لماذا يستهدفون غزة؟
غزة طردت الاحتلال من داخلها في آب ٢٠٠٥ ، وأعلنت حماس نفسها قوة فعلية واحدة فيها بعد أقل من سنتين في حزيران ٢٠٠٧ ، وقد تبنت غزة خيارها الإستراتيجي بالمواجهة المسلحة ضدّ كل محاولات إخضاعها ، وهي محاصرة برا وبحرا وجوا حتى قبل تبنيها الحسم العسكري مع فتح ، فلما تم الحسم صار الحصار خيار الإخوة الألدّاء ومعهم كل من أزعجهم تفرُّد حماس بالمشهد ، وغزة غزتان غزة فوق الأرض وغزة تحت الأرض اقتضتها ضرورة المواجهة غير المتكافئة، فإذا أضفت إلى الأنفاق شدةَ بأس الغزي آكل الشطة الحامية ،عرفت سرّ ثبات أهلها، فعبثا حاولوا تدميرها.
ظل الإسلام السياسي مؤرقا لخصومه ، وجهدت القوى العالمية والمحلية في محاولة تطويع مشروعه الذي يلقى في نفوس نسبة كبيرة من الناس قبولا ورضى لأن الفطرة تتوافق مع الإسلام دينا وخلقا وسلوكا وعاطفة ، ونجحت بعض الدول في تعطيل مشروع أسلمة مجتمعها بالترغيب مرة وبالترهيب مرات ، وظل هذا المشروع ضعيفا لأنه يفتقر إلى الأضراس والأنياب ، في مواجهة قوة الدول المدججة بكل أسلحة “الديمقراطية” المعاصرة التي يعرف منتجوها أنها لعبتهم التي اصطنعوها حتى كادوا مع مرور الوقت يصدقونها كما صدقها ضحاياهم ، وهكذا ظل حال الإسلام السياسي في كل بيئاته يتقدم خطوة ليتقهقر ألفا ، لأنه وإن كان حب الإسلام فطريا لكن حقا تنقصه القوة يصعب تثبيت أركانه أمام تغول الإرادات السياسية والأمنية.
لقد فشلت كل محاولات الإصلاح السياسي في العالم الإسلامي ومعها فشلت محاولات التغيير كذلك ، لأن أسدا رابضا لن يتمكن من مواجهة نار يشعلها ثعلب مناور .
لقد أدركت حماس وهي صاحبة المشروع السياسي أنه ما دامت أرضها محتلة وحدودها مطوّقة فإن المعادلة ستظل مختلة إذا لم تأخذ بأسباب تحولها إلى رقم صعب في المعادلة الدولية ، وحماس منذ بداية انطلاقتها عام ١٩٨٧ بشكلها الجهاdي المعلن لم تعبأ أبدا بالمعادلات الدولية التي تسمح بشيء وتمنع شيئا آخر بناء على حسابات توازناتها ، صحيح أنه لم يكن هم المقاومة أن تفتح جبهات غير جبهة العدو الصhيوني ، لكن كذلك كانت حريصة على الندية في التعامل السياسي والاجتماعي للأغيار ، وصحيح كذلك أن حماس لم تكن قبل ١٩٨٧ عدما ولم تنشأ من عدم ، لأنها بنت جماعة الإخوان المسلمين التي التزمت بأدبياتها التربوية ، ولكنها شكلت ذراعا عسكرايا يُعنى بالداخل الفلسطيني تحديدا .
وفي الإطار الذي وضعت المقاومة نفسها فيه لم يسجل عليها رضوخ ولا مجاملة ولا استسلام ، وهذا ما أكسبها ثقة القريب وهيبة البعيد .
لقد سجلت الأحداث عبر أكثر من عشرين سنة قبول أوروبا وأمريكا بالأمر الواقع في غزة وإن كرهوه ، قبلوه وهم يتوسطون في صفقات الأسرى التي دخلت على خطها ألمانيا ذات يوم .
