منتدى الشنطي
سيغلق هذا المنتدى بسبب قانون الجرائم الاردني
حيث دخل حيز التنفيذ اعتبارا من 12/9/2023
ارجو ان تكونوا قد استفدتم من بعض المعلومات المدرجة
منتدى الشنطي
سيغلق هذا المنتدى بسبب قانون الجرائم الاردني
حيث دخل حيز التنفيذ اعتبارا من 12/9/2023
ارجو ان تكونوا قد استفدتم من بعض المعلومات المدرجة

منتدى الشنطي

ابراهيم محمد نمر يوسف يحيى الاغا الشنطي
 
الرئيسيةالرئيسية  البوابةالبوابة  الأحداثالأحداث  أحدث الصورأحدث الصور  التسجيلالتسجيل  دخول  

 

 ثروات العلماء التجار..

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75523
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

ثروات العلماء التجار.. Empty
مُساهمةموضوع: ثروات العلماء التجار..   ثروات العلماء التجار.. Emptyالثلاثاء 16 يوليو 2024, 8:36 am

ثروات العلماء التجار.. محدّث امتلك 50 مليون دولار وباعوا الذهب والمجوهرات والعطور وأشهرهم الإمامان الليث وابن المبارك


ثروات العلماء التجار.. 3-copy-31



إذا طالعتَ كتابَ ‘سِيَر أعلام النبلاء‘ الجليل الحافل للإمام الذهبي (ت 748هـ/1348م) وتفرّست أحوال العلماء التجار المترجَمين فيه؛ فلا بد أن تستوقفك مئات المعلومات والأخبار العجيبة عن مشاهير من أهل المعرفة جمعوا بين العلم والتجارة، وهي ليست تجارة محدودة للتكفف عن السؤال بل تجارات هائلة الحجم تتوخى توليد أرباح عظيمة، فأحد هؤلاء العلماء "لم يكن في الدنيا أيسر منه من التجار"! وعندما توفي "خلّف ثلاثمئة ألف دينار (= اليوم 60 مليون دولار أميركي تقريبا)"، وكان يقول: "ليس في الدنيا مثل داري"!!
وفي كتاب ‘الأنساب‘ للإمام أبي سعد السمعاني المروزي (ت 562هـ/1166م) ترجماتٌ لمئات العلماء المنسوبين إلى مِهَنِهم وصنائعهم، وإفادةٌ بوجود من صنّف مبكرا -خلال القرن الثالث الهجري/التاسع الميلادي- في سِيَر العلماء العاملين في هذه المهن.
فقد قال السمعاني عن أبي عبد الله محمد بن إسحق السعدي الهَرَوي الشافعي (ت نحو 285هـ/898م): "رأيتُ في تصنيفه كتابا حسنا ببخارى أظنه لم يُسبَق إلى ذلك، سمّاه: ‘كتاب الصُّنّاع من الفقهاء والمحدِّثين‘"!! وذكر أنه أورد فيه من العلماء الذين تعاطوا تجارة العطور وحدها "جماعة كثيرة قريبا من خمسين نفْساً".
كما أعدّ الباحث عبد الباسط بن يوسف الغريب دراسة أصدرها بعنوان: ‘الطرفة فيمن نُسب من العلماء إلى مهنة أو حِرفة‘، فأورد فيها تراجم لنحو 1500 عالم موزَّعين على زهاء 400 صنعة ومهنة كانوا يتكسبون منها.
والحقيقة أن العلاقة بين التجارة والعلم في حياة المسلمين تعكس -عبر القرون- صميم الاتصال بين شؤون الحياة وتعاليم الإسلام، حيث تداخلت خطوط التجارة مع حركة الدعوة ورحلات طلب العلم ولو كان الجميع في الصين؛ ففي كل قافلة بضاعة وتاجر وعالِم ومتعلّم وكتاب، في مركب حضاري بهيج، يكمّل بعضُه بعضا دون انفصام أو تضارب.
ومَن لم يلتفت بشكل معمق لفلسفة الاتصال تلك فلن ينجح في فهم الإسلام الذي أقام هذا التوازن الشديد بين المادة والروح، فضلا عن حساسية الاستقلال التي كانت تضرب في عمق عند علماء المسلمين، الذين كانوا يتحسسون تجاه كل ما يمسّ استقلالهم في التكفير والتعبير والرأي والاستنباط، وكل ما يمكن أن يمسّ بأمانتهم أمام الله وكذلك مكانتهم أمام الناس، وكانت وفرة المال من ضمانات استقلالية جماعة العلماء واستمرارية الدعم الذاتي للحركة العلمية.
لذلك قد لا نندهش لما أوردته الباحثة أوليڨيا ريمي كونستَبل -في دراسة ضمن كتاب أعده مركز دراسات الوحدة العربية بعنوان ‘الحضارة العربية الإسلامية في الأندلس‘- من إحصائية أعدها هـ.ج. كوهِن، وذكر فيها "أن 4200 مادة (= ترجمة) -من أصل 14000 تصف العلماء في كتب السِّيَر- كانت تحتوي على معلومات تخص المهنة التي يمارسونها".
وأضاف كوهن أنه "من هذا العدد يوجد: 22% منهم يعمل في تجارة أو صناعة النسيج، و13% في صناعة الطعام، و4% في المجوهرات، و4% في العطور، و4% في الجلود، و4% في الكتب، و3% في المعادن، و2% في الخشب، و2% في التجارة العامة، و9% في مهن أخرى. وإلى جانب هذه المهن المحددة يوجد 3% كانوا يعملون بالصرافة، و2% في السمسرة والوكالات التجارية".
وهذه الظاهرة العجيبة هي ما نسعى -في هذا المقال- للوقوف على جانب من تفاصيلها المثيرة، عبر جولة في الحياة المالية لنماذج معبِّرة من مشاهير علماء الإسلام من مختلف الأعصار والأمصار؛ فرصدت الخبرات التجارية لنحو 50 عالما مسلما (10 منهم محدّثون كبار) مسجلّةً ما اشتغلوا به من مكاسب ومعايش وما حازوه بعرق جهدهم من ثراء عريض.
ثروات العلماء التجار.. %D8%A7%D9%84%D8%AC%D8%B2%D9%8A%D8%B1%D8%A9-1
نشأة مبكرة
ربما لم يُتطرق كثيراً لمسألة العلاقة بين العلماء والتجار والتجارة، والواقع أنّ التجارة والتجار شغلوا بال الفقيه المسلم قديماً؛ لأن الدولة الإسلامية في بدايتها قامت أساسا على التجارة التي برع فيها أهل مكة من قريش حتى سادوا فيها بقية قبائل جزيرة العرب، فكانت لهم -كما قص علينا القرآن- رحلتان للتجارة: "رحلة في الشتاء إلى اليمن، ورحلة في الصيف إلى الشام"؛ كما يقول الإمام الطبري (ت 310هـ/922م) في تفسيره.



ولذا نجد أن النبيّ ﷺ مارس التجارة -قبل نزول الرسالة عليه- وكيلا عن السيدة خديجة بنت خويلد (ت 3ق.هـ/619م) -رضي الله عنها- في مالها، وقد "كانت.. امرأة تاجرة ذات شرف ومال، تستأجر الرجال في مالها وتضاربهم إياه بشيء تجعله لهم [من الربح]، وكانت قريش قوما تجارا..، [فكانت تفضّل النبي] وتعطيه أفضل ما كانت تعطي غيره من التجار"؛ وفقا لرواية أبي القاسم السهيلي (ت 581هـ/1185م) في ‘الروض الأُنُف‘.
كما شارك النبي ﷺ آخرين في تجارته؛ ففي ترجمة عبد الله بن السائب القرشي (ت 63هـ/681م) عند الذهبي في ‘السِّيَر‘: "وكان أبوه شريكَ النبي صلى الله عليه وسلم قبل المَبْعَث". وهو هنا يشير إلى رواية الإمام أحمد (ت 241هـ/855م) -في مسنده- عن السائب بن أبي السائب (ت بعد 51هـ/672م) أنه كان يشارك رسول الله ﷺ قبل الإسلام في التجارة، فلما كان يوم الفتح جاءه، فقال النبي صل الله عليه وسلم: «مرحبا بأخي وشريكي، كان لا يُداري ولا يُماري»".
وكذلك فعل أصحابه -رضوان الله عليهم- قبل إسلامهم وبعده، لأن الإسلام شجع الناس على التجارة وامتهان الحِرَف والأعمال طلبا للتكسب والمعاش وحذرا من البطالة والتواكل. ولذا نجد نفرا وافرا من أصحاب النبيّ ﷺ كانوا تُجّاراً، حتى إن بعضهم امتلك رأس مال كبيرا بمعايير عصره، بل وبمقاييس عصرنا؛ كما تدل عليه معطيات إنفاقهم وما خلفوه ميراثا بعد وفاتهم، وكل ذلك حصلوه من تعاطيهم التجارة مضافا إليها أحيانا ما كانوا ينالونه من غنائم الفتح.
فالخليفة الراشد الأول أبو بكر الصدّيق (ت 13هـ/635م) نفسه كان تاجراً في مكة وظل كذلك بعد هجرته؛ فالطبري يقول إن الصدّيق "كان رجلا تاجرا، فكان يغدو كل يوم إلى السوق فيبيع ويبتاع". وبعد توليه الخلافة بستة أشهر خاطب أصحابه قائلا: "ما تُصلحُ أمورَ الناس التجارةُ، وما يُصلحهم إلا التفرغ لهم والنظر في شأنهم، ولا بد لعيالي مما يُصلحهم، فترك التجارة واستنفق (= صَرَف) من مال المسلمين ما يصلحه ويصلح عياله يوما بيوم..، وكان الذي فرضوا له في كل سنة ستة آلاف درهم (= اليوم 12000 دولار أميركي تقريبا)".
وكان الخليفة الراشد الثالث عثمان بن عفان (ت 35هـ/656م) من كبار تجار قريش والصحابة، حتى إن الطبري ينقل عنه قوله: "كنتُ أكثرَ قريش مالا وأجدَّهم (= أعظمهم حظًّا) في التجارة". وفي ‘السيرة النبوية‘ لابن هشام (ت 218هـ/833م) أن النبي ﷺ حين تجهز لغزوة تبوك سنة 9هـ/630م "حضَّ أهل الغنى على النفقة والحُمْلان (= دواب لحمل المجاهدين) في سبيل الله، فحمل رجال من أهل الغنى واحتسبوا، وأنفق عثمان بن عفان في ذلك نفقة عظيمة لم ينفق أحدٌ مثلَها.‏.، ‏[فقد] أنفق في جيش العُسْرة.. ألفَ دينار (= اليوم 200 ألف دولار أميركي تقريبا)"!! وفي ‘السُّنن‘ للترمذي (279هـ/892م) أن عثمان قال: "يا رسول الله علي ثلاثمئة بعير.. في سبيل الله"!!
ثروات العلماء التجار.. %D8%A7%D9%84%D8%AC%D8%B2%D9%8A%D8%B1%D8%A9-2
تركات وكفالات
وعبد الرحمن بن عوف (ت 32هـ/654م) كان فقيرا لا مال له حين وصل المدينة مهاجرا، فاشتغل فيها بالتجارة حتى بات من أكبر أصحاب رؤوس الأموال في تاريخ الإسلام؛ يقول الذهبيّ -في ‘السِّيَر‘- عن ثروته الضخمة وكيفية استعماله لها: "تصدق ابن عوف على عهد رسول الله.. بشطر ماله أربعة آلاف، ثم تصدق بأربعين ألف دينار، وحَمل على خمسمئة فرس في سبيل الله، ثم حمل على خمسمئة راحلة في سبيل الله، وكان عامة ماله من التجارة". ثم أضاف الذهبي معلقا: "قلت: هذا هو الغنيُّ الشاكر"!!

