بين عيش الأحرار وعيش التجار
منذ أخذنا الطوفان إلى فسحة الأمل بغَدٍ مشرق بالحرية، واعد بالانطلاق من إسار التبعية ونحن نرمق الأحداث بعينين اثنتين، إحداهما تطبع في بؤبئها صورة الأمس الذي كاد يسلمنا لليأس من الخلاص، والأخرى تطبع صورة الغد النابت من رحم طوفان يُذهب رجس الأرض ويزرع الطهارة من جديد، لنعود سادة أنفسنا وسادة العالم كما كنا في ربيع القرون الخالية.
حين كنا أحرارا كان قرارنا من رأسنا، وكنا نعرف كيف ندير شؤوننا الداخلية، وكيف نحدد علاقاتنا الخارجية، كنا نسالم من سالمنا ونعادي من عادانا، ولا يثنينا عن أخذ حقنا من أحد ميزان قوى ولا حسابات بيدر ولا صندوق نقد دولي ولا ارتهان لصانع السلاح الذي يَلزمنا لمحاربة أعدائنا.
وحين تبدل حالنا ما عاد لنا رأس نفكر به ولا فيه، صار قرارنا في ردهات السفارات، وعلى سطور الإيميلات، وتكدس السلاح في مخازننا بأموالنا لكنه مرهون بالكودات التي تشغله، ومعاذ الله أن يعمل في صدر عدونا لأنه شريك استراتيجي في المصنع الذي أنتج السلاح وللذهن الذي اخترعه، فكأنك يا أبا زيد ما غزيت.
من رحم هذه المقارنة بين الأمس واليوم حُقّ لعدونا أن يكره حماس، وأن يحمل على طردها من كل أرض يدوسها قادتها، حُقّ لهم – في ميزانهم- أن يقاتلوها بكل بطشهم المتاح وبهيميتهم المرسلة التي لا يردها عقل ولا يحدّها إحساس يمتّ إلى البشرية بصلة.
في هذا الزمان الذي راكم العبودية حتى أصبحت خُلُقا لازما لأصحابها صار عِلية القوم يتساوون مع الرعاع في النزوع إلى الرّسَن، مع أن تصاريف الزمان بينت الفرق بين عيش الأحرار وعيش التجار في سوق النخاسة إلا أن الطبع قد غلب التطبع، ومع أن أحد المسؤولين الأجانب قد صرح قريبا أن الحكام لو نزعوا إلى خيارات شعوبهم لم يبقوا رهن الخوف منهم، ولأمنوهم على عروشهم ولم يحتاجوا إلى التحرّز من محاولات خروجهم من بيت طاعتهم، إلا أن النفس يصعب عليها ترك ما ألفته مدة طويلة في وقت قصير من الزمن.
إن المقاومة اليوم وهي تسطر صفحات النصر والمجد لتفتح باب الحرية على مصراعيه للحكام وشعوبهم وهي تثبت أن الدنيا لا تدين إلا للأحرار، الذين يكتبون تاريخهم بدمائهم ثمنا لحريتهم وإثباتا لتمتعهم بناموس البشر البعيد عن القيد والجلاد، والمقاومة التي ثبتت أمام الحصار قرابة العقدين، وثبتت أمام صواريخ العدو الهاطلة فوق رأسها بتوقيع بعض الأعراب، هي المقاومة التي فرضت نفسها في الساحة اليوم، وأوقفت مشاريع التطبيع وعرّت كل عميل رخيص، وأثبتت أن الشعوب مع خيار حرية المقاومة وضد قيد التجار، الذين ما تزال بضاعتهم هوانا يتداولونه وذلاّ يذوقونه وتبعية يعيشون في ظلالها بشروط عدوّهم، فيرضون بالدون مقابل كرسي لا يدوم ومال مشؤوم.
من يخبر القوم أن التجارة مع الله هي الباقية، وأن بيع الذمم وشراء الوهم والسراب لن يوصل إلا إلى الندم؟!
هذا هو نبي الله نوح يصيح بولده الفاجر “يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين”، وإن كان ابن نوح كافرا فليس شرطا أن تكون كافرا لتهلك، ولكن معية الكافرين مهلكة، فهلاّ كانت لنا عبرة من قصص القرآن الكريم؟