"أشرس هجمة في حياتي".. لماذا يستهدف اللوبي الإسرائيلي بأميركا أسامة أبو ارشيد؟
مساء يوم الجمعة، الخامس عشر من نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، أي بعد خمسة أسابيع تقريبا
من بدء عملية "طوفان الأقصى"، وفي ولاية فيرجينيا المحاذية للعاصمة الأميركية واشنطن،
التقيتُ بأستاذ العلوم السياسية الدكتور أسامة أبو ارشيد، في مطعم بدعوة من صديق مشترك. كان
مطعم "البوادي" الواقع بالقرب من مسجد دار الهجرة مزدحما، وصفُّ الانتظار يمتد إلى طريق
أرلينغتون المجاور. أما علّة ذلك الازدحام -غير المعتاد- فهي أن صاحب المطعم، فلسطيني الأصل
والمنحدر من غزة، قد استُشهد اثنان من أفراد عائلته في الحرب الدائرة، فخصَّص ريع ذلك اليوم
بأكمله إلى أهل غزة.
وفي أجواء نوفمبر الباردة، جلسنا وسط ضجيج المطعم وضجيج السياسة. ولخصوصية الزمان
والمكان، كان الحديث متمحورا حول تبعات "الطوفان" على المسلمين والعرب والفلسطينيين في
الولايات المتحدة. وفي غير مرّة، كان أبو ارشيد يعرّج في حديثه على شراسة الاستهداف الذي
يواجهه يوميا، دون الدخول في التفاصيل، إثر تصدّره للعمل المتصل بالقضية الفلسطينية، وهو
المدير التنفيذي لمنظمة "أميركيون مسلمون لأجل فلسطين".
انتهت الجلسة، وصحبته بعدها إلى سيارته المصفوفة بعيدا. وفي طريقنا، أخبرني أنه ذاهب إلى
المكتب في منتصف الليل لإتمام بعض المهام المتراكمة. لكن الذهاب للمكتب لم يعد كما كان سابقا
في ظل تهديدات القتل التي وصلته حتى باب منزله، وذلك على إثر اتهام المدعي العام لولاية
فيرجينيا جيسون مايرز منظمة "أميركيون مسلمون لأجل فلسطين" بعلاقة مزعومة مع حركة
المقاومة الإسلامية (حماس)، ورفعه قضية مدنية على المنظمة التي يرأسها أبو ارشيد. توالت
التهديدات، مصحوبة بهجمة إعلامية شرسة قادت أسامة إلى الطلب من موظفي مؤسسته الحقوقية
ألا يحضروا لمقر العمل إلا للضرورة، كما اضطرت عائلته للابتعاد والعيش في ولاية أخرى ليست
قريبة من الولاية التي يقطن فيها أبو ارشيد.
لم تكن هذه الملاحقة أمرا مستجدا على أبو ارشيد، الذي وُضع على قوائم الترقب بسبب نشاطه
السياسي لفلسطين وبتحريض من قِبَل المجموعات الداعمة لإسرائيل والمؤسسات التي تنتمي إلى
"اللوبي الداعم لإسرائيل" لأكثر من سبعة أعوام، بين 2010-2017، وهي القائمة التي يُضاف
إليها مَن تُثار حولهم شبهات العلاقة بأشخاص أو حركات أو منظمات تشك السلطات الأميركية
بانخراطها في أنشطة إرهابية، بحسب وصف مكتب التحقيقات الفيدرالي (أف بي آي).
لكن ما يتعرض له أبو ارشيد اشتدّ كثيرا، وهو يفسّر ذلك بالقول إن الإسرائيليين يريدون اجتثاث
المقاومة من غزة، ويريدون اجتثاث كل مَن يدعم فلسطين في الولايات المتحدة، وهم يستخدمون
هجوم السابع من أكتوبر ذريعة لهذا الأمر. وهذا الدعم هو الذي وُضع أبو ارشيد بسببه على قوائم
الترقب مرة أخرى في مايو/أيار من العام الحالي بعد أن كان قد رُفع عنها منذ عام 2017.