وتحدث الذهبي -في ‘تاريخ الإسلام‘- عن تجارة الزبير بن العوام (ت 36هـ/657م) وميراثه منها عند وفاته؛ فذكر أنه "ثبت في الصحيح أن الزُّبَيْر خلَّف أملاكًا بنحو أربعين ألف ألف درهم (= اليوم 80 مليون دولار أميركي تقريبا) وأكثر"!! وكذلك أخبرنا -في ‘السِّيَر‘- عن النشاط التجاري للصحابي الجليل طلحة بن عبيد الله (ت 36هـ/657م) وما تركه من مال؛ فقال إنه "قـُتِل.. وفي يد خازنه ألفُ ألفِ درهم..، وقُـِّومت أصولُه وعقارُه ثلاثين ألفَ ألفِ درهم! وأعجبُ ما مرَّ بي قولُ ابن الجوزي (ت 597هـ/1200م)..: وقد خلّف طلحة ثلاثمئة حِمْلٍ من الذهب"!!
ولم تكن التجارة مقتصرة على قادة الصحابة بل مارسها صغارهم ومواليهم؛ ففي ترجمة النووي -في ‘تهذيب الأسماء واللغات‘- لسعد بن عائذ المعروف بسعد القَرْظ المؤذّن (ت 39هـ/660م)، قال: "هو مولى عمار بن ياسر (ت 37هـ/658م)..، قال العلماء: أضيف إلى القرظ الذي يُدبغ به [الجلود]؛ لأنه كان كلما اتَّجر في شيء خسر فيه، فاتّجر في القرظ فربح فيه فلزم التجارة فيه، فأضيف إليه. جعله النبي.. مؤذِّنًا بقُباء، فلما ولي أبو بكر.. الخلافة -وترك بلالٌ الأذانَ- نقله.. إلى مسجد رسول الله ﷺ ليؤذّن فيه، فلم يزل يؤذن فيه حتى مات".
وعند النظر في سير التابعين وتابعيهم نجد أنهم ساروا على نهج الصحابة في تعاطي أنواع التجارة؛ فهذا ابن الجوزي يخبرنا -في ‘صيد الخاطر‘- أن سيد التابعين سعيد بن المسيب (ت 93هـ/712م) "مات وخلّف مالًا وكان يحتكر الزيت". وكذلك كان الإمام سفيان الثوري (ت 161هـ/778م) يبيع الزيت أيضا، مستثمرا حصته من ميراث عمّ له كان يقيم في بخارى (تقع اليوم بأوزبكستان)؛ كما يخبرنا الخطيب البغدادي (ت 463هـ/1071م) في كتابه ‘تاريخ بغداد‘.
ويروي أبو نعيم الأصفهاني (ت 430هـ/1040م) -في ‘حلية الأولياء‘- أن الثوري هذا أجاب أحدَ طلابه حين استنكر اشتغالَه بالتجارة؛ فخاطبه زاجرا إياه: "اسكتْ! لولا هذه الدنانيرُ لَتَمَنْدَلَ بنا هؤلاء الملوكُ"، أي جعلونا كالمناديل يستخدمونها ثم يرمونها. ويروي الذهبي -في ‘السير‘- أن الإمام العابد المجاهد عبد الله بن المبارك (ت 181هـ/797م) كان تاجرا، فـ"أكثر من الترحال والتطواف -وإلى أن مات- في طلب العلم، وفي الغزو، وفي التجارة، والإنفاق على الإخوان في الله، وتجهيزهم معه إلى الحج".
ومن العلماء التجار الكبار الليث بن سعد (ت 175هـ/791م) الموصوفة مكانته العلمية والسياسية -عند الذهبي في ‘السير‘- بأنه "الإمام الحافظ شيخ الإسلام وعالم الديار المصرية… ومن يفتخر بوجوده الإقليم، بحيث إن متولي مصر وقاضيها وناظرها [يعملون] من تحت أوامره، ويرجعون إلى رأيه ومشورته"؛ ثم يضيف مقدرا حجم أرباحه السنوية فيقول: "كان الليث يستغل عشرين ألف دينار (= اليوم 4 ملايين دولار تقريبا) في كل سنة"!!
ثروات العلماء التجار.. Isle_of_Graia3
دعوة للتموّل
مع تطور الزمن واتساع الدولة، وتوقف مشاركة العلماء في الجيوش وما تجلبه من مال الغنائم، وانفراط عِقد علاقة الثقة -في الغالب- بين الأمراء والعلماء؛ اضطرّ كثيرٌ من علماء المسلمين -فقهاء ومحدثين وغيرهم- إلى تعاطي التجارة، منعاً لأنفسهم من العَوَز والمسألةِ، وطلبا لاستقلالية مالية في موارد الرزق تُبقي العالم مستقلاً متبوعاً لا تابعاً، خاصة أن "للنفس قوة بدنية عند وجود المال، وهو معدود عند الأطباء من الأدوية"؛ كما يقول ابن الجوزي في ‘صيد الخاطر‘.

ولذا نجد عددا لا بأس به من العلماء -طوال الأعصار وفي كل الأقطار- تعاطوا التجارة أو الصناعة، حتى إن بعضهم لُقّب بمهنته وصناعته ونوع تجارته. وبذلك استطاع كثير من العلماء أن يحفظوا موارد قوتهم -بل ومتطلبات الإنفاق على الرحلات العلمية والكتب والمصنفات- بعيداً عن السلطةِ وقصور الحكم، وكثيراً ما اعتُبر ذلك مدحا للهم في كتب التراجم والطبقات التي خلدت سِيَر العلماء وأنماط حياتهم.
وقد التفت الإمام ابن الجوزيّ -بحصافته وبصيرته المعهودة- لتلك المسألة فكان خير من عبّر عن ضرورة أن يكون للعلماء مصادر دخلهم المستقلة عن سلطتيْ أصحاب الحكم وأرباب الأموال، لما لهذه الاستقلالية من صيانة للعلم وتجرد حملته في التعليم والفتوى؛ فنجده يقول في ‘صيد الخاطر‘: "ليس في الدنيا أنفع للعلماء من جمع المال للاستغناء عن الناس؛ فإنه إذا ضُمَّ إلى العلم حِيزَ الكمالُ؛ وإن جمهور العلماء شَغَلهم العلمُ عن الكسب، فاحتاجوا إلى ما لا بد منه وقلَّ الصبر فدخلوا مداخل شانتهم، وإن تأولوا فيها إلا أن غيرها كان أحسن لهم"!
ثم وجّه هذا الإمام دعوةً إلى أهل العلم -وهم في طور تحصيله- ليطلبوا الغنى في عرق الجبين: "فعليك -يا طالب العلم- بالاجتهاد في جمع المال للغنى عن الناس؛ فإنه يجمع لك دينك! فما رأينا في الأغلب منافقًا في التدين والتزهد والتخشع ولا آفةً طرأت على عالم إلا بحب الدنيا، وغالب ذلك [سببه] الفقر"!!
ثم نبه على مخاطر ترك التكسب بالكدح على مكانة العلماء في المجتمع؛ فقال: "رأيت عموم أرباب الأموال يستخدمون العلماء، يستذلونهم بشيء يسير يعطونهم [إياه] من زكاة أموالهم، فإن كان لأحدهم ختمة قال: فلان ما حضر، وإن مرض قال: فلان ما تردد، وكلُّ مِنَّتِهِ عليه شيءُ نزْرٌ يجب تسليمه إلى مثله، وقد رضي العلماء بالذلّ في ذلك لموضع الضرورة، فرأيت أن هذا جهل من العلماء بما يجب عليهم من صيانة العلم".
ولم يقف ابن الجوزيّ عند هذا بل حمل همّ معاش العلماء، وأدرك أنّ هذه المسألة من آكد لوازم تحصيل العلم ومقومات استقلال الجماعة العلمائية: "فينبغي للعاقل إذا رُزق قوتا أو كان له مواد أن يحفظها ليتجمع همّه (= تفكيره)، ولا ينبغي أن يبذّر في ذلك فإنه يحتاج فيتشتت همّه، والنفس إذا أحرزت قوتَها اطمأنت. فإن لم يكن له مال اكتسب بقدر كفايته، وقلّل الغلوَّ ليجمع همَّه وليقنع بالقليل..، وترْكُ التشوُّفِ إلى الفضول أصلُ الأصول. ولما أيْأَسَ الإمامُ أحمدُ بن حنبل نفسَه من قبول الهدايا والصِّلات اجتمع همه وحسُن ذِكْره..، ثمّ في مَنْ يطمع؟ إنما هو سلطان جائر أو مُزَكٍّ مَنّانٌ"!
ثروات العلماء التجار.. 005-4
كفالة لازمة
ومن ناحية أخرى؛ ليس بإمكان كلّ المشتغلين بالعلم أن يتعاطوا صنائع أخرى، لأنها وإن كفلت للعالم نزْراً ولو يسيرا من قوت يومه وصيانة علمه، وحفظا لماء وجهه إلا أنها شاغلة له عن التحصيل والرحلة التي هي أهم سبل تحصيل العلم في ذلك الزمان، ومعطلة له عن أوراده، وكابحة عن الانكباب على التصنيف والتأليف. ومن هنا؛ نظر الفقهاءُ إلى بيت مال المسلمين باعتباره ملكاً للأمّة لا للدولةِ، وأوجبوا على الحكام توفير العيش الكريم للعلماء ليتفرغوا للعلم دراسة وتدريسا، فإذا لم تقم الدولةُ بواجبها تجاههم وجب ذلك على عامّة الشعب وجوبا كفائياً.

