السحر والعقيدة
نشر هذا المقال في مجلة منبر الإسلام
العدد 7 السنة(38) رجب 1400هـ يونيو 1980م
ـ
نظرا إلى بعض الأحداث التي تطرأ والظروف التي تحيط بالإنسان يجد الفرد نفسه مضطرا إلى مناقشة أمور هي أقرب إلى الغيبيات منها إلى الواقع المحسوس.
وهو على هذا الدرب قد يضل أحيانا وقد يصيب أحيانا أخرى.
ومن بين هذه الموضوعات التي يلجأ الإنسان إلى مناقشتها بل ويلجأ بعض الأفراد إلى الرغبة في أن يقع تحت تأثيرها مسألة السحر.
وموضوع السحر له اتصال شديد بالعقيدة الإنسانية وله اتصال شديد أيضا بالسلوك الإنساني ونحن نستطيع أن نناقشه من حيث اتصاله بالعقيدة الإنسانية ونستطيع أن نناقشه من حيث السلوك الإنساني كذلك.
والمناقشة الجادة لهذا الموضوع سواء أكان على المستوى العقائدي أو السلوكي تحتاج إلى بيان لمعنى السحر وطبيعته وخواصه ثم هي كذلك تحتاج من جهة أخرى إلى بيان شاف لمعنى الموضوع الذي ستتصل هي به ونريد مبدئيا أن نناقش طبيعة السحر ومعناه ونكشف عن خواصه وصفاته على فرض أننا نقول به ونعتقد وجوده بيننا في هذا العالم.
وطبيعة السحر عند من يقولون بوجوده وتعريفه وخواصه عندهم يحددها لنا أحد العلماء الباحثين فيقول:
تعريف السحر:
1ـ السحر في اللغة: كل ما لطف مأخذه وخفى ومنه قيل عين ساحرة وقوله صل الله عليه وسلم: "إن من البيان لسحرا " .
2ـ السحر كما وصفه القرآن : تخييل يخدع الأعين فيريها ما ليس كائنا أنه كائن " يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى" .
3ـ وهو إما حيلة وشعوذة أو صناعة علمية خفية يعرفها بعض الناس ويمكن أن يكون منه تأثير الأرواح والتنويم المغناطيسي (التفسير الواضح د/ حجازي ص 59 الجزء الأول.
وخلاصة القول في هذه الجزئية أن السحر يقوم على أساس صناعة يمكن تعلمها ويمكن ممارستها لها قواعد مضبوطة ولها أسس مفهومة ولها أساتذتها وعلماؤها غير أن هذه الصناعة دقيقة خفية لطيفة تعتمد على الإيحاء في التأثير على الحواس، وخداعها فإذا تأثرت الحواس وخدعت أمدت النفس بمجموعة من المعلومات المبالغ فيها أو التي لا تسير سيرا طبيعيا فأحدثت في النفس انفعالا يتلوه انفعال حتى تتكون عاطفة مرضية أو عقدة مستقرة في النفس يكون لها من التأثير ما يشبه أن يكون ميكروبا مرضيا أو فيروسا يصيب الجسم ويخل توازنه بدون أن يكون هناك ميكروب أو يكون هناك سبب عادي يحدث الخلل في توازن الجسم والانحراف به عما له من وضع طبيعي خلقه الله فيه تلك هي خلاصة مجملة لطبيعة السحر عند القائلين به. وهي طبيعة مفتوحة قابلة لأن يدخل تحتها أفراد تلك المسميات المستحدثة ـ كالتنويم المغناطيسي ـ والتلبائية ـ وتحضير الأرواح .. الخ.
السحر والطب
يشهد علماء الطبيعة وعلماء التشريح والمشتغلون بكل مهنة وصناعة تتصل بهذا الكون المادي والحيوي أن هذا الكون كله يسير وفق قوانين مضبوطة وقواعد وعلل لا يخليه الله عنها بحيث إذا وجدت العلة وجد المعلول وإذا ارتفع السبب ارتفع المسبب ضرورة والفلاسفة المؤلهون يجمعون بين هذه الجزئيات من القوانين وتصعيدها إلى السبب العام والعلة الكلية التي يطلقون عليها القسم المقدس الله جل جلاله.
ورجال الدين في مختلف الأديان يعتقدون في هذا كله ويؤمنون به ولكنهم مع مجموعة من الفلاسفة يرون ظاهرة السبببية على أنها ارتباط عادي بحيث يمكن لله عز وجل أن يرفع هذه القوانين أو بعضها في ظروف خاصة يقصرها بعضهم على المعجزة التي تثبت نبوة النبي ويتوسع البعض الآخر في هذه الظروف فتشمل الكرامة للأولياء ونحوها.
