عيلوط.. نهضت من رماد النكبة وتضاعف تعدادها عشر مرات
عيلوط واحدة من القرى الفلسطينية قضاء الناصرة داخل أراضي 48 وهي ترمز من جملة رموزها لبقاء فلسطينيي الداخل فوق ترابهم رغم طغيان الغزاة.
عيلوط، قصة حقيقية لنهوض العنقاء الفلسطينية من الرماد، فعندما زلزل النكبة عام 1948 كان رجالها قد قتل ثلثهم في مذبحتين صهيونيتين وثلثها تمّ تهجيره والثلث الثالث نجا وبقي في الوطن. ربما كانت مجزرة دير ياسين الأبرز من بين مذابح الصهيونية غير أن ما جرى في قرية عيلوط (قضاء الناصرة)، على سبيل المثال لا الحصر، لا يقل فظاعة ووحشية.
شهدت ثلاث مذابح قتل فيها ثلث رجالها وهجر ثلثهم الثاني وبقي الثالث
بعد الإعلان عن قيام إسرائيل بشهرين تقريبا استسلمت مدينة الناصرة وبعدها بلدة صفورية في تموز 1948 فاحتلت قوة من جيش الغزاة الجدد المنطقة ودخلت القرية المجاورة، عيلوط، واختطفت ثلاثة عشر رجلا من القرية. وقد ظن أهالي القرية أنهم أخذوا أسرى ولم يعرف أحد مصيرهم وقتها وقبيل المساء أمر الجيش الإسرائيلي أهالي القرية بالنزوح عن قريتهم مهددا إياهم بقتل كل من يخالف الأوامر ويبقى في بيته لكن أهالي القرية رفضوا أن يكونوا مشردين وأن يكونوا لاجئين في المدن والقرى فقرروا العودة إلى بيوتهم بعد أيام متحدين الخوف والإرهاب.
يوم لا ينسى
وعما حصل لاحقا روى لنا الحاج خالد الصالح أبو الوليد (86 عاما) فقال “في صبيحة يوم 21/7/1948 أفاق الناس على رجل ينادي بأعلى صوته أنه على جميع السكان ترك منازلهم والتجمع في ساحة القرية وكانت شوارعها تعجّ بسيارات الجيش فتبث الرعب والخوف في النفوس.
وحسب روايته التاريخية بدأ الرجال بالنزول إلى ساحة القرية وقد قام الجيش بتقسيمهم إلى قسمين، الأول قرب الجامع والقسم الثاني على بيادر القرية. وقد حشروا النساء والأولاد داخل ساحة بيت في وسط القرية فكان الفزع سيد المشهد حيث اختلط عويل النساء ببكاء وصراخ الأطفال كما ينوّه أبو الوليد، ويضيف “كان من وقت لآخر يدخل أحد الجنود على النساء ويطلب منهن أن يخلعن أساورهن عن أيديهن والحلق عن آذانهن فقامت النسوة بالصياح وعندها دخل أحد الضباط وأخرج الجنود وقد غنموا بعض الخواتم والأساور والحلي من بعض النساء”.
وعما حصل معه ومع عائلته قال: “تسللت عبر أحد الأزقة لأتفقد والدي الذي رفض أن ينزل إلى الطريق وفضل البقاء في البيت قائلا: إذا أرادوا قتلي فليقتلوني هنا… وفي الطريق اقتربت من المجموعة الواقفة على ساحة البيادر وإذا الرصاص يحصد رجلين (صالح سعيد أبو راس وطه أبو عياش) فسقطا جريحين على الأرض وهما بدون ملابس.
ورغم مرور 73 عاما لم يبرح ذاك المنظر الرهيب ذاكرة الشاهد حتى اليوم: “بعدها ساقوا المجموعة الى ساحة الجامع وأجبروا الرجال على الاصطفاف في ساحة واحدة. وقف كافة الرجال صفا واحدا أمام الجنود، وكان أحد هؤلاء الجنود يمسك بيده ورقة وفيها لائحة المطلوبين حيث أخذ ينادي كل واحد باسمه ويلزمه بالصعود إلى عربة عسكرية، أما من كان غائبا في تلك اللحظة فقد استبدل بشخص آخر. وأشار إلى أنه في أعقاب ذلك أمروا من تبقى من الرجال بترك القرية خلال ساعة سوية مع النساء والأطفال”.
