فلسطين أرض محتلة. حالها حال أراضي أخرى كثيرة أحتلت من قبل قوى أجنبية في يوم من الأيام. أما قضية فلسطين و واقع الشعب الفلسطيني، فهما كأي قضية أخرى وأي واقع آخر لأي شعب مسلم يعاني الإحتلال و الظلم والإضطهاد، لا فرق إلا لجهة أي شعب يعاني ظلما أكثر في مرحلة ما، وأي قضية تشكل الخطورة الأكثر. و لو أخذنا بعين الإعتبار كمية و نوعية الظلم الواقع بالشعوب المسلمة، فهناك شعوب كثيرة تعاني ظلما أبشع و أفظع من الفلسطينيين. الشعب السوري منذ عام 2011، يعاني العذاب الذي لم ير الفلسطينييون مثله منذ عام 1948 و إلى اليوم. إن معانات و عذابات الشعب الإيغوري المسلم في الصين هي أضعاف ما يعانيه الفلسطينييون، وهم الآن يتعرضون إلى إبادة منظمة من قبل الصين. الشعب الروهينغي المسلم مازال يتعرض إلى إبادة جماعية يندر مثيلها، لم يتعرض لمثلها الفلسطينييون. الشعب الكُردي تعرض لمظالم بشعة على يد الأنظمة العلمانية القومية، لم يخبرها الفلسطينييون منذ عام 1948. مثلا، ظلت اللغة و الثقافة الكُردية ممنوعة في تركيا لمدة قرن، إلى أن جاء أردوغان و ألغى القوانين العنصرية بحق الملايين من الكُرد، مع العلم أن آثار هذه القوانين العنصرية مازالت قائمة على قدم وساق. و منذ أن أعلن أتاتورك نظامه العلماني، فإن ضحايا علماء و شيوخ الكُرد و حدهم بلغ 40 ألفا. أما باقي الكُرد فتعرضوا للقتل و التشريد و التهجير والمحو المنظم. نعم أسس اليهود دولتهم على أرض فلسطين في عام 1948، لكنهم لم يتعرضوا للثقافة الفلسطينية و لم يمنعوا يوما اللغة العربية كما فعلت تركيا بحق الشعب الكُردي. أما الذين تعرضوا للقتل و الإبادة في فلسطين، فإن عددهم أقل بكثير من ضحايا الشعب الكُردي في العراق (الذين تعرضوا إلى الأسلحة الكيمياوية و الأنفال)، أو في تركيا أو حتى في إيران التي لم تدخر جهداً لإغتيال علمائهم و قتلهم بأبشع الطرق. هناك أكثر من عشرة آلاف قرية كُردية دمّرت في تركيا و العراق منذ عام 1984.
على العكس، فإن النخبة الفلسطينية التي تُري عضلاتها الثقافية أمام النُخَبْ العربية الأخرى هي التي نمت و ترعرعت في كنف إسرائيل و نظامها اليهودي (الأمثلة كثيرة!). هذه النخبة اليوم، بالإضافة إلى النخبة التي ترعرعت في "المنفى" أي في دلال الأنظمة العربية و ضيافة الدول الغربية (بعض منها كان قد نشأ في ظل السلطة الإسرائيلية في الأساس)، لها باع طويل في ميادين سياسية و إعلامية مؤثرة، في أماكن كثيرة و في دول عربية كثيرة، وصولا إلى أعلى مراكز القرار. وهذه النخبة تتمتع بإمتيازات مادية كبيرة سهّلت طريق وصولها إلى الثروة و الغنى، إلى حد تحول عدد ملفت منها إلى مليونيرية.
هذه النخبة تعيش على الإرتزاق بإمتياز. و على درب الإرتزاق، تقوم بتوظيف كل شئ في سبيل هذا الهدف من دين و قومية و حقوق و سياسة الخ. و لكي تتحول هذه المسائل إلى وسائل نافذة، فإن هذه النخبة تقوم و تقعد و هي تغلف القضية الفلسطينية بألوان القداسة التي لا يمكن المساس بها في أي حال، و لا سبيل إلى مسائلتها البتة. وهي تفعل هذا إنما لحاجة في صدر يعقوب كما يقال، و ليس من أجل فلسطين و سواد عيون الشعب الفلسطيني، أو من أجل التزامها الديني وسنأتي على ذكر هذا. و السلاح الآخر الذي تستعمله هذه النخبة، على طريقة كهنة المعابد في العصور الغابرة، هو التخوين. فمن يثير السؤال الجاد حول كنه القضية الفلسطينية و المفردات التي أضيفت إليها لتعطيها القداسة (مثلا علاقة القضية الفلسطينية بالعقيدة الإسلامية أو لماذا القضية الفلسطينية هي القضية الأولى للمسلمين)، فإن سلاح التخوين جاهز ضد أي إنسان عربي أو مسلم، يبدي التساؤل حول جدوى فرض أولوية مشكلة الفلسطينيين على قضايا أخرى تهمه في بلده و دينه، و هي قضايا أكثر حيوية و ضرورة و خطورة مما يجري في فلسطين. هذه النخبة تحمل على الدوام طبلا كبيرا مربوطا بشريط يلف رقبتها، و هي تدق فتحدث القرقعات المزعجة التي تشبه صوت زمارات السيارات في العالم العربي، حيث يتعود الإنسان على سماعها بمرور الزمن وعلى كراهة شديدة.
