ورقة من التاريخ
مرت المجتمعات العربية عبر تاريخها الطويل بتحولات وتغيرات كثيرة، صبغتها بعدة صبغات، فجعلت منها أشكالاً من صور متعددة ومتفاوتة، عبر تاريخها الممتد منذ عصر الجاهلية حتى عصرنا الحالي؛ ففي البداوة القاحلة، لم يقر لتلك المجتمعات قرار، وقضت جل وقتها في صراعات مستمرة، لم يكن على الكلأ والمرعى والماء – كما يُشاع – بل كان بسبب نعرات عصبية قد تلوح في ظاهرها تافهة، لكنها في باطنها دفاع عن كرامة أو عن عرض، وما قصص حرب البسوس وداحس والغبراء ببعيدة عن أذهاننا.
غير أنه من الحيف أن نتعامل مع المجتمع الجاهلي على أنه مجرد بؤرة صراع لم يُخلّف وراءه أنماطاً حضارية متماسكة، ولو بسيطة، فما الازدهار الأدبي للشِعر والخطابة في عهده إلا مظهر لتلك الحضارة التي لم تكتمل مقوماتها.
ثم غادرَنا العصر الجاهلي مخلفاً وراءه خصالاً عربية أصيلة لم يَجُدِ الزمانُ بمثلها لعصور طويلة لاحقة؛ فالكرم والفروسية ونجدة الملهوف وإعانة الضعيف وغيرها من الخصال الحميدة ما هي إلا ثمرات مجتمع جاهلي، ظلت في أذهان العرب يتغنّون بها في كل عصورهم اللاحقة..
الصبغة الجديدة
في منتصف القرن السابع الميلادي، أظل نورُ الرسالة المحمدية (الإسلام) العربَ، فأقام حضارة متماسكة مستفيداً مما عند العربي من الخصال التي تحدثنا عنها سابقاً، صابغاً لها بالبعد الديني، كي يخفف النعرات العصبية والحميّة الفارغة – التي لم تخمد بالرغم من وجود الإسلام - ومع ذلك، فقد صنع العرب متسلحين بذخيرة الإسلام حضارة عملاقة استطاعت أن تعبر الحدود، بل شملت أراضي ومناطق لم يكن يحلم العربي بامتلاكها، إذ قوّضت تلكم الحضارة حضارتين كانتا للعربي في الجاهلية عملاقتين يُرجى الاحتماء بهما والخوف منهما، هما حضارتا فارس والروم.
هذا المدد الجديد صبغ المجتمع العربي بصبغة لم يألفها، وهي صبغة الدين، التي أعطت للحضارة الوليدة تماسكها لقرون طويلة.
بذور الشقاق
بانتهاء الخلافة الراشدة، وبزوغ الدول المسمية بتسميات عرقية عصبية كالأموية والعباسية، بدت بذور التفكك السياسي في أحشاء تلك الحضارة الوليدة، وعادت هذه المسميات إلى تناحرها الجاهلي برغم وجود الدين، لأنه تحوّل إلى شعار رفعه السياسيون وخصومهم في صراعاتهم، تلك التي في حقيقتها تجتر أحقاد القبيلة، وإن صبغتها باسم الدين؛ فظهرت مسميات الحق الإلهي والتاريخي في الخلافة، وأفكار الجبرية والقدرية وغيرها، غير أن العصبية القبلية انتصرت في آخر المطاف، فأنشأت الدولة الأموية في 41هـ/661م، حتى إذا وَهَتْ عصبيتها ورثتها الدولة العباسية في 132هـ/750م، سائرة على خطاها، فاتسعت جغرافياً، ما ضم في جسد الدولة عناصر غير عربية، فامتزجت الدماء الأعجمية بالعربية، معطية بعداً ثقافياً آخرَ للحضارة العربية؛ إذ حمل مشعل الحضارة في تلك الفترة أناس غير عرب، بيد أنهم مسلمون، فالخوارزمي والغزالي والطوسي وأضرابهم كانوا معالم ذلك العصر، جنباً إلى جنب مع العنصر العربي الذي لم يكن بعيداً عن هذه الأجواء، علاوةً على بقاء عنصره العرقي على كرسي الخلافة.
ناهض العرب، تحت مسمى الدين في دول، والقومية في دول أخرى، الدول الاستعمارية الغاصبة، حتى كُتب لهم النجاح بتفاوت وتقارب وتباعد في الأزمنة
غير أن هذا لم يدم طويلاً، فمع تطاول عمر الدولة العباسية، ضَعُفَ حكامُها، الذين فتحوا الباب لمشاركة العناصر الأعجمية في تسيير دفة الحكم، فوَهَتْ العصبية القبلية العربية، ولم يعد الحاكم العربي على كرسي الخلافة إلا شكلاً، كل هذا أفضى بالوطن العربي/ الإسلامي إلى عصر الدويلات؛ حيث أصبح فيها على كل راية حاكم بأمر الله، أو بالأصح حاكم بأمره، فتقلّصت الدولة وتخلّصت الأقاليم البعيدة من قبضة الحكم الإسلامي السياسي – مع المحافظة على الإسلام – وتشرذمت الدويلات الإسلامية تحت مسميات أسرية كالأخشيدية والحمدانية والبويهية والسلجوقية وغيرها، لتصحو تلك الدويلات على جحافل المغول على أبواب بغداد في 656هـ/1258م، فتكون القشة التي قصمت ظهر البعير.
الترنّح
نهضت الأمة لترد العدوان، وكان الدين هو المحرك الذي حملها على الاتحاد - ولو ظاهرياً - وما أن تم دحر العدو في عين جالوت 658هـ/1260م، حتى عادت الأمة إلى تشرذمها من جديد، والغريب أنها صارت أكثر تشرذماً من ذي قبل، وفقد العنصر العربي مكانته (الشكلية) على كرسي الخلافة، فكان الإذعان للعنصر المملوكي، ومن بعده العثماني نتاج روح الدين، الذي أعطى لهؤلاء الحق أن يملكوا الأقاليم العربية، ونتيجة لذلك ظهرت الصيحات التي حاولت التخلص من هذا الاستبداد – كما كانت تسميه - إذ أظهرت الاستبداد العثماني غزواً، من دون أن يكون للدين في ذلك إلا الشعار، فشمل هذا الغزو العالم العربي، الذي تململ تحت نيره، فكانت الثورة العربية في سنة 1916م – بكل كواليسها – نقطة المواجهة، خصوصاً في ظروف الحرب العالمية الأولى آنذاك، التي رمت العالم العربي من ظالم غاشم إلى ظلوم غشوم، فسقطت الخلافة الإسلامية – الشكلية – في تركيا لتخلفها الدولُ الاستعمارية متقاسمةً دول الوطن العربي.
النهوض
ناهض العرب، تحت مسمى الدين في دول، والقومية في دول أخرى، الدول الاستعمارية الغاصبة، حتى كُتب لهم النجاح بتفاوت وتقارب وتباعد في الأزمنة، فخرج الاستعمار العسكري من الدول العربية، لكنه تركها في خواء من كل شيء تقريباً..
وفي منتصف القرن العشرين، تمكنت الدول الاستعمارية من زرع (إسرائيل) في فلسطين، على رغم أنوف العرب التائهين في خوائهم التاريخي والحضاري، يلهثون زاحفين للحصول على مقومات الحياة الدنيا في هذا العصر.
وعندما بدأ هذا الغول القديم (العرب) يستجمع قواه في مطلع السبعينيات، حال عدم الاستقرار السياسي والأنظمة البيروقراطية في أغلب الدول العربية من أن يتابع مسيرة النهوض، وأنهكت الصراعات الحزبية ما تبقى من ذلك الجسد المترهل، فتخلّف الوطن العربي عن مسيرة العلم الحديث، وكانت الفجوة الرقمية في اتساع رهيب، وأضافت راديكالية المتدينين المتعجرفة حول فهم الدين عبئاً جديداً على العالم العربي في مسيرة التخلف الحديث؟!
وثالثة الأثافي، ظهور صراعات العرب السياسية البينية كي تزيد الجروح إيلاماً، في حين لم تقصّر (إسرائيل) ولا عملاؤها العرب في مضاعفة الجروح، وهكذا أطل علينا القرن الحادي والعشرون الميلادي، ونحن خارج السرب الكوني على جميع الأصعدة..