"طوفان الأقصى" تراكمية التّأييد ودروس للعبرة... مساهمة مغاربية في التحليل
متظاهرون مغاربة تضامنا مع غزّة في الرباط (6/10/2024
يوحي عنوان المقالة بجدلية العاطفة والتّجاهل. عاطفة المغاربة تجاه ما يجري في فلسطين منذ العام
الماضي وتجاهل قطاع واسع من الإعلام العربي إشراك المغاربة في تحليل الأوضاع، وتشخيص
الصّراع، وقراءتهم تطوُّرات الموقف وتقديرات مآلات القضية أو اليوم التّالي للحرب. وهي إشارة
هامّة بمرجعية المشاركة قلباً وقالباً، تأييداً وعاطفة، من نخبة المنطقة إزاء ما يجري منذ بدء الحرب،
في مقابل ذلك التّجاهل من إشراك المغاربة من كلّ القنوات. والحديث، هنا، عن قنوات منصفة أو
متوازنة في التّغطية والتّحليل، لتُطرح، بشأن هذا كلّه، جملة من الأسئلة قد تكون الأجوبة عنها
صادمةً لموقف أضحى مُؤسفاً بسبب ذك التّناقض، وبسبب تلك الانعزالية التي تكاد النُّخبة تعيشها
وكأنّها تعمُّد في الإيحاء بأنّ المغاربة بعيدون عن ساحات المعركة أو أنّ المعركة لا تعنيهم إلّا من
حيث العاطفة، ولكن من دون فسح المجال لإبداء الرّأي والتّحليل للموقف.
لم يكن لكاتب هذه المقالة أن يطرح الأسئلة بشأن تلك الجدلية، لولا انتشار بعض الأغلوطات في
التّحليل أخيراً، تتعلّق أساساً بعدّة ملاحظات، أوّلها محاولة التّغاضي عن المشاركة الفعلية للحليف
الأميركي في الوضع منذ يومه الأوّل، بل منذ إنشاء الكيان، والثّانية تشير إلى ساحات القتال بين
الوحدة والتّفكُّك، إضافة إلى ملاحظة ثالثة تتعلّق بانخراط إيران في الحرب ودور الحرب نفسها في
لعبة الصّراع على ريادة الإقليم للحصول على وكالة للمصالح الأميركية بين ثلاثة فاعلين غير عرب:
الكيان وتركيا وإيران.
طبعاً، لا يصل بنا الأمر إلى الادّعاء أنّ تلك الأغلوطات متعمّدة، بل رأينا أنّها قصور في التّحليل،
بسبب أنّ المحلّلين، أو أغلبهم، يركّزون في قضايا بعينها من دون الالتفات إلى مواضيع لعلّها خفيت
عليهم أو أنّ إدراكهم الأمور أنّ تلك القضايا ليست من الأولويات، أو أنّ تأثير تلك المتغيّرات غير
وازن في تطوُّرات الوضع، وهو ما لا يراه بعضهم، ويا ليت أنهم شاركوا أو أشركوا للإدلاء
بمنظورات مغايرة وترتيباً للأولويّات بعيون مختلفة عن التي اعتاد عليها المشاهدون والمتابعون
لتحليلات المواقف منذ العام الماضي. من النّاحية الثّانية، تشير المقالة الى تحليلٍ مغايرٍ ومعالج لتلك
الأغلوطات أو ذلك القصور، لعلّه يكون العلاج لإشكالية تجاهل النُّخبة المغاربية في تحليلها الوضع
وتقديرها الموقف، وهو تحليل مرتكز على قراءة نابعة من تراكمية العاطفة، التّأييد والقدرة على
المشاركة بكفاءة في فهم مكنونات القضية وتطوُّرات الأمور بشأنها.