وتلك قاعدة عامة لا أظن أن هناك من يخالفنا فيها ومادة الجسم البشري ضمن هذه القاعدة الكلية تخضع لمجموعة من القوانين العامة والخاصة ولها علاقة متبادلة مع هذا الكون الفسيح.
وإذا كان الجسم المادي يحيا في ظروفه العادية منسجما مع القوانين التي وضعت من أجله والتي خلق هو ليكون محكوما بها كان الجسم في ذلك يمارس حياته العادية.
أما إذا طرأ عليه طارئ وتحول نوعا من التحول يخل بهذه القوانين أو يعطل عملها فأننا نستطيع أن نحكم عليه بأنه يعيش تحت ظروف مرضية ويمارس حياة غير عادية.
وهذه الظروف المرضية معروفة الأسباب والعلل في معظم الأحيان وتخطي هذه الظروف المرضية مرتبط بتخطي تلك الأسباب والعلل التي تسببت في هذه الظروف المرضية.
والمبتدئون في علوم الطب يتعرفون على هذه الأسباب والعلل في جملتها ويقفون على حقائقها في مجموعها وفي ظروف لا تدق على الأفهام الممارسة ولا على العقليات المشتغلة بهذا الفن إذا حاولت الكشف عنها. إلا إذا حرمت بعض الإمكانيات والوسائل.
ويمكن إجمال هذه الأسباب والعلل في تصنيف نوعي من وقائع ما يقوله الأطباء في فهمهم للظاهرة المرضية وتحديدها. أنهم يقولون: عن المرض أنه اختلال في وظيفة عضو أو أكثر من أعضاء الجسم نتيجة لمؤثر خارجي عنه أو داخلي أثر بشكل أو بآخر في تركيبته التشريحية إلى حد قد يكون واضحا بدرجة ممكن رؤيتها والتعرف عليها بالعين المجردة أو غير واضح ويلزم للتعرف عليها مجاهر وغيرها من وسائل الدراسة كالتحاليل بأنواعها.
وهذا المؤثر قد يكون واحدا مما يأتي : ـ
1ـ مؤثر طبيعي أو فيزيائي كالحرارة الشديدة والبرودة الشديدة والاشعاعات.. الخ.
2ـ مؤثر كيميائي : كالأحماض ـ والقلويات وغيرها.
3ـ مؤثر ميكانيكي.
ويمكن إجمال ما سبق تحت عنوان الإصابات.
ثم هناك مؤثرات أخرى.
4ـ مؤثر بيولوجي: كالبكتريا ـ والفيروسات والطفيليات وغيرها.
5ـ مؤثر هرموني: فمعلوم أن أي اضطراب في التوازن في الجسم يؤدي إلى حالات مرضية معروفة وهذا الاضطراب له أسبابه.
6ـ مؤثر وراثي: هناك بعض الأمراض الوراثية التي ترتبط بالتكوين (الخلوي) وتنتقل الصفات الوراثية المحملة على الجينيات أو الأمشاج.
7ـ مؤثرات نفسية . وبيئية وغذائية .
وعند مواجهة أي حالة مرضية يكون في الحسبان أول ما يكون معرفة العضو أو الجهاز الذي اختلت وظيفته ثم معرفة المؤثر وإلى أي مدى أثر على التركيبة التشريحية والوظيفية لهذا العضو أو الجهاز الموجود في الجسم.
ويوجه العلاج لأكثر من ناحية: التخلص من المؤثر أو التخفيف من قدرته على التأثير.
وإصلاح التركيبة الوظيفية والتشريحية ويحاول اعادتها إلى ما كانت عليه أو تعويضها مثلا لو قلنا أن فلانا عنده أنفلونزا. الأنفلونزا هذه لفظة لمجموعة أعراض ظهرت نتيجة لاختلال وظيفة عضو أو أكثر (الرئتين والحلق ـ والأغشية المخاطية).
والسبب أو المؤثر هنا هو الفيروس المسبب وعند المعالجة. يوجه العلاج إلى الفيروس ومحاولة تخفيف أثره ثم إلى الجهاز الذي تاثر (الأغشية المخاطية والرئتين).
ومثل آخر بسيط: النزلة المعوية ـ المؤثر هنا ـ نوع من البكتريا أو أكث ر والجهاز الهضمي هو الجهاز الذي وقع عليه التأثير ـ وبالتالي حدث اختلال في وظيفته وتركيبته التشريحية المجهرية . فنتج عنه الحالة المرضية المسماة بالنزلة المعوية ـ يوجه العلاج إلى المؤثر والمتأثر.
