ما بعد الطوفان.. أبعاد إستراتيجية
هذه أيام لها ما بعدها ، ففي هذه اللحظات تدور رحى حرب ضروس يشنها اليهود على مساحة من الارض لا تتجاوز 360 كيلومترا مربعا يقطنها أكثر من مليوني إنسان، طحنهم الحصار و سدت عليهم المنافذ و هم منذ ثمانية عشر عاماً يتجرعون مرارات لا يدرك ألمها إلا من ذاقها. لهذه الحرب التي تُشن على غزة و تحصد في كل دقيقة عدداً لا يحصى من الشهداء و الجرحى ، تحترق قلوب المؤمنين و تتفطر أفئدتهم لما يصيب إخوانهم و هم عاجزون عن نصرتهم …… لا يستطيعون حيلة و لا يهتدون سبيلاً !! و العزاء أن لمشاعر الالم و المؤازرة تلك منازل عند الله و مقامات في موازين الحق ، و هل تتمايز أقدار الناس عند الله إلا بما تحويه صدورهم و ما تنطوي عليه سرائرهم و ما يستقر في قلوبهم !
و لكن الإنغماس في الحدث الظرفي بمراراته و مستهلكاته النفسية و العقلية ينبغي أن لا ينسينا الأبعاد الإستراتيجية للغزوة الأكبر في تاريخ الصراع مع اليهود ، فيوم السابع من أكتوبر (2023) إنعطافة إستراتيجية في مسار الصراع ، و هي كشأن الحوادث الكبرى في حركة التاريخ ، لها ما بعدها ، المحصلة الجوهرية لغزوة “طوفان الأقصى” تتخطى النجاحات العملياتية من قتل و أسر و تشريد للعدو و تدمير لآلياته و أختراق لتحصيناته و تعطيل لأنظمته الاستخباراتية ، تتخطى ذلك كله إلى التحولات الكلية الناجمة عن ذلك الفعل الإستراتيجي البالغ الإحكام .
الحديث في الباب يطول، و حسبي في هذه المساحة أن أجمل لك ستة مستخلصات إستراتيجية ستحكم معادلة الصراع على الصعيدين المحلي (الفلسطيني-الإسرائيلي) و الاقليمي:
• إعادة تموضع المقاومة و ظهورها كقوة حسم ،و ليس كما أريد لها أن تكون : مجرد تكتل عسكري محاصر لا يملك سوى تلك الرشقات الصاروخية التي يطلقها بين الحين و الآخر. المقاومة اليوم تضخمت في الحسابات الاقليمية و ستشهد زوايا النظر اليها إنقلاباً جذرياً، و خاصة على المستوى الرسمي العربي الذي طالما سعى إلى تفكيكها .
• إنكسار معادلة الصراع الراهنة التي سعى اليهود و حلفاءهم الدوليون و الاقليميون الى تثبيتها بحسبانها المرحلة ما قبل النهائية لإغلاق الملف الفلسطيني ، و عناصر تلك المعادلة : سلطة فلسطينية بالغة الهشاشة ، كتلة عسكرية محاصرة في غزة ، نظام عربي متماه تماما مع المشروع الاسرائيلي ، تحضير إسرائيلي للاستيلاء على الاقصى و تصفية جيوب المقاومة في الضفة، إنكسرت تلك المعادلة و تتشكل على أنقاضها معادلة أخرى .
• إنزواء التمدد الاسرائيلي الاقليمي و تراجع مشاريع التطبيع ، و من شأن ذلك أن يحدث تحولا في خارطة التحالفات الاقليمية .
• تكاثف حالة الرعب و الهلع في المجتمع الإسرائيلي ، أي أن الأمن القومي الإسرائيلي قد أصيب في مقتل بما يشكل ضغطاً على صناعة الخيار السياسي و يربك صانع السياسات.
• تحولات مركزية في الحسابات الاقليمية إزاء القضية الفلسطينية و تشمل : إعادة تقييم الأوزان النسبية لفرقاء الصراع ؛ حماس ، السلطة الفلسطينية ، و إسرائيل ….
• إعادة تشكل الرأي العام العربي و الاسلامي بما يعزز حالة النفير و يرفع مستويات الغضب ليس إزاء العدوان الإسرائيلي فحسب، بل إزاء النظام السياسي الصامت عن جرائم يهود. و تلك حالة إذا إتسع نطاقها فإنها تنذر بزلزال سياسي و خاصة في دول الطوق.
الحديث في الباب أوسع مما تقدم ، و لكنها خلاصات مركزة عسى أن تجود الايام بتبيانها على نحو أكثر تفصيلا.