ونحن على أعتاب العام الثاني لـ"طوفان الأقصى"، أولى الملاحظات الخاصّة به أنّه صراع وجودي
وصفري لا يقبل التّسوية، لأنّه أعاد الحياة إلى ملفّ اعتُبر، إلى وقت قريب، أنّه قد طُوي بعاملي
صفقة القرن وموجة التّطبيع، إضافة إلى أنّ حقيقة أن الصّراع في غزّة ليس مع الكيان فقط، بل مع
الغرب بأكمله، أي إنّه صراع حضاري، تماماً مثلما تنبّأ به صموئيل هنتنغتون عندما كتب عن تغيُّر
طبيعة الصّراعات، من صراعات بين دول إلى صراعات بين حضارات، وعليه فإنّ الأمر مع "طوفان
الأقصى" استدعى المعطى الحضاري للصّراع بالمساندة اللُّوجستية، الاستخبارية، بل الشُّعورية من
الغرب بأكمله للكيان، واعتبار أنّ ما جرى في7 أكتوبر (2023) هو إرهاب، ونُسجت بشأنه أكاذيب
كثيرة ساعد الإعلام الأميركي في انتشارها، وسارع السّياسيون بغير دليل إلى تبنّيها والبناء عليها
لإعلان الإسناد، والتّأييد والوقوف ضدّ أي قرار يستهدف لجم الكيان عن استخدام القوة الغاشمة ضدّ
العُزّل والأبرياء في غزّة، ثمّ أخيراً في الضفة الغربية، وبداية من أواخر سبتمبر/ أيلول الماضي
وبداية أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، في لبنان، وسلسلة الاغتيالات لقيادة حزب الله.
تتّصل ثاني الملاحظات بتفكّك ساحات القتال، بعد أن كانت، إلى وقت قريب، موحّدة، وتقود كلٌّ منها
فصيلاً يؤدّي مهمّةً معيّنةً أو محدّدةً، أو لنقل إنّ تلك الفصائل كانت جماعات وظيفية بهامش اتّخاذ
قرار يختلف وفق طبيعة ساحة المقاومة وطبيعة الفاعل العدو، لتكون النتيجة، في نهاية الأمر،
ساحات مقاومة عديدة لكنّها بأهداف غير موحّدة، وبإدراك لمصيرية المعركة قد تصل إلى درجة
التناقض، ودليل هذا الأمر انخراط حركة حماس وفصائل فلسطينية في "طوفان الأقصى"، وبقاء
حزب الله في الهامش بمنظور يتكامل مع إدراك الراعي لقرار حزب الله، وهو ما بات يُعرف
بـــ"الصّبر الاستراتيجي".
استدعى "طوفان الأقصى" المعطى الحضاري للصّراع بالمساندة اللوجستية الاستخبارية، بل
الشُّعورية، من الغرب بأكمله للكيان
من نتائج هذا الموقف أنّ حركة حماس أوجدت معادلة القتال الاستراتيجية التي قضت بها على خرافة
الجيش الذي لا يقهر، بل حقّقت التعادل الردعي بصور معارك وقدرة على التّعامل الصراعي بمنظور
الندّية، بما لم يقدر عليه حزب الله وراعيه (إيران)، بالرّغم من خزّان التّجربة القتالية للحزب، سواء
ضدّ العدو الصهيوني أو في سورية، حيث دعاها النّظام السوري إلى التّدخُّل، وكانت له مشاركات
عدّة في التّنكيل بالمعارضة السُّورية.
ولتتمة الموضوع، نعرض الدُّروس العشرين لكلّ ما جرى منذ عام في غزّة، وتمدّد الصراع إلى
الضفّة الغربية، ثمّ إلى لبنان ومآلات ما نراه ماثلاً للعيان وممكناً في الأجل القريب. بداية، ما يجري
في غزّة وفي لبنان حرب واحدة، وطبيعتها وجودية صفرية لا تقبل إلّا منتصراً ومنهزماً، إذ معنى
الهدنة فيها وقف إطلاق النار أو فقدان توازن الردع بالصمت الاستراتيجي، إضافةً إلى تفككيك
الارتباط الموجود بين وحدة ساحات القتال، ذلك كلّه معناه واحدٌ، الاستسلام.
يشير المعنى الآخر لحربي فلسطين ولبنان إلى رغبة الغرب في إحياء صفقة القرن وضمان استمرار
موجة التّطبيع بمسمى حلّ الدّولتين الذي يقلّص وجود فلسطين إلى كيانين، أوّلُهما في سيناء والآخر
في وحدة مع الأردن. يحتاج النّجاح في تجسيد المُخطّط الخاص بتلك الحرب إلى إضعاف مصر (
اقتصادياً ومن خلال إغلاق منافذ الحصول على المال بالتضييق على قناة السويس من ناحية الصُّومال
وباب المندب)، واستمرار انكشاف العراق، وزوال الأردن إلّا في إطار القبول بوحدة تجمعه
بالمُهجَّرين من الضفّة الغربية، إضافة إلى فقدانه السيطرة والإشراف على الأماكن المُقدَّسة (المسجد
الأقصى)، تجسيد قوّة الدُّول غير العربية في الجوار الإقليمي على غرار إثيوبيا، وضمان تفكيك
الإقليم المغاربي من خلال التلاعب بمقدّرات المنطقة وإفقادها القدرة على التّجمُّع، مرّة أخرى،
بخاصّة بين الجارين، الجزائر والمغرب، من خلال التّطبيع مع الرّباط، وبناء إدراك وعقيدة
استراتيجية مع العرش الملكي المغربي.
