لماذا خبا الحراك المجتمعي المناصر للقضية الفلسطينية عربيا؟
دخلت أحداث غزة شهرها الخامس دون أن تهدأ وتيرة العمليات العسكرية، ودون أن تنجح الجهود الدبلوماسية في الضغط من أجل إيقاف آلة الحرب الإسرائيلية التي انتهكت كل المعايير الإنسانية ومبادئ حقوق الإنسان، ورغم موجات التنديد والرفض الدولي لجرائم التهجير واستهداف المدنيين وتوصيات محكمة العدل الدولية لم يكن هناك أي تغير واضح في المواقف السياسية على المستوى الدولي.
أما على المستوى الشعبي، فمن اللافت أن ردة الفعل الشعبية على المستوى العربي بدأت بشكل قوي وواسع منذ بداية الأحداث، إلا أن وتيرة الأنشطة والتفاعل الشعبي أخذت بالتراجع والخفوت شيئا فشيئا رغم فداحة المشهد والحاجة الماسة للضغط المستمر، في حين لا تزال الدول الغربية تشهد حراكا شعبيا مستمرا ومنظما يسعى للتأثير على صناع القرار وإجبارهم على التدخل وإيقاف جريمة الإبادة لم يتوقف ولم يتراجع حتى الآن.
يحتاج هذا المشهد الغريب للكثير من التفكيك والتحليل، لفهم دوافع الشعوب العربية -أصحاب القضية – ومحركاتها، ومعرفة أسباب اختلاف ردود أفعالها عن الشعوب الأخرى، وأسباب تراجع اهتمامها خاصة فيما يتعلق بالقضايا الحساسة التي تمس جوهر وجودها ومستقبلها، بالإضافة إلى قياس قدرتها على التحشيد في قضايا التغيير والقضايا المصيرية.
لم تشهد التفاعلات العربية مع الأحداث الكبيرة موجات تضامن طويلة الأمد، بل غالبا ما ينصرف المتضامنون بعد مدة إلى حياتهم اليومية، وكأنهم قد أقنعوا أنفسهم بأنهم أدوا واجبهم وقدموا ما باستطاعتهم، وصرخوا وشتموا ونددوا وأحرقوا ولعنوا المتآمرين الذين يحيكون لهذه الأمة المؤامرات في الخفاء.
التسونامي العربي قصير الأمد
تتفاوت ردات فعل الجماهير العربية تجاه الأحداث تبعها لنوع تلك الأحداث وتوقيتها وأبعادها السياسية، إلا أن هذه الجماهير العربية كانت حاضرة ومتضامنة في غالبية الأحداث الإنسانية لا سيما فيما يتعلق بقضايا الأمة كقضية فلسطين، وبالنظر إلى شكل هذه التفاعلات التضامنية تبدو أشبه بالموجات العالية قصيرة المدى – تسونامي – والتي تتكرر بوتيرة زمنية متباعدة، وكأنها حالة تنفيس عن الغضب والخذلان والمرارة وإعلان الرفض العميق والاستنكار الشديد لما يحدث.
لم تشهد التفاعلات العربية مع الأحداث الكبيرة موجات تضامن طويلة الأمد، بل غالبا ما ينصرف المتضامنون بعد مدة إلى حياتهم اليومية، وكأنهم قد أقنعوا أنفسهم بأنهم أدوا واجبهم وقدموا ما باستطاعتهم، وصرخوا وشتموا ونددوا وأحرقوا ولعنوا المتآمرين الذين يحيكون لهذه الأمة المؤامرات في الخفاء.
من الصعب لوم الشعوب العربية على طريقة تفاعلهم مع الأحداث، خاصة وأنهم شعوب عاطفية مكبوتة، تتأثر بالمعاناة بشكل سريع، وتتداعى للمساعدة والدعم بسخاء وفقا للمجالات المحدودة المتاحة لها، وفي هذا السياق أدركت الأنظمة الحاكمة في المنطقة إمكانيات هذه الجماهير المكبوتة، فسمحت لها كل حين بمساحات منظمة قصيرة تفرغ فيها غضبها وتصرف طاقاتها في قضايا خارجية، ثم تعود تلك الأنظمة لتطبق اللجام مجددا وتعيد هذه الحناجر الهادرة إلى روتينها اليومي اللاهث وراء مصادر العيش.
