هموم الدكتور معروف البخيت ورحلات جون كيري
د. انيس فوزي قاسم
February 17, 2014
في وسط زحمة رحــــلات جون كيري وزير الخارجية الامريكي، الى المنطقة التي لكــــثرتها اصبحنا لا نعرف متى جاء ومتى ارتحل، دخلت الساحة الاردنية في زحمة من المخاوف والتوترات، وفي دفق هائل من الكتابات والمحاضرات، تراوحت تلك الانشطة من اقصى التوتر، حيث المطالبة الفورية بسحب الجنسية الاردنية من الفلسطينيين الذين اكتسبوها بعد فك الارتباط، والتهديد من تعريض السلم الاجتماعي في الوطن الى خلل كبير سيؤدي بالنهاية ‘الى حصول حرب اهلية’ (وطن نيوز 10/2/2014) الى تصريحات المهندس عبد الهادي المجالي الذي يقول فيها ان المستقبل يبنيه الاردنيون والفلسطينيون معاً، الى المحاضرة القيّمة التي القاها الرئيس السابق الدكتور معروف البخيت.
ففي 3/2/2014 القى الدكتور معروف البخيت، محاضرة في ملتقى السلط الثقافي، اعاد فيها تأكيده على ان قيام دولة فلسطينية على التراب الفلسطيني وعاصمتها
القدس الشريف هي مصلحة استراتيجية عليا للاردن، وأشار الى ان جميع قضايا الوضع النهائي تهم الاردن وله فيها مصلحة مباشرة، مثل قضية
القدس واللاجئين والحدود، وخلص الى نتيجة انه من الضروري متابعة قضايا الوضع النهائي بين الفلسطينيين والاسرائيليين، وان المتابعة لا تكون حقيقية وفعّالة الاّ بمشاركة الاردن، وذلك لضمان المصالح الاردنية ولدعم حقوق الفلسطينيين، وطالب بوجود اردني في غرفة المفاوضات، حتى لا يدفع الاردن فاتورة التصور الاسرائيلي الامريكي للحل. ويصل الدكتور البخيت الى محور محاضرته بقوله ان قبول الطرف الفلسطيني تحت الضغط بتنازلات على صعيد ملف اللاجئين الفلسطينيين يعني خلق أزمة داخلية كبيرة في الاردن، وتفريطاً بمصالح الدولة الاردنية ومواطنيها من اللاجئين الفلسطينيين.
ان ما يقوله الدكتور البخيت يعبّر عن هموم قطاع واسع من الاردنيين، والاردنيين الفلسطينيين والفلسطينيين، وهناك خشية ذات منسوب عالٍ في اوساط الناس من ان تقع القيادة الفلسطينية تحت الضغط، وهي بلا شك تعاني من هذا الضغط، وتبدأ بالتنازلات، وقد اكّدت ذلك اوراق المفاوضات التي كشفت عنها جريدة ‘الغارديان’ البريطانية وفضائية الجزيرة في مطلع عام 2011، حيث كشفت الانحدار المتسارع في موقف المفاوض الفلسطيني. واذا عدنا الى تاريخ مفاوضات اوسلو، ولم يبق هناك من وثائق الاّ القلـــــيل بعد ان فقدت ملفات اوسلو من ادراج وزارة الخارجية النرويجية، نجـــــد ان القياده الفلسطينية كانت تتفاوض من موقف غير محدد الاهداف، الا هدفا واحدا وهو الحصول على الاعتراف الاسرائيلي بمنظمة التحرير الفلسطينية، وهو هدف متواضع مقارنة بقضية شعب مهجّر وحجم معاناته ومآسيه ليس لها سوابق، وكأن الخلاف بين
اسرائيل والفلسطينيين والعرب لم يكن الاّ نزاعاً شكلياً على مسألة الاعتراف، وكأن الاعتراف منشئ لمنظمة التحرير وخالق لها. وأشدّ ما ظهر من تلك المفاوضات خطراً او خطلاً ان المفاوض الفلسطيني مازال ينظر الى الموقف الاسرائيلي، ليس باعتبار
اسرائيل دولة استعمار استيطاني، بل باعتبارها دولة عادية شأنها شأن النمسا مثلاً او الارجنتين، وان الخلاف بيننا هو نزاع على مجرى نهر او على درجة التلوث، حيث يمكن حلّ خلاف كهذا بالمفاوضات او الوساطة او اذا اشتدّ الخلاف- باللجوء الى القضاء الدولي او التحكيم الدولي.