ولذلك نجد الخطيب البغدادي يعقد -في ‘كتاب الفقيه والمتفقه‘- بابا سماه: "باب ذكر ما يلزم الإمام أن يفرض للفقهاء ومن نصَّب نفسه للفتوى من الرزق والعطاء"؛ فيقول فيه: "وعلى الإمام أن يفرض لمن نصَّب نفسه لتدريس الفقه والفتوى في الأحكامِ ما يُغنيه عن الاحتراف والتكسب، ويجعلَ ذلك في بيت مال المسلمين. فإن لم يكن هناك بيتُ مالٍ، أو لم يَفْرِضِ الإمامُ للمفتي شيئا، واجتمعَ أهل بلدٍ على أن يجعلوا له من أموالهم رزقاً -ليتفرغ لفتاويهم وجوابات نوازلهم- ساغَ ذلك".
وينقل الخطيب عن الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز (ت 101هـ/720م) أنه أرسل إلى واليه على حمص: "انظر إلى القومِ الذين نصّبوا أنفسهم للفقه وحبسوها في المسجد عن طلب الدنيا، فأعطِ كل رجل منهم مئة دينار (= اليوم 20 ألف دولار أميركي تقريبا)، يستعينون بها على ما هم عليه من بيت مال المسلمين".
وقد كان بعض العلماء يقبل ذلك المال باعتباره حقا له في خزانة الدولة مقابل خدمته للمجتمع إمامة وتدريسا وإفتاءً، وبعضهم لم يكن يقبله. لكن الفكرة -من حيث المبدأ- تدل على أنّ عمر بن عبد العزيز شغلته مسألة استقلال الجماعة العلمائية، فجعل لها مالا من بيت مال المسلمين مكافأة لخدماتها المجتمعية، مثلها مثل الجُنْد وسائر موظفي مؤسسات الدولة!
وعبارة الخطيب البغدادي الآنفة تفترض -من واقع اضطراب أحوال الدولة الإسلامية منذ منتصف القرن الثالث الهجري- غيابا أو ضعفا قد يعرض لبيت مال المسلمين، أو عدم تحديد السلطة مخصصات مالية للعلماء؛ فجعل ذلك واجباً على العامّة جميعا قياسا على جهاد العدو، ولسنا في حاجةٍ للتدليل على أنّ جهاد العدو لا يكون بالعساكر فحسب، وإنما أيضا بالعلوم والمعارف.
ثروات العلماء التجار.. 0003
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75523
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

ثروات العلماء التجار.. Empty
مُساهمةموضوع: رد: ثروات العلماء التجار..   ثروات العلماء التجار.. Emptyالثلاثاء 16 يوليو 2024, 8:38 am

موكب متواصل
بمرور الزمن وبدءا من القرن الخامس تقريبا؛ ازداد اعتماد الفقهاء على عطايا الدولة وأهل السلطة والمال، وخاصة بعد مأسسة مناصب الفتوى والقضاء والخطابة وغيرها من الوظائف الدينية، وبروز مشيخات المذاهب التي كانت تنظم العملية الدراسية والإفتائية فيها، وإنشاء المدارس واستحداث تقليد الكراسي العلمية الوقفية فيها وفي الجوامع؛ ورغم ذلك ظل هناك إفتاء أهليّ وجماعة علمائية رفضت الانصهار أو الذوبان -بل وحتى مجرد القرب- من مناصب السلطة الرسمية، خشية الارتهان لحساباتها ومواقفها.

ولكي يعفّ العلماء أنفسَهم عن المسألةِ -على نحو ما طالبهم به الإمام ابن الجوزي آنفاً- اشتغل كثير منهم بالتجارة، بدءا من عهد التابعين -كما رأينا- وحتى العصور المتأخرة؛ أي أن فريقا من العلماء لم يرض بعطايا أرباب المال من التجار والحكام، بل تاجر بنفسه وجعل رحلته علما وطلباً وتجارةً أو حرفةً في نفس الوقت؛ فكان منهم الحداد والنجار والخياط والدباغ والصباغ والجصاص والعطار والصائغ والوراق… إلخ. ومن أراد التوسع في هذا الباب فليراجع المصادر التي ذكرناها في مقدمة المقال، مثل كتاب ‘الأنساب‘ للإمام السمعاني ودراستيْ الباحثيْن عبد الباسط الغريب وأوليڨيا كونستَبل.
ويكفي للدلالة على اتساع ظاهرة العلماء التجار أن الإمام الذهبي ترجم لنحو 150 عَلَمًا منهم في كتابه الجليل الحافل ‘سير أعلام النبلاء‘، وسنورد هنا نماذج ذات مكانة علمية بارزة -بعد عصر التابعين وتابعيهم- من مختلف التخصصات الشرعية ممن أورد هو تراجمهم، مع ألقابهم العلمية عنده، وما سجله بشأن حجم ثرواتهم، وتباعُد المسافات التي قطعوها في تجاراتهم، حتى إن بعضهم سار فيها من الأندلس إلى الصين!!
فقد ترجم للمحدث الكبير يوسف بن زريق (ت 222هـ/837م) فقال إنه "ذهب إلى مصر في التجارة ومات بها". وذكر ابنَ عمار الموصلي (ت 242هـ/856م) فعرّفه بأنه "الإمام الحافظ الحجة محدث الموصل..، وكان يعالج التجارة فقدم بغداد مرات وحدَّث بها". وفي ترجمة الجمال بن محمد البغدادي (ت 346هـ/957م) قال إنه "الشيخ المُسْنِد الثقة مُحدِّث سمرقند (تقع اليوم بأوزبكستان)..، ارتحل [لتحصيل العلم] وكان يسافر في التجارة".
ومن العلماء الذي جمعوا بين بسطة العلم واتساع الثروة دَعْلَجُ بن أحمد السِّجِسْتاني/السِّجْزي (ت 351هـ/964م) الذي يصفه الذهبي بأنه "المحدث الحُجَّة الفقيه الإمام.. التاجر ذو الأموال العظيمة..، سمع -بعد الثمانين (= سنة 280هـ/893م)- ما لا يوصف كثرةً بالحرمين والعراق وخراسان..، حال جَوَلانه في التجارة"، ومع انشغاله التجاري بلغ شأوا عظيما في العلم حتى نُعت بأنه "الفقيه شيخ أهل الحديث في عصره"! وكان الإمام الدارقطني (ت 385هـ/994م) يقول: "ما رأيتُ في مشايخنا أثبت من دعلج"!!
ويحدثنا الذهبي عن حجم ثروة الإمام دعلج المتحصلة من تجارته؛ فيذكر أنه "قيل: لم يكن في الدنيا أيسر منه من التجار"! وأنه عندما تُوفي "خلّف ثلاثمئة ألف دينار (= اليوم 60 مليون دولار أميركي تقريبا)"، كانت أولَ ميراث تعتدي عليه السلطات البويهية في بغداد بالمصادرة! وبلغ به الحال أنه "كان يقول: ليس في الدنيا مثلُ داري! وذلك لأنه ليس في الدنيا مثلُ بغداد، ولا ببغداد مثل محلة القطيعة، ولا في القطيعة مثل درْب أبي خلف، وليس في الدرب مثل داري"!! وإضافة إلى هذه الدار العجيبة ببغداد؛ "اشترى دعلج بمكة دار العباسية بثلاثين ألف دينار"!!
ثروات العلماء التجار.. 007-1
رحلات تجارية
ومن علماء الأندلس التجار إسحقُ ابن مَسرَّة التُّجِيبي الطُّليْطُلي (ت 354هـ/967م)، وهو "الزاهدُ أحدُ الأعلام بقرطبة، كان يتّجر بها في الكتّان، وكان من أهل العلم والعمل وممن لا تأخذه في الله ملامة..، كان من أحفظ العلماء للمسائل".