إن أكبر صدمة أصابت هذه النخبة المرتزقة كان في عام 2011، حين انفجر الربيع العربي، وعلى الأخص منذ أن بدأ الربيع العربي يغطي أرض سوريا. فبروز القضايا الحيوية و الملحة للإنسان العربي في البلدان العربية، و المواجهة الوحشية التي أبدتها الأنظمة الدكتاتورية و على الأخص النظام السوري العميل ضد الشعوب العربية المطالبة بحقوقها الأساسية؛ حوّلت فلسطين و محتوياتها و مشاكلها إلى هوامش يزوبع فيها هذه النخبة في زوايا النسيان، بل و أزاح فلسطين من على نار الطبخ التي تريد هذه النخبة لها أن تبقى دائما على درجة حرارة عالية، حتى ولو أُبيد ألوف الفلسطينيين بسببها على الدوام. ومن هنا ضرب زلزال الغيرة و الحسد هذه النخبة المرتزقة، و بدأت تنهار خائفة من رجوعها إلى الصفوف الأخيرة، لتتحول إلى مخلفات منسية. فما كان من هذه النخبة سوى، أن تفرقع ضجيجها في هوامش النسيان تلك، وأن تقف مع الأنظمة الدكتاتورية ضد الشعوب العربية، ضاربة أبسط معاني الشرف و الأخلاق عرض الحائط، لعل "قضية فلسطين" تعود إلى الواجهة على حساب دماء و مظالم الشعوب العربية و خصوصا الشعب السوري. و هذه العودة كانت ضرورية، بل و بقاء ما يُسمى بالقضية الفلسطينية في واجهة ما يهم العرب و المسلمين يُشكل الأولوية الكبرى لدى هذه النخبة، لأن حل هذه القضية و إنتهاء مشاكلها يعني إغلاق بازار هذه النخبة و نفاد دكاكين ارتزاقها.
منذ عام 1948، بدأت قوى دولية، و على سنـّـتها أنظمة و أحزاب عربية، تعطي فلسطين لقب "القضية الأولى للعرب و المسلمين" حتى أهدرت ثروات هائلة في سبيل ذلك، بل و ذهب الآلاف من العرب في دول شتى ضحية هذه الأولوية. بل إن العراق، هذا البلد العريق الذي فضّل الفلسطينيين على أبنائه، ذهب سدى في سبيل فلسطين التي مازالت كما هي، والعراق أمسى في خبر كان منذ حوالي عقدين. بل و الأنكى، أمسى الفلسطينييون موالي لدى النظام الإيراني الذي دمّر العراق الذي لطالما وقف مع الفلسطينيين ودفع أثمان هذا الوقوف باهظا.
هذا الواقع، أي رفع القضية الفلسطينية على صحن مقدس فوق جميع قضايا العرب والمسلمين، فتح سوقاً تجارياً مفتوحاً بين الأنظمة العربية الدكتاتورية و العميلة و بين هذه النخبة الفلسطينية التي لا تجد دكاكينها إغلاقا البتة، بإنتظار أي راع تجاري يتبنهاها. فمن جهة، استطاعت هذه الأنظمة العربية تلميع صورتها الإعلامية ولو ظاهريا، عبر فتح القنوات مع النخبة الفلسطينية لتغدق عليها المال و الإمتيازات، مقابل نيل المديح و التطبيل منها. أي أن فلسطين تحولت إلى شارة يضعها كل عميل ومرتزق على صدره كتعويذة من المتربصين من جانب، وكدليل على إضفاء الشرعية حتى على أحط سلطة، لايجد واحدنا في قاموس شيمتها غير الخيانة والجريمة. لذلك فإن الدول العربية، لاسيما الغنية، كانت تعطي إمتيازات الوظائف العليا إلى جانب الأموال طبعا لهؤلاء النخبة الفلسطينية، ليس لإستحقاقهم أو إمكانياتهم، بل لقدرتهم على تلميع صورة أي نظام يدعمهم عبر دعمهم وتأييدهم له، ولتكميم أفواه إرتزاقهم التي تكسب من خلال التشهير بهذا الحاكم أو ذاك. والأكثر من ذلك، تحول بعض الفلسطينيين إلى مرتزقة مسلحين و عناصر أمن لدى بعض هذه الأنظمة العربية، مثل النظام السوري. أما قصة الملازم محسن الفلسطيني في كُردستان العراق فهي معروفة للناس، حيث تحول هذا المرتزق إلى جلّاد أمني لدى نظام البعث يعذب و يقتل المساجين بمنتهى الوحشية، بدل أن يذهب و يخدم شعبه الفلسطيني في فلسطين أو في الشتات. وأمثال الملازم محسن بالمئات إن لم نقل بالألوف، وهم قطعا لا يمثلون قيم ونبل الشعب الفلسطيني، بل هم إخوة الإرتزاق مع النخبة تلك.