لم يعد داعمو إسرائيل مهتمين بصورتهم، ولا لتحولات الرأي العام، ولا حتى باستعادة التعاطف
الذي فقدوه من شرائح واسعة، خاصة الشباب. يقول أبو ارشيد إن أهداف هؤلاء تتمحور فقط حول
سحق أي صوت مؤيد للحقوق الفلسطينية، حتى لو كانت أصواتا يهودية مثل ما استهدفت منظمتَيْ
"كود بينك" و"أصوات يهودية من أجل السلام".
وعلى مدار الأيام والأسابيع اللاحقة، حكى لنا أبو ارشيد قصته، التي تسلط الضوء على الحملة
الممنهجة لاستهداف العمل الفلسطيني الفاعل في الولايات المتحدة، وعلى المنظمات والشخصيات
التي تقف وراء هذه الحملة، والإستراتيجيات التي يتبعونها لتحقيق أهدافهم، لا سيما مع تصاعد
الأصوات الرافضة لجرائم إسرائيل والدعم الأميركي غير المشروط لها.
أما قبل أيام قليلة، فقد أعلن مجلس العلاقات الأميركية الإسلامية رفع دعوى قضائية ضد مكتب
التحقيقات الفيدرالي الأميركي بسبب قائمة مراقبة سرية لأميركيين مسلمين أو من أصول فلسطينية،
وأشار المجلس إلى أن ما يتعرض له أسامة أبو أرشيد "مثال على ما يواجهه مسلمو أميركا من
تمييز".
ثقوب في الجدار
كان وقع المظاهرات الطلابية في أميركا وتزايد وتيرتها في الآونة الأخيرة مؤشرا واضحا على
تحول يجري في المشهد السياسي والاجتماعي الأميركي. أدرك داعمو إسرائيل ذلك مبكرا، لذلك فقد
أثارت تلك الجموع الغاضبة، التي انتشر صوتها في الولايات الأميركية المختلفة، ردود أفعال شديدة
الحدّة من جانبهم. أدرك هؤلاء أيضا أن قضية إسرائيل لم تعد محصنة في الرأي العام بحسب ما
أظهر أكثر من استطلاع رأي، وأن تهمة معاداة السامية والتشهير بمؤيدي فلسطين في مواقع مثل
"كناري ميشن" لم تعد كافية لتخويف المعارضين لإسرائيل.
فمثلا، أجرت مؤسسة غالوب تقريرا يحلل جميع الاستطلاعات السابقة التي أجرتها حول فلسطين
وإسرائيل، منذ عام 2010 وحتى نهاية 2016، وصدرت في عام 2017. أما النتيجة فقد لخصتها
صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية بقولها: "كلما عرف الأميركيون أكثر عن إسرائيل، كلما قلَّ حبهم
لها".
اشترك في
النشرة البريدية الأسبوعية: سياسة
حصاد سياسي من الجزيرة نت لأهم ملفات المنطقة والعالم.
البريد الالكتروني
اشترك الآن
عند قيامكم بالتسجيل، فهذا يعني موافقتكم على سياسة الخصوصية للشبكة
محمي بخدمة reCAPTCHA
صاحبت حزمة الإدراكات تلك حملات تشويه للحراك الطلابي، بدءا من تهمة معاداة السامية، ودعم
الإرهاب، وصولا لادعاءات تلقّي الطلاب تمويلا من جهات خارجية. أتى كل ذلك مصحوبا بعنف
شديد من الشرطة بما لا يتلاءم مع طبيعة الاحتجاجات السلمية التي انطلقت في بلد "ديمقراطي"
يعتز بأن نموذجه "الحضاري" قائم على "حرية التعبير".