غزة اليوم ليست قطاعا منزوع الدسم وإن هجّر أهلها وقتلوا وهدمت بيوتهم على رؤوس أطفالهم وصباياهم ، لكنها مدينة تحت الأرض تنقضّ على عدوها كما ينقض الليث على فريسته التي أرعبها هذا الثبات ، ولئن دب الرعب في نفوس أعداء الله من فرط هذا الزخم الهائل من المواجهات فلقد دب رعب مثله في نفوس الطابور الخامس الذين يرون في حماس تهديدا وجوديا لكياناتهم التي طالما وقفت مع العدو وشاركته في صناعة مقومات حياته بوكالة من شرطي العالم البعيد عنها جغرافيّا ، وقد ربطت مصيرها بمصيره عبر توافقات واتفاقيات وتبادلات دبلوماسية وتجارية ، حتى بلغت حد مشاركته احتفاله في سفاراته على أرضها بذكرى “الاستقلال” الذي هو سرقة ٧٨% من أرض فلسطين التاريخية التي تعتبر وقفا إسلامية لا يملك مسلم ولا مسيحي أن يتنازل عن حفنة تراب منها .
إن وجود قوة مسلحة مدربة في أرض فلسطين بات أمرا مرعبا ليhود ولمن أوجدوهم ولمن جلسوا على كراسيهم لحمايتها ورعاية مصالحها ، فباتت حماس هدفا مقبولا لكل طرف يخيفه واقعها ومستقبل تحالفاتها ، كما يبعث على قلقه كمّ كبير من التكتم والعمل في الظل ، وهذان أمران يثيران الهلع ويبرران طلب رأسها بأي ثمن من تحت الطاولة أو من فوقها دون حرص شديد على إخفاء هذه الرغبة تحت شعار : يا روح ما بعدك روح .
ليس هناك خيار غير خيار الاستئصال عند خصوم حماس اليوم بعد مواجهات سابقة قوّت ظهرها بدل أن تهدد وجودها على الأرض وبعد، فيمكن الإجابة عن سؤال هذا المقال : لماذا يستهدفون غزة ؟ في نقاط مختصرة :
١) غزة الأرض الصغيرة المحاصرة بعزيمة من يقود مشروعها باتت بقوة دولة ذات سيادة عنيدة ثبتت على مبدئها وحققت هدف ردع عدوها ويُخشى أن تصبح تجربة ملهمة لكل مضطهد في العالم بأسره .
٢) غزة تحارب الفساد بشكل عقدي مبدئي ، الفساد الذي فتّ في عضد جيرانها أخذت محاربته بيدها لبناء منظومة مادية ومعنوية تحتاجها المجتمعات لتهيئة جو صالح للتنمية وصنع الأمن والتفرغ لمخططات المتربصين ، وهذا ما فشلت مجتمعات الفساد بأشكاله كلها في تحقيقه .
٣) غزة امتداد تاريخي وأيدولوجي لفكرة أتعبت خصومها في مواجهات قديمة وحديثة ، ودخول الإعداد المادي حيزا لم يبلغه سابقا ينذر بفتح شهية أتباع هذه الفكرة في كل مكان خارج غزة أن يحذوا حذوها .
٤) نادرا ما يكون النغم الذي يعزفه نظام سياسي عربي متطابقا مع النغم الذي يرغب الشعب في سماعه ، وهذا ما توافر في غزة ، فالبيت يقع على رؤوس أصحابه بصواريخ المعتدي ليخرج ساكنوه يرددون : نحن فداء الضyف ، نحن فداء للمقاومة ، وهذا التوحد في الهدف والعاطفة معا هو الذي يصنع معجزات الشعوب .
٥) كل أمة تصدر في مواقفها عن عقيدة ثابتة فهي مرشحة للثبات في وجه عدوها مما يجعله حريصا على خلخلة قواعد عقيدتها بزيادة وطأة همجيته التي لا تقف عند حد ولا تراعي قواعد اشتباك ولا تسمع إلا صوت حقدها .
إنها رسالة إلى كل مظلوم صاحب قضية على وجه الأرض : إذا بقيت مشلولا لا تملك القوة على الأرض فستنبذ ، وإذا شئت أن تحتفظ برمق من الحياة الكريمة فعليك أن تحفظ كرامتك بقوة معصمك الداعم لقوة عقيدتك وإلا ستكون فريسة في عالم ثعالبه تنافس ذئابه على امتلاك مائدة الضعفاء الجبناء .