إنخفاض قيمة الليرة التركية راجع لثلاث أسباب.. وضبط مؤشر الهبوط رهين باتخاذ حزمة تدابير على المدى المنظور والمتوسط.. وموقف “أردوغان” من الفائدة سليم علميا وعمليا
د. طارق ليساوي
أذكر أني عام 2017 كتبت مقالا بعنوان “انخفاض قيمة الليرة التركية يدعو للقلق ، وسيناريو الأزمة الآسيوية لعام 1997 من الصعب أن يتكرر ..” ، حللت فيه بتفصيل الأسباب الحقيقية الكامنة وراء انخفاض الليرة ، و دعوت الحكومة التركية إلى اتخاذ تدابير مالية و نقدية عملية لوقف نزيف انخفاض العملة و الحد من حركة رؤوس الأموال الساخنة، و بالفعل فقد تم استضافتي بالقناة التركية وشرحت بتفصيل الخطوات التي ينبغي على حكومة أردوغان تنفيذها بسرعة، و أوضحت أن هناك تضخيم إعلامي يحاول تصوير انخفاض قيمة العملة على أنه بداية انهيار الاقتصاد التركي، و في ذلك مجانبة للصواب، فانخفاض العملة له وجهين أحدهما سلبي و الأخر إيجابي، فمن ايجابيات الإنخفاض، ارتفاع تنافسية الصادرات التركية في الخارج، و زيادة الوافدين على تركيا بسبب انخفاض الكلفة ، و هو ما يعني تحسن الميزان التجاري التركي و زيادة احتياطيات البلاد من النقذ الأجنبي، فالعديد من البلدان الناشئة تسعى في بداية مسارها التنموي إلى تبني سياسة نقدية تقوم على خفض قيمة العملة المحلية و التجربة الصينية نموذج على ذلك…
و ما دفعني إلى العودة لموضوع قيمة الليرة التركية، هو انخفاض قيمة الليرة خلال الأشهر الستة الماضية، فقد كانت الليرة في مرحلة استقرار، إذ بقي سعر الصرف يتراوح ما بين 8.4 و8.5 ليرات مقابل الدولار الواحد..لكن منذ أواخر سبتمبر/أيلول الماضي وحتى الآن، كسر انخفاضها حاجز ال 11 ليرة مقابل الدولار بسبب تطورات عدة…وكانت العملة التركية عانت خلال سنوات قليلة، حيث فقدت 59% من قيمتها مقابل الدولار منذ بداية عام 2018…
و هذا الإنخفاض يرى البعض أن له علاقة مباشرة بالتضارب الحاصل في صياغة السياسات النقدية، فمنذ إقدام الرئيس أردوغان على إقالة مسؤولين بالبنك المركزي ، نتيجة خلاف في وجهات النظر، ذلك أن الرئيس التركي ” أردوغان” يرى منذ 2017 أن سياسة الفوائد لا يمكنها أن تدعم التنمية الاقتصادية، وهي استعمار اقتصادي، و أن المعاملات الربوية هي السبب الرئيسي للتضخم..ونوّه الرئيس التركي إلى وجود العديد من القوى الخارجية التي تمارس الإرهاب الاقتصادي ضدّ تركيا…
غير أني أرى أن مسلسل تهاوي قيمة العملة التركية ليس وليد هذه القرارات، فقد سجلت العملة انخفاضا منذ بداية سنة 2017، لكن تأثيرات أزمة كورونا و الظرفية الدولية لها دور في انخفاض قيمة العملة المحلية، و الأسباب الحقيقية الكامنة وراء انخفاض الليرة يمكن إرجاعها إلى ثلاث أسباب رئيسية:
أولا – رفع سعر الفائدة في الولايات المتحدة أدى على المدى القريب إلى زيادة الطلب على الدولار في الأسواق المالية، ذلك أن الاستثمار في الأصول المقومة بالدولار الأمريكي أصبح أكثر جاذبية من الأسواق الناشئة مثل تركيا، وهو ما دفع المستثمرين إلى تحويل رؤوس الأموال خاصة الساخنة، من الأسواق الناشئة إلى السوق الأمريكي…فرفع سعر الفائدة أدى إلى زيادة الطلب على الدولار الأمريكي، وتبعا لذلك ارتفعت قيمته مقابل العملات الأخرى، وهو ما انعكس سلباً على الاقتصاد التركي، خصوصاً في ظل اعتماد تركيا على استيراد الطاقة، الأمر الذي رفع تكاليف الاستيراد وزاد من أعباء الديون التركية المقومة بالدولار الأمريكي.
