ما الذي أيقظ الحكومة فجأة من "إجازة الأمومة" ودفعها لشيطنة المظاهرات؟!
ما الذي حرك حكومة الدكتور بشر خصاونة هكذا وبشكل مفاجئ ومكثف ضد بعض الهتافات الغاضبة مما يجري في قطاع غزة وفي فلسطين؟
المظاهرات والمسيرات والاعتصامات موجودة في الشارع منذ 176 يوما، والهتافات هي ذاتها لم تتغير ولم تتبدل، ولم يطرأ عليها جديد، وليس ثمة إضافات لغوية جيدة، والأجهزة الأمنية تراقب كل ذلك وتتابعه بحكم تخصصها وعملها ومهامها، وهي أجهزة ذكية ومتعلمة وراشدة تفهم لغة العصر، وبأن ما يقال في لحظة قهر يمكن التجاوز عنه طالما كان بحسن نية.
إذن ما الذي أثار غضب الحكومة وجعلها تفيق فجأة وتكتشف أن هناك "اعتداء على سيادة الدولة" وهتافات لأشخاص ولجهات ليست أردنية، ولماذا غضبت الآن من دعوات قادة حركة المقاومة الإسلامية (حماس) وقادة كتائب عز الدين القسام للشعب الأردني لنصرة غزة، وهي دعوات تتكرر على لسان قادة "حماس"، لماذا اكتشفت أنها تحريض على الأردن؟ ولماذا لا تعتبرها نوعا من العشم وطلب الحماية من أخوة في الدين والدم والجوار والمصير المشترك؟!
هل كانت الحكومة في غفوة وفي غفلة، أم كانت في إجازة أمومة وطفولة، ثم تنبهت لهذا الواقع؟!
ثم كيف صادف أن جميع أذرعها الإعلامية ومؤسساتها الإعلامية الرسمية، والنشطاء المحسوبين عليها على منصات التواصل، وعدد من المتبرعين والمتطوعين والطامحين، وأحزاب جديدة ناشئة وطامحة وطامعة بالمكتسبات، كلهم تحدثوا بنفس النبرة الاتهامية لمواطنين أردنيين في غالبيتهم لا علاقة لهم بالأحزاب أو بحماس أو بالمقاومة؟!
ثم كيف تفسر الحكومة تصاعد هذه المظاهرات واتساع رقعتها الجغرافية، وعدم توقفها رغم جميع محاولات الشيطنة ورجمها بالحجارة، ألا تعتبره ردا شعبيا على إعلامها وتصريحاتها، وبالتالي انتكاسة داخلية لها؟!
ونعرف بعض هؤلاء المتظاهرين الذين لا يحبون "حماس" ولا يطيقون "الإخوان المسلمين" ولا حتى سماع سيرتهم، لكن غضبهم وغيرتهم على إخوانهم وأخواتهم الذين يذبحون كل دقيقة في قطاع غزة حركت فيهم النخوة والشهامة فخرجوا إلى الشارع يهتفون لغزة وللمقاومة، لم اسمع أحدا منهم يهتف لزعيم دولة عربية أو أجنبية.
وحين أرادت الحكومة شرح وجهة نظرها من الهتافات ودعوات قادة حماس للأردنيين لنصرتها، لجأ الناطق باسم الحكومة الدكتور مهند المبيضين إلى قناة "سكاي نيوز عربية" التي يصنفها الأردنيون، وقناة "العربية"، إلى جانب الإعلام الإسرائيلي في موقفها من المقاومة ومن السابع من أكتوبر/تشرين الأول.
لم يكن مكان الرد مناسبا أبدا فقد حشرت الحكومة نفسها وإعلامها مع "سكاي نيوز" وهذه انتكاسة مبكرة للحكومة أفقدتها الزخم والاهتمام.
ثم وجهت الحكومة سهامها إلى أطراف أردنية لم تسميها بأنها "أيديولوجيات بائسة وشعبويات تريد تأليب الرأي العام باستغلال المشاعر والعواطف"، و"للتحريض على الدولة الأردنية".
إذا كانت الحكومة تقصد حزب جبهة العمل الإسلامي، وهو الذراع السياسي لجماعة الإخوان المسلمين، حسب ما يعرف إعلاميا، أنا شخصيا افرق بين الاثنين، فلماذا لا تسمي الحكومة الأشياء بأسمائها، ولماذا لم تتخذ إجراءات قانونية بحق الحزب إذا كان فعلا، كما تقول الحكومة، وتكشف للرأي العام الأردني حقيقة هذا الحزب، وصلاته الخارجية وأجندته؟!
حزب جبهة العمل الإسلامي الذي لا اتفق معه في الكثير من المواقف والتفاصيل حزب أردني منتسبوه وقيادته أردنيون، ويمارسون دورهم الحزبي وفق الدستور والقانون، وله ممثلون منتخبون في البرلمان، والتشكيك في وطنيتهم يحدث فتنة داخلية ويمس الدستور والقانون.
وإذا كان الحزب "يستغل" الحراك لصالحه، فلماذا لا تقوم الحكومة والأحزاب المقربة منها بالانصهار بالشارع، واستثمار حراكه لصالحها سياسيا، داخليا وخارجيا؟! لتفويت الفرصة على من يريد بناء "شعبويات" بدلا من توجيه الاتهامات التي أعتبرها حالة ضعف وقلة حيلة وهروب من تحمل المسؤولية، والذهاب إلى الحل السهل، وهو قيادة هجمة إعلامية لا طائل ولا فائدة من ورائها.
حتى ذهب وزير أسبق إلى طلب سحب جنسية كل مسؤول في فصيل فلسطيني، وأفراد عائلته كافة، يقوم "بالتحريض على أمن الأردن، ويعمل على إشعال الساحة الأردنية بما يمس أمن الأردن واستقراره".
تخيلوا سحب جنسية عائلته كافة! وكنت أخشى أن يطلب سحب جنسية من يعرفه وجنسية زملائه بالعمل وجنسية صاحب البقالة والمخبز الذين يتعامل معهم!
بالطبع لا تملك أي سلطة في الدولة، ولا حتى السلطة القضائية، سحب جنسية مواطن أردني مهما ارتكب من جرائم أو مخالفات أو أفعال طالما أنها لا تندرج ضمن الحالات المنصوص عليها في المادتين (18 و19) من قانون الجنسية؛ وهي الانخراط في خدمة دولة أخرى، أو انخرط في خدمة دولة معادية، أو إذا أتى أو حاول عملا يعد خطرا على امن الدولة وسلامتها، وبالطبع سحب الجنسية لا يكون إلا بموافقة الملك.
ونسمع كثيرا من كتاب ونشطاء حول سحب الجنسية من مواطنين أردنيين! وكأننا دولة ناشئة لا تحكمها قوانين ودستور ونظام ملكي ديمقراطي ودستوري. وكأن الدولة وجدت لتحقق رغباتهم الشخصية!
نقطة أخرى فقد جانبت الحكومة الصواب حين أكد الدكتور مهند مبيضين "أن السلام هو الخيار الاستراتيجي"، فكان كلامه خارج السياق وجاء في توقيت غير مناسب، فحكومة الاحتلال متطرفة وتوسعية ومجرمة لا يخفي بعض أركانها مطامعهم بالأردن، وترتكب جرائم غير مسبوقة في تاريخ البشرية، حتى أن حكومات حليفة لها تلتزم الصمت حاليا.
لذلك لم يكن هناك أي داعي لذكر "الخيار الاستراتيجي" التي لا يحظى بأية أهمية أو قبول أو احترام لدى المواطن الأردني! وبالمناسبة لا توجد معاهدة أو اتفاقية في الدنيا إستراتيجية ومقدسة طالما أنها تتضارب مع مصالح الوطن.
وذهبت الصحف الرسمية إلى نشر مقال في موقع "سكاي نيوز عربية"، بدلا من أن تعمد إلى كتابة مقال رأي بلغتها وبهويتها تخاطب فيه قارئها الأردني! وهذه مثلبة وسقطة مهنية لأننا في الأردن مدرسة عريقة في الصحافة والكتابة الصحفية، ولسنا نركض وراء فتات الكتاب الآخرين.
كان بإمكان الحكومة أن تلجأ إلى طرق مختلفة تستغني فيها عن الأدوات القديمة التقليدية وعن الكتاب والصحفيين المستهلكين والمتهرئين.
وأن تشرح للناس بأنه لا توجد دولة في العالم تسمح لأي جهة أو أشخاص بمهاجمة السفارات والمقار الدولية والأممية وإلحاق أضرارا بها لأن حمايتها جزء من مسؤوليات الدولة، بدلا من التخوين والتخويف والتشكيك بوطنية أي مواطن أو أي جهة.
من المستغرب أن تلجأ الحكومة إلى هذا الكم من المقالات والبيانات الحزبية والتصريحات في مواجهة هتاف خرج من متظاهرين غاضبين ضد الجرائم الصهيونية، هتافات خرجت في لحظة ألم وإحساس بالمرارة والقهر.
الحكومة أكبر بكثير من أن تضع هتافاً في كف الخصومة، والمظاهرات عاقلة ومتزنة ومن يشاركون فيها غيورين على الوطن وعلى أمنه واستقراره، ويعرفون أن عدونا يتربص بنا الدوائر، ويسعى لتفتيت نسيجنا الاجتماعي، وضربنا في مقتل.
لقد سمعت تصريحات ومقابلات إعلامية للملك وللملكة ولوزير خارجيتنا كانت واضحة ومباشرة وشجاعة، كلها غضب وألم وقهر لما يحدث في غزة، وبعضها يمكن أن يهتف به في هذه المظاهرات، وأن يكون خارطة طريق لفهم حراك الشارع الأردني الذي رأى مَلِكَه يلقي بنفسه المساعدات من الطائرات لغزة، ولو استطاع لقاد زعماء 57 دولة عربية وإسلامية لكسر الحصار بالقوة.