من جولدا مائير إلى نتنياهو.. لهذه الأسباب يستبيح الإسرائيلي الفلسطينيين!
تُنسَب لجولدا مائير، رئيس وزراء الكيان الإسرائيلي الرابع (1969-1974)، مقالة مفادها أنّها لم تنم بعد حريق المسجد الأقصى (21 آب/ أغسطس 1968)، خشية من ردّ فعل المسلمين، الذين لم تجد منهم تاليا سوى الشجب والاستنكار. الطريف أثناء محاولتي السريعة للاستيثاق من صحة هذه النسبة في المصادر العبرية، أنّني وجدت بعض تلك المصادر تعود بها إلى مصادر فلسطينية. من المحتمل أن تكون مقالة موضوعة على لسان جولدا مائير على سبيل الكوميديا السوداء التي يُصوّر بها الفلسطينيون تداخل قضيتهم مع الواقع العربي الإسلامي، ثمّ دخلت بعد ذلك التداول الخطابي وكأنّها حقيقة.
بقطع النظر عن صحة نسبة المقالة عينها، فإنّها حقيقية من حيث الجوهر، فالمصادر الإسرائيلية تحدثت بالفعل عن خشية قادة الكيان وقتها من “انفجار الشرق الأوسط” تبعا لهذه الحادثة، إلا أنّ المهم، وسواء كانت جولدا مائير قد فاهت بهذه العبارة أم لا، أو كانت إبداعا فلسطينيا يتسم بالحدس العالي والسخرية البصيرة؛ هو أنّ مضمون هذه المقالة يُمثّل واحدا من مرتكزات السياسة الإسرائيلية التاريخية في استباحة الفلسطينيين، والتي وصلت حدودا قصوى مع حرب الإبادة الجماعية التي أطلقوها على قطاع غزّة، ولا يكاد يجد الباحث المثابر أدنى ردّ فعل عربيّ ذي قيمة من النظام الإقليمي العربي، أو من أركانه الكبيرة، في وضع محيّر؛ إذ تنتظم يوميات العرب، وكأنّ ما يشاهدونه عيانا على شاشات العالم من إبادة وتدمير وتهجير وتجويع في غزة محض فانتازيا تلفزيونية، كتلك التي كانت الدراما العربية تفرّ إليها تحايلا منها على الواقع العربي الذي يطبق عليه أمن الحاكم!
ليس ثمّة شكّ الآن في أنّ بنيامين نتنياهو، رئيس وزراء حرب الإبادة الجماعية على غزّة، قد قال تلك العبارة، ولكن بصياغة مختلفة تبدو واثقة من أنّ ردّ فعل عربيّ واحد على حرب الإبادة التي يقودها لن يكون. قال نتنياهو إنّ السياسة الحربية التي انتُهجت ضدّ الفلسطينيين في غزّة تعارضت مع نصائح الكثيرين في “المجتمع الدولي”، الذين حذّروا الاحتلال من دخول قواته غزّة والمستشفيات والأنفاق. يزعم نتنياهو أنّ قواته حققت إنجازات كبيرة لكونها لم تأخذ بهذه النصائح.
ثمّة زهو زائف، لا يخلو من الأكاذيب، حين حديث نتنياهو وغيره من الأوساط في كيانه عن إنجازات جرى تحقيقها ضدّ حركة حماس. الأمر جوهريّا ينبغي أن يكون مهينا لكيان يقاتل بالذخيرة الأمريكية وفي ظهره العالم ويتفوق على خصمه بما لا يحتمل المقارنة، ويقاتل عدوّا محاصرا في مساحة ضيقة ولا يجد سوى البنادق الخفيفة وقذائف “RPG” مصنعة يدويّا، وبالرغم من ذلك كلّه، ومع الأخذ الدائم بعين الاعتبار الكارثة الإنسانية الهائلة التي أوقعتها قوّة النيران الإسرائيلية بالآمنين المدنيين في غزّة، فإنّ الحرب تدخل شهرها السادس ولم ينجز الكيان المدجج بالنووي والميركافاه والـ”F35″ وبالولايات المتحدة؛ أهدافه ضدّ تنظيم صغير يقاتل ببنادق خفيفة!