ثانيا- السياسة النقدية للحكومة التركية: تعرف تركيا منذ المحاولة الإنقلابية الفاشلة حالة من اللاستقرار سياسي، و من ذلك تباين وجهات النظر المتعلقة بالسياسات النقدية، فالحكومة التركية لها وجهات نظر مخالفة عن البنك المركزي التركي وبعض البنوك حول رفع أسعار الفائدة، فالحكومة ترى أن رفع الأسعار سيؤثر سلباً على خطط الحكومة الاستثمارية والتوسعية. فقد صرح الرئيس طيب أردوغان أكثر من مناسبة بضرورة تغيير السياسة النقدية والعمل على خفض أسعار الفائدة لتشجيع الاستثمار والنمو…
و بموجب تعديلات الدستور في أبريل/نيسان عام 2017 فقد أصبح للرئيس التركي دور أكبر في التأثير في السياسات النقدية و المالية ، وهو الأمر الذي قلص من استقلالية البنك في قراراته المالية والتمويلية ، فالخلاف بين الرئيس والمسؤولين في البنك المركزي يؤدي في النهاية إلى الإقالات، و التعارض بين الطرفين يؤدي إلى تقلبات سريعة في أسعار العملات الصعبة والذهب والفضة”.
فالبنك المركزي التركي يرى ضرورة رفع سعر الفائدة حتى يتم السيطرة على معدلات التضخم، وأيضا رفع سعر الفائدة سيساهم في رفع حجم الودائع ويحد من حدة نزيف العملة التركية ، وهذا التصور خلاف ما يؤمن به الرئيس التركي و حكومته..
ومن المعلوم أن خفض سعر الفائدة يقلل العوائد على المدخرات بالليرة، الأمر الذي يدفع أصحابها لتحويلها للدولار، وهذا بالطبع يولد ضغوطا إضافية على الليرة على المدى القريب لكن على المدى المتوسط و البعيد يكون له عوائد إقتصادية أفضل..
ثالثا- الوضع السياسي الغير مستقر : أشرنا في السابق إلى أن تركيا تعيش منذ المحاولة الإنقلابية الفاشلة حراك سياسي و تحول دستوري و انتقال من نظام سياسي برلماني إلى نظام رئاسي ومؤخرا الحديث عن صحة الرئيس التركي ، و تداول قصاصات إخبارية عن الوريث السياسي ، كلها أمور ولدت حالة من اللاستقرار في الأسواق، سرعان ما تزول في ظل حكومة قوية مستقرة، ومما زاد من حالة اللاستقرار المحيط الإقليمي و الدولي المتوثر، فقبل أيام و تحديدا 25 أكتوبر هدد الرئيس التركي ” أردوغان” بطرد عشرة دبلوماسيين غربيين دعوا إلى الإفراج عن الناشط المدني المسجون “عثمان كافالا”..كما أن الظرفية الاقتصادية الدولية التي خلقتها الجائحة لها تأثير بالغ الأهمية، فالارتفاع المهول في الفتورة الطاقية لتركيا، و زيادة أسعار المواد الأولية و المدخلات المختلفة كلها تقود باتجاه رفع الطلب على الدولار…
و الجدير بالذكر، أن حالة التضخيم الإعلامي من انخفاض قيمة العملة و تصوير ذلك على أنه بداية انهيار الاقتصاد التركي، فيه مجانبة للصواب، فانخفاض العملة له وجهين أحدهما سلبي و الأخر إيجابي، فمن ايجابيات الإنخفاض، ارتفاع تنافسية الصادرات التركية في الخارج، و زيادة الوافدين على تركيا بسبب انخفاض الكلفة ، و هو ما يعني تحسن الميزان التجاري التركي و زيادة احتياطيات البلاد من النقذ الأجنبي، فالعديد من البلدان الناشئة تسعى في بداية مسارها التنموي إلى تبني سياسة نقدية تقوم على خفض قيمة العملة المحلية و التجربة الصينية نموذج على ذلك…
لكن مع ذلك ينبغي التعامل بجدية و صرامة مع إنخفاض قيمة العملة، خاصة في ظل الهجوم السياسي العنيف على تركيا من قبل الغرب و -للأسف – بعض حكام الخليج، فمن المحتمل أن تكون حرب العملة مقدمة لانهيار إقتصادي أكبر وأخطر، وما يدفعني إلى طرح هذا الإحتمال هو ماحدث للنمور الأسيوية في سنة 1997، فهل من الممكن أن يتكرر هذا السيناريو في تركيا؟
فبالرغم من الإنجازات الاقتصادية التي حققتها بلدان شرق آسيا طيلة العقدين السابقين لعام 1997 ، إلا أن هذه البلدان شهدت في صيف نفس السنة إنفجار أزمة اقتصادية لم تكن متوقعة بدأت بانهيار أسعار صرف العملات المحلية. لكن الأزمة كانت أكبر من مجرد تذبذب في أسعار الصرف فقد عصفت الأزمة باقتصاديات هذه الدول، وعرضتها لانهيار اقتصادي واجتماعي خطير، حيث انهارت أسعار الأوراق المالية و أسعار صرف عملاتها بشكل كبير، وانخفضت معدلات النمو الاقتصادي وتراجع أداء الصادرات، وزادت البطالة إلى مستويات عالية، وتعرض مستوى المعيشة للتدهور السريع، واضطرت هذه الدول في مواجهة محنتها، الرضوخ لإملاءات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي مقابل قروض العاجلة .