أشعل أبو الوليد سيجارته “العربية” الصنع ونفث دخانها وكأنه يخرج أوجاعه الدفينة منذ سبعة عقود ونيف مستذكرا مسيرة “الهجيج”، كما يقول، وأضاف “فور مغادرتنا القرية وقبل أن تغيب عن أنظارنا نسفت ثلاثة بيوت وشعرنا بأن السماء تكاد أن تطبق علينا من قوة الانفجار”.
الحاج خالد الصالح أبو الوليد
الكارثة الأولى
وعن المجزرة التي اقترفتها قوات الهغاناه في اليوم ذاته كما شهد ناجيان منها، قال أبو الوليد “في مكان يبعد نصف كيلومتر عن ساحة الجامع غربا توقفت عربات الأسرى واختار الجنود أربعة وعشرين رجلا أنزلوهم من السيارات وأمروهم بالجلوس على الأرض. وفي أقل من دقيقة وبإشارة من أحد الضباط كان رشاش يحصدهم فسقطوا قتلى. وشاء القدر أن يقوم اثنان من بينهم لم تكن إصابتهما قاتلة، وهما خضر علي أبو راس ومحمد مصطفى المامور، اللذان تظاهرا بالموت ثم قاما ووليا هاربين أما الباقون فقد أخذوا أسرى.
ولم ينج الأسرى من القتل فقد داست إحدى سيارات الجيش عمدا المرحوم مفلح حسن محمود وصرعته. في ذاك اليوم انتشر الخبر بين الأهالي بسرعة البرق وارتفع العويل والنحيب في كل بيت وشارع فلم يسلم أي بيت من الكارثة وبعد أن ابتعد الجنود قامت النسوة بجمع جثث القتلى ووضعها في الجامع وفي اليوم التالي جرى دفنها”.
عيلوط عبر التاريخ
ويروي محمد أمين بشر، صاحب كتاب “عيلوط عبر التاريخ”، عن تلك المجزرة وفق شهادات شفوية جمعها من شهود العيان علاوة على ارشيفات الجيش الإسرائيلي، فيقول: “في صباح ذاك اليوم الأسود من تموز/ يوليو عام 48 هاجمت الكتيبة الثالثة من الفوج الثالث عشر في لواء جولاني قرية عيلوط وكان الهجوم على محورين. وبعدما اتموا حصار القرية أخذوا يفتشون المنازل بحثا عن أسلحة فعثروا على عدد من البنادق داخل البيوت فنسفوها بالديناميت وهي بيوت مختار القرية حسن محمد الأحمد وساري أبو عياش وعبد الحليم أبو عياش وسليم أبو عياش. بعد ذلك جمعوا السكان وسط القرية قرب الجامع، ووضعت النساء في حوش دار عبد الكريم الواكد والرجال في حوش دار محمد اليونس”.
الخواجا نسيم
وحسب بشر ترجل قائد الوحدة، “الخواجا نسيم”، من السيارة وأخرج من جيبه ورقة وقرأ عدة أسماء لأشخاص من أهالي البلدة فلم يجب أحد ثم سأل عمن عمل في معامل تكرير البترول في حيفا “الريفاينري” فأجاب شخصان هما نايف حسين السلطي وصالح محمد فاشير لهما أن يجلسا على حدة، بعد ذلك قسموا الرجال إلى فريقين حسب تعليمات القائد. الفريق الأول وضع داخل المركبات العسكرية وشحن إلى معسكرات الاعتقال والفريق الثاني مع الرجلين اقتيد مترجلا أمام المجنزرات. وعن ذلك المشهد المروع يتطابق بشر مع رواية أبو طه: “هبت النساء يصرخن ويبكين، وتوسلن إلى القائد كي يخلي سبيلهم. فرد القائد “ليس هنالك من شيء، بل أن بعض الصخور تعيق طريق العربات العسكرية ويجب إزالتها”.
وسرعان ما انتقل القائد الإسرائيلي من الخدعة للتهديد المباشر: “يجب على كل السكان ترك القرية والرحيل إلى كفرمندا المجاورة ومن يخالف الأمر تطلق عليه النار”.
وحسب دراسة بشر تركت الوحدة القرية مصطحبة معها الرجال وعندما وصلت على بعد مائتي متر من بيوتها بالقرب من كرم الزيتون توقفت الوحدة العسكرية عن السير وبأمر من القائد اصطف الرجال صفا واحدا فتقدمت منهم عربة “الخواجا نسيم” وصوّب رشاشها نحو الرجال وتريث لحظة، ينتظر الأوامر، كانت لحظات قصيرة على إثرها جرت عملية حصدهم”.