وهذا ابن جميع الغساني الصيداوي (ت 403هـ/1013م) وهو "الشيخ العالم الصالح المسند المحدث الرحال… كان أسند من بقي بالشام [للحديث النبوي]"، وعدد له الذهبي عشرات الشيوخ من الأئمة الكبار في ثلاثين من حواضر الشام والعراق وفارس والحجاز ومصر، ثم علق بأنه "أعانه على لُقِيِّ هؤلاء في هذه البلاد الشاسعة سفرُه في التجارة"! كما ذكر في ترجمة الإمام الحافظ خلف الواسطي (ت بعد 400هـ/1010م) مصنف كتاب ‘أطراف الصحيحين‘؛ فقال إنه "سافر الكثير في التجارة". ومن نوادر الواسطي هذا أنّه روى عنه شيخُه الإمامُ الحاكم النيسابوري (ت 405هـ/1015م) مؤلِّفُ ‘المُستدرَك على الصحيحين‘.
وحين عرّف بالتاجر الأندلسي سعد الخير الأنصاري (ت 541هـ/1146م)؛ قال إنه "الإمام المحدث المتقِن الجوّال الرَّحّال.. التاجر، سار من الأندلس إلى إقليم الصين [للتجارة]، فتراه يكتب [في نسبته]: سعد الخير الأندلسي الصيني، وكان من الفقهاء العلماء". وفي ترجمة أبي تمام العباسي البغدادي (ت 543هـ/1148م)، قال إنه "الشيخ الجليل مُسنِد وقته.. التاجر الجَوّال..، توفي بنيسابور بعد أن أكثر من التجارة بالبحار والهند والتُّرْك"!!
ومنهم أبو الفَرَج ابن كُلَيب الحرّاني الحنبلي (ت 596هـ/1200م) الذي وصفه الذهبي بأنه "الشيخ الجليل الأمين مسند العصر.. التاجر..، انتهى إليه علوُّ الإسناد..، وكان من أعيان التجار ذا ثروة واسعة"! وقد بلغ من ضخامة تجارته ما حكاه ابن النجار (ت 643هـ/1245م) -في ‘ذيل تاريخ بغداد‘ راويا عن شيخه ابنِ الجوزي تلميذِ ابنِ كُليب- من أنه "عمِل دعوةً (= وليمة) ببعض بلاد خراسان في زمن الصيف وتكلف تكلفا كثيرا، وكان من جملته أنه حمل أحمالا من عمل مصر.. [وكان] لها قيمة كثيرة"!!
وممن جمعوا بين الفتوى في العلم والبراعة في الشعر والجسارة في السياسة والمهارة في التجارة: الفقيهُ الشافعي عمارة اليمني (ت 569هـ/1173م)؛ فقد جاء في ترجمته عند الذهبي أنه "كان شديد التعصب للسنة، أديبا ماهرا رائجا في الدولة [الفاطمية]..، وهو من بيت إمْرَة وتقدُّم من تهائم اليمن..، [وكان يُعَدُّ] من أكابر التجار وأهل الثروة، ومن أعيان الفقهاء الذين أفتوْا، ومن أفضل أهل الأدب"!!
ومن العلماء التجار الذين أمدنا الذهبي بأرقام عن ثرواتهم: أبو الرضا الكرْكي البغدادي (ت 592هـ/1195م)؛ فهو "المحدث العالم.. التاجر الشيعي..، كان حريصا على السماع وعلى تحصيل الأجزاء.. وكان ثقة..، خلّف [عند موته] تجارة بثلاثة آلاف دينار"!!
ومن مشاهير الأئمة التجار ابن الأخضر الجنابذي (ت 611هـ/1214م)، وهو "الإمام العالم المحدِّث الحافظ.. مفيد العراق.. التاجر البزّاز (= بائع البَزّ: الثياب)..؛ قال ابن النجار..: قرأتُ عليه كثيرا في حلقته وفي حانوته للبَزِّ في خان الخليفة [ببغداد]، وكان ثقة حجة نبيلا، ما رأيت في شيوخنا مثله في كثرة مسموعاته، وحسن أصوله وحفظه وإتقانه"! وفي ترجمة الذهبي لكمال الدين ابن الجلاجلي البغدادي (ت 612هـ/1215م) وصفه بأنه "التاجر الرئيس المقرئ..، وجال من مصر إلى الهند وما وراء النهر في التجارة، وكان صادقا كيِّساً مُحتشِما حَفَظَةً للحكايات".
ثروات العلماء التجار.. 006-1
زهد واعتزال
ويورد مؤرخ حلب ابن العديم (ت 660هـ/1262م) -في ‘بُغْية الطَّلَب‘- قصة عجيبة عن أحد العلماء التجار الرحالين، كان له إنفاق واسع على مكافحة الحركات السرية الهدامة مثل الحشاشين، مما جعلهم يحاولون اغتياله؛ فيقول فيها -متحدثا عن إحدى رحلاته التجارية ومقدما لنا معطيات عن مقدار ثروته- إنه "في شهر ربيع الأول سنة خمس وخمسمئة (505هـ/1111م) وصل إلى حلب رجل كبير فقيه تاجر يقال له أبو حرب عيسى بن زيد بن محمد الخُجَندي (ت بعد 505هـ/1111م)، ومعه خمسمئة جمل عليها أحمالُ أصنافِ التجارات..، فقام في غلمان له يستعرض أحماله وحوله جماعة من مماليكه وخَدَمه"!

وإلى جانب العلماء الذين مارسوا بأنفسهم التجارة؛ وُجد أبناء العائلات التجارية الذين فرّغوا أنفسهم لطلب العلم ونشره مستعينين بثروات آبائهم وإخوانهم. ومن نماذج هؤلاء ما حكاه الخطيب البغدادي -في ‘تاريخ بغداد‘- من أن أبا جعفر الصوفيّ المعروف بابن الفَرَجي (ت بعد 270هـ/883م) "كان من أبناء الدنيا وأرباب الأموال، وورث مالا كثيرا فأخرجه جميعه وأنفقه في طلب العلم، وعلى الفقراء والنساك والصوفية. وكان له موضع من العلم والفقه ومعرفة الحديث [لكونه] لزم علي ابن المديني (ت 234هـ/848م)".
ومنهم أيضا "محمد بن أحمد.. الأصبهاني (ت 282هـ/895م).. الحافظ المعروف بالعسّال، صاحب المصنفات…؛ كان أبوه أحمد من كبار التجار المتموِّلين، وقف أملاكه على أولاده وهي بساتين ودُور وحوانيت"؛ حسب الذهبي في ‘السير‘.
وكذلك أبو العلاء الهمذاني الحافظ (ت 569هـ/1173م) الذي ترجم له الذهبي -في ‘تذكرة الحفاظ‘- فقال إنه "كان مُهينًا للمال [فـ]ـباع جميع ما ورثه وكان من أبناء التجار، فأنفقه في طلب العلم حتى سافر إلى بغداد وأصبهان مراتٍ ماشيًا يحمل كتبه على ظهر". ومع فقر الهمذاني هذا -بعد غناه- فإنه "كان لا يأكل من أموال [السلاطين] الظَّلَمَة ولا يقبل منهم [تولِّي] مدرسةٍ قطُّ ولا رباطًا"!!
ولئن لم تسعفنا المصادر بذكر نساء عالمات تاجرات؛ فقد أفادتنا بترجمة محدِّثة جليلة تنتمي إلى إحدى عوائل التجار الأندلسية، فوالدها هو سعد الخير الأنصاري السابق ذكره؛ وأما هي فقال عنها الذهبي: "الشيخة الجليلة المسندة.. فاطمة بنت المحدّث التاجر أبي الحسن سعد الخير.. الأنصاري البلنسي..، ورأتْ عِزًّا وجاهاً"، ثم يعلق الذهبي قائلا: "أجازت لشيخنا أحمد بن أبي الخير سلامة (ت 678هـ/1279م)"!
ومع تعددية الانتماء المذهبي والتخصص المعرفي للعلماء التجار؛ تنوعت مناشطهم التجارية حتى شملت مختلف أنواع البضائع والسلع، وأصبح كثير من العلماء لا يتميز اسم أحدهم عن مشابهيه في الاسم إلا بنسبته إلى نوع تجارته؛ ولذا كثيرا ما أخبرتنا كتب التراجم عن نوع التجارة التي تعاطاها هؤلاء، فكان منهم القطان والبزّاز والزيات والجوهري والحريري والكُتُبي… إلخ.
ولذلك يخبرنا الذهبي -في ‘تذكرة الحفاظ‘- بأن الإمام "الحافظ المتقِن المجوِّد" غُندر ابن جعفر البصري (ت 193هـ/808م) "كان يتجر في الطيالسة والكرابيس (= ثياب القطن)". ويقول ابن حجر -في ‘الدرر الكامنة‘- إن العالم أحمد بن عبد الكريم الغرناطي (ت 739هـ/1339م): "كان قانعا متعففا حسن الخلق يتكسب من التجارة في القطن".
ثروات العلماء التجار.. %D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%AE-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%8A1-%D8%AA%D8%B1%D8%A7%D8%AB-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D8%B2%D9%8A%D8%B1%D8%A9-copyخسائر تجارية
كما ذكر أن الفقيه الشافعي شهاب الدين أحمد بن محمد الأنصاري (ت 773هـ/1372م) جمع إلى التجارة تكسُّبه من الزراعة، حيث "نشأ بالقاهرة وجلس مع الشهود [عند القضاة]، وتكسب في التجارة والزراعة فأثرى وكثر ماله..، ووقَف على تدريسٍ بالجامع الأزهر".

كما تعاطى العلماء أنشطة مكملة للعمليات التجارية مثل السمسرة بين التجار والمشترين، مع التعفف فيها عن كل ما يُخلُّ بمكانتهم وأمانتهم؛ وممن مارسها في بيع الفُرُش المعدّة للبسط -والتي تسمى "الأنماط"- حجاج بن منهال البصري الأنماطي (ت 216هـ/831م)، وقد نعته الذهبي -في ‘السير‘- بأنه "الحافظ الإمام القدوة العابد الحجة..، كان سمسارا يأخذ من كل دينار حبة، فجاء خراساني موسِرٌ -من أصحاب الحديث- فاشترى له أنماطاً، فأعطاه التاجر ثلاثين دينارا، فقال: ما هذه؟ قال: سمسرتك! قال: دنانيرك أهونُ عليّ من هذا التراب! هاتِ من كل دينار حبة، فأخذ منه دينارا وكَسْراً"!!
ولم يكن العلماء -كغيرهم من التجار- بمأمن مما يلحق التجارة أحيانا من خسائر فادحة قد تُخرج صاحبها من السوق، وترده إلى درجة الصفر المالية؛ فالإمام أبو الفرَج ابن كُليب الحراني المتقدم ذكْرُه يقول ابن النجار البغدادي إنه حدَّث تلامذته يوما بما كان عليه حاله من ثراء واسع؛ فقال: "وصلني خبرٌ مرةً عن مملوك لي غرِق في البحر بما كان لي معه [من مال]، وكان مقداره ستة آلاف دينار (= اليوم 1.2 مليون دولار تقريبا) أو أكثر؛ فلم أتأثر لذلك لِسَعَةِ حالي"!! ثم كانت عاقبته أنه "لم يَمُتْ حتى طَـلب من الناس" ما يَسُدُّ به حاجته!!
ويقول الذهبي إنه "احتاج إلى الأخذ [من الطلاب على التدريس]، وبقي لا يُحدِّثُ بـ‘جُزْء ابن عرفة‘ إلا بدينار"!!

