تلويح "حماس" بعودة "العمليات الاستشهادية": الجدوى والتوقيت
بعد مرور أربعة أيام على عملية التفجير في تل أبيب التي وقعت في 18 أغسطس/آب الحالي، كشف الاحتلال أن منفذ العملية هو جعفر منى من مدينة نابلس في الضفة الغربية، ليعود لقب "استشهادي" إلى المدينة بعد سنوات طويلة من انقطاع هذا النوع من العمليات، ويعود الحديث أيضاً عن جدوى "العمليات الاستشهادية" بعد سنوات طويلة من توقف هذه العمليات لأسباب عدة، أهمها النقاش الداخلي داخل حركة حماس حول جدواها، خصوصاً على مستوى تأثيراتها على الرأي العام العالمي، وعدم توفر الشروط الموضوعية لها بعد عام 2007. وتذهب بعض الآراء إلى إبداء تخوفات من تأثيرات سلبية لهذه العمليات، خصوصاً أن الاحتلال لن يوفر فرصة لاستغلالها للإمعان في مخططات حرب الإبادة التي يشنّها على الشعب الفلسطيني، ليس فقط في قطاع غزة، بل أيضاً في الضفة الغربية التي لا يخفي عدد من وزراء الاحتلال مخططات لها بما في ذلك دعوات لحرقها وتحويلها إلى "غزة أخرى"، فضلاً عن الإمعان في تقطيع أوصالها على نحو متسارع.
وتأتي عملية الشاب منى بعد ثماني سنوات على آخر عملية من هذا النوع تبنّتها "حماس" عام 2016 ونفذها عبد الحميد أبو سرور من مخيم عايدة شمال بيت لحم قرب مستوطنة "غيلو" المقامة على أراضي جنوب القدس المحتلة، ليُطرح السؤال: هل عادت مرحلة هذه العمليات من جديد، لا سيما بعد تبني "كتائب القسام" و"سرايا القدس"، الذراعين العسكريتين لحركتي حماس والجهاد الإسلامي، العملية الأخيرة في تل أبيب، وتهديدهما الواضح بأن "العمليات الاستشهادية في الداخل المحتل ستعود ما دامت مجازر الاحتلال وسياسة الاغتيالات متواصلة"؟
بدأت "العمليات الاستشهادية" مع "حماس" ودخلت كتائب شهداء الأقصى، وحركة الجهاد الإسلامي على خطها بقوة بعد عام 2000
ووصل عدد العمليات من هذا النوع لأكثر من 75 عملية منذ 1993 وحتى 2016، حسب ما وثّقته مواقع "حماس"، إضافة إلى عشرات العمليات التي نفذتها الذراع العسكرية لحركة فتح، كتائب شهداء الأقصى، وحركة الجهاد الإسلامي التي دخلت على خط هذه العمليات بقوة بعد عام 2000.
وعلى الرغم من أن عمليات المقاومة لم تنقطع وأخذت موجات ما بين الدهس والطعن وكمائن إطلاق النار، إلا أن لـ"العمليات الاستشهادية" خصوصية كبيرة لا تتوفر في بقية أشكال العمل المقاوم، والتي بدأتها "حماس" عام 1993، وتوقفت عام 2006، بعد أن وصلت إلى ذروتها في سنوات الانتفاضة الثانية (2000 -2005)، وتحديداً عام 2001 الذي شهد أكثر من 20 عملية في المدن الإسرائيلية والمستوطنات وعلى الحواجز العسكرية، تسببت برعب في المجتمع الإسرائيلي من جهة، وصنعت سمعة "كتائب القسّام" في قوة هذا النوع من العمليات وفتكها بالإسرائيليين وقد اختصرتها مقولة عبد العزيز الرنتيسي أحد قياديي حماس: "لما تشوف سقف الباص طاير، اعرف إن العملية لحماس".