دفع هذا العنف المتظاهرين لاتهام إدارات الجامعات وأجهزة الأمن بالتحيز للرواية الإسرائيلية
وداعميها. هذه المزاعم عضّدها تحقيق صحيفة "واشنطن بوست" بضلوع أثرياء في دعم وحث
عمدة مدينة نيويورك إيريك آدامز بفض اعتصامات المدينة بالقوة، وسعيهم لتشذيب السياسة
الأميركية والرأي العام الأميركي باتجاه معاداة مظاهرات الطلبة المناصرة لفلسطين. وللمفارقة، تُعد
نيويورك المدينة التي تحوي أعلى نسبة لليهود خارج أراضي فلسطين التاريخية بإجمالي سكان
يقرب من 1.8 مليون، بحسب آخر إحصائية صدرت في عام 2024، كما أن هذه المدينة هي التي
انطلقت منها شرارة الاعتصامات من قلب جامعة كولومبيا. مع الإشارة إلى أن هذه المجموعة من
الأثرياء لم ينحصر تأثيرها ونطاق عملها في نيويورك، بل امتد للرقعة الأميركية بأكملها.
وفق هذا الواقع، يذكر أبو ارشيد أن استهداف العمل الفلسطيني في أميركا والناشطين فيه تضاعف
إثر التحولات الكبيرة في الرأي العام، خاصة لدى شريحة الشباب، والأقليات، وما يُعرف بالتيار
التقدمي في الحزب الديمقراطي. يضيف أبو ارشيد أن هذا التحول لم يبدأ بعد السابع من أكتوبر، بل
يمكن إرجاع آثاره بالتوازي مع تولي باراك أوباما مقاليد رئاسة أميركا منذ عام 2009، وهو الذي
تبنى في بداية رئاسته تحديدا موقفا مختلفا عن أقرانه من الرؤساء السابقين تجاه إسرائيل، حيث
دعا أن يكون للسياسة الأميركية مسافة تفصلها عن السياسة الإسرائيلية. وهذه المسافة الفاصلة لم
تكن تعني بالتأكيد ضربا في مشروعية إسرائيل، أو تقليصا في أهميتها الإستراتيجية، بل عَنَت فقط
أخذ مسافة، ربما تكون خطوة أو خطوتين لفك الالتصاق التام.
أما الإعلان عن سياسته الجديدة تلك، فقد جاء أثناء حديثه مع زعماء "المنظمات الصهيونية" في
البيت الأبيض بعد توليه الرئاسة مباشرة، مما أثار ردود فعل شرسة في أوساط الحزب الديمقراطي
ممن يؤيدون إسرائيل. بقيت هذه السياسة على حالها حتى خسر الحزب الديمقراطي انتخابات
مجلس النواب النصفية عام 2010. لم تكن أسباب الخسارة عائدة إلى سياسة أوباما تجاه إسرائيل
حصرا، بل لأسباب عدة كان أبرزها الأداء الاقتصادي. لكن على ما يبدو، ومع تعدد مناطق الهجوم
والانتقاد ومساراته، بدأ أوباما بتعديل سياساته نحو الاقتراب الكبير مع سياسة أسلافه تجاه إسرائيل
واسترضائها.
ورغم هذا التعديل، أدرك اللوبي الداعم لإسرائيل أن ثمة تحولات كبرى قد بدأت بالفعل. وبحسب أبو
ارشيد، اعتقد أوباما أن قواعد الحزب الديمقراطي المستاءة من إسرائيل قد تسمح له بأخذ تلك
المسافة. أي إن موقف أوباما ذاك لم يكن سببا لتحولات المواقف السياسية من إسرائيل، بل أحد
إفرازاته.
ومنذ ذلك الحين، بدأ اللوبي محاولة حصر أسباب التغير في رؤية الحزب الديمقراطي، والكثير من
الأميركيين، تجاه إسرائيل. رأى اللوبي الإسرائيلي أسباب هذا التغير في المنظمات الفلسطينية أو
المسلمة، وحتى المنظمات اليهودية المناصرة لفلسطين، بالإضافة إلى أكاديميين مثل رشيد خالدي،
المؤرخ الفلسطيني الأميركي في جامعة كولومبيا، الذي شُنت عليه حملة شرسة سابقا في عام
2008، لصداقته بباراك أوباما، وما وصفوه بتأثيره الواسع عليه فيما يخص القضية الفلسطينية.
