تحوّلات الحق الفلسطيني في الوعي اللاتيني
منتصف نوفمبر/ تشرين الثاني عام 2019، كانت بوليفيا على أعتابِ حقبةٍ جديدةٍ من تاريخها السياسي بعد مسارعة الولايات المتحدة إلى الاعتراف رسميًا بجانين آنييز رئيسةً انتقاليّةً للبلد اللاتيني الحبيس، إثر اضطرار رئيسه اليساري المخضرم إيفو موراليس إلى إعلان الاستقالة أمام تمرّد قوات شرطيّة وتظاهرات عارمة في البلاد.
انعكاسات تلك الخطوة على سياسةِ بوليفيا الخارجية كانت سريعة للغاية، إذ سرعان ما أعلنت الرئيسة الانتقالية إعادة العلاقات مع إسرائيل. أعلنت ذلك حتى قبل الحديث عن خطّتها لإدارة الدولة المحتدمة، أو تهدئة الشارع الذي لا يزال غاضبًا ومشتعلًا.
وزير الخارجية الإسرائيلي يسرائيل كاتس صرّح آنذاك بأنّ "التخلص من الرئيس المعادي لإسرائيل موراليس واستبداله بحكومة بوليفية صديقة يسمحان للعلاقات الإسرائيلية البوليفية بالنضج". عبارات حادة وصادمة تمثّل، وفق المتعارف عليه سياسيًا، تدخلًا في الشأن البوليفي، وربّما يضع إسرائيل في دائرة التآمر ضدّ الرئيس موراليس، وهو الأمر الذي أشارت إليه صحف يسارية لاحقا، مُوجِّهةً الاتهام إلى وزير الخارجية البرازيلي إرنستو أراوجو ورئيسه اليميني جايير بولسونارو اللذين دعما سريعًا دفع الرئيسة الانتقاليّة لإعادة العلاقات مع إسرائيل.
بعدها بأشهر، أُجريت أوّل انتخابات رئاسية في بوليفيا، ليفوزَ فيها مرشّح حزب الرئيس السابق إيفو موراليس، وهو الرئيس الحالي اليساري لويس آرسي، الذي لا يزال يحكم البلد اللاتيني حتى كتابة هذه السطور. وفور توليه السلطة، أعاد قطع العلاقات مع إسرائيل فورًا، بالتحديد بعد أيّام من توليه منصبه، برفقة قرارين آخرين بإعادة العلاقات مع إيران وفنزويلا.
غير بعيد جغرافيًا وزمانيًا، كان الرئيس الفنزويلي اليساري نيكولاس مادورو يواجه اعتراف واشنطن بزعيم المعارضة اليميني خوان غوايدو رئيسًا مؤقتًا للبلاد، حتى إنّ منصّة إنستغرام سحبت شارة التوثيق من حساب مادورو، ومنحتها إلى غوايدو بصفته رئيس البلاد.
تحوّلت المسألة الفلسطينيّة مع الوقت من قضيّة نضاليّة جمعيّة في أميركا اللاتينية، إلى أيقونةٍ أيديولوجيّة بين اليسار واليمين
غوايدو، اليميني الذي درس في الولايات المتحدة وعاد إلى فنزويلا زعيمًا لكتلةِ المعارضة، فور تلقيه الاعتراف الأميركي بالرئاسة، خرج في خطابٍ ليعلن عن برنامجه في إدارة الدولة، فكان من أوّل ما بشر به هو إعادة العلاقات الفنزويلية مع إسرائيل. بينما اختصر الرئيس مادورو تحدّيه الإرادة الأميركية فور إدلائه بصوته في الانتخابات بأن التفت إلى كاميرات الصحافيين قائلًا: "تحيا فلسطين" ثمّ غادر.
ظلّت قضيّة فلسطين في الوعي اللاتيني مقرونة بتجربتهم مع المستعمر الأوروبي، إذ نظرت الحقبة اليسارية اللاتينية إلى الحقِّ الفلسطيني بوصفه نضال شعب ملوّن ضدّ استعمارٍ أوروبي أبيض تحت عباءةٍ دينيّةٍ (يهوديّة هذه المرّة)، وحضرت إسرائيل فيها بوصفها التجسيد الأخير للإمبريالية الأميركية والاستعمار الأوروبي.
ومع تغيّر المزاج اللاتيني في بعض بلدانها عن اليسار، والدعم الكبير الذي تلقته الأحزاب اليمينية من الولايات المتحدة، والذي جاء في أغلبه مقرونًا بتطبيع العلاقات مع إسرائيل، تحوّلت المسألة الفلسطينيّة مع الوقت من قضيّة نضاليّة جمعيّة في أميركا اللاتينية، إلى أيقونةٍ أيديولوجيّة بين اليسار واليمين، الأمر الذي جعل الموقف منها مرهونًا بالانتماء الحزبي والفكري، وبات الموقف السياسي حيال القضيّة (في كثير من الأحيان) ليس نابعًا من كونها قضيّة مستحِقة، بل لعوامل أخرى، آخر ما فيها هو الإيمان ببواعثها وعدالتها، وتمكن رؤية هذا بوضوح وبشكلٍ صارخ ضمن المحور اليميني في البلدان اللاتينية.
على الجبهة العربيّة، تخوض القضيّة الفلسطينية اليوم المنحدر ذاته، بعدما ظلّت على مدار سنوات راسخًا أساسيًا في الوعي العربي، وكان "عداء المحتل والإضرار به" هما باعث المواقف العربيّة الأكثر استقلاليّة عن أيّ انتماء أو قضايا عربية عربية.
وإذا كان ثمّة ما يجب على الخطاب العربي أن يراعيه عند مخاطبة الشعوب اللاتينية حول الحقِّ الفلسطيني، فهو إبقاؤه محصورًا في زاوية النضال ضدَّ المستعمر، وتحاشي تداخله أو الدخول في نفق الحزبيّة والرهان عليها. ولكن ذلك يستوجب أولًا أن يكون الباعث عربيًا في بناء المواقف هو "عداء المحتل"، واختزاله في زاوية العدو الجمعي الأوحد للشعوب العربيّة على طول انتماءاتها ونوازعها وخلافاتها المحتدمة.