لقد اثبتت اتفاقيات اوسلو ان المفاوض الفلسطيني يعاني من ضعف شديد في فهم اسرائيل والصهيونية، وجاءت الاتفاقيات خالية تماماً من اي التزام يجب على اسرائيل القيام به، مثل الاعتراف بالدولة الفلسطينية او حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني او الاقرار بان الاراضي الفلسطينية هي ‘اراضٍ محتلة’ او التعهد بالانسحاب او الالتزام بوقف الاستيطان او اي التزام آخر، بينما جاءت جميع الاتفاقيات مثقلة بالالتزامات التي على الجانب الفلسطيني ان يقوم بها وينفذها ضمن مواعيد محددة احياناً. وفي الوقت الذي كانت الاتفاقيات تتسع لمسائل ثانوية مثل تحديد لون البنزين او حجم الحرف الذي تطبع به وثائق السفر، لم يرد في الاتفاقيات اي اشارة، مجرد اشارة، الى اي من المسائل المهمة التي تقلق الفلسطينيين مثل اللاجئين والقدس والمياه. ومن هنا يمكن النظر الى ما يحذّر منه الدكتور البخيت بجدية واهتمام، الاّ ان اقتراحه بحضور اردني في غرفة المفاوضات من دون التدخل فيها، اقتراح لا يرقى الى مستوى التحذير الذي يسوقه. فالمفاوض الاردني وقد كان الدكتور البخيت من اعضائه البارزين- لم يكن اكثر نجاحاً من المفاوض الفلسطيني، ولاسيما في القضايا التي تحتل اهتمامه مثل قضية اللاجئين والقدس.
ففي قضية اللاجئين، فان اتفاقية وادي عربة حوّلت – بل اكاد اقول مسخت قضية اللاجئين، من قضية سياسية الى قضية انسانية تتساوى فيها المملكه الاردنية الهاشمية مع دولة المستوطنين. ان نص المادة الثامنة من اتفاقية وادي عربة في الواقع ساوت بين هجرة اليهود العرب الى اسرائيل وتهجير عرب
فلسطين الى الدول العربية المجاورة، ولاسيما الاردن، في حين ان الفارق بينهما كبير، فالاولى كانت لتجميع اليهود وخلق شعب لكي يتمكن من ممارسة حق تقرير المصير، بينما الثانية كانت لتفتيت الشعب الفلسطيني وحرمانه من حق تقرير المصير. وفي هذه المساواة بين الاردن ودولة المستوطنين انتقاص من الاعباء التي فرضت على الاردن وهو بلد شحيح الموارد اصلاً، وتغطية كذلك على الفوائد الكبيرة التي جناها المشروع الاستيطاني من جلب اليهود العرب الى
فلسطين.
ولم تتوقف المسألة عند هذه الهموم والاعباء، بل ان الاردن ودولة المستوطنين تعهدا بتسوية ‘المشاكل الانسانية الكبيرة التي يسببها النزاع في الشرق الاوسط بالنسبة للطرفين من خلال تطبيق برامج الامم المتحدة المتفق عليها، وغيرها من البرامج الاقتصادية الدولية المتعلقة باللاجئين والنازحين، بما في ذلك المساعدة على توطينهم. لم يرد في النص كلمة ‘العوده’ بل التسوية بكافة الاشكال بما في ذلك ‘التوطين’. ومرة اخرى، تساوي المادة الثامنة في هذا الجزء منها بين الاردن وما يتحمله من اعباء التوطين وبين دولة المستوطنين التي يكون توطين اللاجئين اليهود فيها هو الانتصار الاكبر والهدف الاسمى للصهيونية، لاسيما انه توطين يتم على ارض الفلسطينيين وعلى حسابهم وحساب الاردن. فاذا كان الدكتور البخيت في غرفة المفاوضات فما عساه ان يفعل او يقترح وهو من الذين كانوا مشاركين في صياغة النص؟