لكن علينا أن نقرّ أيضا بأنّ هذا الكيان بالفعل قد نجح في تجاوز مخاوفه التقليدية بشأن حروبه، فها هو يخوض حربا طويلة تجري داخل فلسطين، ولديه استعداد لتحمل أكلافها الناجمة عن الحرب نفسها لا عن تداعياتها الإقليمية، وها هو في الأثناء ينغمس برّا، ويقاتل في المستشفيات. من أين جاءت هذه القدرة للكيان؟! هل لمجرّد أنّ الضربة كانت يوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر أكبر من قدرته على الاحتمال؟! أم لكون الحرب بالفعل وجوديّة كما صوّرها؟! أم لأنّ أمريكا في ظهره؟!
كل ذلك صحيح، إلا أنّ الأهمّ هو ما لم يذكر، وهو ما يعود بنا إلى المقالة المنسوبة لجولدا مائير. نتنياهو بعد أول مجزرة في غزّة نام مطمئنا، واستفاق ممتلئا بالاكتفاء من النوم الهادئ. نتنياهو لم يخش أيّ ردّ فعل عربيّ، ليس من موقع الخبير الناظر من بعيد لأحوال العرب وحكوماتهم، بل من موقع المهندس الذي يرتّب أوضاع المنطقة من على طاولة واحدة مع أنظمة عربية. ورث نتنياهو علاقات سلام مع دول عربية، ثم صنع هو مع بعض الدول العربية اتفاقات تطبيع تحالفية لم تكن لتخطر على بال أكثر الفلسطينيين تشاؤما ويأسا من النظام العربي، وذلك سوى العلاقات السرّية.
هل كان لهذه الحرب أن تصل إلى هذه الدرجة من الطول ومستويات الإبادة وتدمير عمران المجتمع الغزي بالكامل، لو كان لدى نتنياهو أدنى احتمال بأنه يغامر بكل المكتسبات التي حققها كيانه مع الدول العربية تلك؟! لا أحد بالتأكيد يتوقع حربا عربيّة دفاعا عن الفلسطينيين، لكنّ سفيرا عربيا واحدا لدى الكيان لم يُسحب، وكيس طحين واحد لم يدخل إلى غزّة رغما عن “إسرائيل” التي تتبجح في المقابل بالجسر البرّي الممتدّ لها على طول بلاد عربية متتابعة، لتعويضها عن خسائرها الناجمة عن العمليات البحرية لجماعة أنصار الله اليمنية. ولا ينبغي والحالة هذه الغفلة عن حملات إعلامية لحوحة معادية للفلسطينيين لا تتوقف؛ تنظمها دول عربية كبيرة بوسائل متعددة من الذباب الإلكتروني إلى القنوات التلفزيونية. بكلمة أخرى: الموقف ليس تخاذلا ولكنه اصطفاف كامل على يمين “إسرائيل”.
الأمر أوضح من أن يحتاج إعلانا من نتنياهو الذي قال أخيرا لصحيفة “بوليتيكو” إنّ قادة عربا يؤيدون حربه للقضاء على حماس. هل يحتاج الأمر تصريحا من نتنياهو؟! ألا تكفي الوقائع؟!
يذهب كثيرون إلى أنّ الأمر موقف من النظام العربي تجاه أيديولوجيا حماس؛ كونها في آخر المطاف تنتمي لما يُسمى “الإسلام السياسي” وتقيم علاقات وثيقة مع إيران. يعزّ على العرب الطيبين أن تكون دوافع النظام الإقليمي العربي أسوأ من ذلك وأعمق، والحق هو ما يعزّ عليهم؛ إنها دوافع معادية أصلا للقضية الفلسطينية. ولو سلمنا بحكاية الإسلام السياسي هذه، فإن نتنياهو نفسه يقول إنه لا سبيل للقضاء على حماس إلا بهذه الكلفة الهائلة من الأبرياء، فالعربي الذي يرجو القضاء على حماس مهما كانت الكلفة؛ لا يختلف عن نتنياهو في شيء كما هو واضح.
قيل مرّة، إنّ بايدن حاول إقناع نتنياهو بتغيير خطابه حول تسوية سياسية ما؛ تكسب فيها “إسرائيل” تطبيع العالم العربي. نتنياهو الأعرف بأصدقائه العرب من بايدن؛ قال لبايدن: إنّ القضاء على حماس هو طريق التطبيع وليس التسويات السياسية مع الفلسطينيين!
من جولدا مائير إلى نتنياهو لهذه الأسباب يستبيح الإسرائيلي الفلسطينيين بلا تردد.. كان يعلم من قبل أنّ العرب لن يفعلوا شيئا، الآن هو يقول إنهم يدعمون تصفية القضية الفلسطينية!