"العمليات الاستشهادية"... هل تعود؟
يرى محللون ومراقبون أن "حماس" التي اتخذت من هذا النوع من العمليات منذ انطلاقها على يد مهندسها الأول يحيى عيّاش طريقة للرد على الجرائم الإسرائيلية من باب "توازن الرعب"، عادت اليوم بعد كل هذه السنوات وبعد 10 شهور على معركة "طوفان الأقصى" لتقول إنها يمكن أن تعود لذات السلاح.
ويقول الخبير في الشؤون الإسرائيلية عماد أبو عواد، في حديث لـ"العربي الجديد"، إن العودة لهذه العمليات تعكس أن الفلسطينيين وصلوا إلى قناعة أنه لا بد من العودة إلى أعلى سقف للمواجهة مع الاحتلال، وإن هذا الموضوع يجب أن يعود للطاولة مرة أخرى. ويضيف: "من دراسة العمليات السابقة، فإنها كانت عادة ما تبدأ بشكل بطيء وغالباً ما تفشل في البداية ثم تنتقل إلى مرحلة نوعية مؤثرة في الداخل الإسرائيلي الذي يخشى عودة هذه العمليات بشكل كبير".
ويرى أبو عواد أنه "في حال عادت هذه العمليات، فإن إسرائيل ستستغل ذلك أمام المجتمع الدولي في محاولة لتشويه صورة النضال الفلسطيني، لكن بالمجمل وصلنا إلى مرحلة أن الإسرائيلي مقتنع أن سياسته مع الفلسطيني ستؤدي إلى المزيد من الانفجار وإلى المزيد من إحراج إسرائيل والانقسام الداخلي فيها". ويتابع أن "المجتمع والمؤسسة العسكرية والسياسية في إسرائيل، يدركون خطورة ذلك إلى الحد البعيد، ويخشون ذلك لأنه يكشف مدى الضعف الإسرائيلي في ما يتعلق بعدم قدرة إسرائيل على مواجهة هذا النوع من العمليات، وإن كان الأمن والاستخبارات يستطيعون القضاء على جزء من هذه العمليات، فإنهم سيكونون في وضع محرج إن وصل جزء منها إلى حيز التنفيذ".
لكن الخبير في الشؤون الإسرائيلية معاوية موسى، يؤكد أن هناك مخاوف فلسطينية أكبر في حال عادت هذه العمليات إلى المشهد مرة أخرى. ويقول لـ"العربي الجديد": "يمكن أن تستخدم إسرائيل هذه العمليات للتسريع في تكريس فصل مناطق الضفة الغربية عن بعضها". ويتابع أن "طبيعة الرد ستكون على صلة بالتوتر الإسرائيلي القائم ما بين المستوى السياسي والأمني وداخل المستويين الأمني والسياسي أيضاً حول طبيعة الرد المرغوب، وستعمل القوى المناصرة لليمين لاستخدام ذلك للتضييق على الفلسطينيين بالطبع، وأيضاً ستدعو إلى ضمّ أجزاء من الضفة أو كل مناطق (ج) إن أمكن وإنهاء أي وجود سياسي للفلسطينيين والدفع باتجاه خطوات تؤدي إلى إجبار الناس على ترك منازلهم بحثا عن العمل أو حياة أفضل".
عماد أبو عواد: في حال عادت هذه العمليات، فإن إسرائيل ستستغل ذلك أمام المجتمع الدولي في محاولة لتشويه صورة النضال الفلسطيني
ويضيف: "في الجهة الأخرى، سيكتفي التيار التقليدي (المركز السياسي وكبار القادة الأمنيين) مثل بيني غانتس ويئير لبيد اللذين فقدا جزءاً مهماً من نفوذهما في الحرب الأخيرة نتيجة صراع القوى الاجتماعي والسياسي داخل إسرائيل، إلى الاكتفاء بعزل الفلسطينيين ضمن الجغرافيا التي رسمها الجيش الإسرائيلي بالحواجز داخل الضفة الغربية مع اندلاع الانتفاضة الثانية ومحاولة تشكيل شريك فلسطيني (أو شركاء فلسطينيين) يقبلون دوراً وظيفياً خالياً من أي دور سياسي مع تقييد العمل في إسرائيل كثيراً". وبرأيه، فإن "كل ذلك طبعاً سيكون بعد توجيه ضربات قوية جداً للضفة الغربية ستخرج عن المألوف في الانتفاضة الثانية ولن تصل إلى عنف قطاع غزة، وفي النهاية يتعلق الأمر بما سيسمح به السقف الأميركي".
يحيى عيّاش... عمليات رد وثأر
انطلقت أولى "العمليات الاستشهادية" الناجحة للمقاومة الفلسطينية وتحديداً "حماس" من مدينة نابلس في إبريل/نيسان 1993، حين أعد المهندس عيّاش وهو أول من أدخل سلاح "الاستشهادي" على الحركة، سيارة مفخخة لساهر التمام ليفجّر نفسه فيها قرب مستوطنة مقامة شمالي الضفة الغربية، وذلك بالتزامن مع مسيرة الأكفان التي نفذها 415 مُبعداً من قيادات المقاومة الإٍسلامية وجلّهم من "حماس" نحو الحدود الفلسطينية اللبنانية رفضاً لقرار إبعادهم وللفت نظر العالم لمعاناتهم.
وقام الاحتلال بإبعاد قيادات المقاومة الإسلامية نهاية عام 1992 إلى مرج الزهور جنوبي لبنان كعقوبة لهم بعد قيام "حماس" بأسر الجندي نسيم توليدانو في 13 ديسمبر/كانون الأول 1992، وطالبت الحركة حينها بإطلاق سراح الشيخ أحمد ياسين مؤسس الحركة وعدد من الأسرى مقابل إطلاق سراحه في غضون 10 ساعات. وأمام رفض إسرائيل قامت "حماس" بتنفيذ تهديدها وقتل الجندي، فردّت إسرائيل بإبعاد قادة الحركة وعناصرها الفاعلين إلى مرج الزهور.
العملية الثانية جاءت بعد أقل من شهر على توقيع اتفاق أوسلو ونفذها سليمان غيظان، صديق المهندس عيّاش، حيث أعد له الأخير سيارة مفخخة فجّرها في مستوطنة "بيت إيل" المقامة على أراضي رام الله مقر السلطة الوليدة للاتفاق ومقر الإدارة المدنية الإسرائيلية التي تحكم الأراضي الفلسطينية المحتلة، والتي اعتبرتها السلطة وإسرائيل ضمن محاولات "حماس" لتخريب اتفاق السلام. لاحقاً رد عيّاش على مذبحة الحرم الإبراهيمي في فبراير/شباط 1994، بسلسلة من العمليات من هذا النوع في العمق الإسرائيلي أوقعت عشرات القتلى ومئات الجرحى.
بعد اغتيال عيّاش في يناير/كانون الثاني 1996، والذي ما زال يحتفظ بمكانته كأيقونة في الحركة وأول مهندسيها رغم تعاقب المهندسين في الحركة بصناعة المتفجرات وتفخيخ الاستشهاديين والسيارات، انطلقت سلسلة من "العمليات الاستشهادية" في العمق الإسرائيلي تحت عنوان "الثأر المقدس"، رداً على اغتيال عيّاش، أوقعت العشرات من القتلى الإسرائيليين.