حرب لبنان مخطّط استراتيجي لتوسيع رقعة الحرب وتفويت أيّ فرصة لتوقيع أيّ اتفاق هدنة أو
إنهاء الحرب مع حركة حماس في غزّة، حيث بدأ المخطّط بالضّفة الغربية، ثمّ تمدّد ليشمل بيروت.
ولأهداف الحرب على لبنان ثلاثة أبعاد: حماية شمال الكيان والمغتصبات هناك، وتحضير العالم
الفلسطينيين لمخطّط تهجير مزدوج، نحو سيناء لسكّان غزّة، ونحو الأردن لسكّان الضفّة الغربية.
وللمخطّط أبعاد ناعمة: أوّلاً، استدعاء التّاريخ لمعرفة الكيان واستخباراته بالعداوة السنّية الشيعية،
التي أُعيد إحياؤها في ثلاث فترات: في أثناء حرب الخليج الأولى بين العراق وإيران، بمناسبة ما
سُمّي مخطّط الهلال الشيعي، ثمّ منذ بداية الحرب الأهلية في سورية وانخراط حزب الله إلى جانب
النّظام السوري، نظرية وحدة ساحات المقاومة وإرادة تقويضها من الكيان، فالمقاومة الآن إمّا
داعشية إرهابية سنّية (حماس في غزة)، أو من أذرع إيران (الحوثيون، وحزب الله، والحشد الشعبي
في العراق). تجربة حدود العقيدة الاستراتيجية الإيرانية والعربية المسمّاة نظرية "الصمت
الاستراتيجي".
الاستفادة القصوى من خصوصية المرحلة بمرجعية الانتظار العالمي لمعركة الرئاسة في أميركا (
على بعد شهر)، فهناك منافسة محتدمة للحصول على مساندة اللوبي الصهيوني و"أيباك"، أكبر
منظّمة يهودية مساهمة في صنع الرؤساء والسياسيين في أميركا. الدّيمقراطيون يعبّرون عن
المساندة المطلقة بالدعم الحربي والمالي، إضافة إلى الانخراط في حرب المعلومات، بل إبراز طابع
التعاضدية من خلال زيارات وزير الخارجية الأميركي، بايدن، الكيان نحو عشر مرّاتٍ، وقد صرح
الأخير بأنه لا يتعامل مع حرب غزّة من منطلق مسؤوليته في وزارة الخارجية الأميركية فقط، بل
أيضاً من منطلق عاطفي هو أنّه يهودي. الجمهوريون بتصريح دونالد ترامب (مهندس صفقة القرن
وعرّاب نقل السفارة الأميركية إلى القدس مع الاعتراف بها عاصمةً أبديةً للكيان، من دون إغفال
إبطاله الاتفاق النووي مع إيران) بأنّ جغرافية الكيان يجب ألّا تبقى كما هي، بل عليها أن تتمدّد
بالمعطيات التي سبقت الإشارة إليها (عملية التّهجير المزدوجة).