ومن الإجراءات التي طلبها صندوق النقد الدولي من هذه الدول، خفض الإنفاق الحكومي وزيادة الضرائب وأسعار الخدمات العامة وزيادة أسعار الفائدة وتقييد الائتمان المصرفي، وهو ما نتج عنه موجة إفلاس وتصفية أغلب الشركات المحلية، مما أدى إلى زيادة عدد العاطلين، وارتفاع نسبة الفقر، بفعل تفاقم البطالة وإلغاء الدعم وارتفاع أسعار المواد الأساسية ، وخفض برامج المساعدات الحكومية، وهو ما أفضى بالنهاية إلى تراجع مأساوي في مؤشرات التنمية البشرية ..
لذلك، فعلى تركيا الاستفادة من تجربة النمور الأسيوية، و أخدها في الحسبان ، فسياسة التحرير بدون قيود تقود إلى الهاوية، و أصبحت من الوصفات الغير فعالة. لكن من يحلل السياسات المالية و النقدية المتبعة في تركيا منذ مطلع الألفية الثالثة، يلاحظ أنها تتبنى المنهج الصيني و الماليزي في الإنفتاح و التحرير المالي، وهو منهج أثبت فعاليته في مواجهة أثار الأزمة الآسيوية للعام 1997 و الأزمة المالية لعام 2008.
فعلى الرغم من أن التوازنات الكلية للاقتصاد التركي تدعو للإعجاب، إذ أن الاقتصاد التركي رغم جائحة كورونا إلا أنه حقق نسب نمو إيجابية، فالأداء الجيد للاقتصاد التركي ، دليل على نجاح سياسة الإصلاح الاقتصادي، و فعالية السياسات المتعلقة بالانفتاح التجاري والاستثماري، و رصانة السياسات المالية و النقدية ، وفعالية الدبلوماسية الاقتصادية التركية…
لذلك، فإن أفضل سياسة يمكن لتركيا تبنيها لمواجهة انخفاض قيمة العملة، هي المحافظة على حزمة السياسات التي صنعت طفرتها الاقتصادية، مع ضبط تدفقات رؤوس الأموال نحو الخارج، وتبني سياسة نقدية مرنة لمواجهة التحديات الناشئة، والتتبع اليومي لقيمة العملة المحلية صعودا و نزولا، كما أن ضبط مستوى العجز في الميزان التجاري مطلب ضروري على المدى المتوسط، و ذلك لن يتحقق إلا برفع الصادرات..
وبجانب هذه التدابير المالية و النقدية، فإن تركيا مطالبة بتبني سياسة دبلوماسية أكثر مرونة لاسيما مع بلدان الجوار الإقليمي ، فمن دون شك أن الحرب والفوضى في سوريا و العراق و عموم الإقليم، أضرت بالصادرات التركية، فنجاح الصادرات التركية في غزو الأسواق العربية كان بفعل القوة الناعمة لتركيا…
وعليه، فإن تركيا لابد أن تسعى لأن تكون طرفا في جمع شمل الإخوة الأعداء في سوريا و العراق وباقي الإقليم…فمصالحها الاقتصادية تقتضي وأد منطق الصراع و الحشد الطائفي، و السعي نحو تغليب منطق الحوار، وعدم الانجرار لدوامة التصعيد، وحرصنا على سلامة تركيا نابع من إيماننا بأن نجاح أي تجربة عربية أو إسلامية هو دون شك قيمة مضافة لكل عربي و مسلم…و في المقال الموالي سأحاول التوسع أكثر في هذا الموضوع لاسيما في جانب العلاقة بين الفائدة و التضخم… فالأسباب الكامنة وراء الأزمات الاقتصادية و المالية في النظام الرأسمالي رغم تعدد تسمياتها، إلا أن القاسم المشترك بينها تحويل المال إلى سلعة ، و ما يصاحب ذلك من احتكار واستغلال عبر انتشار الربا ، لذلك، فإن المعاملات الماليّة الربوية محرمة في الإسلام، ويشمل التحريم كافة القروض التي تُمنح للأفراد أو المُنشآت بنسبة فائدة مالية..
وهذا التحريم نص عليه القران في قوله تعالى: (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ)
،و في السنة النبوية الشريفة فقد وَرد في حديث عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- أنّ رسول الله -صلّى الله عليه وسلم- قال:
(لَعَنَ الله آكِلَ الرِّبَا، وَمُؤْكِلَهُ، وَشَاهِدَيْهِ، وَكَاتِبَهُ)…
و الله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون…
أكاديمي متخصص في الاقتصاد الصيني والشرق آسيوي، أستاذ العلوم السياسية والسياسات العامة..