ماذا لو تحوّلت حماس إلى "جبهة المقاومة والتحرير الفلسطينية"
آراء
خالد الحروب
أحد المآزق الكبيرة التي تواجه الوضع الفلسطيني خلال حرب الإبادة الصهيونية – الأميركية على
قطاع غزة والفلسطينيين وبعدها يتمثل في السؤال حول القيادة الفلسطينية: من هي، ومن يقود من،
ومن يقبل بمن؟ خسرت القيادة السياسية الرسمية الحالية المتمثلة بمحمود عبّاس وبطانته شرعيتها
الوطنية والشعبية، وأيضاً شرعيّتها التنظيمية، بسبب فضيحة أدائها خلال الحرب. العامل الوحيد
الذي يُبقيها في موقعها القيادي الهشّ هو الدعم الإسرائيلي والأميركي – الغربي. تُستَمدّ شرعيّتها
من الخارج وحسب. على يسار هذه القيادة المُتهالكة، يمتدُّ طيفٌ واسعٌ يضمّ حركة فتح الوطنية
وتياراتٍ عريضةً من التنظيمات والمستقلين وسواهم، وجلهم مخنوقون أو مكبّلون من القيادة
بوسائل عدّة جمدت فاعليتهم إلى درجة قريبة من الشلل والإقصاء المشهدي. في المقابل، هناك قيادة
المقاومة المتمثلة في حركة حماس التي كسبت شرعية وطنية وشعبية داخل فلسطين وخارجها (من
دون التقليل على الإطلاق من تصاعد أصوات النقد والنقمة خصوصاً في قطاع غزّة). العامل الوحيد
الذي يحول دون انتقالها إلى موقع قيادة الفعل السياسي هو العامل الخارجي: الإسرائيلي –
الأميركي – الغربي – الإقليمي. نحن، إذن، أمام مشهد مُفارق: قيادة سياسية هشّة تستند إلى "
شرعية دولية" والداخل لا يريدها، وقيادة مقاومية تستند إلى شرعية الداخل لكن العالم لا يريدها
ولا يقبل بها. صدمة 7 أكتوبر والزلزال الذي أحدثته وحرب الإبادة الطويلة التي أعقبتها عوامل
أنتجت وضعاً مفارقاً أيضاً: "حماس" قوية إلى درجةٍ لا يمكن التخلّص منها كما ثبت حتى الآن،
وعنيفة من وجهة نظر الإقليم و"العالم" إلى درجةٍ يصعُب فيها التعامل معها.
قيادة سياسية هشّة تستند إلى "شرعية دولية" والداخل لا يريدها، وقيادة مقاومية تستند إلى
شرعية الداخل لكن العالم لا يريدها
من منظور السياسة الواقعية الصرفة، وهي جوهر نظريات العلاقات الدولية وممارساتها التي
أنتجها مفكّرو الغرب وسياسيّوه، وتُدرس كألف باء السياسة في الجامعات ودوائر صنع القرار، لا
مناص من التعامل مع قوة مؤثرة في الواقع السياسي مثل "حماس". في الوقت ذاته، عملت
حملات الدعاية السوداء على مدار عقود على شيطنة الحركة، كما فعلت مع كل حركات المقاومة
الفلسطينية، وصعدت بالجميع إلى أعلى نقطة في الشجرة، وهناك جرى تصنيف "حماس" حركة
إرهابية. بعد خمسة أشهر تقريبا من حرب الإبادة الصهيونية التي نجحت في قتل الفلسطينيين
الأبرياء، تقرّ واشنطن، ومعها العواصم الأوروبية (الاستعمارية) الفاعلة بأن إسرائيل فشلت في
تحقيق هدفها العسكري المعلن، وهو تدمير "حماس" وإنهائها. راهنت واشنطن وبروكسل (مقر
الاتحاد الأوروبي)، ومعهما معظم عواصم الإقليم العربية (وبما فيها قيادة السلطة الفلسطينية في
رام الله)، في بداية الحرب، على أن تدمير "حماس" لن يتجاوز أسابيع قليلة، ثم يُطوى ملفّها إلى
الأبد. لم يحدث ذلك، وعوضا عنه بدأت تلك الدول، الغربية والعربية، رحلة النزول التدريجي عن
الشجرة، ومعها التواصل غير المباشر مع "حماس". لكن هذا النزول، وعلى الأقل في المديين
القصير والمنظور، لن يصل إلى النقطة التي تعترف فيها هذه الأطراف أو بعضها بحركة حماس
طرفاً سياسياً يتم التعامل معه والاعتراف به. سوف تظل مسألة التواصل مع "حماس" ممارسة
خلف الأبواب المغلقة، وكثيرها محصورٌ في المقاربات الأمنية. في بداية المطاف ونهايته، لا تزال
"حماس" مُصنّفة منظمة إرهابية من أميركا والاتحاد الأوروبي وكندا ودول ذيلية كثيرة تصطكّ
أسنانها خوفاً من أميركا قبل إعلان تصريح هنا أو هناك. نحن، إذن، إزاء وضع ينطوي على
تناقضٍ يتجوهر حول واقع سياسي يفرض التعامل مع "حماس"، لكنه يتضادّ مع تصنيفها "
الإرهابي" ومع الصورة الدعائية بالغة البشاعة والتشويه التي جرى الاشتغال عليها بلا هوادة على
مدار عقود حول الحركة.
