طحين أحمر (1)
هل من أحد هنا؟
يا ناس؟
يا عالم؟
نداء خفي.. من بين صخور تشخب دما، وصوت طفولي من بين ذرات الغبار، وخطوات يحملها اللهاث، تتجه نحو الصوت، وخطوات تصبح ركضا، والركض يستحيل جريا، والجري كاد أن يعثر من فرط سرعته نحو الصوت المبحوح. الجري يزداد سرعة، والصوت يزداد خفوتا.
من هنا؟ (بصوت حاد كأنه يمتد ليصل معانق الصوت)
أنا (بصوت ارتجت له الروح بعد انتزاعها)
أنا معك، قريب، تشجعي!
أنا هنا.. أخرجني من هذا المكان بالله عليك
حاضر، طبعا، أنا معك، سأفعل، لن أترككِ
أرجوك لا تتركني، ما تتركني
لم اتركك، بس ممكن تجيبي على سؤالي: ما اسمك؟
فاطمة..
ما الذي يتحرك من جسمك يا فاطمة، جسمك كله يتحرك؟
لا، فقط رأسي يتحرك
ممتاز كل الناس اللذين أخرجناهم لم يكن يتحرك منهم إلا رأسهم لأنه الجسم محمي بالأنقاض، ما تخافي (مع خوف تسرب إلى صوت هذا الشاب بعد إجابتها ولكن لا بد من زراعة الأمل بين الأنقاض)
لن تتركني، صح؟
أنتِ حافظي على النفس البسيط ولا تستهلكي النفس كله، وأنا لن أتركك، فقط سوف أخبر البعض حتى يجلبوا لنا المساعدة
حسنا، لا تطيل الغياب!
لن أذهب، سأبحث عنهم وعيني على هذا المكان، يا فطوم (لفه الخجل عندما قالها، ولكن قالها)
صوت بكاء حاد بدأ يتسرب من صدر فاطمة، وشريط ذكريات امتد أمام عينيها وهي تشعر بوخز الرمل المدبب في خدها، ورائحة الدم في كل مكان، والغبار بدأ بالسكون ولكنه ترك وراءه عالما من الظلام الدامس، ولا شيء في المكان سوى بقية أصوات أنين تعلو وتخفت بشكل غير منتظم، وأصوات من الصراخ في الخارج -إن بقي هنالك خارج- ما الذي حصل؟ ما الذي جرى؟ ما الذي وقع؟
كنت أساعد في المشفى الميداني في نقل الناس، وترتيب أسرتهم، وتنظيف شراشف الأسرّة، وأذكر أنني نزلت إلى الطابق الأرضي حتى أحرك كبار السن إلى خارج المشفى من أجل أن يتاكد الدكتور أبو بكر من نبضهم وحرارتهم، وبالفعل وضعت يدي على الكرسي الأول وكان عليه رجل كبير في السن مكتوب على صدره أبو جورج، ولما حركت الكرسي إلى الخارج حكالي: إلى أين نذهب؟ قلت له: على الجنة! أخذ بالضحك المتعب، وقال: مهما كانت فلا جنة بلا حب.
كانت المنشورات من الطائرات الصهيونية تتنزل على رؤوسنا، مكتوب فيها، أي تبليغ عن المقاومين أو مكان وجودهم له 10000 دولار
أوصلته إلى الدكتور أبو بكر، ورجعت إلى ذات المكان، وإذا بامرأة تحاول النهوض من الأرض بعد أن انزلقت من الخوف من رهبة الطيران القريب من المشفى، فحملتها بجهد بالغ، وتعب واضح، ولكن الروح تحمل المحب، وأنا لهم مُحبه، فلما استوت على الكرسي جالسة، قالت لي: بحفظ الرب يا بنتي، شو اسمك؟ قلت لها: فاطمة، قالت لي، زوجة علي بن أبي طالب؟ أنا هنا ذهلت من شدة فرحتي أنها تعرف عن تاريخ اسمي، فقلت لها: أنتِ ما اسمك؟ قالت لي: ماريا، قلت لها: القبطية؟ قالت: بل الغزاوية، وهنا ارتسمت ضحكة ثم انتقل الضحك عندها عندي إلى بكاء غير مكبوت، وأسبابه معروفة لنا وإن خفيت عن العالم، وأخذتها بالحضن فوافتني بمثله وجلست في حضنها نبكي سوية.
قمت عنها أدفعها إلى الدكتور أبو بكر، ورجعت إلى ذات المكان وكان الرجل الذي أدفعه بالكرسي مكتوب على صدره أبو دانيال، فقلت له: نيالك بسيارتك وأنا أدفعك يا أبو دانيال، فقال لي: يخلف على النشامى اللي زودونا بالكراسي المريحة، ولما خرجت به صارت الطائرات أقرب، ومرعبة أكثر.
وفي تلك اللحظة كانت المنشورات من الطائرات الصهيونية تتنزل على رؤوسنا، مكتوب فيها أن لأي من يقوم بالتبليغ عن المقاومين أو مكان وجودهم 10000 دولار، قرأتها ونسيتها في يدي ورجعت إلى ذات الغرفة.
