يمتدّ تاريخ العبودية عبر العديد من الثقافات والجنسيات والأديان من العصور القديمة وحتى يومنا هذا. غير أن المواقف الاجتماعية والاقتصادية والقانونية للعبيد تختلف اختلافًا كبيرًا في نُظم الرقّ المختلفة في أوقات وأماكن مختلفة.
ويمكننا القول إن العبودية والرق دخلت تاريخ البشرية مع بداية الحضارة. فالصيادون والمزارعون البدائيون كانوا لا يحتاجون أو يستفيدون من العبيد. فهم يقومون بجمع أو زراعة ما يكفيهم من الغذاء لأنفسهم. وبالتالي فإن زوجًا آخر إضافيًا من الأيدي يعني وجود فم إضافي بحاجة إلى إطعامه، ولا أحد في ذلك الوقت كان مستعدًا لذلك، فلا توجد ميزة اقتصادية في امتلاك إنسانٍ آخر.
وبمجرد أن بدأ الناس يتجمعون في البلدات والمدن، فإنّ فائض الغذاء الذي جرى توفيره في الريف، أتاح نشأة مجموعة واسعة من الحرف اليدوية في المدينة. في مزرعة كبيرة أو في ورشة عمل، وأصبح هناك فائدة حقيقية في وجود مصدر موثوق للعمالة الرخيصة، لا تكلف أكثر من الحد الأدنى من الغذاء والسكن، وهذه هي شروط الرق. وكل الحضارات القديمة استخدمت العبيد، وهو ما يثبت أن الحصول عليهم كان أمرًا سهلاً.
كانت الحرب هي المصدر الرئيسي للإمدادات العبيد، وكانت الحروب متكررة ووحشية في الحضارات المبكرة. عندما تسقط بلدة ما في يد جيش معادي، فمن الطبيعي أن يأخذ هذا الجيش العبيد من أولئك السكان الذين يمكن أن يكونوا عمالاً مفيدين، أو النساء الذين يستغلون للترفيه والجنس، ويتم بعدها قتل البقية.
هناك العديد من الطرق الأخرى التي جرى بها الحصول على العبيد؛ فالقراصنة قاموا بتقديم أسراهم للبيع. ويجوز الحكم على المجرم كذلك بالرقّ. والدَّين الذي لا يمكن دفعه يمكن أن يكون سببًا في نهاية حريتك. ويبيع الفقراء أطفالهم، وأبناء العبيد هم أنفسهم من العبيد، وذلك لأنه في ظل الإمدادات الرخيصة من العمالة المتاحة من خلال الحروب، فلم يكن من الممكن لملاك العبيد أن يسمحوا لعبيدهم أن يقوموا ببناء أسرة والتشتت في موضوع تربية أطفال.
ويمكن تعريف الرق على أنه تقييد شخص بشخص آخر، أو أسرة أخرى عن طريق الإكراه. وهو مصطلح يتعلق بالعبيد كسلع يتم شراؤها وبيعها. بالنسبة للكثيرين منا، نسمع كلمة «الرقيق» فتثير في أذهاننا على الفور تجارة الرقيق عبر المحيط الأطلسي، عندما تم بيع الأفارقة إلى «العالم الجديد» ابتداء من أوائل القرن 17. ومع ذلك، يجب أن نتذكر أن العبودية لم تبدأ أو تنتهِ هنا، وأنه ليس كل العبيد على مدى الإنسانية تناسب هذا التعريف، فهناك أشكال مختلفة أخرى للعبودية.
البداية من العراق
يعود تاريخ الاسترقاق في بلاد ما بين النهرين إلى حوالي 10 آلاف سنة، حيث كانت قيمة العبد الذكر بُستان نخيل التمر. كما كانت تستخدم النساء من العبيد في تلبية المطالب الجنسية للأسياد. وكان هؤلاء العبيد يكتسبون حريتهم فقط عندما يموت سيدهم.
