في عزّ شتاء عام 1957 وتحديدا في 27 ديسمبر/كانون الأول، استقل موظف في وزارة الدفاع الإسرائيلية يُدعى شمعون بيريز سيارة في باريس وانطلق إلى ميونيخ بجنوب ألمانيا. قبل وصوله إلى هدفه بقليل، ضلّ طريقه في جبال بافاريا التي تكسوها الثلوج. ولأنه لم يستخدم خريطة، اضطر إلى التوقف بجانب أحد المزارعين للاستفسار عن الطريق إلى إحدى القرى. أنزل بيريز شباك السيارة وسأل المزارع خلسة وبلغة إنجليزية ركيكة عن الطريق إلى (روت أَمّ إنّ) Rott am Inn ففاجأه المزارع: "آه... يبدو أنك في طريقك إلى وزير الدفاع شتراوس".
نعم. شمعون بيريز الذي كشف هذا المزارع الألماني البسيط سرّه كان بالفعل في طريقه إلى وزير الدفاع الألماني حينها، فرانس يوزف شتراوس الذي روى في مذكراته الصادرة عام 1989 جزءًا من قصة التعارف بينه وبين شمعون بيريز، رئيس وزراء إسرائيل مرتين.
يقول شتراوس في مذكراته إن رسالة وصلته عبر "طرق التفافية" يطلب أصحابها منه استقبال وفد إسرائيلي بقيادة موشي ديان، رئيس الأركان حينها و"بطل معارك سيناء"، بحسب وصف شتراوس "فوافقت فورًا".
لأسباب تتعلق بسرية اللقاء -كما كتب شتراوس- لم يحضر موشي ديان وحل مكانه الجنرال حاييم لاسكوف، رئيس وحدة المدرعات في "حملة سيناء" وضابط رفيع آخر إضافة إلى رئيس الوفد شمعون بيريز.
فرانس يوزف شتراوس مع شمعون بيريس ويظهر موشي ديان على يمين الصورة (وكالة الأنباء الألمانية)
وصْف شتراوس لهذا اللقاء يوحي بحدوثه في أجواء خاصة. فالمشاورات التي استمرت خمس ساعات حدثت في "منزلي الخاص" -يضيف وزير الدفاع الألماني- و"ليس في بون"، عاصمة ألمانيا الاتحادية آنذاك، و"عندما طال الحديث، جهّزت زوجتي العشاء وجلسنا نتحدث حتى منتصف الليل (...). الأجواء كانت شتوية فقط في الخارج أما بيريز وأنا، فلم تواجهنا أي صعوبات قط للبدء بإجراء حديث صريح وإنساني (...). منذ البداية، توفر لنا أساس من الثقة أثبت قدرته على الصمود لعدة عقود، ومنذ البداية عرفت أن الإسرائيليين يفرّقون جيدا بين صداقات الكلمات الفارغة والأفعال الجريئة".
شترواس وضيوفه عرفوا أن تلبية الطلبات الإسرائيلية تحتاج إلى قرار جريء. فاللائحة طويلة: طائرات نقل ومروحيات ومدافع وصواريخ مضادة للدبابات. إضافة إلى ذلك، كان الجيش الألماني في مرحلة البناء ومخزوناته من السلاح متواضعة و"لكني -يقول شتراوس- كنت أذنا صاغية لطلبات بيريز ووفده وكنت مستعدا لتقاسم القليل معهم لأني رأيت في ذلك واجبا يملي عليّ ضرورة تقديم المساعدة لإسرائيل المهددة، التي تعيش أوقاتا صعبة".
ولأن تقديم الأسلحة لإسرائيل في ذلك الوقت "لم يكن دربا في اتجاه واحد" بحسب مقولة ألمانية شائعة ويخالف جميع قوانين موازنة الدولة الألمانية، ولأن الدولتين لم تربطهما علاقات دبلوماسية، يقول شتراواس إنه أراد "حماية نفسه"، فأطلع المستشار الاتحادي في حينها كونراد آدناور على اللقاء وعلى طلبات إسرائيل، "فوافق آدناور فورًا وبدأنا نفرّغ مخازن الجيش الألماني من الأسلحة ونعلن للشرطة أنها تعرضت للسرقة (...) أما الطائرات والمروحيات والمعدات الثقيلة فكانت تُنقل بعد إزالة رموز ولوحات ألمانيا الاتحادية عنها إلى فرنسا ليتم نقلها من مرسيليا إلى الموانئ الإسرائيلية".