مرّت الأعوام وصولا لعام 2015، العام الذي شهد خطاب نتنياهو في الكونغرس بعد دعوة الحزب
الجمهوري له. كان ذلك الحدث لحظة فارقة في إبراز هذا التحول، حين قاطع 88 عضوا من الحزب
الديمقراطي في مجلس النواب خطاب نتنياهو. أثارت تلك الدعوة جدلا أميركيا وإسرائيليا واسعا،
كونها أتت دون تنسيق مع الحزب الديمقراطي ولا مؤسسة الرئاسة، مما جعلها تبدو وكأنها قضية
حزبية تخص الجمهوريين حصرا، وليست قضية "فوق حزبية" أو تجمع الحزبين كما كانت سابقا.
وبالنظر لعناوين الصحف والمجلات الأميركية وقتها، كان ثمة إدراك بتلك التحولات، حيث وصفت
مجلة "فوكس" (Vox) مساعي نتنياهو تقويض جهود أوباما بالتوصل لاتفاق مع إيران بشأن
السلاح النووي، ومن ثم دعمه للجمهوريين في مواجهة أوباما والديمقراطيين، بأنها مخاطرة
يقودها نتنياهو بما يجعل إسرائيل قضية حزبية، وبالتالي الإضرار بالعلاقة بين الولايات المتحدة
وإسرائيل.
وأشارت المجلة إلى أن نتنياهو والجمهوريين بخطوتهم تلك لا يعملون فقط على تقويض جهود
أوباما للتوصل إلى اتفاق نووي مع إيران، بل أيضا سلطته الرئاسية فيما يتعلق بالسياسة الخارجية
وسيطرته عليها. أشارت المجلة إلى ذلك السخط الديمقراطي بوضوح عبر قولها: "الديمقراطيون
غاضبون من الإهانة الواضحة للرئيس".
الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما (الجزيرة)
لم يكن أوباما بالتأكيد عدوا لإسرائيل ولا حليفا للفلسطينيين، إذ رغم خلافاته مع بنيامين نتنياهو في
ذلك الوقت، فقد وصلت المساعدات الأميركية السنوية لإسرائيل ذروتها في عهده، كما اتسعت
المستوطنات في قضم أراضي الضفة الغربية دون رادع إلا بعض التصريحات الشكلية (تماما مثل
التعبير عن القلق بعد قتل 10 آلاف، ثم التعبير مرة أخرى عن القلق بعد قتل 20 ألف، وهكذا). ولم
ينتج في عهده حل للقضية الفلسطينية كما كان يردد دائما، مع بقاء إسرائيل رقما ثابتا في
الإستراتيجية الأميركية الأمنية الأوسع وجزءا أساسيا من المنظومة الغربية.
أما موقفه من القضية الفلسطينية، فيُقرأ بوصفه متسقا مع إستراتيجيته التي ترمي لخفض التدخل
الأميركي في الشرق الأوسط على إثر الحروب المستنزفة التي خاضتها أميركا في عهد سلفه جورج
بوش الابن. لكن، وعلى غير تخطيط من أوباما نفسه، فقد كان لتلك التصريحات الكلامية أثر في
التعبير عن التحولات التي بدأت تطرأ تجاه الموقف من إسرائيل.
ومع قدوم دونالد ترامب للرئاسة عقب انتخابات عام 2016، تصاعدت حِدَّة التوتر والاستقطاب
المتصل بإسرائيل وعلاقة أميركا بها، خاصة مع إقامة الرئيس الجديد تحالفا مع بنيامين نتنياهو
والخط اليميني في إسرائيل. دفع ذلك عددا من المسؤولين الإسرائيليين لتحذير الأجهزة الأمنية
الإسرائيلية من مغبّة تحول العلاقة الأميركية الإسرائيلية إلى علاقة حزبية، يمينية-يمينية، مما
يجعلها قضيةً محلَّ خلاف.