وجدت فيها طفلا يبحث عن أمه، تعال يا حبيبي، لا تخف! عمن تبحث يا صغيري؟ أريد ماما؟ ما اسم أمك؟ غزة، لا لا كلنا أمنّ اسمها غزة قلت له، وأتبعتهُ القول أقصد اسمها الحقيقي، فقال: نعم أنا اسم أمي غزة! وهنا داريت خجلي، وأخذته بيده حتى وصلت إلى مئذنة المسجد الملاصقة للمشفى المعمداني وطلبت من الشباب هناك أن ينادوا على أمه وأخذه أحد الشباب بعد أن دس في يده حبة شكولاتة وهدهد على كتفه ليزيل ما عليها من قلق ورجفه وخوف.
لما غلبني على الأرض، هرعت أبحث عمن يعينني في رفع العم، فجاء معي شاب فاحتملته معه إلى الكرسي ثم دفعه هو إلى الخارج وانا جلست على طرف الدرج أنظر في الحائط وأسأله في هذه الحال المسماة حرب
رجعت إلى الطابق الأرضي، أنفاسي اللاهثة والورقة التي يقايضون بها أرواحنا مقابل حفنة من رماد نار مطفأة بأرجل المقاومين، وصلت المكان بعد أن تبعثرت تلك الورقة تحت أقدام المارة على أعتاب المشفى المعمداني، ووصلت إلى ذات الغرفة، فإذا بكرسي واحد متبق وعليه بقايا رجل منكفئ على أوراق ظننتها وصيته، فإذا بها بقايا نصوص من الإنجيل وهو يضع اصبعه لكي لا يقع السطر منها، ولما اقتربت منه، وحتى لا أزعج هذه اللحظة التي خرج بها من عالمنا إلى عالمه، اقتربت بهدوء لكي أنظر ما الذي أوقف الحواس عنده على هذه اللفظة فإذا بها: "هذه هي وصيتي أن تحبوا بعضكم بعضا كما أحببتكم".
وهنا نهدت الآية القرآنية إلى في ذاكرتي وهي تصدر عن ذات المعين العذب: "يحبهم وبحبونه" فهما من رحم واحد، ولكن العم الكبير لم يتحرك بقربي منه، ولم يشعر بوجودي فاقتربت أكثر لكي أجعله عند أبي بكر الطبيب فيقوم باللازم له، وعندما هتفت: ياعم.. يا عم! ووضعت طرف أناملي عليه، مال على الأرض، ومالت معه الورقة، ومال معه الحب لبعضنا.
حاولت أن أحميه من الوصول للأرض ولكنه كان أثقل من قدرتي أو أن الورقة التي كان يحملها تنوء بها أنامل كأنامل فاطمة، ولما غلبني على الأرض، هرعت أبحث عمن يعينني في رفع العم، فجاء معي شاب، فاحتملته معه إلى الكرسي ثم دفعه هو إلى الخارج وأنا جلست على طرف الدرج أنظر في الحائط وأسأله في هذه الحال المسماة حرب، وبدأت الأسئلة ترد علي كلما ألححت عليها بالحضور.
لماذا نحن وليس غيرنا؟
بل، لماذا غيرنا وليس نحن؟
لم أفهم؟
الظروف معاول، أنت تجعلها معول هدم أو معول بناء، فاختار.
حائط حكيم؟
أو إنسان لا يعي ما وجد من أجله، الإنسان الغزي خلق لكي يقرأ العالم حروف الشجاعة في حياته.
ولكن الضريبة أكبر منا.
الضريبة لا تقاس برغباتنا، بل بما نتشكل من أجله في المستقبل!
ممكن شرح أكثر؟
الاختبارات التي توضع في الحياة، تحتاج ممن يتقدمون لها أن يكونوا جاهزين لما بعدها، فليست المشكلة في الاختبار، بل فيما سيعطيه لهم الاختبار!
وماذا سيعطينا؟
نأخذ فاطمة مثال!
أنا؟
نعم، أنت يا فاطمة.
تفضل، نورني.
ألم تصحو لديك حاسة الإحساس بالآخرين؟ ألم تجدي نبضا جديدا في قلبك كبندول الساعة يذكرك أن العدل ينتزع في الأرض قبل السماء؟ ألم تجدي في روحك لمسة تخبرك أنكِ تخرجين من رحم دين يلزمك أن تمدي اليد للآخر بحب لا بشفقه؟ ألم تتعلي في هذه الأيام أن السلام هو أن لا نعيش في غزتنا بسلام؟ ألم وألم وألم..؟ كلها تتجمع لكي تخبرك يا فطوم
آه يا سيدي الحائط، وأنت ماذا تعلمت من هذه الحرب؟
أنا يا فطوم؟ حائط، جماد، لا يسمع ولا يرى ولا يحس!
ولكن أنت غيرنا!
لا، أنا مثلكم، ولكنني أقوم بدوري في الكوكب، على خلافكم.