ومن الصعب أيضا على هذه الملايين أن تتفاعل بشكل طويل مع قضايا الآخرين ومعاناتهم، وهي تعيش في معاناة مستمرة نتيجة ضعف سياسات التنمية والأزمات الاقتصادية ومشاكل البطالة التي تطالها بالدرجة الأولى، فهي لا تملك رفاهية القعود عن العمل ولا تملك الوقت الإضافي للتطوع نصرة للقضايا المحقة، فأغلب أفرادها مثقلين بالديون ومنهكين بالعمل والمشاكل والهموم.
ومن جهة أخرى، تغيب عن مجتمعاتنا العربية الثقافة التي تغرس المسؤولية المجتمعية، وتعزز في الفرد فكرة قدرته على التأثير ودوره في التغيير، فهذه الجماهير دجنت ضمن المنظومة الحالية التي تجعل من النجاة الشخصية المطلب الوحيد، ومضت مستسلمة لقدرها الذي نشأت فيه والتي تم إقناعها بعدم قدرتها على تغييره.
وحتى عندما حاولت هذه الجماهير العربية أن تستعيد أدوارها المستلبة خلال موجة الربيع العربي، لم تكن مستعدة أو مستوعبة لحركة التغيير وسننها واحتياجاتها، بل كانت قصيرة النفس تريد قطف النتائج بأسابيع أو شهور معدودة وتغيير الأحوال بعصا سحرية، فصدمت عندما وجدت أن عملية التغيير معقدة ومتشابكة وطويلة تحتاج للكثير من الجهد والعمل، فاستسلمت مبكرا ولم تمتلك القدرة على الاستمرار.
لقد أثرت أحداث غزة بالشعوب الغربية، فأظهرت هذه الشعوب تفاعلا واضحا وسريعا امتد على رقعة جغرافية واسعة، جاء نتيجة لسنوات من العمل والنضال الفلسطيني المؤسسي لتعريف هذا الجمهور بما يجري على أرض الواقع، ويبدو نمط هذا التفاعل الأخير وكأنه سلسلة من الأمواج المتلاحقة الرتيبة بذروة أقل ارتفاعا مقارنة بالحالة العربية.
الأمواج الأوروبية المتواترة
بالنظر إلى تفاعل الشعوب الغربية ولا سيما الأوروبية، لا تظهر هذه الشعوب عادة نفس ردود الأفعال نحو جميع الأحداث، فهي تتفاعل مع القضايا واضحة المعالم التي تمس جوهر الانتهاكات الحقوقية، كجرائم الإبادة والتطهير العرقي والتهجير واستهداف المدنيين والمشافي واستخدام الأسلحة المحرمة دوليا، والتي تتناسب مع منظومتها الثقافية والقانونية، إلا أن هذا التفاعل قد يفتر أو يختفي عندما تتعرض هذه الجرائم لحالة من التشويش والتلاعب وخاصة مع استخدام فزاعة "الإرهاب" كما حدث في سوريا.
لقد أثرت أحداث غزة بالشعوب الغربية، فأظهرت هذه الشعوب تفاعلا واضحا وسريعا امتد على رقعة جغرافية واسعة، جاء نتيجة لسنوات من العمل والنضال الفلسطيني المؤسسي لتعريف هذا الجمهور بما يجري على أرض الواقع، ويبدو نمط هذا التفاعل الأخير وكأنه سلسلة من الأمواج المتلاحقة الرتيبة بذروة أقل ارتفاعا مقارنة بالحالة العربية.
لاتزال هذه المظاهرات تقام بشكل دوري ومتزامن في عشرات المدن الأوروبية أسبوعيا، ولا تزال تشهد حضورا جماهيريا لافتا من قبل شرائح مختلفة، فلم تقتصر على الجاليات العربية والإسلامية فقط، بل كان هناك تظاهرات خاصة بالمعلمين والأطباء والصحفيين وغيرهم من شرائح المجتمع الغربي الذين لا يرتبطون مع الحدث الفلسطيني إلا من الجانب الإنساني.
