كيف أسهم المرابون اليهود في أوروبا القروسطية بنشأة إسرائيل؟
كان "الربا" محظورا على المسيحيين في العصور الوسطى، إذ حرّمته الكنيسة الكاثوليكية بشدة إلى درجة الوعيد بحرمان المرابين من أسرار الكنيسة والدفن في مقابر مسيحية، بحسب دراسة تاريخية جديدة للباحث المغربي في التاريخ والأنثروبولوجيا التاريخية خالد طحطح.
ومع ذلك وجد البحث الذي نشرته دورية أسطور للدراسات التاريخية أن مسيحيي العصور الوسطى في أوروبا ابتدعوا طرقا ملتوية لمزاولة الربا نظرا لأهميته في نظامهم الاقتصادي، وشملت هذه الطرق الملتوية تحصيل القروض بعملة أخرى غير عملة الإقراض وبنسبة تحقق ربحا محددا.
لكن حلا آخر لاح في الأفق عندما جرى توظيف التجار اليهود للتعامل مباشرة مع كل ما يتعلق بالقروض.
ولأن التوراة تجيز لليهود الربا مع "الأغيار"، بينما تحظره على أبناء دينهم فقد استفاد التجار والمصرفيون المسيحيون من هذه المزية وأحالوا التعاملات الربوية للمرابين اليهود ليكونوا وكلاء عنهم.
جذور العداء الأوروبي لليهود
وبسبب هذه الحال زادت ظاهرة العداء لليهود في المجتمع الأوروبي رسوخا، فقد كان المسيحيون الأوروبيون يمارسون الربا في الخفاء وبالحيلة عبر وساطة اليهود الذين لا يلامون بسبب هذه الممارسة.
وهكذا شكّل اليهود ما يسمى بجماعات وظيفية وسيطة، وهي الظاهرة التي عرّفها المفكر المختص بالدراسات اليهودية والصهيونية عبد الوهاب المسيري بأنها جماعة يستوردها المجتمع من خارجه أو يجنّدها من داخله، لتقوم بوظائفَ لا يضطلع بها عادة أعضاء المجتمع لكونها مُشينة، مثل الربا والبغاء.
وبحسب المسيري في دراسته "الجماعات الوظيفية اليهودية: نموذج تفسيري جديد" غالبا ما يتسم أعضاء الجماعة الوظيفية بالحياد، وبأن علاقتهم بالمجتمع علاقة نفعية تعاقدية، لا ارتباط لها ولا انتماء، تعيش على هامش المجتمع في حالة اغتراب، ويقوم المجتمع بعزلها عنه ليحتفظ بمتانة نسيجه المجتمعي.
واعتبر اليهود في العصور الوسطى بأوروبا جماعات وظيفية تقوم بأعمال "اقتصادية مشينة" تحتاجها النخب الأوروبية لكن لا تستطيع القيام بها بنفسها لأسباب دينية تحرم الربا.
وتطور الوصم المسيحي الأوروبي بحق اليهود بسبب هذه الوضعية وجرى طرد اليهود رسميا من إنجلترا بنهاية القرن الثالث عشر ومن إسبانيا بعد ذلك بقرنين، وأثناء الصراع الكاثوليكي البروتستانتي شملت الاتهامات للمجتمعات اليهودية بخلاف ممارسة الربا، جرائم مثل تسميم الآبار والسحر وخطف الصبيان لأعمال الشعوذة، ولم تكن البروتستانتية أكثر تسامحا معهم، ففي عام 1514 ادعى مارتن لوثر كينغ أن اليهود يمارسون اللعن والتجديف، وهاجمهم بشدة في كتابه "اليهود وأكاذيبهم"، بحسب الباحث خالد طحطح.
وأسهم ضيق الفلاحين والمقترضين من الفوائد المالية المرهقة في زيادة الوصم والممارسات العدائية ضد اليهود
وأدى ازدهار النشاط التجاري لإدانة المرابين الذي يجنون المال خلال نومهم دون عناء.
لكن المسيحية كانت أسبق في إدانة الربا إذ اعتبرتها "سرقة للزمن" وخرقا لقاعدة المقابل العادل لمزاولة النشاط لتصبح مالا يتكاثر دون جهد، ويصبح المال منتجا بذاته، واعتبرت هذه الممارسة بمثابة سرقة للإله مالك الزمن الذي لم يعطِ لأحد الحق في بيعه، بحسب خالد طحطح.
لكن الكنيسة الرومانية الكاثوليكية بشّرت بفكرة جديدة هي عقيدة "التطهير" التي تزول بها الخطايا في الآخرة في مكان وسيط بين الجنة والنار يجري التخلص فيه من الآثام قبل نيل الخلاص.
وبقدر ما أثارت هذه الفكرة جدالا واسعا فقد فتحت الباب أمام التجار والصيارفة المسيحيين لممارسة الربا وشراء المغفرة، سواء عن طريق صكوك الغفران أو أعمال الخير والبر للتطهر في الآخرة.
ومع عقيدة "التطهر" والتغيرات التي شملت ظهور الدول المركزية القومية والنظام المصرفي الحديث وشبكات التجارة العالمية والبورجوازيات المحلية، بدأت الجماعات الوظيفية اليهودية تفقد وظيفتها وأصبح يشار لليهود باعتبارهم شعبا عضويا منبوذا، بحسب عبد الوهاب المسيري.
وتنامت -على إثر ذلك- دعوات التخلص منهم وتمثل الحل الأوروبي الأخير في "الدولة الصهيونية الوظيفية" التي تمارس دورا استيطانيا إحلاليا يعد تطورا لدور الجماعة الوظيفية في صورة دولة أطلق عليها المسيري "حاملة طائرات ثابتة" أو دولة وظيفية تخدم الإستراتيجية الغربية.
هكذا نشأت إسرائيل
بعد أن عرفت الجماعات اليهودية في معظم أوروبا بوظيفة التاجر والمرابي وأصبحت مفيدة للمجتمعات الغربية الإقطاعية، انقلبت الصورة مع ظهور الدول المركزية القومية والنظام المصرفي الحديث وشبكات التجارة العالمية والبورجوازيات المحلية، إذ بدأت الجماعات الوظيفية اليهودية تفقد وظيفتها وأصبح يشار لليهود باعتبارهم شعبا عضويا منبوذا أي أنه شعب يرتبط أعضاؤه برباط عضوي فيما بينهم، بحسب المفكر ومؤلف موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية عبد الوهاب المسيري.
وبدأت الفكرة الصهيونية بحسب المسيري تبدو حلا إمبرياليا لأزمة وجود اليهود غير المرغوب فيهم بأوروبا، إذ وجد الأوروبيون الحل في إخراج اليهود من الغرب وتوظيفهم في خدمته ونقل الفائض البشري اليهودي الذي لم يعد له وظيفة في الغرب إلى منطقة إستراتيجية في آسيا وأفريقيا (هي فلسطين) تطل على البحرين الأبيض والأحمر وتقع في قلب العالم العربي والإسلامي والدولة العثمانية، حيث يؤسس دولة استيطانية تضم هذا الفائض البشري وتقوم بوظيفة حيوية، وهي الدفاع عن المصالح الغربية في المنطقة، نظير أن يقوم الغرب بالدفاع عن سكانها وضمان رفاهيتهم وبقائهم واستمرارهم.