واصل الاحتلال اغتيال قادة "حماس" في الضفة الغربية وواصلت الحركة الانتقام لهم بإرسال الاستشهاديين إلى عمق إسرائيل كما جرى في عملية مطعم سبارو عام 2001 التي نفذها عز الدين المصري بمشاركة أحلام التميمي، وأوقعت أكثر من عشرين قتيلاً إسرائيلياً وعشرات الجرحى بعد تسعة أيام على اغتيال الاحتلال القياديين في "حماس" جمال منصور وجمال سليم في مكتبهما وسط نابلس. واستمرت "حماس" في هذا النوع من العمليات حتى بعد أن أعلن رئيس حكومة الاحتلال أرئيل شارون عملية "السور الواقي"، رداً على عملية تفجير عبد الباسط عودة من طولكرم نفسه في فندق بارك (نتانيا)، موقعاً أكثر من 36 قتيلاً في مارس/آذار 2002.
العمليات واتفاق أوسلو
السلطة الفلسطينية وقيادات من "فتح" نظرت إلى هذه العمليات في ذلك الحين، على أنها جاءت لتخريب اتفاق السلام الوليد (أوسلو)، وبالفعل قامت بملاحقة قيادات "حماس" العسكرية واعتقالهم لمنعهم من التخطيط لأي عمليات من هذا النوع، التزاماً منها ببنود الاتفاق الأمنية. لكن بعد بضع سنوات ومع انسداد الأفق السياسي في وجه الرئيس الراحل ياسر عرفات الذي التزم بتنفيذ الاتفاق على أمل الحصول على دولة فلسطينية مستقلة كما كان مرجواً، انتهى الأمر بانضمام "فتح" أيضاً إلى هذه العمليات بعد عام 2000، وتنفيذ ذراعها العسكرية، شهداء الأقصى، التي قادها الأسير مروان البرغوثي، عمليات نوعية بدعم من الرئيس ياسر عرفات، حيث انتهى الأمر بحصاره واستشهاده لاحقاً عام 2004 .
لم ينقطع النقاش داخل "حماس" حول "العمليات الاستشهادية" والضرر الناجم عنها في الرأي العام العالمي
وبحسب مراقبين، فإن نهاية كل مشهد الانتفاضة الثانية المسلحة، انتهى رسميا بقمة شرم الشيخ في فبراير 2005 والتي حضرها الرئيس المنتخب حديثا في حينه محمود عباس، وشارون، والرئيس المصري حسني مبارك، والملك الأردني عبد الله الثاني، وأعلن فيها رسمياً عن استئناف المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية من أجل تطبيق خريطة الطريق، وكان من أهم قراراتها على الأرض تفكيك كل مجموعات المقاومة المسلحة على الأرض، بما فيها "كتائب شهداء الأقصى" التابعة لـ"فتح" عبر تسويات أمنية مع الاحتلال، ومنع المقاومة المسلحة، وبهذا طويّت صفحة الانتفاضة الثانية.
لماذا توقفت هذه العمليات؟
استمرت "العمليات الاستشهادية" في سنوات الانتفاضة الثانية وبلغت ذروتها عام 2001، لكنها توقفت عام 2006 في الضفة الغربية، بعد اعتقال قائد "كتائب القسّام" في الضفة الغربية إبراهيم حامد، لكنها لم تتوقف بشكل قطعي حيث كانت هناك عملية واحدة عام 2008 وأخرى عام 2016.
كتّاب ومراقبون في تلك الفترة يؤكدون أن نقاشاً داخلياً في "حماس" استمر على مدار سنوات حول "العمليات الاستشهادية" والضرر الناجم عنها في الرأي العام العالمي، إضافة إلى بعض الفتاوى الدينية التي حرّمتها، وأخذ هذا النقاش منحى أقوى بعد عام 2000 حين بدأت جماعات إرهابية في العالم تقوم بالعمليات التفجيرية لأسباب بعيدة عن دوافع المقاومة والتحرر التي تتحرك منها "حماس" وبقية فصائل المقاومة الفلسطينية.