وتبدو هذه المظاهرات الأوروبية باردة رغم الحشود التي تجمعت، لا صراخ فيها ولا هتافات حماسية غاضبة ولا إحراق أعلام ولا شتائم ولا تهديد أو وعيد، بل تحمل رسائل واضحة موجهة لصناع القرار ومطالب محددة، وتمر في مسارات منظمة، تشارك فيها مختلف الشرائح من رجال ونساء وشيوخ وأطفال معلنين مطالبهم بشكل واضح.
لم تكن التظاهرات هي كل الهوامش المتاحة، فهناك الكثير من الأنشطة التي تقودها التنظيمات المدنية كالنقابات والتجمعات والشبكات، بالإضافة إلى أدوار واضحة لحقوقيين وسياسيين وناشطين مدافعين عن حقوق الإنسان، إلى جانب حملات إعلامية تغطي الحدث وحملات إنسانية تستفيد من هذه التغطية وتستخدمها في مسار الضغط.
ويبدو هذا التفاعل الغربي أطول نفساً وأكثر تنظيما يملك استراتيجيات غير آنية، وهو قادر على حشد المختلفين إلى جانب بعضهم البعض، وتوحيد مواقفهم في قضايا محددة بما يتوافق مع القيم التي تتبناها هذه الشعوب، كما تدرك الجهات المنظمة لهذه الحملات أنها لن تصل إلى نتيجة سريعة، فتخطط لمسارات تراكمية طويلة الأمد تستطيع من خلالها الوصول إلى تأثير أكثر عمقا وأوضح نتيجة.
نحتاج أن نراجع بعض قيمنا الثقافية التي تركز على إعادة تعزيز وتعظيم المسؤولية المجتمعية ودور الفرد والمؤسسات فيها، وضرورة التفاعل مع كل الأحداث، حتى لو لم تمسنا بشكل قريب، ولم تتقاطع مع مصالحنا أو منظومتنا الفكرية أو الثقافية.
ماذا نتعلم من تجارب الآخرين؟
ليست رسالتي في هذا المقال إعلاء شأن الشعوب الأجنبية وذم الشعوب العربية، بل على العكس ما أريده هنا هو البحث عن أسباب هذه التفاعلات الأنية الحادة على المستوى العربي، وسبل تقويتها وضمان استمراريتها من خلال التعلم من تجارب الأخرين، لدعم شعوبنا التي تمتلك الإحساس بالمسؤولية والتضامن، والمنكوبة بكافة أشكال الكوارث والصراعات.
وقد يبدو من الضروري التعمق في دراسة حركات التغيير وأدواتها وتجاربها المختلفة، واستخلاص الدروس والعبر، والتدرب على وسائل التغيير بشكل عملي من خلال خطط قصيرة إلى متوسطة الأمد، والنظر في التنظيمات المجتمعية الحالية وأدوارها وتطوير قدرتها على استغلال المساحات المحدودة والمتاحة لممارسة المزيد من التأثير انطلاقاً من مراكمة النجاحات الصغيرة.
كما نحتاج أن نراجع بعض قيمنا الثقافية التي تركز على إعادة تعزيز وتعظيم المسؤولية المجتمعية ودور الفرد والمؤسسات فيها، وضرورة التفاعل مع كل الأحداث، حتى لو لم تمسنا بشكل قريب، ولم تتقاطع مع مصالحنا أو منظومتنا الفكرية أو الثقافية، وهنا يتوقع من أصحاب الفكر والتخطيط التفكير في كيفية إحداث تغيير في قناعات وسلوكيات هذه الشعوب العربية، لتصبح أطول نفسا وأكثر تخطيطا، لا تتعجل النتائج ولا تلقي بكل بيضها في سلة واحدة، ولا تتنظر النصر من الضربة القاضية الأولى.
وفي الختام، تقدم هذه التجارب المحسوسة والمعاشة دروسا جانبية إلى جانب آثارها الكارثية المؤلمة، فليس من الممكن الانتقال من دور المنفعل مع الحدث إلى دور الفاعل فيه دون وجود وقفات تقييمية دقيقة، نواجه فيها أخطاءنا ونعترف بنقاط ضعفنا ونسعى إلى تداركها، فنتعلم ونطور مهاراتنا حتى نكون طرفاً قادراً على أن يخرج من دوامة الضعف والاستهداف ويتحول إلى صانع للحدث والواقع ومؤثر فيه.