ومن اللافت أيضا أن بعض الصحابة والعلماء كان يتعاطى التجارة حتى إذا بلغ فيها شأواً انقطع عنها للزهادة، فتفرغ للعبادة الشعائرية وانكبَّ على العلم نشرا وتدريسا؛ فهذا الصحابي المفتي أبو الدرداء (ت 32هـ/654م) كان تاجراً في فترة من حياته لكنه تخلى عنها من أجل التفرغ للذكر والعبادة، وفي ترجمته يقول الذهبي في ‘السير‘: "قال أبو الدرداء: كنتُ تاجرا قبل المَبْعَث فلما جاء الإسلام جَمعتُ التجارة والعبادة، فلم يجتمعا فتركتُ التجارة ولزمت العبادة"!
ومثله "الفقيه الزاهد" ابنُ شاذَة النيسابوري الشافعي (ت 372هـ/985م) الذي قال ابن الصلاح (ت 643هـ/1245م) -في ‘طبقات الفقهاء الشافعية‘– إنه "كان يتّجر ثم ترك ذلك وجاور في الجامع سنين"!! وفي ترجمة حسن بن محمد التاجر (ت 747هـ/1347م) عند ابن حجر أنه "رجل صالح متدين، انقطع عن التجارة ولازم العبادة والجماعة ومجالس الحديث..، [ثم] عمل ميعادا (= مجلس وعظ أسبوعي) بالجامع ووقف عليه كتبا".
ولم تقتصر ممارسة التجارة على حمَلة العلوم الدينية فقط، بل كان من ذوي الفنون الأخرى تجّار أيضاً؛ فقد ذكر القِفْطي (ت 624هـ/1227م) -في ‘إنباه الرواة على أنباه النُّحاة‘- أن العلامة النحوي البارع علي بن سعيد بن دبابا (ت نحو 560هـ/1165م) "كان يتّجر ويختلف إلى دمشق، فباع في بعض سفراته على نُوّاب [الأمير الأيوبي] أسد الدين شيركوه (ت 564هـ/1169م) متاعا، غلط أصحابُه بمئتيْ دينار..، فعمِل حسابَه فوجد الغلط فحمل الذهب إليهم، فجَزَوْه خيراً وشكروه"!!
ثروات العلماء التجار.. %D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%AE-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%8A-%D8%AA%D8%B1%D8%A7%D8%AB-3-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D8%B2%D9%8A%D8%B1%D8%A9خدمة معرفية
ووصف ابنُ أبي أصَيْبِعة (ت 668هـ/1270م) -في ‘عيون الأنباء في طبقات الأطباء‘- الطبيب جمال الدين بن الرَّحْبي (ت 658هـ/1260م) بأنه "هو الحكيم الأجل العالم الفاضل..، اشتغل بصناعة الطب على والده وعلى غيره وأتقنها إتقانا لا مزيد عليه، وكان حسن المعالجة جيد المداواة، وخدم في البيمارستان الكبير [النوري بدمشق]..، وكان يحب التجارة ويعانيها ويسافر بها في بعض الأوقات إلى مصر ويأتي من مصر بتجارة".

لم تنحصر أهمية التجارة في كونها مقوِّما حيويا لاستقلالية العلماء في مواقفهم وآرائهم، ولا في اعتبارها موردا لاستمرارية عطائهم العلمي؛ بل كانت لها مهمة أخرى لا تقل مركزية عن ذلك إن لم تَفُقْهُ، ألا وهي دَورها في نقل المعارف والعلوم والآراء والمذاهب، وانتشار الكتب والدواوين والمصنفات، من قُطر إلى آخر عبر امتداد الرقعة الجغرافية الإسلامية المترامية.
فقد ساهم التجار -عموما وخاصةً العلماء وتجار الكتب منهم بالذات- في تناقل المؤلفات أو رواياتها المُسنَدَة بين البلدان البعيدة؛ حتى إن الباحثة كونستَبل توصلت -في دراستها السابقة- إلى وجود "وفْرة نسبية من المعلومات عن سيرة العلماء التجار القادمين إلى إسبانيا الإسلامية بين السنوات 414ـ432هـ/1023ـ1041م، فيذكر ابن بَشْكُوال (الأندلسي ت 578هـ/1181م) أسماء اثنين وعشرين من العلماء التجار خلالها..، [لكن] المعلومات عن العلماء التجار المشارقة تصبح نادرة بشكل فُجائي بعد أواسط القرن الخامس الهجري/الحادي عشر الميلادي..، وربما يجب أن يُعزى تناقص أنشطة العلماء التجار إلى أسباب غير تجارية"، من أهمها الاضطراب السياسي الذي كان يعصف بالأندلس خلال حقبة توزع البلاد بين أنظمة "ملوك الطوائف".
ويقول ابن أبي أصيبعة في ترجمته للطبيب الأندلسي الكبير أبي العلاء بن زُهر (ت 525هـ/1131م) إنه "في زمانه وصل كتاب ‘القانون‘ لابن سينا (ت 428هـ/1038م) إلى المغرب..، [وذلك] أن رجلا من التجار جلب من العراق إلى الأندلس نسخة من هذا الكتاب قد بولغ في تحسينها، فأتحف بها لأبي العلاء بن زهر تقرُّباً إليه -ولم يكن هذا الكتاب وقع إليه قبل ذلك- فلما تأمله ذمَّه واطَّرَحه"!
وثمة تجّار كانوا يجلبون كتب دقائق العلوم النادرة من بلاد العجم من فارس إلى آسيا الوسطى؛ فقد جاء -في ‘عيون الأنباء‘- أنه "لما كان في سنة اثنتين وثلاثين وستمئة (= 1235م) وصل إلى دمشق تاجر من بلاد العجم، ومعه نسخة من شرح ابن أبي صادق (النيسابوري ت نحو 470هـ/1077م) لكتاب ‘منافع الأعضاء‘ لجالينوس (ت 216م)، وهي صحيحة معقولة من خط المصنف، ولم يكن قبل ذلك منها نسخة في الشام؛ فحملها أبي فكتب إليه [الطبيب البارع] عز الدين بن السويدي (ت 689هـ/1291م) قصيدةً مديحاً..، منها يقول:
وامْنُنْ فأنت أخو المكارم والعُلى ** بكتاب ‘شرح منافع الأعضاءِ‘
وإعارةُ الكتُبِ الغــــربية لم تَزَلْ ** من عادة العــلـماءِ والفُـضلاءِ
فبعث إليه الكتاب وهو في جزءين؛ فنقل منه نسخة في الغاية من حسن الخط وجودة النقط والضبط"!

وكان من الآثار الطريفة لظاهرة العلماء التجار الرحالين أن أحدهم أحيانا يغلب عليه اسم بلد يُكْثر زيارته للتجارة، أو يطيل المقام به حتى يُنسب إليه وينسى نسبته إلى بلده الأصلي؛ ومن هؤلاء: سعد الخير الأندلسي المتقدم الذي لقب نفسه "الصيني"، وأحمد بن عيسى المصري المعروف بالتُّسْتَري (ت 243هـ/857م) لأنه "كان يتّجر إلى تُسْتَر (تقع اليوم غربي إيران) فعُرف بذلك" رغم كونه مصري الموطن؛ وفقا للخطيب البغدادي في ‘تاريخ بغداد‘.
ثروات العلماء التجار.. %D8%B5%D9%88%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%AE-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%8A-%D8%AA%D8%B1%D8%A7%D8%AB-%D8%A5%D8%B3%D9%87%D8%A7%D9%85%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%88%D8%AF-10هبات سخية
حرص كثيرٌ من التجار الصالحين على كفالة العلم والعلماء، دون أيّ تدخل منهم في لُبّ المسألة العلمية، لأنهم أولاً ليسوا على دراية بها، وثانياً اعتبروا الإنفاق على العلم والعلماء نوعا من الجهاد والعبادة، مثلها مثل الوقف الذي كان يفعله بعض التجار في مجالات العلم وخدمة المجتمع. وهذا الإنفاق على العلم والعلماء شبيه به ما يتمّ اليوم في المجتمعات الناهضة من إنفاق رجال المال والأعمال على البحوث العلمية، في حقول صناعة الدواء والاختراعات التقنية والحدّ من تلوث البيئة وغيرها.

لكن هذا لا يمنع أنه وُجد تجار وأرباب مال أرادوا استذلال العلماء، بغية إضفاء الشرعية عليهم، فصاحب المال -كصاحب السلطة السياسية- يرى أحيانا أنّه حين يكون عالم الدين بجواره يمنحه ذلك شرعية لأفعاله ومكانة بين الناس. ولذا يحذِّرُ ابنُ الجوزي العلماءَ من فئة التجار التي تطمع في استقطاب العلماء لاستنطاقهم بما يخالف الشرع، فيقول -في ‘صيد الخاطر‘- عن أحد أغنياء عصره إنه "استعبد كثيراً من العلماء بمعروفه"!
أما بالنسبة لأرباب المال ممن أنفقوا على العلم والجماعة العلمية فهم نوعان: تجار علماء وتجار من عامة الناس؛ ويأتي في مقدمة الصنف الأول الإمام عبد الله بن المبارك الذي يذكر الذهبي -في ‘تاريخ الإسلام‘- أنه "كان يتَّجر في البَزِّ (= بائع البَزّ: الثياب)، وكان يقول: لولا خمسة ما تَجَرْتُ، فقيل له: يا أبا محمد! مَن الخمسة؟ فقال: سفيان الثوري، وسفيان بن عيينة (ت 198هـ/813م)، والفُضيل بن عياض (ت 187هـ/803م)، ومحمد بن السماك (الكوفي ت 183هـ/899م)، و[إسماعيل] ابن عُلَيَّة (ت 193هـ/809م)، قال: وكان يخرج فيتَّجر إلى خراسان، فكلما ربح من شيء أخذ القوت للعيال ونفقة الحج، والباقي يصل به إخوانه الخمسة"!
ومن هؤلاء أيضا الإمام الليث بن سعد؛ فالنووي يحدثنا -في ‘شرح مسلم‘- بأنه "لما قدم الليث [من مصر حاجًّا] أهدى له مالك (بن أنس ت 179هـ/795م) من طُرَفِ (= هدايا) المدينة، فبعث إليه الليث ألف دينار، وكان الليث مفتي أهل مصر في زمانه"! وعند الذهبي -في ‘السير‘- أنه "كان.. يصل مالكا بمئة دينار في السنة..، وأعطى.. ابنَ لَهيعة (ت 174هـ/790م) ألف دينار..، وأعطى منصور بن عمار (ت 225هـ/839م) الواعظ ألف دينار".
ومن فئة تجار العامة التي بسطت رعايتها المالية على العلماء؛ إدريس العدل (ت 303هـ/915م) الذي يقول الطبري -في تاريخه- إنه "كان أمرُه قد علا في التجارة والمكانة عند السلطان، وكان.. يقول: يلزمني كل سنة في الحج نفقةً -غير ما أصرفه في أبواب البر- خمسةُ آلاف دينار (= اليوم مليون دولار أميركي تقريبا)".
ثروات العلماء التجار.. %D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%AE-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D9%88%D8%B9%D8%B8-4-%D8%AA%D8%B1%D8%A7%D8%AB-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D8%B2%D9%8A%D8%B1%D8%A9
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75523
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

ثروات العلماء التجار.. Empty
مُساهمةموضوع: رد: ثروات العلماء التجار..   ثروات العلماء التجار.. Emptyالثلاثاء 16 يوليو 2024, 8:45 am

صدقات وأوقاف
وكانت في تجارة الإمام دَعْلَج السجستاني السابق ذكره نصيب وافر لرعاية العلم وأهله؛ فقد قرر -وفقا للذهبي- "صدقاتٍ جاريةً على أهل الحديث بمكة وببغداد وسجستان (تقع اليوم بإيران)". ويذكر ابن كثير (ت 774هـ/1373م) -في ‘البداية والنهاية‘- أنه "كان من ذوي اليسار والمشهورين بالبر والإفضال، وله صدقاتٌ جارية وأوقاف دارَّة دائرة على أهل الحديث ببغداد وسجستان..، وقد أنفق في ذوي العلم والحاجات أموالا جزيلة كثيرة جدا".