هذا التحذير من الأوساط الأمنية الإسرائيلية لم يكن استشرافا لما يمكن أن يجري في المستقبل، بل
إدراكا لتغيرات بدأت تطرأ بالفعل، ودخول القضية الفلسطينية على خارطة اللغة اليومية عند
الأميركيين، ما يعني بالضرورة تفككا في السردية الإسرائيلية التي سادت لعقود، وإن تدريجيا.
في هذا السياق، يضيف أبو ارشيد أنه في عام 2017، أي حينما أتى ترامب للرئاسة، فقد "شنت
حملته الانتخابية حربا على الكثير من الأقليات، حيث دعا ذوي الأصول المكسيكية بالمغتصبين،
وهاجم النساء أكثر من مرة، وشنع على الديمقراطيين، والمسلمين والعرب الذي اعتبرهم
إرهابيين، والإعلام الذي سماه عدو الدولة". هذا الخطاب الذي جاء به ترامب، أدى إلى تعزيز ما
يُعرف بحركة العدالة الاجتماعية في أميركا، وحينها دخلت فلسطين في القلب من هذا الحراك
بصورة أكبر مما سبق، وبات هناك ما يشبه الالتحام بين قضايا الأقليات.
الحرية و"أصنام العجوة"
"لقد تم اختيارنا، على نحو واضح، لكي نُهدي شعوب العالم كيفية السير في درب الحرية".
"أنا أؤمن بأن الرب هو مَن أشرف على نشوء هذه الأمة، وأومن بأنه غرس في نفوسنا رؤى
الحرية".
الرئيس الأميركي وودرو ويلسون (1913-1921)
منذ نشأة الولايات المتحدة على دماء السكان الأصليين، طغت روح رسولية (Messianic) على
خطابات وأفكار الآباء المؤسسين. استندت هذه الروح إلى فكرة أساسية ومركزية في تمثيل
الاستثنائية الأميركية (American exceptionalism)، وهي الحرية. يظهر ذلك جليا في
التعديل الأول من الدستور الأميركي الذي ينص على حماية "حرية التعبير والصحافة والتجمع
والحق في تقديم التماس إلى الحكومة من أجل معالجة المظالم".
مثّلت الحرية على مدى سنين طوال مدار الحلم الأميركي، فأنت حر في تبنّي وعبادة وقول وفعل ما
تريد، وكان هذا هو المحدد الرئيسي لتلك الاستثنائية الأميركية. لكن كما كانت الحرية ركيزة أولى
لوجه أميركا الحديث، فإن الركيزة الأخرى كانت هي "الكونية"، أي إن هذه الأمة الأميركية هي "
أمة تتمتع بحظوة إلهية ومشربة بالدعوة المقدسة" ويجب عليها أن تنقل هذه الرسالة إلى العالم.
وكما يقول المؤرخ وعالم الاجتماع بيري أندرسون (Perry Anderson) في كتاب "السياسة
الخارجية الأميركية ومفكّروها"، إن هاتين الركيزتين المتناقضتين في جوهرهما هما ما قادتا
الولايات المتحدة، وهما اللتان ستخلقان شقوقا في الجدار الأميركي. فقد كان الإيمان الراسخ
بالاستثنائية يسمح بالاعتقاد أن بإمكان الولايات المتحدة الحفاظ على "فضائلها الفريدة" من خلال
انفصالها عن عالم متهالك. أما الالتزام بالكونية فقد كان يمنح الولايات المتحدة صلاحية القيام
بأنشطة "تبشيرية" للتدخل في شؤون العالم بدعوى تحريره. وبين هذين المتناقضين، كان الرأي
العام يتحول فجأة مرة بعد أخرى.