ويقول المختص بشؤون الأسرى، الأسير المحرر فؤاد الخفش، لـ"العربي الجديد"، إن حركة حماس "شهدت على مدار سنوات نقاشاً داخلياً جاداً لوقف العمليات الاستشهادية، بسبب عدم قدرتها على تسويقها أمام الرأي العام العالمي، ولأن حماس قد دخلت بالفعل في منظومة الحكم بعد الانتخابات الفلسطينية التشريعية عام 2006، وبالتالي من الصعب أن تتحدث مع العالم عن أي عملية سياسية وهناك عمليات استشهادية قد تقتل من يعتبرهم العالم مدنيين إسرائيليين". ويضيف: "كان هذا النقاش مهماً جداً، لكن مع توالي الجرائم والاغتيالات الإسرائيلية كان من الصعب وقفها في حينه، حتى وإن وصلت الحركة إلى قناعة بعدم رغبتها بمواصلة هذا النوع من العمليات". ويتابع الخفش: "لكن نتيجة لحجم الجرائم التي يرتكبها الاحتلال بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، يمكن أن تعود العمليات الاستشهادية، حتى في ظل عدم وجود تنظيم هرمي لحماس في الضفة الغربية، حيث تلاشت الخطوط الحمر بالنسبة لأي مقاوم على ضوء عمليات الإبادة في قطاع غزة، وهذا قاله نائب رئيس المكتب السياسي للحركة صالح العاروري صراحة قبل استشهاده حيث دعا الجميع للمقاومة في الضفة الغربية بكل السبل المتاحة".
بناء الخلايا في الضفة
يقول الكاتب والباحث في القضايا العربية والإسلامية، ساري عرابي، لـ"العربي الجديد"، إن "من أكبر التحديات التي واجهت حماس هي القدرة على إعادة بناء مجموعات وتشكيلات داخل الضفة الغربية وحتى على مستوى التنظيم الإداري والمدني وليس فقط العسكري، وهذا من أهم الأسباب التي جعلت المقاومة في الضفة الغربية في تراجع مستمر بعد انتهاء انتفاضة الأقصى (الانتفاضة الثانية) وبعد الانقسام الفلسطيني".
وبحسب عرابي، في نهايات انتفاضة الأقصى وبسبب الحملات المستمرة على "حماس" في الضفة الغربية، كانت قدراتها على تنفيذ عمليات من هذا النوع محدودة بعد استشهاد الشيخ أحمد ياسين وعبد العزيز الرنتيسي وصلاح شحادة، حيث كانت قدرة الحركة على تنفيذ عمليات ثأر ورد في الضفة الغربية أضعف وأقل مما كانت عليه في سنوات ذروة الانتفاضة الأولى، لذلك العامل الأساسي الذي أثّر على قدرة الحركة في تنفيذ عمليات من هذا النوع ليس القرار السياسي لدى الحركة وإنما عامل القدرة بسبب عمليات التفكيك والاستنزاف المستمرة من قبل الاحتلال في الانتفاضة الثانية، ولاحقاً بشكل مزدوج الاحتلال والسلطة الفلسطينية بعد الانقسام 2007.
ساري عرابي: ربما الشرط الموضوعي لم يعد موجوداً للعودة إلى أجواء الانتفاضة الأولى، وأن تكون هذه العمليات كبيرة ومكثفة ومستمرة ومتصلة
ويقول عرابي إنه "رغم كل محاولات التفكيك والاستنزاف الحقيقي المزدوج من قبل الاحتلال والسلطة ضد حركة حماس، إلا أنها نجحت إلى حد بعيد بأن تعود وتقف على قدميها ولو بصورة نسبية، وأن تنفذ عمليات نوعية في الأِشهر الماضية، مثل عملية بيت ليد وعملية الأغوار وغيرها، أظن أن هذا نجاح كبير". ويتابع عرابي: "إزاء هذا النجاح من الوارد طبعاً أن تتمكن من تنفيذ عمليات مثل عملية تل أبيب، لكن مرة أخرى السؤال هل ستستطيع أن تعود إلى أجواء الانتفاضة الأولى، وأن تكون هذه العمليات كبيرة ومكثفة ومستمرة ومتصلة؟ ربما الشرط الموضوعي ليس متوفراً".