ومن قصص بـِرِّ دَعْلَج بالعلماء أن الإمام أبا عمر بن حَيُّويَهْ الشافعي (ت 366هـ/977م) قال: "أدخلني دَعْلَج بن أحمد دارَه، وأراني بِدَرًا (= جمع بَدْرَة: كِيس نقود) من المال معبَّأة، فقال لي: خذ منها ما شئت! فشكرته، وقلت: أنا في كفاية"!!
ومن العلماء التجار الكبار الذين كان لهم فضل على زملائهم في العلم؛ الإمامُ المحدّث ابنُ رِيذَة الأصبهاني (ت 440هـ/1049م) الذي يصفه الذهبي بأنه "الشيخ العالم الأديب الرئيس مسند العصر.. التّانِي (= صاحب المال والعقار) التاجر..، كان أحد الوجوه (= الأعيان) ثقة أمينا وافر العقل، كامل الفضل مُكْرِماً لأهل العلم".
وجاء في ‘سلك الدرر‘ لأبي الفضل المرادي (ت 1206هـ/1791م) أن "عمر بن إبراهيم.. السفرجلاني الدمشقي الشافعي (ت 1112هـ/ 1700م) –[وهو] أحد التجار المشاهير بدمشق وأصحاب الثروة- كان ذا وجاهة ومال زائد، وله يد طائلة في فعل الخيرات ومسارعة إلى صنائع المعروف والمَبَرَّات، بنى في دمشق أربعة مساجد..، وكان مشهوراً بفعل الخير".
ومن التجار الكبار الذين رعوا ماليا أئمة العلماء وتكفلوا بمتطلبات استقلاليتهم العلمية وتفرغهم لرسالتهم المجتمعية؛ أبو منصور ابن يوسف (ت 460هـ/1068م) الذي كان تاجرا كبيرا حنبليَّ المذهبِ ومستشارا للخليفة العباسي القائم بأمر الله (ت 467هـ/1075م)، وهو الذي احتضن الإمام ابنَ عقيل الحنبلي (ت 513هـ/1119م) وهو لا يزال في مقتبل حياته العلمية وأمَّن له المساندة المالية والسياسية والمذهبية حتى أخذ مكانه في المشهد العلمي البغدادي.
ثروات العلماء التجار.. 1372x1030-53
رعاية المواهب
وقد جعلت هذه المساندة ابنَ عقيل يقول -في كتابه ‘الفنون‘- عن أبي منصور هذا: "لم أشهد مَنْ سلَكَ طريقةً في الجود والإحسان بحسب أحوال الزمان -من غير سؤال ولا تعريض لطلب نوال- إلا الشيخ الأجلّ السعيد أبو منصور بن يوسف، وظهير دولة [الخليفة] المستظهر بالله (ت 414هـ/1024م) إمام المسلمين: [التاجر] أبي طاهر يوسف (ت 512هـ/1118م)".

ويقدم لنا ابنُ عقيل صورة عن إنفاق هذين الرجلين التاجرين اللذين كانا من أبرز رعاة العلم والعلماء في عصرهما؛ ووفقا لشهادته "فإنّ الأول (= أبو منصور) كانت مبارُّه (= صدقاته) أيامَ الأنداء والأمطار بالأحطاب والأدهان والدِّثار، وله على ذلك أصحاب أخبار (= مخبرون يتحسسون له حاجات الناس)؛ وفي شهر الصيام بالأطعمة للإفطار، وفي الأعياد لكلّ عيد ما يليق من الكِسْوات، مع الفطرة للفطر والحيوان للأضحى". وأما التاجر أبو طاهر يوسف فـ"إن أطلّ [حدَثٌ] مُلَمٌّ واسى، وإن هجم مرض آسى، وإن أطلّ شهر صيام فتح بابه، وكشف حجابه للإفطار على طعامه، وأنفذ إلى ذوي التجمل (= التعفف) ما يكفيهم وعيالهم من أطايب طعامه"!
وهذه الخلال الجميلة كانت من هذين التاجرين للجميع وليس لابن عقيل وحده؛ أما ما اختصّا به ابنَ عقيل فيبينه لنا بقوله: "وعن نفسي أقول: الأول (= أبو منصور) ربّاني وآواني إلى أن صلحتُ للحلقة [التعليمية] فصدّوني (= بعض الحنابلة)، وقام بمئونة حلقتي [بجامع المنصور ببغداد] حتى الحُصُر والخِلْعة (= الثياب) الجميلة وتعهُّد الأصحاب (= الطلاب)، هذا وأنا ابن نيّف وعشرين! فلمّا تنيّفت (= زدت) على السبعين وناهزت الثمانين قام بأموري.. أبو طاهر يوسف..؛ [فـ]ـمهما دعوتُ الله وأحببتُ في دين الله، ونفيْتُ البدع عن شريعة محمد بن عبد الله ﷺ، فهو في ميزانهما".
ومن مشاهير التجار المصريين الذين اعتنوا بالعلماء: نور الدين علي بن عبد العزيز الخروبي (ت 802هـ/1399م) "التاجر الكارمي"، نسبة إلى تجارة "الكارم" وهي البهارات الهندية؛ فقد رعى هذا التاجرُ الكبيرُ الحافظَ ابنَ حجر (ت 852/1449م) وهو في بدايات طلبه العلم، فأسدى بذلك لاحقا خدمةً عظيمة للعلوم الإسلامية.
ويحدثنا عن ذلك ابن حجر نفسه -في ‘إنباء الغُمر‘- فيقول إن الخَرُّوبي "كان من أعيان التجار بمصر..، وكان ذا مروءة وخير.. ديِّناً متصوِّناً..، وكان والدي قد تزوج أخته..، فكانت بيننا مودة أكيدة، وكان بي بَرًّا محسنا شفوقا، جزاه الله خيرا". ويكمل لنا تلميذه السخاوي (ت 902هـ/1497م) الصورة -في ‘الضوء اللامع‘- فيذكر أن الخروبي هذا "كان هو وأبوه وجده من أكابر تجار مصر..، وهو آخر تجار مصر من الخراربة، وخلَّف مالا كثيرا"!!
هذا وكان بعض العلماء يتعفف -رغم ضيق حاله- عن قبول ما يعرضه عليه التجار المحسنون من مساعدات مالية؛ فقد نقل ابن كثير عن عبد الله بن الإمام أحمد (ت 290هـ/903م) قوله واصفا حال عائلتهم أيام محنة القول بخلق القرآن: "كنا في زمن [الخليفة] الواثق (ت 232هـ/847م) في ضيق شديد؛ فكتب رجل إلى أبي: إن عندي أربعة آلاف درهم (= اليوم 8000 دولار أميركي تقريبا) ورثتُها من أبي وليست صدقة ولا زكاة، فإن رأيت أن تقبلها؟ فامتنع من ذلك، وكرّر عليه فأبى..، وعرض عليه بعضُ التجار عشرة آلاف درهم رَبِحَها من بضاعة جعلها باسمه، فأبى أن يقبلها وقال: نحن في كفاية وجزاك الله عن قصدك خيرا. وعرض عليه تاجر آخر ثلاثة آلاف دينار (= اليوم 600 ألف دولار أميركي تقريبا) فامتنع من قبولها وقام وتركه"!!








تحميل كتاب سير أعلام النبلاء ط بيت الأفكار Pdf
ثروات العلماء التجار.. 4856fdd84c334edc098d701962324d23.jpg



وصف الكتاب

هو كتاب تراجم عام اختصره المؤلف من كتابه الكبير " تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام " المعروف بتاريخ الإسلام
والكتاب مرتب على التراجم بحسب الوفيات ابتداء من الصحابة إلى نهاية القرن السابع الهجري ، وأفرد الجزء الأول والثاني للسيرة النبوية وسير الخلفاء الراشدين ، ولم يضعهما في كتابه " سير أعلام النبلاء ، وإنما أحال بهما على كتابه " تاريخ الإسلام " ، وجاء الناسخ ابن طوفان فلم يستنسخ المجلدين الأول والثاني ، وبدأ الجزء الأول من " سير أعلام النبلاء " بترجمة العشرة المبشرين بالجنة .
ونظم المؤلف كتابه على الطبقات ، فجعله في أربعين طبقة تقريبا ، على أسلوب كتب التراجم الإسلامية ، وأن كل طبقة تعني جيلا كاملا ، وجاءت وفيات التراجم للطبقة الواحدة في الكتاب متداخلة بين طبقة وأخرى ، مع التباين الكبير في المدة الزمنية التي تستغرقها كل طبقة ...
وهذا كتاب مهم وعظيم ، يعمد المؤلف فيه إلى البيان الكامل لاسم صاحب الترجمة ، ونسبه ومكانته ، وقيمته العلمية ، ومولده ، ونشأته ، وعلمه ، وشيوخه ، وتلامذته ، وتاريخ المولد والوفاة



شمس الدين الذهبي


المؤلف كتاب سير أعلام النبلاء ط بيت الأفكار والمؤلف لـ 189 كتب أخرى.
شمس الدّين الذَّهَبِيّ (673 هـ - 748 هـ / 1274م - 1348م) هو ُمحدث وإمام حافظ. جمع بين ميزتين لم يجتمعا إلا للأفذاذ القلائل في تاريخنا، فهو يجمع إلى جانب الإحاطة الواسعة بالتاريخ الإسلامي حوادث ورجالاً، المعرفة الواسعة بقواعد الجرح والتعديل للرجال، فكان وحده مدرسة قائمة بذاتها. والإمام الذهبي من العلماء الذين دخلوا ميدان التاريخ من باب الحديث النبوي وعلومه، وظهر ذلك في عنايته الفائقة بالتراجم التي صارت أساس كثير من كتبه ومحور تفكيره التاريخي، وقيل أن سُمي الإمام الذهبي بالذهبي لأنه كان يزن الرجال كما يزن الجوهرجي الذهب.

سمع بدمشق، ومصر، وبعلبك، والإسكندرية. وسمع منه الجمع الكثير، وكان شديد الميل إلى رأي الحنابلة، وله تصانيف في الحديث، وأسماء الرجال؛ قرأ القرآن، وأقرأه بالروايات، وقد بلغت مؤلفاته التاريخية وحدها نحو مائتي كتابًا، بعضها مجلدات ضخمة.