تبرز لنا مفارقة الانفصال والتدخل حاضرةً في أشد تمثلاتها في اللحظة الحالية. فتدخُّل الولايات
المتحدة بدعم إسرائيل دون قيد أو شرط جعلها ضالعا وشريكا أساسيا في الحرب على قطاع غزة.
لكن هذا الدعم ليس حديثا، ولا طارئا، بل علاقة عضوية تمتد لسنوات، أضحت معها إسرائيل
المتلقي الأبرز للمساعدات الأميركية، وشريكا رئيسيا للإستراتيجية الأمنية والعسكرية الأميركية في
منطقة الشرق.
كان ذلك التدخل المستمر عاملا في تفكيك استثنائية الولايات المتحدة. فلا الإعلام بات مركزيا، ولا
الرجل الأبيض بات يُشكِّل الأغلبية الساحقة، ولا أميركا باتت قادرة على الالتزام بالقيم التي رسمتها
لنفسها وسوَّقت خلالها "الحلم الأميركي" رافعةً لهيمنتها الثقافية خارج حدودها. كل ذلك دفع إلى
تغيرات بدأت ملامحها تختمر سنةً بعد أخرى.
فعلى مدار العقود الأخيرة، اندلعت الكثير من الاحتجاجات الداخلية مدفوعةً بالتدخل الخارجي
الأميركي الفج في دول أخرى. في فيتنام، والعراق، وأفغانستان، واليوم في غزة. كانت هذه
المظاهرات تُمثِّل اختبارا على الدوام لتلك الاستثنائية الأميركية.
في وقت مبكر، أدركت المؤسسات الداعمة لإسرائيل أن التحولات التي تشهدها الرؤية الأميركية،
حتى بين الشباب اليهود، تجاه إسرائيل تعود في جزء منها إلى مواقع التواصل الاجتماعي، لكن ذلك
دفع المؤسسات أيضا إلى النظر ناحية المؤسسات العاملة للقضية الفلسطينية في أميركا، ومن ثم
استهدافها والأفراد العاملين بها.
ورغم ما أظهرته آلة القمع الأمنية في المظاهرات التي اندلعت إثر الحرب الإسرائيلية على غزة،
والتشويه الإعلامي للمتظاهرين السلميين المحتجين على ما يصفونه بالتواطؤ الأميركي-الغربي
على الفلسطينيين، فإن هذا الاستهداف بدأ منذ وقت طويل.
يقول أبو ارشيد إن سبب الاستهداف الذي طاله وطال غيره قديم. وللمفارقة، فقد كان سبب استهداف
شخصه ووضعه على قوائم الترقب في المرة الأولى دراسة أكاديمية عمل عليها مع صديق يهودي
اسمه بول شام (Paul Scham)، وهو رئيس قسم الدراسات الإسرائيلية في جامعة ميريلاند
كوليج بارك، هذا الصديق يحمل الجنسية الإسرائيلية، وهو أميركي في الوقت ذاته، وكان مستشارا
من الدائرة الواسعة في حملة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما للشرق الأوسط، ويعمل اليوم
مع معهد دراسات الشرق الأوسط في واشنطن.
يضيف أبو ارشيد: "عرض عليّ بول شام في وقت سابق، حينما كان أوباما مرشحا للمرة الأولى
في السباق الرئاسي، إعداد دراسة مشتركة مع معهد السلام الأميركي، وهو واحد من أكبر مراكز
الدراسات في أميركا، ويتبع وزارة الخارجية الأميركية. وكانت الدراسة تتمحور حول إمكانية أن
تكون حماس جزءا من العملية السياسية السلمية. وقمنا بإصدار الدراسة وتسليمها بعد الموافقة
عليها ومرورها على عمليات تحرير وصياغة أثّرت على اللغة الأصلية المستخدمة فيها دون أن
تؤثر كثيرا في جوهرها.