تتشكّل الأحزاب والحركات السياسية لخدمة قضايا وطنية، وهي، بالتعريف، أدوات وآليات، وليست
هدفاً وغاية في حد ذاتها
في نقطة الانعطاف التاريخي الكبيرة التي تمثّلها "7 أكتوبر" وما تلاها، هل يمكن تفكيك ذلك
التناقض عن طريق تغيير اسم "حماس" وبنيتها الشكلانية، مع الحفاظ على جوهرها المقاوم
والمسيّس، وإعلان أنها تحوّلت إلى حركة جديدة، وصارت مثلاً "جبهة المقاومة والتحرير
الفلسطينية". هل يفكّك حلٌّ مثل هذا بعض العقد الفلسطينية والحمساوية أولاً، ثم تالياً بعض العقد
الإقليمية والدولية؟ تتضمّن هذه الفكرة الخام جوانب جديرةً بالنقاش، وربما تستحقّ اهتماماً
فلسطينياً وحمساوياً مُعمّقاً. ليس جديداً أن يغيّر حزبٌ ما اسمه وعنوانه وشكله الخارجي، وربما
جوانب أخرى من تكوينه. تتشكّل الأحزاب والحركات السياسية لخدمة قضايا وطنية، وهي،
بالتعريف، أدوات وآليات، وليست هدفاً وغاية في حد ذاتها. عملياً، تنمو الأحزاب والحركات على
نحو غامض، بحيث قد يلتهم أحدها القضية التي أنشئ من أجلها ويحلّ مكانها، ويصبح الحزب أو
الحركة هو الهدف ذاته. لكن في الأوضاع التي تظلّ فيها الأحزاب مجرّد أدوات نرى شواهد على
المرونة السياسية، حيث تستجيب للتطوّرات الظرفية والسياقية، فتتبدّل وتتّسع، وربما تتغير كلياً. لو
نظرنا إلى تجربة العدو لرأينا عشرات الأحزاب والحركات التي نشأت وتغيّرت، وبعضها غاب عن
المشهد كلياً: أين مثلاً أحزاب الماباي والمعراخ، وهي التي كانت وراء تأسيس الدولة؟ لقد ذوّبت
ذاتها في أحزاب لاحقة ناسبت التطوّرات السياسية أكثر من الأولى. في التجربة الإسلامية في
السودان، يعرف الإسلاميون أن حسن الترابي تخلّى عن مسمّى الإخوان المسلمين، وأسس الجبهة
القومية الإسلامية في ثمانينيات القرن الماضي، وعبر بها إلى البرلمان السوداني قوّة ثالثة مؤثرة
في المشهد السياسي. وهناك أمثلة أكثر وأوسع لا يتسع المجال لذكرها، والأهم التأمل في الجوانب
التالية التي تخصّ "حماس" والمشهد الفلسطيني:
انتقال "حماس" ما بعد 7 أكتوبر إلى شكل سياسي جديد، جبهوي في جوهره، قد يساهم في توسيع
القاعدة الفلسطينية المحيطة بها
أولاً، وفي مقدّمة الجوانب هناك الهمّ الفلسطيني الداخلي المُلحّ. وهنا يمكن الزعم أن انتقال "
حماس" ما بعد 7 أكتوبر إلى شكل سياسي جديد، جبهوي في جوهره، قد يساهم في توسيع القاعدة
الفلسطينية المحيطة بـ"حماس" والمؤيدة لها مقاومياً، لكن المُتحفّظة على برنامجيها الاجتماعي
والديني. إذا غيّرت "حماس" ثوبها الخارجي، ولو شكلانياً في المرحلة الأولى، فإنها تسهّل على
شرائح فلسطينية كثيرة الاقتراب منها، بل والانضمام إلى عضوية الشكل الجديد. ولا يقلّ أهميةً عن
ذلك فتح مساحاتٍ سياسيةٍ جديدة لتطوير تحالفات حزبية وفصائلية تتشجع للتعامل مع الشكل الجديد
من دون كتلة المخاوف والشكوك التقليدية، وتدعم وتساعد أفكار إنشاء قيادة فلسطينية موحّدة تضم
الجميع.
