فارس الحوّاري العزّوني (أبو معروف)
المؤلف: أ. عبد العزيز عرار
لمحه في جغرافية وتاريخ عزون
نشأ الثائر “فارس” محمد الحواري(1913-1940) في قرية عزون، وهي تقع على المرتفعات الجبلية القريبة من الساحل الفلسطيني وترتفع عن سطح البحر في بعض مواقعها 176مترا، وتمتاز بكونها نقطة اتصال مهمة على خطوط المواصلات بين نابلس وقلقيلية وطولكرم ورام الله، و تتوسط مجموعة قرى. تعرضت عزون لمحاولة احتلال من قبل الفرنسيين الذين ساروا في حملة متجهين نحو مدينة عكا في عام 1898 وقد توجهت كتيبة من الجيش يقودها دوماس لغرض احتلال القرية ولكن جموع قرى بني صعب والتي تضم كفر جمال، كفر زيباد، كفر عبوش، كفر صور، الرأس، فرعون، الطيبة، الطيرة، قلنسوة، جيوس بقيادة شيخ قرى الصعبيات الشيخ محمود الجيوسي ومركزه قرية كور، وقتل القائد الفرنسي دوماس على يد فلاح من عزون يدعى عابد مريحة العدوان، والذي اغتنم فرصة احتساء دوماس لكأس من القهوة وعندها صوب بندقيته واقتنصه، مما بعث الذعر في صفوف الجيش الفرنسي، كما أن الهزيمة دبت في نفوسهم بعد أن أشعل أبناء الجبل النار في الأحراج فأحاطت بهم ألسنة اللهب ودخانها من كل جانب. ففروا مذعورين إلى يافا حيث صب نابليون جام غضبه عليها، وكانت معركة فاصلة ردت الجيش الفرنسي عن جبل نابلس الذي أطلق عليه من يومها لقب: جبل النار وهي معركة خلدها الشاعر الفلسطيني إبراهيم طوقان:
سائل بها عزون كيف تخضبت بدم الفرنجة عند بطن الواد
شارك أبناء عزون في معظم الثورات الفلسطينية وكان لهم السبق فيها. ففي ثورة 1921 هاجموا مستعمرة ملبس إلى جانب قرى أخرى، وبرز دورهم في ثورة 1936 وقدموا الشهداء وحدثت معركة وادي عزون في 26/6/ 1936. وبعد أن فك الإضراب في تشرين أول 1936 وبعد أن حضرت لجنة بيل في العام اللاحق وصل إلى عزون رئيس اللجنة، والذي استمع لرأي السكان فرد عليه مختار البلدة الشيخ مصطفى سرور قائلاً “من جرب المجرب عقله مخرب. لقد جربنا بريطانيا ولم تصدق في وعودها وتعهداتها”. وعندما تجددت الثورة في عام 1937 قام الشاب يونس الشايب بإطلاق ا لنار على سمسار عربي عمل على تسريب الأراضي العربية لليهود، ولكنه قبض عليه بعد أن فر باتجاه البحر وقامت حكومة الانتداب بشنقه وقد دفن في قريته عزون وكتب على قبره.
سقى الله رمساً حل فيه مجاهد شهيد غدت أعماله خير مؤنس
فدا وطن غال يقهر العدا شكو إلى القهار متجسس
طفولة “فارس” العزوني
ولد “فارس” في “خربة تُبصُر ” من أعمال عزون، وهي أحدى الخِرَب التي نزلها أهالي عزون بعد عام1810، ودعيت أيضاً “غابة عزون ” والتي أقيمت على أراضيها مستعمرة رعنانيا وبجوارها مستعمرة كفار سابا، و قد دمرت خربة تبصر وأجبر أهاليها على الرحيل في الثالث من نيسان عام 1948. عاش “فارس” يتيماً، وتلقى تعليمه في مدرسة عزون، ودرس فيها حتى الصف الرابع، وقد تعهدته والدته بالعناية، وقد عمل في الزراعة والفلاحة وكانت والدته وإخوانه يديرون بيارة زرعت بالبرتقال. عرف عنه ولعه المبكر بالسلاح، وقد اعتقل مرات عديدة قبل بلوغه سن الرشد، وحينما بلغ سن السادسة عشرة من عمره، توجه إلى قرية المزيرعة من قرى قضاء اللد مع صديقه مصطفى غزال سويدان، الذي يكبره سنا بهدف شراء بندقية، حيث وجد شخصا تعّود بيع بندقيته للباحثين عن سلاح. وكان يبيعها ومعها طلقات مغشوشة، ثم يفاجئ من يشتريها بعمل كمين، وتحت تهديد السلاح يقوم باستردادها، ويسلبه ما لديه من مال وتكرر هذا الأسلوب مع عدة أشخاص. سمع “فارس” الحواري وصديقه مصطفى غزال بقصة هذا الرجل، وحكاية سلاحه فخططا للحصول عليها فتجهزا بطلقات احتياطية وذهبا إلى المزيرعة وحدث معهما كما يحدث مع الآخرين، واعترضهما خارج القرية فحّذراه من مغبة صنيعه، ولكنه لم يتراجع عندها أردياه قتيلا . بعد التحاق “فارس” بالثورة عاد إلى قرية المزيرعة، وقبل دخوله القرية أرسل مندوبين يستأذنون له بالدخول كزائر وضيف، وأذن له أهلها بالدخول وأكل بها وشرب، وقاموا بإجراء مصالحة، وتفهم أهل القرية حادثة القتل التي كان سببها ابن قريتهم.
حدثتني أرملة “فارس” السيدة عيشه جودة نقلا عنه
” سجنت عدة مرات وخرجت من السجن، توجهت إلى قرية المزيرعة ومعي صديقي مصطفى غزال، واشترينا بندقية ورجعنا لقريتنا، واقتربنا من بئر ماء يقع في مدخل القرية، وعليه يقف أحد الرعاة الذي كان يسقي دوابه، وحدق بي وطلب مني خلع بارودتي وقد طمع فيها واستهتر بي وظن أني صغير، واتجه نحوي وحذرته أن يقترب مني لكنه لم يرتدع، فأطلقت عليه النار مضطراً وسقط المهاجم على الأرض، وهربت ومعي مصطفى غزال”.
و حدثنا عبدالله جوده من بلدة عزون نقلاً عن أبو علي ناصر أحد مواطني قرية المزيرعة أن “فارس” اشترى بندقية من قرية المزيرعة، ولكنه تعرض لمحاولة تقشيط (سلب) من نفس الشخص الذي باعها له، ورغم أن “فارس” حذره من الاقتراب منه إلا أنه اندفع باتجاهه مما حمل “فارس” على إطلاق النار عليه فأرداه قتيلاً، وقد تسبب نزيف الدم الذي أصاب جسمه في موته. بعد مقتل الرمحي من المزيرعة أصبح “فارس” وصديقه مصطفى فارين تبحث عنهما سلطات الاحتلال البريطاني، وتقتفي آثارهما للقبض عليهما ، حيث بقيت خلفهما بعض آثار العملية، ومنها عثورهما على قطعة من أهداب الكوفية. حضرت قوات الشرطة إلى قرية كفر ثلث المجاورة لقرية عزون، ظناً منها أن القاتل منها، وقامت السلطات بعمليات تحقيق مع بعض الأشخاص، وقد اتهمت سليم عيسى بأنه وراء حادثة قتله، حيث كان يلبس كوفية وعقالاً تشبه لباس “فارس”، وقد نفى التهمة المنسوبة إليه وانتهى علم المخابرات البريطانية ورجال الشرطة أن القاتل من قرية عزون ويدعى “فارس” محمد الحواري، الذي يقطن خربة تبصر (غابة عزون ) ويرتدي نفس اللباس فأسرعوا بالتوجه إليها، وطلبوا من مختار خربة عزون أن يصطحبهم إلى بيت “فارس”، حيث تم اعتقاله. أجرت السلطات البريطانية تحقيقا مع “فارس” وصديقه مصطفى، ووجدت بعد التشخيص أن أهداباً قد مزقت من كوفيته، واعترف بالتهمة المنسوبة إليه، وأنه هو القاتل ؛ لكن السلطات البريطانية أعدمت صديقه مصطفى غزال، وحكم “فارس” الحواري بالحكم مدى الحياة بسبب عدم بلوغه السن القانوني.
حدثني محمد كايد عواد سويدان ـ صديق “فارس” في طفولته ـ فقال
“هو من أجيالي تعلق بحمل السلاح، وسجن لفترات عديدة، وفي أحدى فترات سجنه سمع عن شخص في المزيرعة يبيع السلاح. وبعد ها ذهب مع مصطفى غزال، وكان أكبر منه سنا، حيث قاموا بشراء قطعة السلاح المطلوبة، وبداخلها رصاص مغشوش، وقب لذهابهم لشرائها أحضرا رصاصا حيا واشتروا البندقية،، وعادا إلى بلدتهم ، وفي طريق عودتهم فاجأهم المحتال (بائع البندقية ) بمحاولته تجريده البندقية ولكن “فارس” لم يمهله طويلا حيث أطلق النار عليه من الرصاص الحي فأرداه قتيلا. أخذ أهل القرية قتيلهم وأحضروا البوليس البريطاني، وأخبروهم أن القاتل من عزون. ودافع عنهم المحامي الإنجليزي أبو كاريو، وأعدم مصطفى لكبر سنه، وحكم “فارس” بالمؤبد لأنه لم يبلغ سن الرشد ” .
فرار “فارس” من سجن عكا
سُجن “فارس” في معتقل المسكوبية في مدينة القدس، وانتقل إلى سجن عكا، وبعد أن قضى بضعة أعوام في المعتقلات والسجون، سمع أخبار الثورة الفلسطينية التي اندلعت في عام 1936، فقرر الهرب من سجنه في صيف عام 1938. فكر في طريقة ملائمة للهرب فهداه تفكيره بالتعاون مع رفاق السجن وأقام علاقات وطيدة مع السجّانين العرب، وبفضل هذه العلاقة نجح في الهرب. حدثتنا أرملة الثائر “فارس”: “بعد إعدام صديقه مصطفى وقضائه مدة في المعتقل، طلب نقوداً من أمه لشراء أسلاك ومنشاره حديد، وقام برشوة السّجانين وكانوا عرباً، وفي الليل قطع قضبان الشباك، وتدلى بحبل من الأسلاك الشائكة، وشاركه بعض المسجونين من العرب، ونجح “فارس” بالقفز خارج الخندق المحيط بالسجن لكن يديه انسلخت من الأسلاك أثناء الهبوط بينما وقع أحد أصدقائه في الخندق وكسر ظهره، و وقع آخر وكسرت يده، أما “فارس” فقد وصل لأقرب منزل إلى السجن، حيث قام أهل البيت بعلاجه بعدها بقليل طرق الجيش باب البيت، وقامت ست البيت ولفّت “فارس” بالحصيرة، وأوقفته في زاوية الدار كأنه جزء من أثاث البيت. بحثوا عنه في جميع أنحاء الدار ولكن لم يجدوه، بعد يوم أو يومين توجه “فارس” إلى منطقة طولكرم واختبأ عند صديقه الثائر عبد الله الأسعد من عتيل، الذي كان مسجوناً معه وبقي عنده قرابة عشرة أيام. وفي الليل اتجه “فارس” لغابة عزون وانتظر في موقع سيل الماء عند بيارتهم حتى حضر أخوه حامد وأعمامه يوسف وعبد الجليل “.
وتتفق رواية الحاج محمد كايد مع رواية أرملة الشهيد لكنه يذكر تفاصيل أخرى حدثنا
“أودع في سجن عكا في الطابق العلوي، قام برشوة البوليس الذين أحضروا أسلاكا ومنشارا، وأخبرهم بنيته للهرب وكان معه عبدالله الأسعد من عتيل، وفارس” الطوباسي. نجح عبدالله الأسعد في الهرب، بينما فشل “فارس” الطوباسي الذي وقع على ظهره في الخندق وتكسرت أضلاعه وباغت “فارس” مدير السجن ولبس ملابس غسيل وهرب إلى غابة عزون ووصلها ليلاً ، وأخذه أخوه حامد، وصديقه أسعد القاسم إلى القائد عارف عبدالرازق كي يلتحق بالثورة”
التحاق “فارس” بالثورة وقيادته فصيل الموت
تأسيس “فصيل الموت” في جنوب طولكرم
نجح “فارس” في الهرب من سجنه في أوائل صيف عام 1938، حيث ساعده الشرطي أحمد شطارة من قلقيلية والذي عمل في الشرطة البريطانية. وبعد نجاحه في الهرب من سجن عكا، لمعت في ذهنه فكرة تشكيل فصيل ثوري، وقد سماه باسم فصيل الموت، بينما كان الآخرون يسمون فصائلهم بأسماء القادة و الصحابة المسلمون أو معارك الفتح الأولى أو باسم فصيل محمد صل الله عليه وسلم. عمل “فارس” على تجنيد أبناء عزون وكفر ثلث وغيرهم من منطقة قلقيلية ومعهم عرب سعوديين ويمنيين وسوريين، وفي غضون فترة قصيرة بلغ عددهم ما لا يقل عن خمسة وسبعين إلى مائتي ثائرً. ويظهر أن عدد عناصر الفصيل كانت في تغير من وقت إلى آخر، ويرتبط ذلك بالمناسبات والمعارك؛ ففي مؤتمر دير غسانة الذي عقد في منتصف أيلول 1938 كان عدد عناصر الفصيل 200 عنصر حسبما يذكر أحد الباحثين . أجمع الرواة الذين قابلتهم على أن الرقم تجاوز سبعين شخصا، حدثني أسعد القاسم أن عدد فصيل “فارس” بلغ خمسة وسبعين رجلا،، وأتفق مع هذا الرأي لأن هذا الشخص كان أحد مرافقيه والمقربين منه. وحول عدد عناصر فصيل الموت حدثني عبدالعزيز إسماعيل الأعرج أنه بلغ في أحد المرات سبعين رجلا والدليل على ذلك أن “فارس” طلب إحضار سبعين دجاجة لإطعامهم، وأخرجت له كفر ثلث هذا العدد . ضم فصيل الموت عناصر عديدة من قرى طولكرم، و دخلت إليه عناصر أخرى من الأقطار العربية المجاورة، وبعضهم عمل مع عارف وتركه لينضم إلى فصيل الموت، وهذه هي بعض الأسماء التي شاركت فيه:
1) قرية عزون: التحق كل من محمود أبو غزال ابن الشهيدة فاطمة غزال التي استشهدت في معركة عزون في 26/ 6/ 1936، وعبدالله القنبر، ونمر القنبر وكامل الحواري، وزعل بدران، وابراهيم الكيوي، وسعيد أبو حلاوة، وعبد الرحيم الرياشي، وعبد العزيز الجودة، وأحمد البدوان، وقاسم الشايب الطحلة من عزون واّخرين .
2) قرية عِسلة: أسعد القاسم، وجاسر سليمان، وابراهيم البم راضي.
3) قرية سنيريا: عمر أبو طبنجة، وسليمان فرح .
4) كفر ثلث: إسماعيل أبو هنية، ورشيد أبو هنية، وموسى مقبل، وحسين شقير، ويونس أبو خالد.
5) دير بلوط: محمود قرعوش.
6) كفر الديك: الأخوين حافظ عبد المجيد علي الأحمد، ومحفوظ عبد المجيد علي الأحمد، وأحمد عودة علي الأحمد.
7) كفر قاسم: علي بدير وآخرين، وتعاون المختار وديع أبو دية مع الفصيل.
كفر قدوم: فهمي صوفان، وكان بمثابة سكرتير الثورة وكاتبها ، وأحمد القدومي.
9) مسكة: المعلم إبراهيم عبدالحفيظ الذي كان يتولى مهمة الكتابة على الآلة الطابعة الخاصة بالثورة.
10) خريش: حسن أبو عمر، ومهمته تصنيع الكبسولات.
11 ) قلقيلية: انضم إلى الفصيل: عبد الرحيم الدكة، وقام بالتنسيق مع الفصيل مسؤول اللجنة القومية حسين جميل هلال، والذي لعب دورا هاما في إحضار الذخائر والتمويل للفصيل وتوجيههم نحو أهداف محددة في محطات سكة الحديد، والمستعمرات القريبة، ومنها: كلمانيا، وهاكوفيش ومحطة رأس العين وغيرها، وقد لاقى “فارس” الترحاب والحفاوة من آ ل زيد في ديوانهم بمدينة قلقيلية. التحق به من البلدان العربية سوريون، ويمنيون، وسعوديون، ومنهم:ـ جميل السوري وعبدالرحيم السوري والحاج عبده والحاج محمد مسلم، والحاج محمد اليمني، والجدير بالذكر أن هؤلاء الثلاثة الأخيرين كانوا مدعاة للشك في أن يكونوا عربا، وقد قابلت أشخاصاً شاركوا في الثورة من جبل الخليل و قلقيلية، وطولكرم، ورام الله وفي رواياتهم اتهام للحاج محمد مسلم، والحاج محمد اليمني، والحاج عبده كانوا مدسوسين في الثورة ويعملون لحساب الحركة الصهيونية توزعت مهمات أعضاء الفصيل بين مهمات قتالية، وعمليات مختلفة مثل: الاغتيالات، وشراء الأسلحة والذخائر والمناظير، ومن الأمثلة على ذلك تكليفه موسى مقبل عودة من كفر ثلث بشراء منظار من مدينة نابلس، بينما قام فهمي صوفان بتسجيل أحداث الثورة بصورة يومية، وكلف عدد كبير من الناس بتنظيف الرصاص القديم الذي بقي من الحرب العالمية الأولى . اهتم “فارس” باتخاذ لباس عسكري موحد لفصيله حيث لبس المقاتلون اللباس الخاكي (الكاكي ) والحذاء البني الطويل والشروال الواسع مقلدين الثوار السوريين فيه، وحمل “فارس” مسدسين، ومما قام به تكليف البعض بتأدية مهمات عسكرية كالاغتيالات وأجرى تحريات عن بعض الأشخاص، وقام أحيانا بالتخفي وملاحقة بعض أبناء بلده وأقربائه للتأكد بنفسه إذا كانوا جواسيس أم لا ؟. كان “فارس” يشعر بالتقدير والامتنان للدروز السوريين، الذين ضمهم” فصيل الموت “، وعرف منهم جميل السوري، وعبدالرحيم السوري، وعبر عن إعجابه وتقديره لهم بأن لقب نفسه ب “أبي معروف “.
أبرز الأعمال الثورية لفصيل الموت
قام فصيل “فارس” بالعديد من العمليات العسكرية إلى جانب قتل عملاء وجواسيس يعملون لحساب الاحتلال البريطاني كانت أولى العمليات التي قام بها فصيل الموت هي زرع ألغام على الطريق الترابي الواصل بين نابلس ومدينة قلقيلية، الذي كانت تمر منه مركبات الجنود والسيارات الفلسطينية وهي قليلة ونادرة.
حدثني عبد الخالق سويدان، و محمد كايد سويدان في مقابلتين منفصلتين أنه كلف عبدالله القنبر بوضع لغم على الجسر القريب من قريته عزون ووقف الثوار من الجانبين ودمرت دبابة مرت من هذا المكان وبها ثمانية أشخاص وغنموا منها أسلحة وذخيرة .
أما أرملة الشهيد “فارس” فقد روت للباحث أن أولى العمليات التي قام بها فصيل “فارس” ومن معه كانت في تعرضهم لسيارات ودوريات إنجليزية عند كفر لاقف في موضع “القرنين “، الذي تقوم عليه الآن مستعمرة قرني شمرون. حيث أقام الثوار حاجزاً من الحجارة في وجه الدوريات الإنجليزية المارة من المكان، وقد راح فيها العديد من القتلى والجرحى وربح فيها الثوار الأشخاص والأسلحة والمناظير، التي استخدمها “فارس” فيما بعد، وقد شارك فيها فصيل حمد زواتا. توجه “فارس” إلى نقطة حراسة أقامها اليهود حول مستعمرة مجدييل اليهودية القريبة من بيار عدس ومدينة قلقيلية، وكمن خلف أرض مرتفعة من الرمال، وانتظر حتى تم تبديل حراسها من شرطة اليهود الإضافية وأطمئن إلى سكون الليل، وقد جلسوا على غير عادتهم خارج تحصيناتهم، فأطلق عليهم النار وقتل منهم ثلاثة، وجرح اثنان، وأسرع إلى مدينة قلقيلية . وكانت هذه الشجاعة كافية لأن يسلمه القائد عارف عبدالرازق قيادة فصيل. جرت اشتباكات أخرى كان منها اشتباك جرى عام 1938 على جانبي وادي عزون الجنوبي حيث وقف الإنجليز شرقي قرية عِسلة في شمال وادي عزون، في حين رابط الثوار إلى الجنوب بجوار “خربة الخراب “من أراضي كفر ثلث، وجرت اشتباكات سقط خلالها الثائر يوسف عوده من قرية بديا شهيدا. حدثنا توفيق أبو صفية: ” كنت إصغير يوم استشهاد يوسف عودة من بديا، وقد جاء أهله وحملوه على جمل وتحمست نساء القرية وقلن في الأفراح:ـ
يوم معركة الخراب انقتل يوسف شيخ الشباب
ومن أعمال ” فصيل الموت ” القيام بوضع ألغام في خط سكة حديد حيفا ـ رأس العين بالقرب من جلجولية التي أدت إلى انحراف القطار عن مساره وانقلابه. وقد تخصص فرح عوده من سنيريا في وضع الألغام، حيث استفاد مما تبقى من أسلحة وقنابل العثمانيين، التي كانت مخبأة في مغارة قريبة من خربة خريش، وظل عودة يضع الألغام حتى جاءت قوة بريطانية إلى خريش وتوجهت إلى مغارة قريبة منها، وجمعت القنابل المخبأة بها منذ عهد الأتراك والتي اعتاد الثوار استخدامها كلما دعت الحاجة لوضع الألغام . كما اعترض “فارس” وعدد من رفاقه إلى دورية إنجليزية مرت بالقرب من رأس العين، التي قتل فيها 8ـ12 إنجليزيا، ومما قام به الثوار الهجوم على بنك باركليز البريطاني في مدينة يافا وحرقه، وقام “فارس” بمهمات سرية واستطلاعية وتكليف أشخاص باغتيال سماسرة في مدينة يافا، حيث أرسل قاسم الشايب لاغتيال أحد السماسرة فيها و قام فصيل “فارس” بتصفية عدد من العملاء والجواسيس وسماسرة الاحتلال البريطاني في منطقة رام الله . لم يقتصر نضال فصيل “فارس” العزوني على العمليات المذكورة بل شارك في معركة الهجوم على القدس لتحريرها برفقة الثوار وقادتهم، ومنهم: عارف عبد الرازق” أبو فيصل “، ومحمد عبدالكريم النوباني “ابو شوكت”، وحمد داود زواتا ” أبو فؤاد “، وآخرين كانوا داخل المدينة المقدسة.
كتب فيصل عبدالرازق نقلاً عن الثائر حمد زواتا والثائر سعيد الناشف أن عارف أعد خطة لتحرير القدس، وبناءَ على ذلك طلب من فصيل حمد، وفصيل “فارس”، وفصيل محمد عمر النوباني، وفصيل عارف عبدالرازق العمل على تحرير القدس و نظمها عارف وجهزها لاحتلال القدس القديمة، وأمر كلا من “فارس” الحواري وحافظ عبدالمجيد أن يدخلا سراً إلى المدينة لترتيب الفصائل الثائرة تحت إمرتهم، ووضع فصائل على مقربة من الطرق المؤدية للخارج لتقف في وجه أي قوات تجلب لداخل الأسوار، وتم ترتيب الإعداد للمعركة مع ضابط الشرطة العربي جميل العسلي، ومع بهجت أبو غربية، وفوزي القطب، وشكيب القطب، وقد ساعد هؤلاء في نجاح المعركة لمعرفتهم بأسرار المدينة. نجح الثوار في تحرير المدينة لمدة ثلاثة أيام وسيطروا فيها على مركز الشرطة وحرقوا مستنداته، وقد استخدم الجنرال هايننغ السلالم لإرسال قوة للنجدة ، وقد قوبل دخول الثوار بالفرح والتهليل والزغاريد، وأخيراً اضطر الثوار للانسحاب من المدينة . وكان لفصيل “فارس” حضوراً في اجتماع عقده رؤساء مجموعة كبيرة من الفصائل الفلسطينية في قرية دير غسانة في 15 ـ 18 أيلول 1938، الذي جرى فيه بحث أمور الثورة وتنظيم عملها بانتخاب ” مجلس قيادة الثورة ” وعن اجتماع دير غسانة، والتحضير له حدثنا حسن حسين:ـ “جاء إلى كفر ثلث عدد من قواد الفصائل كان منهم: عبد الرحيم الحاج محمد، وكان لباسه يشبه لباس الشاميين، جاكيت طويل، وسروال واسع، وحطة وعقال، وجاء عارف عبدالرازق، وفارس” العزوني، وعبدالرحيم المرداوي، واستراحوا في كفر ثلث، عند حيط دار سعيد عبدالسلام، وأحضر الناس كراسي من بيت المختار سلامة عودة، والثوار رايحة جاية داخل البلد كأنهم في عرس، وبعدها توجهوا للجنوب، وهناك أطلق “فارس” وجماعته طلقات على طياره إنجليزية، ويقال أنهم أسقطوها في مطار اللد، ثم حدثت معركة استشهد فيها الثائر محمد صالح ” أبو خالد” . غمرت القرى التي مر منها الثوار مظاهر البهجة والسرور بعد قدوم الثائر عبدالرحيم الحاج محمد، وحسن سلامة وعارف عبدالرازق وعبدالحميد المرداوي، وعبدالقادر الحسيني، حيث أقيمت الدبكات الشعبية. حدثنا محمود أسعد خطيب، فقال: جاء عبدالرحيم الحاج محمد (أبو كمال ) إلى كفر ثلث. ومعه ثوار يحملون العلم الفلسطيني وهم يغنون
حطوا البيارق على الجبل وتباشري يا بلادنا
و يا كافر والله ما نطيح حتى تشوف فعالنا
عاداتنا حمل السيوف وذبح العساكر كارنا
أظهر “فارس” ميلاً وحماساً ظاهرا نحو أسلوب التصفيات الجسدية للمعارضين والعملاء، وبعث عمله الذعر والخوف في نفوس المخاتير خاصةً في قرى رام الله الغربية والشمالية وقرى قلقيلية. وقد سببت هذه الأحداث لجوء البعض للقوات البريطانية ورافقوهم في عمليات مطاردة للثوار وتعقبوا قادة الفصائل، حيث عملوا جنباً لجنب مع قوات الجيش البريطاني، وركبوا دباباتهم. حدثنا أسعد القاسم أن “فارس” أعطى أوامره بتصفية طاهر عبد سعيد من قرية بديا، والذي شعر بأنه مستهدف من قبل الثوار فهرب وسلم نفسه للإنجليز، وشارك فيما بعد في مرافقة قوة إنجليزية اشتبكت مع ثورة “فارس” في معركة الوادات، ويقال إن هذا الشخص كان مسؤولاً عن قتل كامل البعنة في هذه المعركة التي جرت بالقرب من عزون، حتى أن هذا الشخص كان يفخر بقوله: “ما أحلى قتل الثوار على ظهر الشجر “، وقد راح مقتولاً في أواخر عام 1948. وقام “فارس” بالتخطيط وسعى جاهداً لاغتيال قائد الجيش الأردني البريطاني غلوب باشا، الذي أشرف على الجيش الأردني بتكليف من بريطانيا، وكان يتعارض وجوده مع الطموحات القومية العربية، ولا بد أن “فارس” أدرك الدور الذي يلعبه هذا القائد البريطاني المسيطر على الجيش الأردني، والذي كان يعيق حركة الثوار والمجاهدين الذين عبروا إلى فلسطين. حدثنا الثائر أسعد القاسم: ” ذهبنا إلى قرية قريبة من طوباس، وكنا قرابة عشرين وكان قائد المجموعة من قرية جلبون من أصدقاء “فارس”، واستضافنا شيخ قبيلة الزيناتي لمدة يومين، وأراد “فارس” القضاء على غلوب باشا، وكان يساعده رجل من الأردن، عمل كدليل له، واستطلعوا المنطقة فوجدوها ملغومة ويستحيل الوصول إليه، حيث يحيط به حراسه، ووجدنا من الصعوبة بمكان قتله، وقوتنا لا تعادل قوته، ورجعنا من هناك ووجدنا عارف عبدا الرازق، وحمد زواتا قد قاموا بقتل حسن أبو نجيم، ربما بسبب تفوقه عليهم، وقد شعر “فارس” بالانقباض وتأثر تأثراً شديداً “.