لاحظ الباحث الفرنسي، فرانسوا بورغا، أنّ هناك جدلية بين مقاومة حزب الله (نموذج انتصار 2006
في الجنوب اللبناني ضدّ الكيان) والطّابع الوظيفي للحزب في سورية (2011)، وهو ما يمكن
الاعتراف بأنّه استدعاء للتاريخ في فعل مقاومي حديث ضدّ عدو يعرف تلك الجدلية ويوظّفها في
حربه. هناك دور فرنسي مريب يشبه استمرار الوصاية (نوع من أنواع الاستعمار كان يعرف
بالانتداب أو الحماية (Protectorat)، ولصالح فصيل محدّد هم الموارنة (الرّئاسة). هناك تشابه
كبير في الضعف والانكشاف (Vulnérabilité) بين وضع الجزائر قبل الاحتلال الاستيطاني
الفرنسي في 1830، حين أُضعِفت الجزائر لتصبح لقمةً سائغة لمشاريع فرنسا في التّوسُّع
الرّأسمالي، وتصدير مشكلاتها الدّاخلية، والوضع الذي عليه لبنان قبل هذه الحرب، إذ لا رئيس الآن
في لبنان، وهناك حكومة تصريف أعمال وبرلمان أعرج، من دون نسيان حادثة الميناء ودور القوى
المسيطرة في لبنان، ومنها حزب الله، في تعطيل السّياسة والاقتصاد. تجري الحرب في لبنان في إطار
تطوُّرات استراتيجية دولية تتّسم بإرادة إعادة الحياة إلى صفقة القرن ومواصلة موجة التّطبيع إضافة
إلى تصفير مشكلات الكيان، في الإقليم، باعتباره المنتصر في اللُّعبة الإقليمية للوكالة للمصالح
الأميركية (اللُّعبة كانت ثلاثية بين إيران وتركيا والكيان وانتهت لصالح خيار الانفراد للكيان بالوكالة
الأميركية).
هناك، قبل حرب غزّة ولبنان، مشاريع للعب دور الفاعل الوكيل للمصالح الأميركية بين لاعبين/
فاعلين ثلاثة، إيران وتركيا والكيان. الأميركيون يعبّرون عن خيارهم الوحيد في المنطقة، وهو
الكيان، ممّا حدا بتركيا إلى التّوجُّه ربّما نحو منتدى "بريكس" أو التّهديد بالخروج من حلف شمال
الأطلسي (ناتو)، في حين توجّهت إيران نحو الصّمت الاستراتيجي بسبب تأثير العقوبات، إبطال اتّفاق
الغرب بشأن النّووي الإيراني ووجوب انتظار ما ستسفر عنه انتخابات نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل،
والتّعرُّف على هُويَّة ساكن البيت الأبيض.
حرب لبنان مخطّط استراتيجي لتوسيع رقعة الحرب وتفويت فرصة توقيع اتفاق هدنة أو إنهاء
الحرب مع "حماس" بغزّة
يُلاحظ على الإعلام العربي، في تغطيته الأحداث في غزّة ولبنان، أنّه انقسم، في تغطية حرب غزّة،
ثمّ الحرب على لبنان، إلى قسمين. الأوّل قنوات تدافع وتبرّر للكيان جرائمه وتستضيف لذلك محلّلين
من الدول المطبّعة أو من الذين تبنّوا وجهة نظر الكيان. والثّاني استهدف تغطية تساوي بين جرائم
الكيان والضّحايا من الأبرياء إضافة إلى مواصلة تبنّيها شعار الرّأي والرّأي الآخر، إذ كانت تنقل
وجهات النّظر للكيان بحجم (ومضمون) تغطية وجهات نظر المقاومة (نماذج كلمات النّاطق الرّسمي
باسم كتائب عز الدّين القسّام، أبو عبيدة، وندوات النّاطق الرّسمي لجيش الكيان).
يمكن التّعرُّض لما يُسمّى العقل العربي المكبّل النّاتج عن تعطيل ملكات ومواهب كان بإمكانها صنع
التّميُّز والقضاء على الارتباط بين المنطقة (الشّرق الأوسط الكبير) وظاهرة الاستعصاء عن التّغيير،
الدّيمقراطية والتّطوّر. هناك ارتباط وثيق بين هذه الهجمات والإسناد اللُّوجستي والاستخباري
الأميركيين، ذلك أنّ الكيان هاجم، في 28 الشهر الماضي (سبتمبر/ أيلول)، لبنان وفلسطين واليمن
وسورية، في سابقة لا يمكن أن تتحقّق لولا ذلك الحلف الاستراتيجي بين الكيان وأميركا، وتسهيلات
الأميركيين للكيان، حتّى تقوم بذلك كلّه، وتظهر بمثابة الرّابح للحرب أو الفاعل الأساس فيها. الكلّ،
في العالم، ينتظر ساكن البيت الأبيض ويتحاشى الحديث عن هدنة، أو وقف لإطلاق النّار، بل لا حديث
عن عربدة الكيان وضرباته الكبيرة لعواصم عربية في آن واحد.
هناك خيط رفيع بين اختلاف ساحات المقاومة أو تفرُّقها، ووجوب التّرحُّم على الأمين العام لحزب الله
حسن نصر الله الذي استُشهد، بالابتعاد حتماً من تلك المنابر الحائرة بين المُستريح والمُسترَاح منه.