ما يشاهدُه الإسرائيليون
"أشاهد التلفزيون الإسرائيلي وأطالع الصحف في إسرائيل، ولا أفلح في فهم كيف تبدو أوضاع السكّان المدنيين في غزّة. ما نشاهده هنا ما يلي: أفلام تراوح مدّتها بين 20 ثانية ودقيقة ونصف الدقيقة عن جنود الجيش الإسرائيلي الذين يتحرّكون في أراضي قطاع غزّة، وهي أفلام يصدرها الناطق العسكري الإسرائيلي. ونشاهد أبنية مدمّرة أو حفراتٍ كبيرة نتيجة للقصف. وفي الأيام الأخيرة، نشاهد كذلك جموعًا بشرية تقول التقارير إنها متّجهة صوب جنوب القطاع. هذه هي كل الأشياء التي يتم بواسطتها انكشاف الإنسان الإسرائيلي على البشر في قطاع غزّة في الغالبية الساحقة من وسائل الإعلام الإسرائيلية. ووفقًا لها، ما نراه هو دمار لحق بالأبنية والشوارع من دون وجود بشر. يعتقد المحرّرون في قنوات التلفزة ووسائل الإعلام الإسرائيلية أن الإسرائيليين أغبياء، ولا يجوز لهم أن ينكشفوا على صور الأوضاع الإنسانية في غزّة. ولا شك في أن الرأي العام في العالم أجمع، وبالذات في الولايات المتحدة، يشاهد صورًا أخرى من غزّة. ولذا فإن موقفه من إسرائيل والحرب التي تشنها في قطاع غزة آخذٌ بالتحوّل... أعتقد أن أكثر ما يخشى منه المحرّرون هو جمهور المشاهدين والقراء الإسرائيليون، فهذا الجمهور في معظمه لا يرغب في رؤية صور تظهر الغزيين بشرًا لئلا يثير ذلك انطباعًا عامًا في أوساط الرأي العام هنا وفي العالم بأنهم يعانون مثلنا".
بهذه الكلمات، شهد الصحافي الإسرائيلي نير غونتاج، من "هآرتس"، على أداء وسائل الإعلام في إسرائيل خلال فترة الحرب في غزّة. وارتأيتُ نقل شهادته هذه حرفيًّا، لأنها تعكس الصورة الحقيقية لهذا الأداء القائم، ليس فقط على التعتيم، إنما أيضًا على الانخراط في "المجهود الحربي"، وفي ترويج جوهر ما تشتمل عليه العقيدة الإسرائيلية لدى اقتراف المذابح، وهو عدم رؤية الفلسطيني إنسانًا.
ليست هذه هي المرّة الأولى في تاريخ الحروب الإسرائيلية ضد غزّة التي تتحوّل فيها وسائل الإعلام الإسرائيلية إلى درعٍ واقٍ للمذبحة، وإلى وسيلةٍ تسعى إلى شيطنة الفلسطيني، باعتراف جهات إسرائيلية صرفة. ولإثبات ما نقول، يكفي أن نستعيد أن حرب 2014 شهدت نسخة ربما ليست أقلّ وطأة من هذا التعتيم. وإبّانها، مثلًا، تساءل أحد أساتذة الإعلام في الجامعات الإسرائيلية: إذا كنّا محقّين فعلًا، وإذا كانت كل غارة من الغارات الجوية على غزّة هي بمنزلة "جرف صامد" أخلاقيّ وقويّ (في إشارة إلى تسمية تلك الحرب "عملية الجرف الصامد")، وإذا كان أهالي غزّة وسكانها يستحقّون ذلك كله، فلماذا إذًا يخفون عنّا المعطيات والنتائج؟ لماذا لا يُطلعوننا على ما يستطيع سكان العالم قاطبة معرفته بكبسة زرّ؟ وتابع يقول: يتحدّثون هنا (في إسرائيل) عن ديمقراطية مزعومة في الظاهر، لكنهم يمارسون من ناحية عملية سياسة تعتيم وتستّر على الوقائع، على غرار الصحافة في العهد السوفييتي البائد. هذا ما بدت عليه حال وسائل الإعلام الإسرائيلية طوال أيام العدوان العسكري الإسرائيلي على غزّة.
وأهمية العودة إلى حرب 2014 تكمن في أن إسرائيل بدأت تتّبع خلالها، على نحو أكثر اتساعًا ووحشيةً من السابق، سياسة استهداف منازل وبنايات سكنية في القطاع، بالإضافة إلى قصف العيادات الطبّية والمستشفيات، التي يحتاجها السكّان في أثناء الحروب أكثر من أي وقت. فحتى اليوم الرابع للحرب، تعرّض المستشفى الأوروبي في خانيونس لقصف الطيران الحربي الإسرائيلي، ما تسبّب بإصابة 17 مريضًا من نزلاء المستشفى بجروح، بعدما انهارت أسقف الجبص في قسمي العناية المركّزة والأطفال وغرفة الانتظار في المستشفى. كذلك لحقت أضرار شديدة جرّاء القصف بعيادة طبية في خانيونس تديرها منظمة تطوعية. وفي مخيم جباليا، أغارت الطائرات الحربية على عيادة تابعة لمنظمة الهلال الأحمر الفلسطيني، ما أوقع 15 جريحًا في صفوف الطاقم الطبي، فضلًا عن تعطيل عدّة سيارات إسعاف. وتم توجيه إنذار إلى مستشفى الوفاء في غزّة بضرورة إخلائه، لأن الجيش الإسرائيلي ينوي قصفه!