص صفحات طويلة للحديث عن أخيها (سري) الذي عاد من أمريكا، وكان كما تقول «قد اكتسب سمرة جميلة واللون البرونزي أبرز لون عينيه الأزرق المخضر بشكل شديد الجاذبية. كانت ابتسامته المشرقة، التي كشفت عن أسنان مثالية، تدفئ القلب» إلا أن التغير في حياة العائلة لن يقتصر على البهجة والفرحة التي أخذ يضفيها الأخ الكبير على حياتهم، بل أيضا في الطقوس الجديدة التي جاء بها هذا الشاب على صعيد الطعام والموسيقى الجديدة. إذ تذكر أنها واختها كانتا تراقبان عادات أخيها الأمريكية في تناول الطعام، ففي الصباح كان يتناول البيض المسلوق وفوقة كمية كبيرة من كاتشب هاينز، وهذا شي لم يكونوا قد سمعوا به من قبل، وفي إحدى أمسيات الصيف اقترح عليهم شرب الشاي المثلج، وكان أيضا مشروبا جديدا عليهم، ولم يعجب الفتاتين والعائلة. وقد بقيت هذه العادات الجديدة في الطعام تثير موجات من الضحك بين الابناء، إلا أنّ هذه الفرحة لم تدم مع وفاة والدتها في عام 1939 وذهاب والدها إلى قراءة أعمال شوبنهاور، التي كانت تتمحور حول لا جدوى الحياة ومعناها، مع ذلك سيحاول الأخ سري بثقافته وعلاقاته الواسعة مع نخب المدينة من الأمريكيين والأوروبيين الترويح قليلا عن اختيه، ما سيجعل الفتاة تركز أكثر على حياة أخيها، ليتاح لنا التعرف عليه، والشعور بالحسرة في الوقت ذاته (كونه توفي بعد ذلك بسنوات) لقدرات هذا الشاب وثقافته الواسعة، وربما لو قدر الله له العيش، لكان لعب دوراً شبيها بدور والده في الحركة الثقافية والسياسية الفلسطينية. إذ بدا شابا معتدا بنفسه، ذا ثقافة واسعة، وملما بأكثر من لغة، كما كان على علاقة طيبة بالعديد من المؤسسات الغربية في وقته، إضافة إلى ولعه بالموسيقى الحديثة وقراءة الكتب، وفي هذه الفترة اندلعت الحرب العالمية الثانية، مع ذلك ستدون هالة أنها كانت فترة سلام وتعايش بين العرب واليهود في فلسطين، فقد بدا أنّ كلا الجانبين المتصارعين نسي عداواته، التي استمرت أكثر من عشرين عاما، كما تذكر أنه في هذه الفترة تقريبا، وهي في سن الخامسة عشرة أخذت تكتب يومياتها، لأن وفاة والدتها جعلتها تدرك أهمية الذكريات، مع ذلك فهي تؤكد بالمقابل أنّ هذا التدوين جعلها تصاب أحيانا بحالة من الشلل، فمنذ بدأت بكتابة مذكراتها ويومياتها كانت ينتابها إحساس قوي بأنها مشدودة إلى الماضي، و»كلما استمتعت بالحاضر شعرت بأنني استمتع بذكرى. وهذه الحالة جعلتني في شعور دائم بالحنين، افتقد لا الماضي حسب، بل الحاضر أيضا» وفي كل الأحوال، يبدو أن الحرب لم تلعب دوراً أساسيا في تدوينها ليومياتها، كما نرى في النصوص التي نشرت في ملحق سيرتها بعنوان «يوميات هالة المفقودة في القدس زمن الحرب» إذ نلاحظ من قراءتها أن الحياة تبدو رتيبة، ليست هناك تغيرات كبيرة على صعيد الحياة والناس داخل المدينة كالتي رسمها لنا الجندي إحسان حول أوضاع المدينة، كما يبدو أنّ حياة الطبقة الوسطى تسير كما في فترة ما قبل الحرب، وهذا ما تكشفه مثلا في إحدى يومياتها (10 حزيران/يونيو 1942) التي تتحدث عن زيارتها مع اختها لسينما ريكس لمشاهدة فيلم عربي اسمه «انتصار الشباب» للمغنية أسمهان. ستمر سنوات عدة قبل أن يأتي عام 1948، لتفقد الفتاة قدرة الكتابة عن يوميات الجنة المقدسية، فخلال هذه الفترة اضطرت مع عائلتها إلى مغادرة حيهم ومنزلهم والهرب إلى القاهرة، وهناك ستدون تفاصيل حياتهم البسيطة في المدينة وأوضاعهم المالية الصعبة، وحالة الانتظار التي ظنوا أنها لن تكون سوى أيام ليدركوا لاحقا أنها لن تعود، وبعد أحداث 1967 ستقرر هالة زيارة منزلهم في القدس، وهناك ستكتشف أن بيتهم قد تحول إلى روضة للأطفال. مع ذلك، لن يكون هذا المشهد ما سيثير انتباهها، وإنما مشهد وقوفها مع اختها تنظر عبر الشارع والساحة إلى بيوت جيرانهم (بيت سروجي وبيت سلحية، وبيت طليل) دون أن يعثروا عليهم، هناك ستكتشف «أن ما يصنع حيا هو الناس، وعندما يذهبون لن يعود أبدا كما كان».