وبحسب عرابي، "فإن الذي وفّر لحماس هذا الشرط في ذلك الوقت هو ضعف السلطة الفلسطينية في كامل الضفة، وانخراط قطاعات من فتح وحتى من أجهزة السلطة في الانتفاضة الثانية التي شملت الضفة الغربية كاملة بما فيها القدس وقطاع غزة أيضاً". ويقول عرابي: "بالتالي كان عدد الكوادر التنظيمية المنخرطة في هذا العمل نسبياً كبيرا، فإذا ضرب الاحتلال جنين ونابلس مثلاً، قامت الخليل باستكمال الدور على سبيل المثال وهكذا، لكن حتى هذه اللحظة لم يصل الأمر إلى هذا الحال".
صناعة "الاستشهادي"
وحول صناعة "الاستشهادي" تحديداً، يقول عرابي: "ما سبق أعلاه يتعلق بقدرة حماس على الاستمرارية، لكن في ما يتعلق بصناعة الاستشهادي لا شك أن صناعته خلال الانتفاضة الفلسطينية الثانية كانت متصلة بأن الكادر التنظيمي في ذلك الوقت هو كادر تاريخي ناشئ من حضن الدعوة والمساجد والكتل الطلابية في الجامعات، بالتالي فإن عدداً كبيراً ممن جندوا أو نفذوا العمليات الاستشهادية هم شخصيات وُلدت من عمق البعد الإيماني والدعوي والتربوي لحماس". ويتابع عرابي: "أما الآن فقدرة حماس على خلق هذه القدرة الدعوية والإيمانية والتربوية في ظلّ التجريف الذي تتعرض له الضفة ليست سهلة، لكنها ليست مستحيلة بالنظر للدوافع الذاتية كرد فعل على مجازر الاحتلال والإبادة الجماعية التي يقوم فيها في قطاع غزة، وأعتقد أن هذا أكبر دافع لتنفيذ عمليات بغض النظر عن توفر حاضنة تربوية ودعوية وإيمانية لحماس أو لغيرها من الفصائل".
المساجد والجامعات.. خزّان "العمليات الاستشهادية"
وفي نظرة سريعة سواء لمن جنّد أو قام بالعمليات الاستشهادية منذ 1993 إلى 2006، يصل المتابع إلى استنتاج أن الجامعات والمساجد وفّرت حاضنة وخزان بارود مهمين من المخزون الاستراتيجي البشري من الجهتين، وهذا ما يفسر قيام الاحتلال الإسرائيلي والسلطة الفلسطينية بعد عام 2007، بتفكيك كل الحراكات الطلابية في الجامعات، وضرب الكتل الطلابية التابعة لـ"حماس" بقسوة، خصوصاً عبر الاعتقالات المتكررة من الاحتلال لدرجة أن بعض الطلبة من المحسوبين على "حماس" في الجامعات أمضوا أكثر من 12 عاما للحصول على لقبهم الجامعي الأول البكالوريوس، بسبب تنقلهم ما بين معتقلات الاحتلال والسلطة الفلسطينية.
فضلاً عن ذلك قامت السلطة بفرض رقابة شديدة على المساجد وصلت إلى حد استدعاء شبان بسبب مواظبتهم على الصلاة جماعة في المسجد خشية من أن يكون ذلك مرتبطاً بجهود دعوية، وإبعاد كل الشخصيات التي لها حضور بين الناس من منابر الخطب والدروس الدينية قدر الإمكان، حتى لا يلتف حولهم الناس، فضلاً عن فرض رقابة على دورات تحفيظ القرآن للأطفال والمراهقين، بحيث يكون القائمون على هذه الدورات من الموظفين في الأوقاف والذين يخضعون لمسح أمني من السلطة مثل أي موظف في السلطة، خوفاً من أي توجهات تتبع "حماس" أو "الجهاد الإسلامي".