ومثل ثالث: هو ارتفاع ضغط الدم ـ المؤثر هنا أكثر من عامل ـ عامل ورائي ـ عامل نفسي ـ عامل هرموني.
أدت كلها إلى اختلال في الجهاز الدوري نتج عنه ارتفاع ضغط الدم بأعراضه المعروفة.
ـ هنا يوجه العلاج إلى المؤثر والمتأثر وهكذا.
ولعلك قد لاحظت أن المتخصصين في صناعة الطب حين يتحدثون عن المرض أنما يتحدثون عنه باعتبار أنه ظاهرة لها أسباب مفهومة وقواعد مضبوطة يحتاج التعرف عليها إلى علم نظري وممارسة عملية وأدوات ووسائل يتعرف عليها الباحث بواسطتها على ما دق عليه أو خفيت ملاحظته بالوسائل العادية.
وصناعة الطب بهذا الشكل تختلف عن صناعة السحر من حيث طبيعة كل منهما ومن حيث الخصائص التي تميز بين أهمية كل منهما.
فكما أن الطب لا يكشف عن مغيب ولا يخيل للأنظار ما ليس بواقع أنه وقع، ولا يقبل شرف المهنة من الممارس أن يكون دجالا أو متعاطفا مع الدجالين، وأنما هو يأخذ في الأسباب وينتظر النتائج من خالق القانون وواهب النعم، فإن السحر في نفس الوقت ليس من اختصاصه أن يعالج ميكروبا قد غزى الجسم، أو فيروسا قد تحدى خلاياه، أو ردودا، أو كسرا عرضت إليه أو اختلال هرمون أثر فيه.. إلى آخره من أسباب المرض التي سبق لك أن وقفت عليها وعلى تصنيفها سواء كان هذا السبب ميكانيكيا أو حيويا لأن هذه الأسباب تدخل في نطاق العلم التجريبي، وتقع في مجال التجربة المادية.
وإذا كنا نسمع من وقت إلى آخر أن هناك علاجا يتوجه إلى هذا الميكروب ليتخلص منه، أو لهذا الخلل الميكانيكي ليعدل فيه بغير هذا الطريق المعروف لنا، فإن من يقوم بمثل هذا العمل أمامه الطريق مفتوح للأعلام، ومن حسن الحظ أن أجهزة الإعلام المرئية أصبحت تغطي الآن معظم المعمورة ونحن نريد من هؤلاء الذين يقومون بمثل هذا العمل أن يصطحبوا معهم الكاميرا لكي تسجل لنا مراحل هذا العلم الدقيق ونتائجه وآثاره عند ذلك فقط قد نؤمن بما يقولون أو يدعون محتكمين إلى الأطباء وإلى أساتذة الطب في عالمنا المعاصر، أما إذا لم يحدث ذلك، ثم نرى من وقت إلى آخر كلمات تردد تعلن عن مركز هنا وجمعية هناك، فإن ذلك لا يكون مقصودا به في الغالب إلا امتهانا صارخا بالطب ورجاله، وتحديا مهينا للاجتماع وعلمائه، واستهتارا برجال الدين على مختلف مستوياتهم، وبالدين أيا كان الاسم الذي يسمى به، ثم هو امتهان للعقل الإنساني والعبث بمشاعر الجماهير واللعب على الوتر الحساس للمرضى الذين يحتاجون إلى لمسة إنسانية تنقذهم من افتراس المرض لا إلى تخيل يذهب بهم إلى مهاوي الضلال، فلا يكادون يفيقون منه إلا على أبواب القبر أو أعتاب العجز الذي يسببه تقادم المرض ولا يمكن العودة منه أو التراجع عنه.
مجالات السحر
ولكن قد تثار هنا مشكلة خلاصة القول فيها أن السحر إذا كان لا مجال له في معالجة الأمراض المعروفة الأسباب والعلل فما مجال السحر إذن، وما هو ميدان عمله عند القائلين به ؟.
إنك قد علمت مسبقا أن الناس منقسمون حول السحر وحول وجوده، فمنهم من قال به ومنهم من أنكر، كما أنك قد علمت في نفس الوقت أنني قد اخترت أن أسير معك على اختيار الرأى القائل بالسحر، وبتأثير السحر، وبالمجال الخاص بالسحر وبالميدان الذي يعمل فيه، ولذلك فإنني أرى أن أسير معك الآن لأحدثك عن مجال السحر، وأسير بك عبر هذا المجال مستخدما المنهجين معا منهج التحليل العقلي، والمنهج التاريخي الاستردادي فنحن نريد أن نحلل الظاهرة عقليا، ونريد في نفس الوقت أن نلجأ إلى التاريخ الخاص بهذه الظاهرة لنحتكم إليه.