محاكمة “فارس” وإعدامه
معركة الوادات ونهاية “فصيل الموت”
جرت معركة الوادات في موقع غير بعيد عن قرية عزون، و يقع على بعد 2كم إلى الغرب من القرية ويطلق عليه أيضا واد اسحق، تعد هذه المعركة الأخيرة بين فصيل “فارس” والإنجليز، قبل أن يقرر ”فارس” الرحيل مرةً ثانية إلى سوريا، وينتهي دور فصيله، وقد جاءت في ظل غياب القائد عارف عبدالرازق عن ساحة فلسطين، ومعه عدد من الثوار الذين توجهوا إلى سوريا واستشهاد القائد العام للثورة الفلسطينية الشهيد عبدالرحيم الحاج محمد، ووصول الثورة الفلسطينية إلى حالة من الاختناق إضافة إلى سوء الأوضاع العربية والدولية.
حدثنا أسعد القاسم عن ظروف المعركة:
” كنت في لبنان ومعي “فارس” العزوني، ونمر القنبر أوائل عام 1939 و زرنا القائد عبد الرحيم الحاج محمد في مكتب اللجنة المركزية للجهاد، والتقينا من أعضاءها محمد عزة دروزة، وداود الحسيني، و سليم أبو لبن. وكان “فارس” يقيم في بيت خاص به وزوجته، وذهبنا إلى بيت داود الحسيني ورحب بنا وسلم الواحد منا أكثر من مائة دينار. بعدها فكرنا بالرجوع مع الشهيد عبد الرحيم الحاج محمد إلى البلاد، إلا أن داود الحسيني عارض ذهابنا معه، فسألته عن السبب فقال: إنك من رجالي وأخشى عليك أن تقتل إذا رافقت عبد الرحيم الحاج محمد وسأؤمن وصولك إلى كور أقرب بلد إليك. وحّملني رسائل لعدة أشخاص ودعمنا برسائله وتوصياته في هذه البلاد، حيث رتب لنا في القرى من نتوجه إليه، وملأ الُخرجين بما يلزم من الأكل، و وصلنا إلى بلدنا عِسلة ونمنا خارج القرية تحسبا من عملاء الإنجليز وحدث ما توقعنا حيث جاء الإنجليز يبحثون عنا. نام الإنجليز ليلتهم على سطوح الدور بانتظار رجوعنا للبيت. بعدها سمعنا أن “فارس” رجع إلى البلاد، ولم التحق به مرةً أخرى ، حيث عملت بحصاد الأرض غربي حبلة. توجه “فارس” إلى رأس العين ورابط قرب شجرة صبار قريبة من سكة الحديد بانتظار مرور دورية إنجليزية لينقض عليها ومعه مجموعة من فصيله، ومرت سيارة تنقل عربا حكم عليهم بالعمل الشاق في كسارات قرية المجدل، ومن خلفهم كانت تحرسهم سيارة عسكرية بريطانية تحمل ثمانية جنود أو أكثر قام “فارس” بإطلاق النار على الجنود وتبعه رفاقه، وصعد “فارس” إلى الدورية وأكمل على من بقي حياً . وقال “فارس”: دعوني فأنا من سيقضي على الناجين منهم ومن مسدسه أطلق النار على سائقها الذي كان أمامه مدفع رشاش، و قفز بداخلها وقضى على الباقين منهم. لكنه أصيب بطلقة في فخذه، وقد شعر بها بعد وصوله إلى خريش، وأسعفه مختار كفر ثلث أحمد الخطيب، وجاء به رفاقه إلى أرض الوادات من أراضي عزون القريبة من جيوس، لحقه الإنجليز يبحثون عنه ويريدون القضاء عليه بأي ثمن، وقاموا بتعذيب بعض أقاربه حتى يعرفوهم عن مكانه، وقد اعترف أحدهم عن مخبأه من شدة القتل والتعذيب، وأشار إلى أنه في “أرض الزايدة” من أراضي عزون. جرت هذه العملية حينما كان عارف عبد الرازق خارج البلاد، في حين أستشهد عبد الرحيم الحاج محمد في صانور، وظل “فارس” وحيدا في الميدان ربما جرى هذا الحادث في أول أيار صيف عام 1939.