مقال في صحيفة بايرن كوريير حول جذور التعاون العسكري الألماني الإسرائيلي يعود للعام 1985 (أرشيف الصحيفة)
ثمن هذه الأسلحة بالنسبة للجانب الإسرائيلي كان معنويا، واندرج ضمن التعويضات التي تعهدت ألمانيا بدفعها لإسرائيل وفق اتفاقية لوكسمبورغ (1952) التي التزمت فيها ألمانيا بسياسة دفع تعويضات لليهود الناجين من جريمة الهولوكوست (Wiedergutmachungspolitik) ولدولة إسرائيل باعتبارها الدولة التي ورثت حقوق الضحايا اليهود. هنا، يسجل شتراوس أن القيمة الإجمالية للأسلحة التي تم الاتفاق عليها في هذا اللقاء بلغت 300 مليون مارك ألماني غربي، وجرى ذلك كله دون مقابل في سرية تامة مدة سبع سنوات متتالية حتى عام 1964 عندما انكشف سر شتراوس وبيريز على خلفية صفقة مدرعات. في حينها كان لودفيغ إيرهارد مستشارا لألمانيا.
شرودر اعتبر التعاون العسكري مع إسرائيل مضرا بالعلاقة مع العرب (غيتي)
هذا التعاون العسكري مع الإسرائيليين -يختم شتراوس الجزئية الإسرائيلية- "انتهى تقريبا بعد مغادرتي وزارة الدفاع أيضا بسبب الهجوم الذي تعرضت له من قبل غيرهارد شرودر الذي أصبح في عام 1961 وزيرا للخارجية (...). شرودر كان يعتبر التعاون العسكري مع الإسرائيليين مضرا بالعلاقات مع العرب".
ولكن الفضل في فضح هذه الصفقات السرية يعود إلى كشفين صحفيين الأول للصحيفة الألمانية فرانكفورتر روندشاو في 26 أكتوبر/تشرين الأول من عام 1964 والثاني لنظيرتها الأميركية نيويورك تايمز في 31 أكتوبر من العام ذاته. هذان الكشفان تلقفتهما الصحف المصرية التي فضحت القصة وأثارت بلبلة في العلاقات بين ألمانيا الاتحادية والدول العربية وعلى رأسها مصر التي وجهت في 9 نوفمبر/تشرين الثاني طلبا ملحا لحكومة ألمانيا الاتحادية لتوضيح الأمر.
في نهاية خلاف دبلوماسي وصل إلى ذروته بدعوة الرئيس جمال عبد الناصر زعيم ألمانيا الديمقراطية سابقا (الشرقية) فالتر أولبريخت إلى زيارة القاهرة، وتهديد دول عربية أهمها سوريا بإقامة علاقات دبلوماسية مع ألمانيا الشرقية، ونقاشات طويلة في البرلمان الألماني حول إمكانية اللجوء إلى ما يعرف بـ"عقيدة هالشتاين" التي تنص على قطع فوري للعلاقات مع أي دولة تعترف بألمانيا الشرقية، بعد كل هذا دخلت ألمانيا فعليا في أول أزمة دبلوماسية خارجية منذ تأسيسها في مايو/أيار من عام 1949، الأمر الذي انتهى باتخاذ حكومة بون قرارا بعدم تصدير أسلحة إلى أي دول متحاربة في الشرق الأوسط.
الصحيفة الألمانية الشرقية نويس دويتشلاند تحتفي بزيارة أولبريخت إلى القاهرة (أرشيف نويس دويتشلاند)
صحيح أن هذا القرار تمخض عن وقف جميع صفقات الأسلحة السرية بين الطرفين، وهو ما كلف ألمانيا دفع تعويضات لإسرائيل بقيمة 140 مليون مارك ألماني غربي بسبب عدم الإيفاء ببعض عقود التسلح، ولكن المستشار الألماني حينها لودفيغ إيرهارد قطع الشك باليقين وانفرد باتخاذ قرار تم بموجبه في 12 مايو/أيار من عام 1965 إقامة علاقات دبلوماسية مع إسرائيل.
هذا التعاون العسكري بين الطرفين مر بعد سبع سنوات من اتفاق شتراوس وبيريز وإقامة علاقات دبلوماسية بين الطرفين بعدة مراحل رئيسية وبحالة من المد والجزر إلى أن وصل إلى ذروته ابتداء من عام 2003 لتصبح ألمانيا تحتل المركز الثاني بعد الولايات المتحدة -وفي بعض الأعوام المركز الأول- على صعيد تزويد إسرائيل بالأسلحة.
رسالة من شيمون بيريز لفرانس يوزف شتراوس ترجع لعام 1974 (أرشيف صحيفة بايرن كوريير)