يرى العلماء الذين بحثوا هذه الظاهرة قبلنا أنها ظاهرة اجتماعية، والظاهرة الاجتماعية كما تعلم تختلف عن الظاهرة الرياضية والطبيعية اختلافا شديدا، فالظاهرة الرياضية أو الطبيعية ثابتة لا تتغير، ساكنة لا تتحرك، فهي ظاهرة استاتيكية أما الظاهرة الاجتماعية فهي ظاهرة دينامية تمتاز بالحركة، وتتسم بالتغير، وظاهرة السحر ليست ظاهرة رياضية أو طبيعية، وإنما هي ظاهرة اجتماعية، وهي بما هي كذلك ظاهرة متحركة لا تخضع إلى ظرف عام ثابت، ولا هي تظهر بنفس الخواص في كل عصر ولا هي تعتمد على نفس الوسائل في كل زمان بل هي تعتمد في كل عصر على الوسائل التي تناسبه، وتظهر في كل زمان بالمظهر الذي يلائمه وتتلون في كل وقت باللون الذي يؤثر بصورة مباشرة في العصر الذي تنتشر فيه.
ونحن نريد الآن أن نعرض عليك كيفيات للسحر مختلفة سنرى منها أن بعض ما كان يعد في الماضي سحرا قد انكشف ستره للعقليات المبتدئة في العلوم المادية وبعضها قد افتضح أمره لعدم اعتماده على ما يوصله إلى هدفه فظهر على أنه دجل وخرافة أناس ضلوا وأضلوا من هم على شاكلتهم.
ويحدد لنا ابن حجر الهيتمي مجالات السحر في زمانه وما سبقه من أزمان من خلال تصنيفه وتقسيمه لأنواع السحر، فهو يرى أن السحر ينقسم إلى أقسام: أحدها هذا اللون الذي يدعي أصحابه أنهم يعرفون علم النجوم، ويعرفون تأثيرها على الناس أجمعين، وأن لذلك كله علم وقواعد، وفي القديم افتتن الناس بالنجوم ولم يقتصروا على مجرد نسبة التأثير إليها ولكن بعضهم أطلق يد النجوم في الكون كله وجعلها هي المؤثر في غيره المستغني عما عداه، فلها وحدها يجب أن يرجع الإنسان بالخضوع التام والعبودية المطلقة، ورأى البعض الآخر أن يخفف من هذا الغلو، ورأى أن النجوم تؤثر في من وما تحتها بما لها من خواص كالاستدارة، وكمال يشبه أن يكون مطلقا إلا أنها في نفس الوقت مخلوقة عن ما هو أعلى منها وأشرف، وهذه الفرقة قد ظهرت في القديم في بابل كعبدة لهذه النجوم، وظهرت على أقلام الفلاسفة هذه الاعتقادات المخففة فيما بعد.
وقد أبطل سيدنا إبراهيم الخليل هذه العقائد الفاسدة في حينها وتصدى لها في زمانها، وهناك نوع آخر من أنواع السحر لا علاقة له بالنجوم وإنما هو يتصل بأصحاب الأوهام والنفوس القوية الذين يملكون من خلالها وبوسائط معينة أن يؤثروا فيما عداهم من الناس، أما النوع الثالث من أنواع السحر فهو الذي يقوم على استخدام الوسائط من الجن، وحقيقة الجن من الأمور التي قام حولها الخلاف، ونحن نثبتها ولا ننفيها، ونثبت أن لها تأثيرا في حدود القدرة المتاحة لها، فأنت تعلم أن الجن بحكم طبيعته أجسام لطيفة ترانا ولا نراها يمكن أن تلبس صورا مادية وتحكم تلك الصور عليها وتهلك هي بهلاك تلك الصور، وبما أن الجن أجسام لطيفة تستطيع أن تقوم بممارسة أعمال وبمباشرة أفعال هي فوق إمكانياتنا وفوق قدرتنا التصويرية التي ليس لها من وسيلة للإدراك إلا عن طريق الحواس، والحواس ممنوعة من إدراك هذه الكائنات الروحية ولذا كانت الأفعال الناتجة عن هذه الكائنات الروحية تشبه أن تكون أفعالا دقيقة وصفة هذه الأفعال بتلك الصفة تنسجم غاية الانسجام مع الطبيعة العامة للسحر، وقبل النبي عليه الصلاة والسلام كانت هذه الكائنات تتمكن من استراق السمع وتهبط إلى الأرض فتخبر بما سمعت ممزوجا بشئ من التضليل فتخبر عما هو مغيب ويمكن وقوعه في المستقبل عن طريق ما علمته من استراق السمع، ولم تعد هذه الميزة متاحة لهم بنص القرآن الكريم "إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين" "وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا".