في غيبوبة التفاهة
قال محمود درويش في قصيدة تختصر معنى السأم من الوجود: "لا شيء يعجبني" (ديوان "لا تعتذر عمّا فعلت" 2004). بأقلّ الكلام، استعار درويش في القصيدة، التي تحمل العنوان ذاته، شخصية عشوائية لمسافر في حافلة يمضي في رحلة إلى نقطة وصول مجهولة وحمّلها الوجع كلّه، فباح المسافر الحزين بأنّ لا شيء يعجبه (لا الراديو ولا صحف الصباح ولا القلاع على التلال)، ويضيف باستسلام مطلق: "أريد أن أبكي". واستدعى الشاعر أحزان غرباء من رفاق الطريق، في سياق القصيدة البديعة، من نماذج إنسانية مختلفة، استدعى أمّاً نام ابنُها في قبر مُعدّ لها رحل عنها من دون وداع، وشابّاً جامعياً غلبه اليأس (درس الأركيولوجيا من دون أن يجد الهُويّة في الحجارة)، وجنديّاً أثخنته الحروب، يجمعهم الإحساس المرير نفسه، غير أنّ راكب الحافلة، الذي نكأ الجراح، يقول للسائق العصبي: "أمّا أنا فقد تعبت من السفر.. فأنزلني هنا).
كتب درويش ذلك في زمن أقلّ وطأة بملامح وبأوجاع مختلفة، رغم ثقلها على الروح المُتعبة، غير أنّها مقارنة بما نَمرُّ به من أهوالٍ في لحظتنا الراهنة هذه، تبدو أقلّ قسوة وإيلاماً. في ذلك الزمن، غير البعيد، لم نكن قد تخلّينا عن إنسانيتنا بعد، بل أتقنّا مهارة التضامن مع عذابات الآخرين، وكانت فلسطين قضيتنا الأولى وجرحنا الغائر، حينها، أثّرت بنا القصائد، وأبكتنا الصورة الحزينة، وأثارت غضبنا نشرات الأخبار وبرامج الحوارات السياسية. باختصار، اكترثنا بما يدور حولنا، وتمسّكنا بأحلام الخلاص والحرّية والعدل، ولم نفقد الإيمان بحتمية العودة وإحقاق الحقّ.
لعلّ درويش كان محظوظاً إلى حدّ بعيد فرحل قبل أن يشهد هذا الدرك الأسفل، الذي تعيشه أمّة تخلّت عن نفسها، وتجاهلت عن سابق إصرار وتصميم معاناة أهل غزّة، فلم تعد تهتمّ حتّى بمتابعة، ولو من موقع المُتفرّج، مسلسل الفتك والذبح والتجويع والتشريد، وانهمكت في أخبار المطربة شيرين، ومُستجدّات خلافها مع عائلتها، ونزاعها مع شركة روتانا، وإشاعة خطوبتها، ولم يَطمئن للجماهيرِ بالٌ حتّى استمعت إلى تطمينات بصوت المطربة، كثيرة المشاكل، تُؤكّد أنّ في جعبتها باقة من الأغنيات الجديدة، التي سوف تُسعِدُ جمهورها الوفي. وفي حين تدقّ إسرائيل طبول الحرب مُهدّدة لبنان بالاجتياح، تُخصّص محطّة لبنانية أكثر من ساعتَين لحوار مع الإعلامية المصرية ريهام سعيد، للحديث عن معاناتها، إثر فشل عمليتها التجميلية، التي أدّت إلى تشويه وجهها. تحدّثت ريهام عن قصتها الأليمة بمصاحبة موسيقى حزينة، وبتأثّر واضح في ملامح المذيع، واستضاف كوميديان لبناني، تتّسم برامجه الحوارية بالإسفاف والابتذال، الإعلامية الأردنية نادية الزعبي، التي تتوهّم في نفسها خفّة الظلّ، كي تسخر من المرأة الأردنية، وتحطّ من شأنها، وتضعها في مقارنة سخيفة مع المرأة اللبنانية. وتقوم الدنيا في مصر بسبب الإهانة التي وُجّهت للمطربة أنغام، حين لم يحضر حفلها في المغرب سوى عددٌ قليل، وحتّى اللحظة، لم يتوقّف الجدل بخصوص الصفعة التي وجّهها عمرو دياب إلى معجبٍ في حفل زفاف ابنة أحد الأثرياء، واستضاف الإعلامي محمود سعد، الذي تمنّى في تصريح أن تسقط الطائرة به وهو في طريق عودته من الحجّ، كي يقابل وجه ربّه مغسولاً من الذنوب، مُضحّياً بكل بساطة بالركاب وبالطيّار وبطاقم المضيفين. نقول، استضاف سعد مطرباً شهيراً محدود الذكاء في حضور جمهور مصري عريض يبدو سعيداً خالياً من الهموم. ذلك كلّه، وأكثر، يجري في وسائل إعلامنا المتهالكة، فيما أهلنا في غزّة يُذبحون، ويُنكّل بهم في مرأى ومسمع هذه الأمّة المُستغرِقة في غيبوبة التفاهة والاضمحلال والانحدار، ما يستدعي من كلّ وطني حرّ صاحب ضمير أن يصرخ من عمق خيبته في وجه سائق عصبي أرعن متهوّر، أمّا أنا فقد أتعبني السفر، أنزلني هنا...