وتشير الدراسات لوجود أدلة على أنّ الرق سبق السجلات التاريخية المكتوبة، وكانت موجودة في العديد من الثقافات. وحوالي عام 3500 قبل الميلادظهر العبيد في الحضارة السومرية، وكانوا يشكلون أغلبية السكان وهم مسؤولون عن جميع الأعمال اليدوية.
https://pm1.aminoapps.com/6874/1cdb10fcab67cd7c8caa20945ecfa1203f8d1347r1-239-211v2_hq.jpgومع نمو المدن السومرية في عدد السكان واتساع نطاقها، اختفت الأراضي البكر التي كانت تفصل بين المدن بعضها وبعض. وكان السومريون من مدن مختلفة غير قادرين أو غير راغبين في حل نزاعاتهم على الأرض وتوافر المياه، فاندلعت الحروب بين المدن السومرية، وهي الحروب التي رأوا أنها قامت بين آلهتهم.
في نهاية المطاف، اتخذ السومريُّون العبيد من السومريين الآخرين الذين جرى أسرهم في حروبهم بعضهم بعضًا، ولكن في الأصل حصل السومريون على العبيد بعد محاربة الشعوب خارج سومر. وكان الاسم السومري للأنثى من العبيد «فتاة جبلية»، وكان الرجل من العبيد يسمى «رجل الجبل». وكان السومريون يستخدمون عبيدهم أساسًا عمال منازل ومحظيات. وبرروا العبودية كما فعل آخرون بقولهم: «إن آلهتهم قد منحتهم النصر على شعبٍ أدنى».
وتتعلق المعلومات عن العبيد في المجتمعات المبكرة أساسًا بوضعهم القانوني، فهم ليسوا إلا جزءًا من ممتلكات المالك القيِّمة. قانون حمورابي، من بابل في القرن الثامن عشر قبل الميلاد، يعطي تفاصيل مذهلة «تقشعر لها الأبدان» عن المكافآت والعقوبات المختلفة للجراحين العاملين سواء على الرجال الأحرار أم العبيد، فالقانون يكشف أن النظام لم يكن مجرد وحشية بلا هوادة. فمن المثير للدهشة أن العبيد البابليين كان يسمح لهم بتملك الممتلكات.
وظهرت في وقت مبكر عمليات إلغاء الرق والعبودية في اثنين من الطوائف اليهودية، الإسينيونوالثيرابيتيون، الذين كانوا يقومون بتحرير العبيد عبر دفع الأموال لملاكهم.
اليونان القديمة.. الاعتماد الأكبر على العبيد
لكن الحضارة الأولى التي نعرف الكثير عن دور العبيد فيها هي اليونان القديمة. فقد اعتمدت كلتا الدولتين الرائدتين في اليونان – إسبرطة وأثينا- اعتمادًا كاملًا على العمل الجبريّ، على الرغم من وصف النظام في إسبرطة بشكل أفضل بأنه «رق خدمي» وليس استرقاقًا أو عبودية كاملة. الفرق هو أن شعب «الهيلوتس» في إسبرطة هم شعب غزوٍ وحروب، يعيشون على أرضهم التي ورثوها، ولكنهم أجبروا على العمل من أجل أسيادهم المتقشفين. ووجودهم هو نهج ريفي تقليدي تبقى فيه حقوق معينة مرتبطة بها.
https://pm1.aminoapps.com/6874/6595f511662483b1255c815381a4ed2bd97c40efr1-300-194v2_hq.jpgوعلى النقيض من ذلك، ليس لعبيد أثينا أي حقوق تقليدية. ولكنّ حالتهم كانت تختلفُ اختلافًا كبيرًا وفقًا للعمل الذي يقومون به. أكثر العبيد غير المحظوظين في أثينا كانوا هم عُمَّال المناجم الذين كانت تتسبب أعمالهم هذه في وفاتهم، فقد كانت المناجم مملوكة للدولة ولكنها مستأجرة لرجال أعمال من القطاع الخاص. وعلى النقيض من ذلك، يمكن لفئات أخرى من العبيد – ولا سيما أولئك الذين تملكهم الدولة مباشرة مثل الرماة السكوثيونالثلاثمائة الذين يمثلون قوة الشرطة في أثينا – أن يكتسبوا مكانة معينة.
غالبية العبيد في أثينا هم خدم المنازل، ثروتهم تعتمد كليًا على العلاقة التي تتطور مع ملاكهم. في كثير من الأحيان تكون هذه العلاقة قريبة، العبيد الإناث يقومون برعاية الأطفال أو العمل كمحظيات، والعبيد الرجال يعملون في خدمة الأسرة.
لا يعمل أي أثيني حر في مجالات الخدمة وغيرها، لأنَّه من المخجل أن يكون خادم رجلٍ آخر. ويطبق هذا الأمر أيضًا على الأعمال الفرعية في أي شكل من أشكال العمالة. ونتيجة لذلك، فإن العبيد الذكور في أثينا يقومون جميعًا بأعمال السكرتارية أو الأعمال الإدارية، في هذه السياقات هم مساعدون شخصيون لشخص آخر. وتشمل هذه الوظائف مواقع النفوذ في مجالات مثل الأعمال المصرفية والتجارة.
الإمبراطورية الرومانية.. وحشية وانتشار أكبر
الثغرة نفس، التي يوفرها احترام الذات من قبل المواطنين الأحرار، هي التي وفرت فرصًا أكبر لوجود وانتشار العبيد في الإمبراطورية الرومانية. العبيد الأكثر تميزًا كانوا هم موظفي السكرتارية للإمبراطور. في القرنين الأخيرين قبل الميلاد – قبل بداية عصر الإمبراطورية – استخدم الرومان في ظل الجمهورية العبيد على نطاقٍ أوسع من أي وقتٍ مضى، وربما مع وحشيةٍ أكبر. في المناجم يتمُّ جلدهم في ظلِّ عملٍ متواصل من قبل المشرفين؛ في الساحات العامة هم مجبرون على الانخراط في قتالٍ مرعب مثل المصارعين. هناك العديد من انتفاضات الرقيق التي وقعت في هذين القرنين، والأكثر شهرة منهم بقيادةسبارتاكوس.
https://pm1.aminoapps.com/6874/70574fd2232ce3ab4c023de5392bbc4b1c522107r1-281-179v2_hq.jpgفي أوائل العصور الوسطى كانت الكنيسة تتغاضى عن العبودية، ولم تكن تعارض هذا الأمر إلا عندما استعبد المسيحيون من قبل من اعتبرتهم الكنيسة كفار.
اقتحم الفايكنج بريطانيا منذ عام 800 ميلادية وقاموا ببيع أسراهم إلى الأسواق في اسطنبول وإسبانيا الإسلامية. لم يكن الدين عائقًا أمام تجارة الرقيق سواء من المسيحيين أم المسلمين أم اليهود. وتسبب وباء الطاعون (الموت الأسود) في زيادة الطلب على العبيد المحليين في إيطاليا.
وكان العبيد غالبًا ما يكونون مشتبهين بهم وراء تسميم أسيادهم، وكانت العقوبات التي تنزل عليهم رهيبة. فأحد المتهمات من العبيد جرى سلخ وتقطيع لحم جسدها حية وهي تجر في شوارع فلورنسا. في القرن السادس عشر حاول البابا بولس الثالث وقف البروتستانتية عن طريق تحفيز أولئك الذين تركوا الكنيسة الكاثوليكية وهم عبيد.
التجارة عبر الأطلسي.. بداية العبودية الحديثة
افتتح البرتغاليون تجارة الرقيق في المحيط الأطلسي، والتي ستنضم إليها إسبانيا قريبًا. وأدَّى غزو كريستوفر كولومبوس لمنطقة البحر الكاريبي إلى محو الثقافة الأصلية الموجودة هناك، قبل أن تتدفق الأمم الاستعمارية الأخرى في الأمريكتين لنهبها.
هنا كانت الحاجة لجلب الرقيق من أجل العمل في إنتاج السكر والقطن والتبغ. ومع وفاة الهنود الحمر، تم استيراد العبيد الأفارقة، 900 ألف نزلوا شواطئ الأمريكتين بحلول عام 1600. الدول الأفريقية التي زودت الأمريكتين بالعبيد كان لديها هي نفسها تاريخ طويل من العبودية. وتوافد المستعمرون الأوروبيون على السواحل الغربية من أفريقيا لتجارة الخمور والتبغ والأسلحة والحلي، بالإضافة لتجارة البشر.
وهكذا بدأ ما يعرف بـ«الممر الأوسط» سيئ السمعة، حيث سيتم تحميل العبيد في بطون السفن. وكان البريطانيون هم المستعبدون الرئيسيون، حيث جلبوا بضائع من إنجلترا من أجل جلب العبيد الأفارقة ثم قاموا بعد ذلك بتوريدهم إلى المستعمرات الإسبانية والبرتغالية فى العالم الجديد. وقد بنيت هذه التجارة الثلاثية ثروة بريطانيا.
حركات الإلغاء
شهد القرن الثامن عشر ولادة المجموعات الإلغائية في العالم الغربي، أو محاولات الغاء تجارة العبيد. وفي عام 1804 جعلت الدنمارك تجارة الرقيق غير قانونية؛ تلتها بريطانيا في عام 1807 والأمريكيين بعد عام.
تأسست منظمة مكافحة الرق الدولية عام 1839 قبل بضع سنوات من الإلغاء التام لتجارة الرقيق عبر المحيط الأطلسي. لكن – رغم هذا- فإن عمليات تهريب الرقيق والعبودية ظلت مستمرة. في ذلك الوقت كان المناخ الاقتصادي آخذًا في التغير، وسعت الصناعات البريطانية بعد الثورة الصناعية، التي بنيت على أرباح الاسترقاق الزراعي، إلى إيجاد قوة عاملة في الوطن.
حركة العبيد في الولايات المتحدة
ساعد العبيد أمريكا في الحصول على حريتها من البريطانيين خلال حرب الاستقلال الأمريكية، ولكن من دون الحصول على امتيازات خاصة بهم. شعار «كل الرجال يخلقون على قدم المساواة» كان حلقة جوفاء، حتى إن الرئيس توماس جيفرسون الذي كتب هذا الشعار كان هو نفسه يملك العبيد.
لقد أحدث اختراع محلاج القطن ثورة في ثروات الجنوب الأمريكي، ففي عام 1860، جرى اقتطاع حصاد قطني بقيمة 200 مليون دولار من قبل العبيد الذين يعملون تحت كرابيج أسيادهم. كان العبيد يفعلون كل وظيفة يمكن تخيلها مع توظيف العبيد المهرة من أجل مزيد من الربح.
هرب بعض العبيد تحت غطاء الليل وسافروا عبر الأراضي البرية إلى الولايات الشمالية وكندا، وخلال الحرب الأهلية في عام 1861، كانت هذه البداية لنهاية العبودية في الولايات المتحدة، وقد مات فيها أكثر من 38 ألف من السود العبيد. وألغى التعديل الثالث عشر للدستور الأمريكي الرق نهائيًا.
تغير الشكل واستمرت العبودية
غير أن الرق استمر في أجزاء أخرى من العالم بعد التحرر في أمريكا الشمالية. ازدهرت العبودية الأصلية في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، بالإضافة إلى استعباد ذوي الديون والسخرة في المستعمرات الأوروبية والرق المحلي في نيجيريا وشبه القارة الهندية، وقد فقد تسعة ملايين شخص حياتهم للعمل الإجباري والإبادة الجماعية في الكونغو البلجيكية.
وفي الصين، استمر نظام استرقاق الأطفال يعرف باسم «موي تساي»، إذ يباع الأطفال للعمل المنزلي، حتى النصف الثاني من القرن العشرين. وفي بيرو الفظائع التي ارتكبتها شركة بريطانية ضد الهنود الأصليين المستعبدين للاستفادة من المطاط أدى إلى مقاطعتها. وتشير التقديرات إلى أن كلّ طن من اللاتكس تنتجه شركة الأمازون في بيرو قد كلف حياة سبعة أشخاص