عن السياسي السوري خالد العظم
يكاد خالد العظم يكون واحدًا من السياسيين السوريين القلائل الذين مارسوا السياسة وفقًا لمفهومها
الغربي، بمعنى أنها وسيلة لتحقيق أهداف واضحة بعيدًا عن مسايرة الرغبات الشعبوية، أو الالتزام
بأسس أو أيديولوجيا ثابتة، أو بحثًا عن جماهيرية آنية من خلال الشعارات السائدة في الشارع
السياسي.
ومع أن العظم لا يوصف بأنه من رجال الاستقلال الوطني السوري، ولا من دعاة القومية العربية
حين ظهورها على الساحة العربية والسورية، فإنه ورغم تعامله ولسنوات طويلة مع الفرنسيين،
وتبوُّئه المناصب السياسية والإدارية العليا أثناء حكمهم، لم يُنعت بصفات اللاوطنية والعمالة التي
أُلصقت بساسة آخرين عملوا مع الفرنسيين، كالشيخ تاج الدين الحسني وحقي العظم. ورغم
معارضته الوحدة المصرية السورية وسياسات عبد الناصر، فإنه أيضًا لم يُنعت بصفات الارتهان
للغرب، كما كانت العادة مع من يعارضون السياسات الناصرية في سنوات أواخر الخمسينيات
ومطلع الستينيات، خلال الاصطدام مع الغرب ومعركة حلف بغداد.
ولم يمنع انحدار خالد العظم من إحدى كبرى العائلات الإقطاعية الدمشقية، وشغل والده- محمد
فوزي باشا العظم- أكبرَ المناصب في الدولة العثمانية، ومنها عضوية مجلس (المبعوثان-
البرلمان)، ومنصب وزير الأوقاف والشؤون الدينية زمن السلطان محمد رشاد.. لم يمنعه ذلك من
مد أواصر التقارب مع الاتحاد السوفياتي في سنوات الخمسينيات حين كان رئيسًا للوزراء، بل إن
نشأته تلك لم تمنعه من التحالف مع الشيوعيين السوريين في انتخابات عام 1954، ومع خالد
بكداش بالذات، وهو رئيس الحزب الشيوعي السوري والمقرب من موسكو، كما لم تمنعه نشأته
تلك من الاتجاه نحو الكتلة الشرقية، وبالتحديد نحو تشيكوسلوفاكيا، للحصول على السلاح للجيش
السوري.
كان لخالد العظم معركة مع الساسة اللبنانيين في سنوات ما بعد الاستقلال، مع ما يربطه بهؤلاء
الساسة من علاقات شخصية متينة، ناهيك عما يجمعهم من فكر سياسي واقتصادي متشابه
كل تلك الوقائع حملت له لقب "المليونير الأحمر" في الحياة السياسية السورية، والشارع السياسي
السوري.. طبعًا، كل ذلك لا يدعونا للظن أن خالد العظم كان مؤمنًا بالأفكار السياسية والاقتصادية
التي يطرحها اليسار وأنصار المعسكر الشرقي حينها، بل كان شديد الإيمان بالحياة السياسية
البرلمانية والأفكار الاقتصادية الليبرالية؛ لكنه سلوك السياسي البراغماتي- إذا صح التعبير- الذي
يرى في السياسة وسيلة لتحقيق الأهداف الوطنية والاجتماعية، بعيدًا عن الالتزام بأفكار
وأيديولوجيا ثابتة، أو مسايرة الأفكار والشعارات الشعبوية السائدة.
ولقد كان لخالد العظم معركة مع الساسة اللبنانيين في سنوات ما بعد الاستقلال، مع ما يربطه
بهؤلاء الساسة من علاقات شخصية متينة، ناهيك عما يجمعهم من فكر سياسي واقتصادي متشابه.
فعند استقلال كل من سوريا ولبنان عن فرنسا كانت كلتا الدولتين حديثتَي الاستقلال ترتبطان باتحاد
جمركي، ما يعني حرية انتقال السلع بين الدولتين دون حواجز أو فرض رسوم جمركية، سواء
أكانت السلع منتجة في إحدى الدولتين أو مستوردة.
