ألف باء الاحتيال الأميركي المتصهين
قدّمت حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة مناسبةً أخرى لتفكيك سياسات الولايات المتحدة، بشأن فلسطين ودعم المشروع الصهيوني. ويُساهم وزير خارجيتها أنتوني بلينكن، وجيش مستشاري رئيسه الصهيوني جو بايدن، في جعل ألف باء سياسات التحايل والتضليل الأميركية في متناول الرأي العام العربي، وبعض نخب غربية ويهودية معادية للصهيونية. والصورة هي أبسط من هرطقات وفذلكات بلينكن: مسدس مصوب على جبهة المقاومة الفلسطينية، وفرض تفاوض من أجل التفاوض، في استعادة رديئة لـ"اتفاق أوسلو" وشعاري "حلّ الدولتين" و"العملية السياسية". وآخر تجارب واشنطن كانت بمسدس على جبهة الزعيم الراحل ياسر عرفات، أبو عمار، في كامب ديفيد عام 2000.
اليوم، وتحت طائلة جرائم الحرب، وبحماية وقنابل أميركا، يستل بلينكن أحقر ما في تاريخ الحروب القروسطية (من العصور الوسطى) الهمجية، بربط تجويع الناس بقبول اتفاق استسلام، في انتهاك صريح للمواثيق والمعاهدات الدولية بشأن الحروب والاحتلال. فأميركا ظلّت لأشهر تبيع شعارات التحايل، عن أنه لا يجوز ربط دخول المساعدات بالتفاوض، ولأجل نشر الكذب اخترعت قصة "رصيف بحري"، الذي سرعان ما نثره الموج، مثلما نثرت جرائم الحرب وعشرات آلاف جثث النساء والأطفال، أقنعة البيت الأبيض والكونغرس الأميركي، المصفقين لدعوات إبادة مليوني فلسطيني. فكم من مرة قفزت واشنطن عن خطوط حمراء، من مثل قصف المدنيين وعدم دخول رفح؟
وما تساهم فيه واشنطن في غزة لن يُنسى إطلاقاً. حيث أخطر ما تسكت عنه وتحميه هو انفلات الفاشية الصهيونية إلى مستوى طلب إبادة الفلسطينيين علناً، وحصر نحو مليوني غزّي في مساحة عشرة في المائة من أرض القطاع، لنكون حرفياً أمام معسكر اعتقال جماعي نازي. نعم ليس ثمة أفران غاز، لكن بارود وقنابل أميركا يقومان بالمهمة، إلى حد جمع آباء لأشلاء صغارهم كتلَ لحم متناثرةً.
وربما تنسى واشنطن في غمرة انفلات البلطجة، إمكانية قيام طرفين عربيين، مصر وقطر، بالانسحاب من مهزلة البيت الأبيض وبلينكن، مع ما يحمله ذلك من نتائج كارثية. وقد تظن تل أبيب، وبرعاية واشنطن، أن واقع العرب الرسمي اليوم يسمح بمحاولة فرض استسلام على الفلسطينيين، وتصفية قضيتهم الوطنية، لكنها ظنون جُرّبت على مدار العقود السبعة الماضية، وأقلّ نتائجها كتبه الجنرال السابق إسحق بن بريك مساء الأربعاء الماضي في صحيفة هآرتس، عن الوصول إلى حالة استنزاف في غزة وإلى هاوية الانهيار والإخفاق.
ومثلما لم تنتج البلطجة في مفاوضات كامب دافيد قبل 24 سنة سوى الانتفاضة الثانية، فعلى مستشاري بايدن والخارجية في واشنطن قراءة التراكمات التي تجري في الضفة الغربية والقدس المحتلين قراءة عميقة. فتصرف واشنطن مع الإرهاب الاستيطاني الكهاني التلمودي - الديني في الضفة الغربية والقدس المحتلتين، وما يرافقها من حماية رسمية وتصريحات تتوعد بالذبح والتهجير، مؤشر بسيط، من بين كثير غيره، على مستوى حالة التحايل الأميركي عن حلّ الدولتين. فبينما ترفع العصي لمجرد تصريح فلسطيني، نراها ترتدي القفازات الحريرية أمام ما يصفه الإسرائيليون بأنفسهم بأنه إرهاب يهودي في الضفة الغربية. ومنع الأمم المتحدة، وأذرعها على مستوى القانون الدولي، من استخدام الفيتو، لا يمكن قراءته سوى أنه جزء من سياق طويل لكارثية وقوف الإدارات الأميركية المتعاقبة مع دولة الاحتلال الإسرائيلي كحاملة طائرات أو معسكر متقدم في السياسات الإمبريالية الجديدة لأميركا، وداعميها في الغرب.