وانتقل الى الجزء الآخر في قضية اللاجئين، وهو حين وقعت معاهدة وادي عربة في 26/10/1994، كان لابدّ من اصدار قانون اسرائيلي لتنفيذ المعاهدة وجعلها جزءاً لا يتجزأ من القانون الوطني الاسرائيلي، وكذلك الحال بالنسبة للاردن. وحين كان الكنيست الاسرائيلي يناقش مشروع قانون تنفيذ المعاهدة ورد في المشروع بند مؤداه انه رغم ما ورد في قانون املاك الغائب الصادر في عام 1950، فانه، واعتباراً من 10/11/1994، فان املاك الفلسطينيين التي كانت تخضع لذلك القانون لم تعد املاك غائبين. واثناء مناقشة مشروع القانون، فان سفيرنا في اسرائيل آنئذٍ، الدكتور مروان المعشر، انتبه لتلك المناقشات وادرك بفطنته خطورة ذلك النص، وارسل الى وزارة الخارجية الاسرائيلية كتاباً رسمياً يستوضح فيه عن مغزى ذلك النص. وفي حدود علمنا، لم يأت الجواب الاسرائيلي حتى الان. وقد اعتمد الدكتور البخيت سفيراً في اسرائيل في مرحلة تالية، فهل لدولته ان يشرح للجمهور الاردني ان كانت تلك الرسالة من ضمن مهامه وما هو جواب المستوطنين على ذلك، لاسيما ان مشروع القانون يوحي، وفي تفسير ضيق له، بان ذلك ينطوي على مصادرة املاك الغائبين من الفلسطينيين الاردنيين التي وضعت في عهدة ‘حارس املاك الغائب’. وهل التعديل يشمل املاك الاوقاف الاسلامية والمسيحية التي اصبحت في عهدة حارس املاك الغائب كذلك؟ ثم نصل الى القدس وصلاتها باتفاقية وادي عربة. بداية، لابدّ من التأكيد ان للهاشميين صلة عاطفية وسياسيه بالقدس، فضلاً عن انها احد مرتكزات شرعيتهم المهمة بعد ان غادر الشريف حسين الاراضي المقدسة في الحجاز، ومع التقدير لهذا الجانب، ماذا فعل المفاوض الاردني بالقدس. ورد في الماده (9) من معاهدة وادي عربة ان ‘اسرائيل تحترم الدور الاردني القائم حالياً في المقدسات الاسلامية في القدس. وحين تبدأ مفاوضات الوضع النهائي، فان اسرائيل سوف تعطي الاولوية القصوى الى الدور التاريخي في تلك المقدسات’.
هذا نص مقتصر – اولاً – على الدور الاردني في المقدسات الاسلامية، ولم يرد ذكر للمقدسات المسيحية التي هي جزء أصيل في التراث العربي الاسلامي، اعتباراً من العهدة العمرية، على الأقل، ثم ان النص ـ ثانياً- جاء يفترض ان الولاية الأصلية والأصيلة هي لدولة المستوطنين التي سوف تعطي الاردن اولوية، والذي يعطي ويمنح هو ‘صاحب الحق’.
وهكذا يبدو من التجربة الاردنية والفلسطينية والمصرية قبل ذلك، ان المفاوضات التي قادها المسؤولون العرب كانت مفاوضات فقيرة، والظن عندي ان السبب في ذلك هو ان هذه القيادات نظرت الى اسرائيل وكأنها دولة عادية وليست دولة مستوطنين، وباعتبارها دولة مستوطنين فان اشباع رغباتها في التوسع لا تقف عند حدّ، وهذا يجيب على الذين يحتمون بفزاعة ‘الوطن البديل’ وعليهم ان يدركوا ان الاردن ليس وطناً بديلاً لا للفلسطينيين ولا للاردنيين، بل هو لدولة المستوطنين التوسعيه ابداً، وباعتبارها دولة مستوطنين يهود، فان التمييز العرقي والعنصري والديني سيكون من ركائز حياة هذه المستوطنة، ولا يمكن التصالح معها لأنه في الوقت الذي يصبح وضع غير اليهودي في ‘دولة اليهود’ مساويا لليهودي فيها، تفقد هذه المستوطنة مبرر وجودها والدرس من جنوب افريقيا خير دليل. وفي هذا السياق علينا التمعن بدقّه في المطلب الصهيوني الأخير من ضرورة الاعتراف باسرائيل ‘دولة الشعب اليهودي’.
‘ خبير في القانون الدولي وكاتب فلسطيني