حدثني جدي عبدالهادي عرار:
“جرح “فارس” في معركة رأس العين ونقل على نقالة إسعاف وسار به رفاقه إلى قرية سلمان ومنها توجه إلى مغارة تقع في أرض “حريقة أبو فارة ” من أراضي كفر ثلث، و حضر لمعالجته طبيب العيون الدكتور رفعت عودة من بلدة بديا “. وتذكر زوجته نقلاً عنه أنه: نقل بعد العملية إلى أرض “حريقة السيد ” شمال كفر ثلث، واعتنى به مختار كفر ثلث وخربها، وصارت معركة الزايدة و اعتنى به مختار جيوس محمد عمر الذي وضعه في مغارة بأرض محمد النوفل، وقمت مع والدته بزيارته في خربة نوفل من أراضي جيوس، و رفض الكشف عنه حتى تأكد أنها أمه وأني زوجته. مرت أيام وحصلت المعركة وبعدها قرر التوجه إلى لبنان وسوريا. أما كيف حدثت معركة الزايدة، وكيف انتهى مصير فصيل “فارس” العزوني، فقد أجمع الرواة الذين قابلتهم على أن مجموعة من الثوار يقارب عددها عشرون ثائراَ كانوا يجتمعون بين قريتي عزون وجيوس في وادي عزون، بمكان يدعى ” الزايدة ” ـ كما يعرفها أبناء عزون ـ ، وبينما كانوا يجتمعون كانت الطائرات الإنجليزية تحلق بعلو منخفض، وقد رصدت تجمع الثوار ومعهم خيولهم، وقد اختاروا الاشتباك مع الإنجليز فأطلق أحدهم طلقة على الطائرة التي تحلق في سماء المنطقة، مما سهل انكشافهم، وأمطرت الطائرات الثوار بقذائفها الملتهبة ، وجوبهت بسلاح ناري بسيط، يمتلكه الثوار، وكانت المنطقة مكشوفة بشكل جيد للطائرات البريطانية، مما أدى إلى استشهاد ثماني أشخاص، ولم يخسر البريطانيون أحداً منهم.
حول هذه المعركة حدثنا محمد كايد سويدان:
بعد ستة شهور من اعتقالنا في مزرعة عكا التي كان بها حوالي ألفين شخص معتقلين عند شط البحر. روحَّنا وسَّلمنا على “فارس” في البلد من شامى، وثاني يوم جابوا خيل، ونزلوا على خربة خريش من شامى وربطوا الخيل في البيارات القريبة منها، ومرت دورية إنجليزية وبها ما لا يقل عن ثمانية أشخاص، باغتهم الثوار ونجحوا في قتلهم وأخذ سلاحهم وركبوا الخيل وهربوا، وفيها جرح “فارس” بطلقة في فخذه، ويقال أنها أطلقت من أحد مرافقيه، وبعد وصولهم خريش قال لهم “فارس”: أصبت. حّطوه في “واد اسحق ” شمال عزون، وأخذ الإنجليز يبحثون عنه، وكشف الجواسيس مكانه ، وحلقت طائرة حول عزون فكشفت من معه في ” أرض الوادات “، وكان بعضهم يشكو من الجوع، مثل نمر القنبر، وقذفت الطائرة على عزون المناشير التي كتبت باللغة الإنجليزية لغرض فرض منع التجول، وهجم الجيش الإنجليزي بدباباته وطائراته على الثوار. بينما كان أبناء عزون يتعرضون للتعذيب. بعد استشهاد رفاقه وجرح عدد منهم اختار “فارس” الانسحاب من الجهة الغربية لا من الجهة الشرقية، حيث يتوقع الإنجليز ذلك، وتسلل من بين الدبابات البريطانية، وفعل مثله عبد الرحيم عثمان زيد، حيث رجع إلى بلده قلقيلية. وقف “فارس” في “أرض العابد” قرب النبي الياس وهو منهك، وقد أعياه التعب والعطش ونادى على قريب له بأعلى صوته وطلب ماءً للشرب، وتأسف “فارس” لاستشهاد رفاقه. حضر أبناء جيوس لرفع الشهداء، ونقلوهم ودفنوهم في مقبرة القرية وبعدها نقلوا لعزون وخسرت عزون ثمانية شهداء منهم: ـ نمر القنبر، كامل البعنة، أحمد أبو خديجة، وشهيدين من سوريا أحدهما جميل السوري .
وعن المعركة يتحدث أسعد القاسم الذي يقيم في قرية عِسلة المجاورة لقرية عزون والمطلة على موقع المعركة
حدثنا أسعد: يوم المعركة كنت غير بعيد عنها، ولكنني لم أشارك فيها. قام الإنجليز بتطويق عزون، وشًددوا الخناق عليها بدهم يعرفوا وين راح “فارس”، وقد اعترف عن مكان وجوده بعض أقاربه من القتل والتعذيب وقالوا أنه بين عزون وجيوس، أخذت الطيارات تحلق وتحوم على طيران منخفض، و كشفت الثوار مجتمعين في الزايدة. و أطلق أحدهم طلقة على الطيارة و صارت معركة من الظهر حتى المساء، واستشهد فيها مجموعة من رفاقه، وبعد انتهاء المعركة وقد قارب الوقت على المغيب قرر “فارس” ترك المكان واتجه غربا جنوب الطريق العام في الاتجاه الذي وقفت فيه الدبابات، وقيل أنه تخبى في عرق بلوطة وأن ضابط إنجليزي كان بالقرب منه، و “فارس” متخبي فيها، ولم يراه الضابط، وبعدها توجه إلى جهة النبي الياس وصار ينادي على عبد البري حتى يسقيه ويطعمه، و فيما بعد توجه إلى مختار حبلة محمد القدورة . وحول عملية رأس العين، التي حدثت أواخر ربيع عام 1939، التي أثارت سخط المسؤولين الإنجليز واليهود معاً. يسود الاعتقاد أن بعض الأشخاص اغتنموا فرصة حدوث المعركة المكشوفة مع البريطانيين في معركة الوادات وراحوا ينتهزون الفرصة في معاونة الجيش البريطاني. ووجد المعارضون للثورة فرصتهم فيها، واتخذوها وسيلة لتصفية الحساب والقضاء على مجموعة من أعضاء الفصيل، وقام بعضهم بملاحقة الثوار ودلوا البريطانيين عليهم و كانت حصيلة المعركة استشهاد كوكبة من الثوار المرافقين ل”فارس” خاصةً من أقاربه والقوة الثورية التي اعتمد عليها مما قلل من حماسه لتجديد العمل الثوري، وأخذ يعد العدة للرحيل عن البلاد ريثما تتغير الأحوال وتنجلي الأمور.