وقبل نشرها، أثار اللوبي الصهيوني حملة كبيرة جدا على هذه الدراسة، وكان جورج بوش الابن
هو الرئيس الأميركي في ذلك الوقت. لذلك، وبعد مرورها على جميع مراحل الموافقة والتحرير،
جاء قرار بعدم نشرها. لكن بعد مجيء باراك أوباما للبيت الأبيض، قرر معهد السلام الأميركي نشر
الدراسة التي صدرت بعنوان: "حماس.. تشنج أيديولوجي ومرونة سياسية" (Hamas:
Ideological Rigidity and Political Flexibility) في الأول من يونيو/حزيران 2009
وأُجري حولها منتدى نقاشي، شارك فيه سياسيون مرموقون على صعيد السياسة الأميركية".
صاحَبَ نشر الدراسة وإقامة المنتدى حملة تشويه ضخمة، إذ عدّوا هذه الورقة اختراقا بوصفها
ترويجا لحماس. ويقول أسامة أبو ارشيد: "وصموني أنني تابع لحماس، وهذا كذب، ولم يروا أن
الذي شارك معي في الدراسة هو يهودي يحمل الجنسية الإسرائيلية. كما أن حضور هذا الأكاديمي
(بول شام) في الأروقة السياسية والبحثية الأميركية له وزن أكثر ثقلا من وزني الأكاديمي، نظرا
لعلاقاته وحضوره الممتد في الأكاديميا الأميركية".
ورغم التعديلات الكثيرة على اللغة الأصلية للدراسة، فإن ما أثار غضب "اللوبي الصهيوني" كما
يصف أبو ارشيد، هو أن الدراسة أخذت اتجاها يُفضي بأن حركة حماس هي "حركة سياسية عاقلة
ولاعب سياسي يتحرك وفق المنطق السياسي الدولي، وهو ما استند على معلومات ووثائق الحركة
الرسمية، وعبر تحليل لقرارات الحركة السياسية طوال السنوات التي سبقت الدراسة، دون أي
انحياز".
منذ تلك اللحظة، بدأت الحملة تستهدف أبو ارشيد بشراسة، ومع نهاية عام 2010 كان قد وُضع
على قوائم الترقب.
طبقات من "الكيد"
"الولايات المتحدة الأميركية تؤمن باستثنائيتها، أي بتفوق الأمة الأميركية على أي أمة أخرى،
ولكن هذا أمر لا يدعمه الحقائق أو التاريخ".
تسيانينا لوماوايما (Tsianina Lomawaima)
رئيس برنامج الدراسات الهندية-الأميركية بجامعة أريزونا
يقول أبو ارشيد: "انتبه "اللوبي الصهيوني" إلى تصاعد الصوت الفلسطيني وتأثيره في التحولات
التي يشهدها المجتمع الأميركي. وهنا جاء الدور على مؤسسة "أميركيون مسلمون لأجل
فلسطين"، وذلك عائد إلى أن المؤسسة انتقلت من المناصرة التعليمية ناحية إطلاق يوم سنوي
معنيّ بالتحشيد السياسي لأجل فلسطين، وهو يوم المناصرة (Advocacy) لفلسطين في
الكونغرس بمجلسيه. كان العام 2015 بداية انطلاق هذه الفكرة التي تتشابه مع ما تقوم به منظمة
الآيباك عبر إطلاقنا مؤسسة سياسية هي "أميركيون من أجل العدالة في فلسطين""، التي يرأسها
أبو ارشيد أيضا.
ويضيف: "نقوم في هذا اليوم بجلب مجموعة مختلفة ومتنوعة من جميع الأطياف المناصرة
لفلسطين، سواء من اليهود، أو اللاتينيين، أو العرب، المسلمين، أو الفلسطينيين الأميركيين، وكل
مَن له قدرة على القدوم إلى واشنطن، إذ نعمل على استضافتهم، ثم أخذهم إلى الكونغرس بقائمة
من الأجندة والقضايا التي نطالبهم بالمدافعة عنها والمناصرة لها عبر اللقاء مع الممثلين في
مجلسي النواب والشيوخ".
...يتبع