وكان هذا الوضع لصالح التجار والمستوردين اللبنانيين، وكانت الحكومة اللبنانية تصر حينها على
إبقاء إدارة الجمارك في بيروت، بأن يكون مدير عام الجمارك المشتركة لبنانيًا حصرًا، وإذا أضفنا
إلى ذلك عدم وجود مرفأ في سوريا حينها، وأن مرفأ بيروت كان المرفأ المعتمد للتجارة الخارجية
لكلتا الدولتين، أدركنا الفوائد الكبيرة التي كان يحظى بها التجار ورجال الأعمال اللبنانيون دون
السوريين.
أدرك خالد العظم -وكان رئيسًا للحكومة السورية- ذلك الوضع، فطلب من الحكومة اللبنانية التحول
إلى وحدة اقتصادية كاملة بين البلدين بدلًا من الاتحاد الجمركي، وهو ما كان سينعكس إيجابًا على
السوريين لكبر حجم الاقتصاد السوري قياسًا للاقتصاد اللبناني، إلا أن الحكومة اللبنانية رفضت ذلك
العرض، ما دفع العظم وحكومته إلى إلغاء الاتحاد الجمركي بين البلدين، بل وإغلاق الحدود
السورية بوجه السلع اللبنانية، ما شكل أزمة اقتصادية للبنان حينها، ثم- ولحل مشكلة عدم وجود
مرفأ سوري لخدمة التجارة الخارجية- عمل العظم وحكومته على إصدار مرسوم عام 1950
بإحداث مرفأ اللاذقية ليكون بديلًا عن مرفأ بيروت، وهذا ما تحقق خلال سنوات الخمسينيات.
لا نعتقد أن خالد العظم خطر في ذهنه حينها أنه -وبعد سنوات من تلك الأزمة- سينتهي به الأمر
لاجئًا في بيروت مريضًا ومفلسًا، بعد أن تمت مصادرة أملاكه في دمشق، ما دفعه لكتابة مذكراته
لجريدة النهار اللبنانية ليؤمّن بعضًا من المال يستعين به على معيشته
مرة أخرى، كان سلوك العظم في هذه القضية سلوك السياسي الذي يرى في السياسة وسيلة لتحقيق
المصالح، بعيدًا عن العلاقات الشخصية والاشتراك مع الآخرين بذات المفاهيم السياسية
والاقتصادية، التي كانت تجمعه مع الساسة اللبنانيين أثناء تلك الأزمة.. ولا نعتقد أن خالد العظم
خطر في ذهنه حينها أنه -وبعد سنوات من تلك الأزمة- سينتهي به الأمر لاجئًا في بيروت مريضًا
ومفلسًا، بعد أن تمت مصادرة أملاكه في دمشق، ما دفعه لكتابة مذكراته لجريدة النهار اللبنانية
ليؤمّن بعضًا من المال يستعين به على معيشته، وليغادر الحياة عام 1965 موصيًا بأن يدفن في
الأوزاعي ببيروت، بعيدًا عن المدينة التي شهدت معاركه السياسية، ومنها خسارته في انتخابات
رئاسة الجمهورية في البرلمان، أمام الرئيس شكري القوتلي في انتخابات عام 1955.
يروى عن خالد العظم رواية لا ندري صحتها، مفادها أن صديقًا له سأله قائلًا: يا خالد بك، ما
حاجتك للسعي نحو المناصب وهمومها والانتخابات ومعاركها، وأنت سليل العائلة الثرية، ولديك
الثروة التي تغنيك عن كل ذلك؟ فأجابه العظم قائلًا: إن خبطة قدم العسكري وتحيته لي، وأنا أدخل
السرايا الحكومية، تعادلان نصف ثروتي التي تتحدث عنها.. ولعلها كانت نبوءة قدر لها أن تتحقق،
إذ إن خالدًا العظم لقاء خبطة العسكري تلك، وتلقي التحية وهو يدخل السرايا مرات ومرات، لم
يخسر نصف ثروته فقط، بل خسرها كلها.