بعد ان شفي “فارس” من جرحه بمدة تقارب الشهر قرر الرجوع إلى لبنان، وقد رتب خروج زوجته معه، وقد أصابه اليأس، وذلك للأسباب الأتية:
أولا: بعد أن أستشهد الأهل والأصحاب وتفرق عنه رفاق الثورة والسلاح.
ثانيا: سوء الأوضاع العربية الداخلية والخارجية والدولية المحيطة، حيث تحالفت قوى الردة الداخلية “عصابات السلام ” العميلة مع الاحتلال البريطاني، كما تحالف الفرنسيون مع البريطانيين نمع اقتراب الحرب العالمية الثانية.
إجراءات الاحتلال البريطاني للقضاء على الثورة:
تضايق الاحتلال من أعمال الثوار، وقرر القضاء عليهم بأي ثمن، فماذا فعل لتحقيق هذه الغاية ؟
قام الإنجليز بسلسلة من المضايقات للسكان والأعمال التعسفية، فتارةً يقذفون المناشير من الطائرات، التي كانت تحرض الأهالي ضد الثورة، وتارةً يقومون بفرض منع التجوال على السكان ولمرات عديدة خاصةً في قريتي عزون وكفر ثلث اللتين اعتبرتا حاضنتين لفصيل الموت ثم سائر القرى التي تؤويه مثل قرى: حبلة، وصير، وقلقيلية والزاوية من قرى جبل نابلس وقد فرض حظر التجوال ثماني مرات على قرية كفر ثلث لوحدها، وقد رافقتها حملة قمع وممارسات تعسفية راح ضحيتها عدد من الشهداء والجرحى . كانت سلطات الاحتلال البريطاني حريصةً كل الحرص على القضاء على فصيل “فارس”، وقد اتخذت سبلاً للضغط عليه وكلفت أشخاصاً للتوسط بينه وبين سلطات الاحتلال البريطاني حتى من أقرب الناس إليه ولكن الثائر “فارس” رفض هذه الوساطات أو أن يخدم أغراضها، أو أن يكون طوع إرادتها، ورفض التساهل أو التجاوب مع السلطات الاستعمارية والتخلي عن مواصلة أسلوبه في الكفاح المسلح.
حدثنا فضل عبدالجليل نقلاً عن أبيه أن أحد أخوته طلب للحاكم العسكري البريطاني، وأن الحاكم عرض عليه أن تقوم بريطانيا بدعم الفصيل بالمال على أن لا يتعرض للإنجليز بالقتل وأن يسير وفق ما تمليه السياسة البريطانية، ولكن “فارس” طلب من أخيه أن لا يعود للحديث معه بمثل هذا، وطلب منه أن لا يلبي طلبهم إذا أرسلوا مرة ثانية في طلبه وإذا فاتحه بهذا الحديث مرة أخرى سيقتله بمسدسه. وعن الإجراءات التعسفية مع أبناء القرى التي تؤويه قام الجيش البريطاني في يوم الثالث من آذار عام 1939 بفرض منع التجوال على كفر ثلث، حيث منع فيه السكان من الخروج، وجمعوا في جامع القرية رجالاً ونساءً وأطفالا، وأعلن المحتلون في مناشير قذفوها من طائراتهم أن على السكان أن يلتزموا بقرار منع التجوال. وأخذت طائراتهم تحلق في سماء القرية ومحيطها، في حين كانت مجموعة من رجال القرية ونساؤها يعملون في الحقول. أخذت طائرات الإنجليز تسقط المناشير، التي تحذرهم وتطلب منهم العودة إلى القرية، وعدم خرق حظر التجوال. سمع أبناء القرية بمنع التجوال، فعاد بعضهم إلى القرية، ومنهم: عبدالله القصاص، وأحمد حامد شواهنة، وفاطمة حامد عوده، وصديقه إبراهيم موسى شواهنة، وكان هؤلاء قد رجعوا للقرية عند سماعهم خبر منع التجوال فعادوا عبر وادي العجمي (وادي حامد) عند ظاهرها الشمالي، لكن طائرات العدو حلقت فوق رؤوسهم استعداداً لإطلاق قذائفها عليهم. لقد اختبأوا في جذوع “الزيتون الرومي “، وقام طيار بريطاني بتصويب قذائفه باتجاههم، فاستشهد عبدالله قصاص، بعد أن احترق جذع الزيتون الذي اختبأ فيه فخر شهيداً. استشهد عبد الله بينما كان في طريقه إلى مدينة يافا، وقد توجه لإحضار ملابس الزفاف لعروسه وكان خروجه من السجن قبل فترة وجيزة من استشهاده، حيث اعتقل في معتقل عتليت مع آخرين من كفر ثلث وعزون وجرح يومها عدد من أبناء القرية الذين كانوا يعملون في حقولهم. ومن الإجراءات التعسفية المتبعة في هذا العهد سن قانون الاعتقال الإداري، الذي يجيز لسلطات الاحتلال البريطاني اعتقال وحجز وسجن أي شخص تتهمه بالخطر على أمن الدولة دون محاكمة، وقد طبقت السلطات هذا القرار وراحت تعتقل من تشاء في منطقة قلقيلية، وقد اقتيد عدد كبير منهم إلى سجن عتليت، بهدف عزل الثوار عن الفلاحين، وفي عام 1938 قام الإنجليز بهدم بيت الثائر “فارس” العزوني، وقد صادف يوم عيد الأضحى المبارك، وقاموا باعتقال زوجته ووالدته في محاولة واضحة للانتقاص من معنوياته القتالية . وتعرضت أسرة الشهيد لمختلف الضغوط للانتقاص من عزيمته التي لا تلين ومن قوته الفولاذية، وقد صمم على مواصلة الكفاح مهما كانت الصعاب.