من زاوية تاريخية، لم تستطع "حماس" بعد مرور 37 عاما من تأسيسها الحلول مكان "فتح"،
لأن هذه الأخيرة احتلت موقعاً توسّط شرائح الشعب الفلسطيني بعيداً عن الاشتراطات الأيديولوجية،
وضمنت تنوّعاً عكس طبيعة الشعب الفلسطيني. وظلّت الحركة تقول، مُحقّة، بأنها تشبه الشعب
الفلسطيني بمختلف مكوّناته (فيها المتدين وغير المتدين، اليساري واليميني، المحجّبة وغير
المحجّبة، العلماني وغير العلماني، المسلم والمسيحي، المغنّي ومؤذن الجامع، وسوى ذلك). من
زاوية ما، قد يُرى هذا التكوين سمة ضعفٍ تشير إلى ميوعة الحركة وضبابية أيديولوجيتها وغياب
بوصلة فكرية تقودها. لكنه، من زوايا أخرى، أثبت أنه مصدر قوة الحركة. احتاجت "حماس" دوماً
إلى توسيع دوائر مؤيديها، لكنها لم تصل إلى ما وصلت إليه "فتح" في التعبير عن الوطنية
الفلسطينية المتنوعة.
دول كثيرة، غربية وغيرها، أصبحت على قناعةٍ بضرورة التعامل مع "حماس" والانخراط معها
ثانياً، إقليمياً وعربياً. تواجه حركة حماس الآن وفي حقبة ما بعد حرب الإبادة وضعاً صعباً لجهة
علاقاتها مع الدول العربية والإقليمية، بما فيها تلك التي كانت لها علاقة قوية معها. عربياً، لم تنفتح
أي دولةٍ عربيةٍ على "حماس" خلال أشهر الحرب بالمعنى السياسي العريض، ويمكن القول إن كل
الحكومات العربية ارتجفت سيقانها ولا تزال ترتجف إزاء التعامل مع الحركة. وينطبق هذا بدرجاتٍ
متفاوتةٍ على حليفي "حماس" الإقليميين، تركيا وإيران، حيث خفَت صوت الأولى تماماً وبدا كأنها
أدارت ظهرها هي الأخرى خشية مما قد يطاولها من انتقام إسرائيل والولايات المتحدة، بينما لم تكلّ
الثانية من مواصلة التوكيد إلى درجة الملل أن لا علاقة لها بما قامت به "حماس" في 7 أكتوبر.
برغم ذلك الخوف المركّب والحنق المكبوت على حماس عندها، إلا أن كثيراً من هذه الدول تدرك أن
الحركة ستظل في قلب المشهد الفلسطيني، ويجب التعامل معها بطريقة أو أخرى. على هذا، ربما
يوفّر إعادة تشكيل الحركة وتحييد الاسم مساحة رمادية لها وللأطراف الإقليمية والعربية للتعامل
عبر الشكل الجديد. سيقول كثيرون إن هذا تخادع مكشوف، ولن يغيّر كثيراً في عناصر المشهد،
وهذا احتمالٌ وارد طبعاً. لكن هناك احتمالات أخرى موازية، يوفّرها الظرف الراهن الضاغط للتعامل
مع "حماس"، بما يدفع بقبول هذا التخادع مخرجاً ما لمأزق حضور الحركة إقليمياً وعربياً.
ثالثاً: دولياً، هناك دول كثيرة، غربية وغيرها، أصبحت على قناعةٍ بضرورة التعامل مع "حماس"
والانخراط معها، لكنها، كما ذُكر أعلاه، تجد نفسها رهينة الرهبة من الاسم والدعاية والتاريخ
والتصنيف الإرهابي للحركة. إذا بدّلت "حماس" اسمها ووسّعت بنيتها وقدّمت وجوهاً جديدة، فقد
تربك المشهد وتساهم في تفكيكه. من ناحية أولية، ستبدو حركة جديدة غير التي جرى تصنيفها
بالإرهاب، وتسهل على دول عديدة راغبة في التعامل معها القيام بذلك عملياً. من ناحية أخرى، قد
تختصر خطوة إعادة التشكيل مسافة طويلة من السجال والمطالبات بشأن تصنيف الحركة بالإرهاب.
أي تصنيف لأي حركة يحتاج إلى أدلة جديدة لا تتوفّر ضد جهة تأسّست حديثاً.
ليس ثمّة زعم هنا أن الاقتراح أعلاه سهل التطبيق، بل سوف يراه بعضُهم خيالاً جامحاً، فهناك،
على وجه التأكيد، تواريخ من العواطف والانتماءات والإرث النضالي والجهادي والشعبية الداخلية
والخارجية التي ارتبطت بالاسم مباشرةً وحامت حوله، وأعلته إلى درجة عالية بات يصعب على
المنتمين للحركة تخيّل تغيّره. ومع تفهم ذلك كله، وتقدير صعوبة تجاوز سيكولوجيا التجذّر في
المُعتاد والمُنجز، تبقى قوانين السياسة وسعة المستقبل أرحب كثيراً من ضيق الماضي والجمود
على ما تمّ الاعتياد عليه.