المولد والنشأة
ولد أبو عبد الله شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز الذهبي في كفر بطنا قرب مدينة دمشق في 3 ربيع الآخر 673 هـ الموافق لشهر أكتوبر 1274م. نشأ في أسرة كريمة تركية الأصل كانت تسكن دمشق ، ثم سكنت مدينة ميافارقين من أشهر مدن ديار بكر، ويبدو أن جد أبيه قايماز قضى حياته فيها. يعمل والده في صناعة الذهب، فبرع فيه وتميز حتى عُرف بالذهبي ، وكان رجلا صالحًا محبًا للعلم، فعني بتربية ولده وتنشئته على حب العلم. وكان كثير من أفراد عائلته لهم انشغال بالعلم، فشب الوليد يتنسم عبق العلم في كل ركن عمته ست الأهل بنت عثمان لها رواية في الحديث، وخاله علي بن سنجر، وزوج خالته من أهل الحديث.

وفي سن مبكرة انضم إلى حلقات تحفيظ القرآن الكريم حتى حفظه وأتقن تلاوته. ثم اتجهت عنايته لما بلغ مبلغ الشباب إلى تعلم القراءات وهو في الثامنة عشرة من عمره، فتتلمذ على شيوخ الإقراء في زمانهِ كالعسقلاني المتوفى سنة 692 هـ /1292م، والشيخ جمال الدين أبي إسحاق إبراهيم بن غال المتوفى سنة 708 هـ /1308م، وقرأ عليهما القرآن بالقراءات السبع، وقرأ على غيرهما من أهل هذا العلم حتى أتقن القراءات وأصولها ومسائلها. وبلغ من إتقانه لهذا الفن وهو في هذهِ السن المبكرة أن تنازل لهُ شيخه محمد عبد العزيز الدمياطي عن حلقتهِ في الجامع الأموي حين اشتد بهِ المرض.

في الوقت الذي كان يتلقى فيه القراءات مال الذهبي إلى سماع الحديث الذي ملك عليهِ نفسه، فاتجه إليه، واستغرق وقته، ولازم شيوخه، وبدأ رحلته الطويلة في طلبه.

رحلات الإمام الذهبي وأخذه عن شيوخ عصره
كانت رحلاته الأولى داخل البلاد الشامية، فنزل بعلبك سنة 693 هـ/ 1293م، وروى عن شيوخها، ثم رحل إلى حلب وحماة وطرابلس والكرك ونابلس والرملة والقدس، ثم رحل إلى مصر سنة 695 هـ /1295م، وسمع من شيوخها الكبار، على رأسهم ابن دقيق العيد المتوفى سنة 702 هـ/ 1302م وبدر الدين ابن جماعة المتوفى سنة 733 هـ، وذهب إلى الإسكندرية فسمع من شيوخها، وقرأ على بعض قرائها المتقنين القرآن بروايتي ورش وحفص، ثم عاد إلى دمشق.

وفي سنة 698 هـ/ 1298م رحل الإمام الذهبي إلى الحجاز لأداء فريضة الحج، وكان يرافقه في هذه الرحلة جمع من شيوخه وأقرانه، وانتهز فرصة وجوده هناك فسمع الحديث من شيوخ مكة والمدينة.

رغم أن تركيز الإمام الذهبي الرئيسي انصبّ على الحديث، فقد درس النحو والعربية على الشيخ ابن أبي العلاء النصيبي، وبهاء الدين بن النحاس إمام أهل الأدب في مصر، واهتم كذلك بدراسة المغازي والسير والتراجم والتاريخ العام.

في الوقت نفسه اتصل بثلاثة من شيوخ العصر وترافق معهم، وهم:

شيخ الإسلام ابن تيمية (661 هـ -728 هـ).
جمال الدين أبي الحجاج المزي (654 هـ - 739 هـ).
القاسم البرزالي المزداد (665 هـ/ 1267م - 739 هـ /1339م).
وقد جمع بين هؤلاء الأعلام طلب الحديث، وميلهم إلى آراء الحنابلة، ودفاعهم عن مذهبهم. ويذكر الإمام الذهبي أن البرزالي هو الذي حبب إليه طلب الحديث.

نشاطه العلمي
بعد أن أنهى الإمام الذهبي رحلاته في طلب العلم والاخذ عن ما يزيد عن الألف من العلماء، اتجه إلى التدريس وعقد حلقات العلم لتلاميذه، وانغمس في التأليف والتصنيف، وبدأت حياته العلمية في قرية «كفر بطنا» بغوطة دمشق حيث تولى الخطابة في مسجدها سنة 703 هـ / 1303م وظل مقيمًا بها إلى سنة 718 هـ/1318م. وفي هذه القرية ألف الإمام الذهبي خيرة كتبه. وتعد الفترة التي قضاها بها هي أخصب فترات حياته إنتاجًا، ثم تولى مشيخة دار الحديث بتربة أم صالح، وكانت هذه الدار من كبريات دور الحديث بدمشق، تولاها سنة 718 هـ/1318م بعد وفاة شيخها كمال الدين بن الشريشي، واتخذها سكنًا له حتى وفاته، ثم أضيفت إليه مشيخة دار الحديث الظاهرية سنة 729 هـ /1228م، ومشيخة المدرسة النفيسية سنة 739 هـ /1338م، بعد وفاة البرزالي، ومشيخة دار الحديث والقرآن التنكزية في السنة نفسها.

أتاحت له هذه المدارس أن يدرس عليه عدد كبير من طلبة العلم، ووفد عليه لتلقي العلم كثيرون من أنحاء العالم الإسلامي بعد أن اتسعت شهرته وانتشرت مؤلفاته، ورسخت مكانته لمعرفته الواسعة بالحديث وعلومه والتاريخ وفنونه، فكان مدرسة قائمة بذاتها، تخرج فيها كبار الحفاظ والمحدثين. وتزخر كتب القرن الثامن الهجري بمئات من تلاميذ الذهبي النجباء، وحسبه أن يكون من بينهم: الحافظ ابن كثير وعبد الوهّاب السبكي صاحب طبقات الشافعية الكبرى، وصلاح الدين الصفدي، وابن رجب الحنبلي وغيرهم.

مؤلفاته
ترك الإمام الذهبي إنتاجًا غزيرًا من المؤلفات بلغ أكثر من مائتي كتاب، شملت كثيرًا من ميادين الثقافة الإسلامية، فتناولت القراءات والحديث ومصطلحه، والفقه وأصوله والعقائد والرقائق، غير أن معظم مؤلفاته في علوم التاريخ وفروعه، ما بين مطول ومختصَر ومعاجم وسير.

وثلث هذا العدد مختصرات كتبها الإمام الذهبي لأمهات الكتب التاريخية المؤلفة قبله، فاختصر تاريخ بغداد للخطيب البغدادي، وتاريخ دمشق لابن عساكر، وتاريخ نيسابور لأبي عبد الله الحاكم النيسابوري، وتاريخ مصر لابن يونس، وكتاب الروضتين في أخبار الدولتين لأبي شامة، والتكملة لوفيات النقلة للمنذري، وأسد الغابة لابن الأثير. وقد حصر شاكر مصطفى الكتب التي اختصرها الذهبي في 367 عملا.

وإلى جانب هذه المختصرات لهُ كتب في التاريخ والتراجم وإليك بعضها مرتبة على تاريخ تأليفها:

تاريخ الإسلام، فرغ من إخراجه الأول سنة 714 هـ وبيض المئة الثانية منه أو قسماً منها سنة 726 هـ.
العبر في خبر من عبر، فرغ منه سنة 715 هـ.
معرفة القراء الكبار على الطبقات والأعصار، ألفه بين سنة 716- 718 هـ.
تذهيب تهذيب الكمال، فرغ منه سنة 719 هـ.
أسماء من عاش ثمانين سنة بعد شيخه أو بعد تاريخ سماعه، فرغ نحو سنة 719 أو 720 هـ.
الكاشف في معرفة من له رواية في الكتب الستة، فرغ منه سنة 720 هـ.
المغني في الضعفاء، فرغ منه سنة 720 هـ.
ميزان الاعتدال في نقد الرجال، فرغ منه سنة 724 هـ.
الرواة الثقات المتكلم فيهم بما لا يوجب ردهم، فرغ منه بعد سنة 724 هـ.
معجم الشيوخ (المعجم الكبير)، فرغ منه سنة 727 هـ.
أهل المئة فصاعداً، فرغ منه سنة 728 هـ.
المعجم المختص بالمحدثين، فرغ منه سنة 731 هـ.
تذكرة الحفاظ، ألفه بين سنة 731- 732 هـ.
سير أعلام النبلاء، فرغ منه سنة 739 هـ.

وله أيضاً:

المعين في طبقات المحدثين

ديوان الضعفاء والمتروكين

المشتبه في أسماء الرجال

دول الإسلام

الطب النبوي

أشهر مؤلفاته
أشهر كتبه كتابان هما:

أولهما: تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام
وهو أكبر كتب الإمام الذهبي وأشهرها، تناول فيهِ تاريخ الإسلام من الهجرة النبوية حتى سنة 700 هـ/ 1300م، وهي فترة مدتها سبعة قرون، رغم تناول البعض التاريخ البشري كاملا كالحافظ ابن كثير في كتابهِ البداية والنهاية، والنويري في كتابهِ نهاية الأرب في فنون الأدب ولكن اتساع النطاق المكاني الذي شمل العالم الإسلامي بأسرهِ ميزه بالإضافة إلى أسبقيتة على تلامدته كابن كثير. وتضمن هذا العمل الفذ الحوادث الرئيسية التي مرت بالعالم الإسلامي، وتعاقب الدول والممالك، مع تراجم للمشهورين في كل ناحية من نواحي الحياة دون اقتصار على فئة دون أخرى، ويبلغ عدد من ترجم لهم في هذا الكتاب الضخم أربعين ألف شخصية، وهو ما لم يتحقق في أي كتاب غيره.

