«مدام دو» لماكس أوفلس… فيلم ما قبل الثورة السينمائية
هو واحد من أهم كلاسيكيات السينما، في خمسينياتها تحديداً، وأهميته تكمن في حكايته وحواراته، إذ تدور الأحداث كلها، في مواقف ومفارقات، حول قرطين يتنقلان من حقيبة لأخرى، كأنهما يتجولان إظهاراً للهيبوكريسي، الذي يسود الطبقات البورجوازية في أوروبا ذلك الزمان، الربع الأخير من القرن التاسع عشر حتى الحرب العالمية الأولى، والمعروفة بـ»الحقبة الجميلة» (بيل إيبوك) فخلالها تدور أحداث الفيلم، وفي باريس مركز العالم آنذاك.
قبل الخوض في الحكاية، لا بد من الإشارة إلى أن مكونات الصورة من أشياء وديكورات، كانت جزءاً أساسياً منها، من تطور الحكاية بالإحاطة بها، وتركيز أوفلس على ذلك من اللقطات الأولى، وعلى طول الفيلم، جعله سياقاً أساسياً تجري من خلاله الأحداث: القصر والأوبرا وغيرهما. ومن بين هذا الديكورات، بيت وملابس، كانت البطلة التي جُردت من إنسانيتها لتكون جزءاً جامداً من «طبيعة حية» من ديكور قصر الجنرال الذي لا يكترث كثيراً، إن عرف أن الدبلوماسي قد أهداها القرطين، الذي، قبل ذلك، أهدى القرطين بنفسه، لعشيقة له.
يبدأ الفيلم بالكونتيسا لويز محتارة بما ستلبسه من بين المعاطف والقبعات والمجوهرات، تُخرج قرطين وتذهب بهما إلى الصائغ لتبيعهما لتسد بثمنهما ديناً. يشتريهما الأخير لكنه سيقرأ في الصحافة خبراً مفاده أن سرقة حصلت في صالة المسرح، فيذهب إلى زوجها الجنرال، صديقه، ويخبره بذلك ويعيد بيعهما إليه.
أما السرقة فهو ادعاء لويز بأنها فقدت قرطيها هناك، وبسبب المكانة الاجتماعية لها ولزوجها، ينتشر الخبر ويصل إلى الصحافة. يشتري الجنرال القرطين من الصائغ ويتركهما معه منتظراً أن تعترف زوجته بما فعلته، أي بيعهما، لكنها وقد أصرت على أن القرطين مفقودان، أهدى الجنرال القرطين إلى عشيقته قبل توجهها إلى إسطنبول. هناك، تلعب الأخيرة القمار وتضطر لبيعهما، وهناك سيشتريهما دبلوماسي إيطالي ويتوجه بهما إلى باريس لمشاغل خاصة، في المدينة سيلتقي بلويز وسيهديها القرطين. ستُدهش الأخيرة بكيفية وصولهما إلى دبلوماسي إيطالي (في أداء لافت لأحد أفضل المخرجين في تاريخ السينما، فيتوريو دو سيكا صاحب «سارقو البسكليت»). لاحقاً، ستدعي بأنها وجدتهما، أمام زوجها الذي سيُدهش بدوره في كيفية وصول القرطين إلى زوجته (وقد أهداهما إلى عشيقته) وتتطور الحكاية بمفارقات أقرب إلى الكوميديا، إنما بحبكات فرعية ذكية ومتداخلة ومتفرعة تحوم كلها حول القرطين.
في الفيلم «…Madame de» أو بعنوانه الإنكليزي «أقراط مدام دو» الكذب والعلاقات الجانبية كانت المحفزات لهذه الحكاية كي تتطور، وذلك من خلال القرطين وتنقلهما بين خمسة أشخاص، من عشيق إلى عشيقة إلى عشيق آخر إلى عشيقة أخرى، وكله يبدأ من امرأة واحدة هي لويز وينتهي عندها. فيكون القرطان، وقيمتهما مادية حصراً إذ نسمع عن غلائهما، جوهر العلاقات. فتكون في مجتمع كهذا، القيمة المادية هي أساس العلاقات الإنسانية المتفككة، متفوقة، حتى على الصداقة منها، فالصائغ أعاد القرطين أربع مرات إلى الجنرال كي يشتريهما الأخير دافعاً ثمنهما. مادية المجتمع البورجوازي وريائه، هنا، غلبا الحب من ناحية، والصداقة من ناحية أخرى.
لم تكن للويز شخصيةَ اللعوب الكاذبة التي تبيع قرطين أهداها إياهما زوجها وترقص حتى آخر الليل مع عشيقها المرتقَب، وقد بدأ عازفو الموسيقى في المغادرة، فكل تصرفاتها بدت طفولية وتلقائية ومعذورة، ما جعل رد زوجها عليها لاحقاً بأنها لا تستحق القرطين، قاسياً أمام رهافة حزنها. وهو ما خدم الجانب الكوميدي في الفيلم، وما منح لويز تعاطفاً لا يبحث عن مبررات. وهذه واحدة من قدرات السينما على التحكم في السلوك وإدراكنا له، وذلك في وضعها ضمن سياقات محددة، وأساساً ضمن ربطها بشخصيات يتماهى معها المُشاهد، الذي بالتالي سيتماهى مع سلوكها، وسيجد له دائماً المبررات، غير الضرورية في كل الأحوال.
الفيلم الذي كتبه وأخرجه الألماني ماكس أوفلس عام 1953، في مرحلته الفرنسية، كان من بين أبرز أفلام الخمسينيات في فرنسا، تلك المرحلة الانطباعية (وفيها جان رنوار) في السينما والسابقة لثورة «الموجة الجديدة». وللفيلم المرتبة السادسة في لائحة مجلة «تيليراما» الفرنسية لأفضل 100 فيلم في التاريخ.
https://123moviesgo.io/the-earrings-of-madame-de/