ويتابع بشر في كتابه “بعد أن أتمت القوات الإسرائيلية عملياتها وابتعدت عن حدود القرية خرجت النساء إلى أمكنة المجازر وجمعت الجثث داخل أكياس ونقلت على البهائم إلى ساحة المسجد ثم دفنت في القرية المحاذية له. ولم يكتف الغزاة بذلك وحسب ما يؤكده بشر أيضا عادت بعد اسبوعين من المجازر القوات الاسرائيلية إلى عيلوط بصحبة رجل يهودي يدعى اسكندر شوشاني كان يعمل ناطورا على الأحراش فحاصرت القرية وبدأت أعمال السلب والنهب مثل صناديق النحل والخيل وخزائن ومقاعد المدرسة والأبقار. بعد ذلك طرد سكان القرية لاجئين إلى اديرة الناصرة وبعض أحيائها ولم يبق فيها سوى ثمانية مسنين”.
الكارثة الثانية
وهكذا انتهت صفحة من صفحات الحقد الأعمى والنكبات التي لم تشهدها هذه القرية على مرّ العصور وإثر حالة الفزع التي ألمت بالسكان ومعظمهم من النساء والأطفال غادر الأهالي القرية واحتموا بالأديرة في الناصرة خاصة دير أبو اليتامى وبعضهم سكن في بيوت خاصة لاجئين مهجرين. لكن الكارثة لم تنته عند هذا الحد فبعدها باسبوع دخل جنود الجيش الإسرائيلي إلى القرية من جديد والقوا القبض على الرجال الذين عادوا لأخذ بعض الحاجيات من بيوتهم “فاختطفوا عشرين رجلا وساقوهم إلى مستعمرة “بيت ليحم”. وبعد أن أذاقوهم الذل والهوان لبضعة أيام أفرجوا عنهم عدا ثلاثة رجال هم المرحوم عوض علي أبو راس والمرحوم سليم محمد أبو راس والمرحوم علي عودة عبود فقد قتلوهم ولم يعرف مكان قبورهم حتى الآن.
الكارثة الثالثة
لم تنته مأساة عيلوط عند ذاك الحد، حيث فجع أهلوها ثانية وعن ذاك حدثنا الحاج صبري علي أبو راس (86) فقال “بعد اسبوعين من الكارثة الأولى عثر أحد الرعاة في أحد الأحراش بين صفورية وعيلوط، على 13 جثة هامدة وهياكل عظمية بشرية. ويضيف “عندئذ هرع الأهالي وتعرفوا على موتاهم الذين أسروا يوم 10/7/1948 فحمل كل واحد أخاه أو ابنه ليدفنه، وياله من منظر رهيب، فقد شاهدت كل هذا بنفسي خاصة مشهد حسن عبود وهو يحمل نجليه اليافعين في عبائته وهما هيكلان عظميان تقريبا. هكذا قتلوهم بدم بارد وتركوهم طعاما للطيور والوحوش. حتى النساء لم يسلمن من شرهم، فقد أطلق أحد الجنود الرصاص على السيدة ذيبة محمد الحمد التي كانت في طريقها من عيلوط إلى الناصره فأرداها قتيلة. وبهذا تكون قد لحقت بزوجها طه خليل أبو عياش الذي قتل في ساحة القرية يوم 21/7/1948”.
ثلاث مذابح متتالية
هذه ملامح من نكبة عيلوط التي فقدت 48 رجلا خلال شهرين في ثلاث مذابح متتالية وفي أعمال قتل متفرقة، وفقدت معهم معظم أراضيها التي كانت مصدر رزقها الوحيد. خلال هذه المدة أحضر الجيش جميع القبائل التي كانت تسكن أراضي عيلوط وجميع ما تبقى من أهالي صفورية واسكنوهم في عيلوط. وبقي أهالي عيلوط يسكنون في الناصرة طيلة ثلاث سنوات عادوا بعدها إلى قريتهم ليبنوها من جديد، أما المشردون منهم فيسكنون الآن في سوريا والأردن والعالم.
وتفيد معطيات رئيس المجلس المحلي إبراهيم أبو راس أن المجازر أتت على ثلث رجال القرية فيما هجرت الثلث الثالث ليبقى ثلث فقط. “ربما ما يعزينا أن البلدة عاشت وبقيت رغم أعمال القتل البشعة وذلك بفضل إصرار السكان على تكرار محاولات العودة لبيوتهم إلى أن نجحوا بذلك وبعد أن كانت القرية تعد بضع مئات باتت تعد اليوم قرابة 12 ألف نسمة”.