وأبدع الإمام الذهبي في انتهاج الأسلوب الخبري وهو ليس من الأساليب المتبعة سابقا حيث قال في مقدمة كتابهِ:

شمس الدين الذهبي أما بعد فهذا كتاب نافع إن شاء الله، ونعوذ بالله من علم لا ينفع ومن دعاء لا يسمع، جمعته وتعبت عليه واستخرجته من عدّة تصانيف، يعرف به الإنسان مهمّ ما مضى من التاريخ، من أوّل تاريخ الإسلام إلى عصرنا هذا من وفيات الكبار من الخلفاء والقراء والزهاد والفقهاء والمحدّثين والعلماء والسّلاطين والوزراء والنّحاة والشّعراء، ومعرفة طبقاتهم وأوقاتهم وشيوخهم وبعض أخبارهم بأخصر عبارة وألخص لفظ، وما تمّ من الفتوحات المشهورة والملاحم المذكورة والعجائب المسطورة، من غير تطويل ولا استيعاب، ولكن أذكر المشهورين ومن يشبههم، وأترك المجهولين ومن يشبههم، وأشير إلى الوقائع الكبار، إذ لو استوعبت التراجم والوقائع لبلغ الكتاب مائة مجلّدة بل أكثر، لأنّ فيه مائة نفس يمكنني أن أذكر أحوالهم في خمسين مجلّداً. شمس الدين الذهبي

وقد ارجع الإمام الذهبي الفضل إلى أصحابه فذكر المراجع التي رجع إليها ونهل منها حيث قال في مقدمة الكتاب:

شمس الدين الذهبي وقد طالعت على هذا التأليف من الكتب مصنّفات كثيرةً، ومادّته من: دلائل النبوة للبيهقي، وسيرة النّبيّ صل الله عليه وسلم لابن إسحاق، ومغازيه لابن عائذ الكاتب، والطبقات الكبرى لمحمد بن سعد كاتب الواقدي، وتاريخ أبي عبد الله البخاري، وبعض تاريخ أبي بكر أحمد بن أبي خيثمة، وتاريخ يعقوب الفسوي، وتاريخ محمد بن المثنى العنزي وهو صغير، وتاريخ أبي حفص الفلاس، وتاريخ أبي بكر بن أبي شيبة، وتاريخ الواقدي، وتاريخ الهيثم بن عدي، وتاريخ خليفة بن خياط، والطبقات له، وتاريخ أبي زرعة الدمشقي، والفتوح لسيف بن عمر، وكتاب النسب للزّبير بن بكّار، والمسند للإمام أحمد، وتاريخ المفضل بن غسان الغلابي، والجرح والتعديل عن يحيى بن معين، والجرح والتعديل لعبد الرحمن بن أبي حاتم. ومن عليه رمز فهو في الكتب الستة أو بعضها، لأنّني طالعت مسودّة تهذيب الكمال لشيخنا الحافظ أبي الحجّاج يوسف المزي, وقد طالعت أيضاً عليه من التواريخ التي اختصرتها: تاريخ أبي عبد الله الحاكم، وتاريخ أبي سعيد بن يونس، وتاريخ أبي بكر الخطيب، وتاريخ دمشق لأبي القاسم الحافظ، وتاريخ أبي سعد بن السمعاني، والأنساب له، وتاريخ القاضي شمس الدين بن خلكان، وتاريخ العلاّمة شهاب الدين أبي شامة، وتاريخ الشيخ قطب الدين بن اليونيني، وتاريخه ذيل على تاريخ مرآة الزمان للواعظ شمس الدين يوسف سبط ابن الجوزي وهما على الحوادث والسّنين. وطالعت أيضاً كثيراً من: تاريخ الطبري، وتاريخ ابن الأثير، وتاريخ ابن الفرضي، وصلته لابن بشكوال، وتكملتها لابن الأبار، والكامل لابن عدي، وكتباً كثيرة وأجزاء عديدة، وكثيراً من: مرآة الزمان. شمس الدين الذهبي

ويتميز الكتاب باحتوائه مادة واسعة في التاريخ السياسي والإداري والأحوال الاقتصادية للدولة الإسلامية، انتقاها من مصادر كثيرة ضاع معظمها فلم تصل إلى أيدينا.

ويصور الكتاب الحياة الفكرية في العالم الإسلامي وتطورها على مدى سبعة قرون، ويبرز المراكز الإسلامية ودورها في إشعاع الفكر ومساعدة الناس، وذلك من خلال حركة العلماء وانتقالهم بين حواضر العلم المعروفة وغير المعروفة، واتساع الحركة في وقت دون آخر؛ الأمر الذي يظهر مدى ازدهار المراكز الثقافية أو خمول نشاطها.

ويبين الكتاب من خلال ترجمته لآلاف العلماء وعلى مدى القرون الطويلة التي تعرض لها اتجاهات الثقافة الإسلامية وعناية العلماء بعلوم معينة، ويكشف عن طرائقهم في التدريس والإملاء والمناظرة، ودور المدارس في نشر العلم والمذاهب الفقهية في أنحاء العالم الإسلامي. وأسلوب الإمام الذهبي في تأليف هذا الكتاب تبعه فيه الكثيرون ولعل من المتاخرين منهم الجبرتي في كتابهِ عجائب الآثار في التراجم والأخبار، حيث وضح تأثره بالأسلوب الخبري في الرواية.

ثانيهما: سير أعلام النبلاء
وهذا الكتاب هو ثاني أضخم أعمال الإمام الذهبي بعد كتابه تاريخ الإسلام وهو كتاب عام للتراجم (وهي الكتب التي تهتم بذكر الأشخاص فقط وتاريخهم) التي سبقت عصره، وقد رتب تراجم على أساس الطبقات التي تعني فترة زمنية محددة، وقد جعلها عشر سنوات في كتابه تاريخ الإسلام فيذكر الحوادث سنة بعد سنة، ثم يذكر في نهاية الطبقة تراجم الوفيات من الأعلام مع الالتزام بترتيبها على حروف المعجم. في حين جعل الطبقة في سير أعلام النبلاء عشرين سنة، ومن ثم اشتمل الكتاب على خمس وثلاثين طبقة.

ولم يقتصر الإمام الذهبي في كتابه على نوع معين من الأعلام، بل شملت تراجم فئات كثيرة، من الخلفاء والملوك والسلاطين والأمراء والقادة والقضاة والفقهاء والمحدثين، واللغويين والنحاة، والأدباء والشعراء، والفلاسفة. غير أن عنايته بالمحدثين كانت أكثر، ولذا جاءت معظم تراجم من أهل العناية بالحديث النبوي دراية ورواية. كما اتسع كتابه ليشمل تراجم الأعلام من مختلف العالم الإسلامي، دون أن تكون له عناية بمنطقة دون أخرى، أو عصر دون آخر.

وقد عني الإمام الذهبي في كتبه بجرح وتعديل الرجال، طبقا لمنهج هذا العلم لتبيان أحوال رجال الحديث لمعرفة صحيح الحديث من سقيمه. وقد بلغ الذهبي مكانة مرموقة في هذا الفن، ويشهد على ذلك كتابه النفيس: ميزان الاعتدال. وهذا الأسلوب استعمله الإمام الذهبي في تراجم، حتى وإن كان أصحابها من غير أهل الحديث أو ممن لا علاقة لهم بالرواية، وهو من الأساليب التي تفرد بها الإمام الذهبي في تناول التراجم وهو ما أظهر تأثراً شديداً بيحى بن معين وعلي بن المديني إمامي الجرح والتعديل.

وامتلأ كتابه السير بكل أنواع النقد، فلم يقتصر على مجال واحد من مجالاته، فعني بنقد المترجمين، وبيان أحوالهم، وانتقاد الموارد التي نقل منها، ونبه إلى أوهام مؤلفها.

وقد غالى الإمام الذهبي في نقد بعض الرجال، وهو ما كان سببا لانتقادات بعض معاصريه له، مثل تلميذه عبد الوهاب السبكي.

ويجب الانتباه إلى أن كتاب سير أعلام النبلاء ليس مختصرًا لتاريخ الإسلام، وإن كانت كل التراجم الموجودة في السير سبق أن تناولها الإمام الذهبي في تاريخ الإسلام تقريبًا، فثمة فروق يلحظها المطالع للكتابين، فتراجم الصدر الأول في السير أغزر مادة من مثيلاتها في تاريخ الإسلام، كما أنه ضمّن السير مجموعة من الكتب التي أفردها لترجمة البارزين من أعلام الإسلام، مثل أبي حنيفة وأبي يوسف، وسعيد بن المسيب وابن حزم، وهذه المادة لا نظير لها في كتابه تاريخ الإسلام. ويبدأ الكتاب بسيرة للنبي محمد ثم الخلفاء الراشدين ثم تتمة العشرة المبشرين بالجنة وأعيان الصحابة فمن بعدهم وتنتهى بقليج قان ابن الملك المعز أيبك.

وفاته
تبوأ الإمام الذهبي مكانة مرموقة في عصره تجد صداها فيما ترك من مؤلفات عظيمة وفي شهادة معاصريه له. ولعل من أبلغ تلك الشهادات ما قاله تلميذه تاج الدين السبكي: «محدث العصر، اشتمل عصرنا على أربعة من الحفاظ، بينهم عموم وخصوص: المزي والبرزالي والذهبي والشيخ الوالد، لا خامس لهؤلاء في عصرهم. وأما أستاذنا أبو عبد الله فبصر لا نظير له، وكنز هو الملجأ إذا نزلت المعضلة، إمام الوجود حفظًا، وذهب العصر معنى ولفظًا، وشيخ الجرح والتعديل...»، وهذا الكلام ليس فيه مبالغة من تاج الدين السبكي، خاصة أنه كان من أكثر الناس انتقادًا لشيخه.

وظل الإمام الذهبي موفور النشاط يقوم بالتدريس في خمس مدارس للحديث في دمشق، ويواصل التأليف حتى كلّ بصره في أخر حياته، حتى فقد الإبصار تماماً، ومكث على هذا الحال حتى تُوفي ليلة الإثنين 3 ذو القعدة 748 هـ الموافق لـ 4 فبراير 1348م.

ذكر له ابن شاكر الكتبي ترجمة حسنة في كتابه فوات الوفيات.







رابط التحميل (PDF)



https://www.noor-book.com/book/internal_download/fd5f96c46bdae0424ec69
6dc3aba2b85311f15f3/1/ca772c21f7741d3c1a67f4f4d07bf256
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
 
ثروات العلماء التجار..
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
»  بين عيش الأحرار وعيش التجار
» بنغلاديش.. أرض البنغال التي نشر فيها التجار الإسلام
» ثروات زوجات الرؤساء المخلوعين
» 13% من ثروات العالم بأيدي 0.004 من الأثرياء
» حجم ثروات ابرز الموقوفين في السعوديه

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتدى الشنطي :: موسوعة البحوث والدراسات :: بحوث اجتماعيه-
انتقل الى: