منتدى الشنطي
سيغلق هذا المنتدى بسبب قانون الجرائم الاردني
حيث دخل حيز التنفيذ اعتبارا من 12/9/2023
ارجو ان تكونوا قد استفدتم من بعض المعلومات المدرجة
منتدى الشنطي
سيغلق هذا المنتدى بسبب قانون الجرائم الاردني
حيث دخل حيز التنفيذ اعتبارا من 12/9/2023
ارجو ان تكونوا قد استفدتم من بعض المعلومات المدرجة

منتدى الشنطي

ابراهيم محمد نمر يوسف يحيى الاغا الشنطي
 
الرئيسيةالرئيسية  البوابةالبوابة  الأحداثالأحداث  أحدث الصورأحدث الصور  التسجيلالتسجيل  دخول  

 

 القضية الفلسطينية – رؤية ثورية التالي »

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

القضية الفلسطينية – رؤية ثورية التالي »  Empty
مُساهمةموضوع: القضية الفلسطينية – رؤية ثورية التالي »    القضية الفلسطينية – رؤية ثورية التالي »  Emptyالأحد 27 أكتوبر 2024, 10:11 am

القضية الفلسطينية – رؤية ثورية

1. مقدمة


وضعت انتفاضة الأقصى الجماهير الفلسطينية مرة أخرى في صدارة الساحة السياسية للعالم العربي. وأصبحت وكالات الأنباء تتناقل مرة أخرى صورة “المناضل” الفلسطيني الذي يقف بشجاعة في وجه الآلة العسكرية الصهيونية، بعد أن كانت الصورة المعتاد نقلها في السنوات الأخيرة هي صورة “المفاوض” الفلسطيني الذليل على مائدة المفاوضات الاستسلامية يستجدي عطف الإسرائيليين والأمريكان من أجل قطعة أرض.
وطرحت الانتفاضة قضايا وتساؤلات عديدة في الشارع المصري… تساؤلات حول طبيعة الصراع بين العرب وإسرائيل؛ موقف الأنظمة العربية من القضية الفلسطينية؛ العلاقات التي تربط بين الأنظمة العربية من جهة والدولة الصهيونية والإمبريالية من جهة أخرى؛ حل النزاع هل يكمن في المفاوضات أم المقاطعة الاقتصادية أم الحرب؟ وإلخ من تساؤلات…
تنوعت الإجابات التي طُرِحَت رداً على التساؤلات السابقة. فالدعاية الرسمية الحكومية ركزت على السلام ك ـ “خيار استراتيجي” لا بديل عنه، ووجهت انتقادات لاذعة لدعاوى “الحرب” ضد إسرائيل، بل وشن الإعلام المصري حملة شرسة ضد الفلسطينيين متهماً إياهم ب ـ “الجحود” و”نكران الجميل” لجهود “الشقيقة الكبرى” مصر وتضحياتها خلال العقود الماضية من أجل نصرة القضية الفلسطينية!
أما الحركة الإسلامية فصبت جام غضبها على اليهود، وصورت الصراع العربي/الصهيوني الحالي على أنه امتداد تاريخي لعداوة مستحكمة بين المسلمين واليهود، وحاولت توجيه الحركة الجماهيرية تجاه مقاطعة المنتجات الأمريكية وتلك التي يدخل “رأس المال اليهودي” في ملكيتها. هذا مع دعوة غامضة إلى “الجهاد” بدون برنامج واضح أو استراتيجية محددة لتنفيذه. وشاركت بعض قطاعات من القوميين واليساريين في الدعوة لاستخدام “سلاح المقاطعة” إما لغرض “دعم المفاوض الفلسطيني” أو خطوة للتعبئة من أجل حرب نظامية ضد إسرائيل…
سنحاول في هذا الكراس التعرض للموضوعات المثارة أعلاه مع محاولة طرح رؤية للقضية الفلسطينية في إطار الثورة الاشتراكية بالعالم العربي. وبالتالي ينقسم الكراس إلى خمسة أجزاء: حيث سنعرض
أولاً: المسألة اليهودية ونشأة الصهيونية في أوروبا، في محاولة لتحديد الفارق بين اليهودية والصهيونية، ومعرفة جذور الصراع الحالي.
ثانياً: يأتي عرض الصراع في فلسطين قبل 1948 والطريق إلى النكبة.
ثالثاً: انطلاقة حركة الفدائيين ـ في الشتات الفلسطيني ـ متبنية الكفاح المسلح، مع التركيز على الدور الذي لعبته حركة “فتح” حتى الخروج من بيروت عام 1982.
رابعاً: انفجار الانتفاضة في 1987 وتوابعها في الشرق الأوسط.
خامساً: سنعرض سريعاً المسيرة التفاوضية في التسعينيات،
سادساً: بناءً على نقد التجربة النضالية الفلسطينية، سنحاول طرح استراتيجية بديلة للثورة الفلسطينية في المرحلة الحالية من الصراع.


عدل سابقا من قبل ابراهيم الشنطي في الأحد 27 أكتوبر 2024, 10:48 am عدل 1 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

القضية الفلسطينية – رؤية ثورية التالي »  Empty
مُساهمةموضوع: رد: القضية الفلسطينية – رؤية ثورية التالي »    القضية الفلسطينية – رؤية ثورية التالي »  Emptyالأحد 27 أكتوبر 2024, 10:11 am

2. المسألة اليهودية ونشأة الصهيونية

اليهود في العالم القديم:
تعمد بعض القوى السياسية إلى الخلط بين اليهودية والصهيونية، وترى الصراع الحالي كجزء من مؤامرة يهودية ترجع جذورها إلى الصراعات التي قامت بين المسلمين واليهود في فجر الدعوة الإسلامية. وقد يكون الهتاف “خيبر خيبر يا يهود، جيش محمد سوف يعود” الذي اعتدنا سماعه في مظاهرات الطلاب والمهنيين خير تجسيد لهذه الرؤية. وتُرجع تلك الرؤية انحياز أمريكا والغرب لإسرائيل بسبب “سيطرة اللوبي اليهودي” على وسائل الإعلام والاقتصاد.
وعلى الجانب الآخر تتضمن الدعاية الصهيونية التركيز على فكرة تضامن وترابط اليهود على مر العصور، وتعزو ذلك للثقافة والديانة اليهودية التي خلقت “أمة يهودية” استطاعت أن تحافظ على تميزها وترابطها بالرغم من تغير المجتمعات االتى يعيشون بها.
ولكن الرؤيتين المذكورتين أعلاه كليهما لا أساس لهما من الصحة. وسوف نعتمد في الرد عليهما بالأساس على أطروحة المناضل أبرهام ليون ( (1918 ـ 1944): مناضل ماركسي يهودي من الأممية الرابعة التروتسكية. وُلِد في بولندا، واستقر به المقام في بلجيكا حيث نشط في تنظيم سري لمقاومة الاحتلال النازي لبلجيكا. كتب أشهر أعماله “المسألة اليهودية” وهو مختبئ من قوات الاحتلال. نجح النازيون في النهاية في القبض عليه، ولقي حتفه في غرف الغاز بمعسكر “أوشفتز” في بولندا.) في محاولة لتحليل جذور المسألة اليهودية. وكان ليون قد انطلق في دراسته المستفيضة عن تاريخ اليهود محاولاً إثبات أن استمرارية تواجد الثقافة اليهودية والترابط الاجتماعي بين اليهود عبر العصور ليست لها أية أسباب دينية أو خصوصية عرقية، بل لها صلة وثيقة بالدور الاقتصادي الذي لعبه اليهود في العالم القديم وفي عصر الإقطاع. وقد نجح ليون في التوصل إلى نتائج هامة في دراسته، إذ خلص إلى أن الطبيعة المادية للأراضي التي سيطر عليها اليهود قديماً في فلسطين هي التي دفعتهم إلى العمل بالتجارة بدلاً من الزراعة. فالأراضي التي استوطنها اليهود كانت ذا طبيعة قاحلة وغير خصبة. وساهم وقوع فلسطين تحت سيطرة الإمبراطورية الرومانية إلى تعزيز دور اليهود التجاري، إذ حَرَمت قوانين الاقتصاد العبودي الروماني قطاعات واسعة من المجتمع الروماني من ممارسة مهنة التجارة. فمثلاً مُنِعَ أبناء الأرستقراطية الرومانية من امتلاك السفن، فأدى ذلك إلى تدخل اليهود لملء هذا الفراغ، ونشطوا كجماعة تجارية مميزة.(1) وتشير بعض الدراسات الأخرى إلى بدء الشتات اليهودي (الدياسبورا) قبل انهيار المعبد الثاني على يد الرومان عام 70 م، إذ كان اليهود بالفعل منتشرين في أرجاء الإمبراطورية الرومانية في مهام تجارية.
اليهود وعصر الإقطاع:
ومع سقوط النظام العبودي وانتشار الإقطاع الزراعي في أوروبا، ظهر اليهود كجماعة وظيفية لا غنى عنها للطبقات الحاكمة الإقطاعية. ففي مجتمعات تعمل الغالبية العظمى من جماهيرها بالزراعة فقط، نشط اليهود في ملء الفراغ التجاري مرة أخرى. فقاموا بجلب التحف الثمينة من الشرق إلى الغرب لملوك الإقطاع، ولعبوا دوراً حيوياً في المعاملات المصرفية كإقراض النقود والربا. وتسابق الملوك والأمراء الأوروبيين لاستضافتهم في ممالكهم وإماراتهم من أجل تنشيط اقتصادهم ولتمويل الحروب التي كانوا يخوضونها. بل واتجهت أيضاً جماهير المسيحيين الفقراء للاستدانة من اليهود لدفع الضرائب الباهظة التي كان الإقطاعيون يفرضونها.(2) ونتيجة لاقتصار اليهود على لعب دور واحد في الاقتصاد الإقطاعي ظهروا كجماعة مميزة عن الملوك والإقطاعيين والفلاحين المسيحيين، فشكلوا كما يسميه ليون (شعب ـ طبقة)، أي أنهم كانوا شعباً يؤدي وظيفة طبقية محددة بقلب المجتمع الأوروبي.
تمتع اليهود في ذلك الوقت بامتيازات ضخمة ولم يكونوا عرضة لاضطهاد منظم كما تدَّعي الأدبيات الصهيونية. ولكن بالطبع أثناء الثورات والانتفاضات الفلاحية كان اليهود هدفاً سهلاً لهجوم وغضب الجماهير بسبب ثرواتهم وإثقالهم لكاهل الفقراء بالديون.
الرأسمالية ومعاداة السامية:
مع انتهاء عصر الإقطاع وبدايات انتشار الرأسمالية في أوروبا، بدأت تظهر لأول مرة طبقة جديدة من التجار المسيحيين الذين رأوا في اليهود منافسين يجب الإطاحة بهم. وحينئذ بدأت حملات “معاداة السامية” في التصاعد في المجتمعات الأوروبية. ولكن مع تطور الرأسمالية وقيام الثورة الصناعية، تفتت المجتمع اليهودي في أوروبا الغربية، وفقد وحدته، وتفرق أعضاؤه ما بين الطبقات المختلفة ـ برجوازية، طبقة وسطى، طبقة عاملة. وبدأت عملية “اندماج” واسعة لليهود في المجتمعات الأوروبية، ولفترة هدأت حدة معاداة السامية وكادت أن تختفي. أما في أوروبا الشرقية ـ التي بدأت التصنيع مؤخراً وحيث تركزت غالبية يهود العالم ـ كان الحال مختلفاً. جاءت عملية تفتيت المجتمع اليهودي أكثر قسوة ووحشية، فاستخدمت الطبقات الحاكمة الأوروبية الشرقية اليهود ككبش فداء للأزمات الاقتصادية العنيفة والظروف المعيشية السيئة التي رزحت تحتها الجماهير. فمورس أشد أنواع القهر ضد اليهود، وتم تنظيم حملات مذابح بربرية ضدهم في بولندا وروسيا وأوكرانيا. ونزح عشرات الآلاف منهم فراراً من الإبادة متجهين إلى أوروبا الغربية. (3)
لم يرحب أحد في الغرب بهذا الجيش هائل الحجم من اللاجئين. رأت الطبقات الحاكمة فيهم “فائضاً بشرياً” يمثل عبئاً على اقتصادها. ولم يرحب أيضاً بهم يهود البرجوازية والبرجوازية الصغيرة في الغرب، فاللاجئين من اليهود الشرقيين كانوا في نظرهم “أجلافاً غير متحضرين” ويشكلون خطراً على جهودهم الرامية إلى الاندماج في مجتمعاتهم. (4) وما لبثت الطبقات الحاكمة الغربية أن عملت على إذكاء مشاعر معاداة السامية مرة أخرى لتفريق صفوف الطبقة العاملة الناشئة، ولتشتيت انتباه الجماهير عن ممارساتها القهرية، وتوجيه مشاعر غضبهم وإحباطهم بعيداً عنها باتجاه اليهود متبعةً سياسية “فَرقِّ تَسُدْ”. (5)
نشأة الحركة الصهيونية:
تواكبت الظروف السابقة مع بزوغ ظاهرتين جديدتين في أوروبا: الدولة القومية، والإمبريالية. فمع التوسع الهائل الذي شهدته الرأسمالية بعد منتصف القرن التاسع عشر، دخلت القوى الأوروبية في صراع محموم على المستعمرات لفتح أسواق جديدة تستطيع فيها تصريف فائض إنتاجها والحصول على المواد الخام بأسعار رخيصة. وفي هذا السياق نشأ التيار القومي اليهودي، نشأ كرد فعل لفقدان الأمان والثقة في المجتمع الأوروبي، ولكنه في نفس الوقت كان “مِرآة” لهذا المجتمع ومماثل له في التوجهات. نادى القوميون اليهود بضرورة فصل اليهود عن سائر أفراد المجتمع، وأكدوا على ضرورة تنظيم اليهود ذاتياً وبعيداً عن باقي التنظيمات الاجتماعية/السياسية الموجودة. (6) ومن رحم معاداة السامية وانتشار الفكر القومي والمد الاستعماري وُلِدَت الصهيونية. وجاء أقوى تعبير عنها على يد الصحفي اليهودي النمساوي ثيودور هرتزل، مؤسس “الصهيونية السياسية”.
تمتع هرتزل بشهرة لا بأس بها في الأوساط الأوروبية لا سيما بعد تغطيته لأحداث “قضية دريفوس” بباريس عام 1894، فقد أُتُهِمَ زوراً الكولونيل اليهودي الفرنسي ألبرت دريفوس بالعمالة لألمانيا. وفجرت فضيحة اتهامه ألغاماً من القضايا الحرجة والشائكة في المجتمع الفرنسي، مثل معاداة السامية والفساد. وتمت إعادة محاكمته وتبرئته بعد اندلاع حملة تضامن قوية بدأها الكاتب الفرنسي ـ غير اليهودي ـ إميل زولا، ونشرها التيار الاشتراكي في أنحاء أوروبا. وجاءت البراءة كضربة موجعة لليمين الفرنسي والكنيسة الكاثوليكية والمؤسسة العسكرية الفرنسية.(7) فماذا كان رد فعل هرتزل تجاه ما حدث؟ كتب يقول في مذكراته:
في باريس اتخذت تصرفاتي طابعاً متحرراً تجاه معاداة السامية التي بدأت أفهمها في سياقها التاريخي وأتفهمها. وفوق كل ذلك أدركت عبث محاولة مقاومة معاداة السامية.(Cool
يعد “تفهم” هرتزل لمعاداة السامية الفرضية الأساسية التي تنطلق منها الصهيونية. فالصهاينة يرون أن معاداة السامية شئ أزلي وأنه لا يمكن حدوث توافق بين اليهود وغير اليهود. في كتابه “دولة اليهود” أكد هرتزل على أن اليهود الذين سينجحون في الاندماج في المجتمعات الأوروبية هم الأغنياء فقط، ونبه إلى خطورة الهجرة اليهودية الضخمة الآتية من الشرق وعن حتمية تسببها في مشاكل لأثرياء اليهود. كما عبر عن قلقه إزاء انخراط أعداد واسعة من الشباب اليهودي في الحركات الاشتراكية الثورية. ورأى هرتزل أن حل المسألة اليهودية هو أن يتم تهجير اليهود خارج أوروبا، وإقامة دولة لهم تتمتع برعاية إحدى القوى الإمبريالية الأوروبية.(9)
شهد عام 1897 انعقاد أول مؤتمر صهيوني في مدينة بازل السويسرية بحضور 200 عضو من 17 دولة، وتم الإعلان عن ولادة “المنظمة الصهيونية العالمية”. واتجه هرتزل بمشروعه يدق أبواب جميع الدول الاستعمارية، بما فيها أشد الحكومات معاداةً للسامية! فحاول أن يفاوض السلطان العثماني، والملك الإيطالي إيمانويل الثالث، وقيصر ألمانيا، والحكومة البريطانية. بل ووصل به الأمر إلى مفاوضة فياشسلاف فون بليهف وزير داخلية روسيا القيصرية ومدبر إحدى أبشع المذابح ضد اليهود في الإمبراطورية الروسية عام 1903 !! (10)
وعلى عكس ما يشاع اليوم عن وجود مخططات توراتية/ يهودية قديمة للسيطرة على القدس في إطار حرب دينية ضد الإسلام، لم يكن هرتزل مكترثاً بموقع الدولة اليهودية الاستيطانية، إذ فكر في إقامتها في شبه جزيرة سيناء، منطقة العريش، أوغندا، جزيرة قبرص، الكونغو البلجيكي، موزمبيق، العراق، ليبيا، أو فلسطين.(11) فقد كان العامل الرئيسي المؤثر في اختياره هو المصالح الإمبريالية ومدى موائمة الموقع المختار معها. ولم يحاول هرتزل إخفاء الطبيعة الاستعمارية لمشروعه الصهيوني، فمثلاً أثناء التفكير في أوغندا كموقع للدولة اليهودية كتب في رسالة لصديقه الحميم ماكس نوردو يقول أنه ينبغي على اليهود
أن ينتهزوا الفرصة المواتية ليصبحوا إنجلترا صغيرة… لنبدأ بالحصول على مستعمراتنا أولاً، وبقوة هذه المستعمرات سنقوم بغزو وطننا. ولتكن الأرض التي تقع بين الكلمنجارو وكينيا أولى مستعمرات إسرائيل. وليكن هذا هو الأساس الذي يقف عليه صهيون. (12)

في سعيه لإقامة دولته الاستيطانية دعا هرتزل الحركة الصهيونية لإتباع نفس أساليب الدول الاستعمارية، فاقترح إنشاء شركة يهودية على غرار الشركات الاستعمارية البريطانية ـ مثل شركة الهند الشرقية ـ لتكون طليعة استيطانية وتمهد البنية التحتية الأساسية للدولة الجديدة، وأكد مراراً عند تعريفه للصهيونية ب ـ “أنها فكرة استعمارية”. (13) ولاحقاً كتب الزعيم الصهيوني حاييم وايزمان أنه لو لم توجد فلسطين لكان من الضروري خلقها من أجل مصلحة الإمبريالية. (14)
الإمبريالية والصهيونية:
لم تتفق الحركة الصهيونية على اختيار القوة الإمبريالية التي ستلجأ لها، أو حتى موقع الدولة الاستيطانية الجديدة. فقد نشأت فصائل وأجنحة متنازعة بداخل الحركة؛ نادى بعضها ببريطانيا كقوة حامية للمشروع الصهيوني، في حين فضل البعض الآخر ألمانيا، أو فرنسا، أو حتى الإمبراطورية العثمانية. نفس الشيء بالنسبة لموقع الوطن القومي، فقد طالب فصيل بفلسطين، في حين نادى آخرون بإقامة الوطن القومي في أوغندا، ورأت بعض الفصائل الأخرى ليبيا والعراق والكونغو كبدائل مناسبة أيضاً. ولكن الذي حسم الخلاف حول دولة الحماية وموقع الوطن القومي هو توازنات القوى الإمبريالية بعد الحرب العالمية الأولى. فقد انتصر التيار الذي تزعمه حاييم وايزمان ـ رئيس المنظمة الصهيونية العالمية آنذاك ـ المنادي بالاستعانة ببريطانيا إثر خروجها بعد الحرب العالمية الأولى كأقوى دولة إمبريالية في العالم. وكانت بريطانيا قد بدأت تتحمس للمشروع الصهيوني في فلسطين منذ أواخر القرن التاسع عشر، ووجدته ملائماً لمصالحها الاستعمارية في الشرق. فوجود دولة يهودية عميلة في الشرق الأوسط أصبح ذا ضرورة قصوى لحماية مصالحها في تلك المنطقة المشتعلة بحركة وطنية عنيفة بمصر وحركة قومية عربية ثورية بالشام. فستقوم تلك الدولة العميلة بحماية خطوط الاتصال والسكك الحديدية التي تربط بين أرجاء الإمبراطورية البريطانية، وستعمل على تأمين قناة السويس ـ أهم طريق ملاحي يربط بين الشرق والغرب. وازدادت بريطانيا هرولةً تجاه المشروع الصهيوني مع بدء ظهور اكتشافات بترولية في بلاد فارس (إيران) التي كانت تعاني من القلاقل وعدم استقرار سياسي. (15) بالإضافة إلى أن وجود اليهود “الأوروبيين” في تلك المنطقة سيفتح سوقاً جديداً واسعاً للمنتجات الأوروبية.
ولم يحسم الأمر سوى ذلك الرعب الشديد الذي شعرت به الطبقة الحاكمة البريطانية، وباقي الطبقات الحاكمة الأوروبية تجاه التحولات الثورية التي كانت تحدث في روسيا في عام 1917. فقد أوضحت جلياً شرارة الثورة الأولى في شهر فبراير إمكانية تطور مجريات الأحداث إلى ثورة اشتراكية تهز دعائم الحكم في أوروبا والعالم. وبالتالي أصبح دعم الحركة الصهيونية ضرورة ملحة لسببين: أولاً: الصهيونية بطابعها الرجعي والمضاد للثورة قد تكون قوة مساعدة على احتواء العمال اليهود الأوروبيين الذين انخرط مئات الآلاف منهم في صفوف مختلف الحركات الاشتراكية الثورية. ثانياً: أصبح ضرورياً إنشاء دولة تلعب دور “قاعدة للإمبريالية” في الشرق الأوسط لاحتواء توابع المد الثوري ومنع انتشاره في تلك المنطقة. وليس مستغرباً إذاً أن يصدر “وعد بلفور” المؤيد لإنشاء وطن قومي لليهود بفلسطين في 2 نوفمبر 1917 (16) ـ أي عشية الثورة البلشفية. وقد تكلم اللورد ونستون تشرشل عضو البرلمان البريطاني ـ والذي أصبح لاحقاً رئيساً للوزراء ـ مدافعاً عن وعد بلفور بقوله أن إنشاء دولة يهودية تحت حماية التاج البريطاني يعد مفيداً للغاية من جميع الجوانب، ومتوائماً مع مصالح الإمبراطورية البريطانية ـ التي من أهمها “تدمير مخططات الثوري الروسي ليون تروتسكي الرامية لإقامة دولة شيوعية عالمية يسيطر عليها اليهود.” (17) ويفوح كلام تشرشل هنا ليس فقط برائحة صهيونية نتنة؛ بل وبرائحة معادية للسامية أيضاً.
لوبي يهودي؟
لقد كان إصدار وعد بلفور –كما أسلفنا ـ نتيجة لحسابات ومصالح إمبريالية للإمبراطورية البريطانية، وليس نتيجة ل ـ “سيطرة اليهود” على الاقتصاد أو الإعلام البريطاني آنذاك. فعلى العكس، كانت الجالية اليهودية في بريطانيا في ذلك الحين ضئيلة الحجم، ومندمجة لحد كبير في المجتمع البريطاني، بل وسيطر على أغلبيتها اتجاه معادي بشدة للصهيونية. في حين كان اليهود بألمانيا آنذاك أكثر عدداً، وشغلوا مناصب حكومية مهمة، واحتلوا مواقع اقتصادية استراتيجية، فسيطروا على أكبر ثلاثة بنوك ألمانية، وتواجد العديد منهم في الأوساط الإعلامية والفنية والسياسية الحزبية. وكان للحركة الصهيونية في بدايتها “توجهاً ألمانياً”، فكان مقرها في برلين، وكانت لغة مؤتمراتها الرسمية هي الألمانية، وكانت القيادات الصهيونية تواقة لجعل مشروعها ضمن إطار المشروع الاستعماري الألماني.(18)
إذا طبقنا نفس الرؤية السائدة اليوم ـ التي تُرجع انحياز أمريكا لإسرائيل بسبب “سيطرة اليهود” على الاقتصاد والإعلام هناك ـ على حالة وعد بلفور، فكان سيكون من المنطقي إذن أن يستصدر الصهاينة وعد بلفور من ألمانيا وليس بريطانيا حينئذ! ولكن ذلك لم يحدث. فالدول الإمبريالية تحدد تحركاتها وتحالفاتها طبقاً لمصالح دولتها الاستعمارية. ففي وقت صدور وعد بلفور، كان المشروع الصهيوني في تناقض مع مصالح الإمبريالية الألمانية المرتبطة بتحالفات مع الدولة العثمانية ـ التي كانت فلسطين إحدى ولاياتها. وبالتالي لم يكن من الممكن للألمان ـ بالرغم من “السيطرة اليهودية” المزعومة ـ إصدار وعد للصهاينة بإعطائهم فلسطين لأن هذا كان سيكون على حساب تحالفاتهم مع العثمانيين. ولكن الوضع كان مختلفاً بالنسبة للإمبريالية البريطانية: إذ كانت متحالفة مع الدولة العثمانية حتى اندلاع الحرب العالمية الأولى، وبالتالي كان أول موقع للوطن القومي اليهودي يعرضوه على الصهاينة في شرق أفريقيا (أوغندا) ـ أي خارج نطاق الدولة العثمانية، ولكن بدخول بريطانيا الحرب ضد العثمانيين، واعتزامها تقسيم الدولة العثمانية، (بالإضافة للمكاسب الأخرى التي ذكرناها في الجزء السابق) أصبح من الممكن إصدار وعد بلفور وإعطاء فلسطين للصهاينة.(19)
تأييد جماهير اليهود للصهيونية؟!
من الأمور المثيرة للسخرية أنه منذ نشأة الحركة الصهيونية وحتى الحرب العالمية الثانية تمتعت الحركة الصهيونية بتأييد ضئيل للغاية بين الجماهير اليهودية، إلى الحد الذي دفع وايزمان للاعتراف بأن
وعد بلفور كان مبنياً على الهواء، ورُوِيَ أنه عام 1927 كان يرتعد خشية أن تسأله الحكومة البريطانية عن مدى تأييد اليهود للحركة الصهيونية، فهي كانت تعلم أن “اليهود ضدنا… كنا وحدنا نقف على جزيرة صغيرة، مجموعة صغيرة من اليهود لهم ماض أجنبي.”(20)
فضلت الغالبية العظمى من يهود العالم البقاء في أوطانهم وعدم الهجرة إلى فلسطين. وتحت ضغوط المذابح والقهر كانت أقلية منهم هي التي تهاجر إلى فلسطين، في حين كانت الأكثرية الكاسحة تفضل الهجرة إلى أمريكا الشمالية. ففي الفترة (1880 ـ 1929) هاجر حوالي 4 ملايين يهودي من أوروبا الشرقية… اتجه حوالي 120 ألف منهم إلى فلسطين، في حين اتجه أكثر من 3 ملايين إلى الولايات المتحدة وكندا. وفي عام 1914 كان عدد أعضاء المنظمات الصهيونية في أمريكا حوالي 12 ألف عضو، وهو ما كان يعادل عدد الأعضاء اليهود فقط في فرع الحزب الاشتراكي بمنطقة لُوِر إيست سايد في حي منهاتن بمدينة نيويورك! (21)

الهجرات اليهودية الأولى لفلسطين:
بدأت الهجرة اليهودية إلى فلسطين في أواخر القرن التاسع عشر على نطاق ضيق. وقد اكتشف المستوطنون الرواد فور وصولهم كذب الشعار الصهيوني الزاعم بأن فلسطين “أرض بلا شعب”، إذ وجدوا هناك شعباً يفلح الأرض ويعمرها مثلما كان جدوده يفعلون عبر آلاف السنين الماضية. بل ووجدوا فلسطين من أكثر مناطق البحر المتوسط تكدساً بالسكان. ففي عام 1914 كانت الكثافة السكانية بفلسطين 20,29 شخص في الميل المربع، في حين كانت الكثافة في سوريا ولبنان 8,53 وتركيا 10,67. (22)
تزايد معدل الهجرة بعد وعد بلفور، فوصل عدد المهاجرين في الفترة (1919 ـ 1923) إلى حوالي 34 ألف مهاجر، ووصل حوالي 34 ألف مهاجر آخرين في عام 1925. وبحلول عام 1927 وصل حجم التواجد اليهودي بفلسطين إلى 150 ألف شخص مثلوا 16% من تعداد السكان في فلسطين الذي بلغ حوالي مليون نسمة آنذاك. (23)
بدأ المستوطنون الصهاينة حملة واسعة لشراء الأراضي من ملاك الأراضي العرب الغائبين، بالإضافة لاستخدام أساليب ملتوية لانتزاع الأراضي من الفلاحين الفلسطينيين مستخدمين سلطات الانتداب البريطاني والإرهاب المسلح.

الصهيونية والطبقة العاملة اليهودية في فلسطين:
اتجهت الحركة الصهيونية منذ البداية لإقامة مجتمع يهودي منفصل تماماً عن المجتمع العربي بفلسطين في كل الجوانب وبالذات الجانب الاقتصادي. حرص الصهاينة على أن يتم استبعاد العرب كليةً من الأنشطة الاقتصادية، ولهذا الغرض تأسس “الهستدروت” ـ الاتحاد العام للعمال اليهود في أرض إسرائيل. لم يكن الهستدروت نقابة عمالية بقدر كونه المؤسسة الصهيونية القيادية والعامود الفقري للاقتصاد الاستيطاني.(24)
رفع الهستدروت شعار “أرض يهودية ـ عمل يهودي ـ منتج يهودي”، فقد كانت مهمته الأساسية هي التأكد من أن مجتمع المستوطنين تتم خدمته بواسطة عمال ومنتجات يهودية. وبذل قادته مجهودات ضخمة للفصل بين العمال العرب واليهود في مواقع العمل.(25) أطلق بن جوريون ـ رئيس الهستدروت آنذاك ـ على هذه الاستراتيجية اسم “تهويد العمل”. وتعتمد تلك الاستراتيجية على استخدام العنف لمنع صاحب العمل اليهودي من تشغيل أي عامل عربي في مشروعاته وخاصةً في المناطق التي يسيطر عليها المستوطنون. وأما في المناطق السكنية المختلطة التي تضم عرباً ويهوداً، حيث لا مفر لصاحب العمل اليهودي من استخدام أيدي عاملة عربية، فعليه أن يدمغ السلع التي تنتجها أيدي عربية ويهودية مشتركة بدمغة خاصة وأن يبيعها بسعر أقل من السلع المثيلة التي أنتجتها أيدي عاملة يهودية فقط. وللتأكد من التزام رجال الأعمال اليهود بسياساته، قام الهستدروت بتكوين فرق مسلحة من أجل التفتيش على المزارع والمصانع والأسواق للبحث عن العمال العرب وتغريم صاحب العمل اليهودي إذا ثبت تشغيله لهم. (26) وكان من المألوف أن ينظم الصهاينة مظاهرات صاخبة أمام المزارع التي تجرأ أصحابها وسمحوا للعمال العرب بالعمل بها للمطالبة بفصل هؤلاء العرب. وكان من المعتاد رؤية شبان يهود يتجولون بالأسواق اليهودية التي تعج ببائعات الخضراوات والبيض، وفجأة يقوم هؤلاء الشبان بتكسير بيض إحدى البائعات وصب زيت برافين على خضرواتها لا لأي سبب سوى اكتشافهم أنها عربية. وفي الفترة (1936 ـ 1939) قام طلاب الجامعة العبرية في القدس بتنظيم مظاهرات متواصلة ضد نائب رئيس الجامعة دكتور ماجنس لقيامه باستئجار بيتٍ من مالك عربي! بل وفي حادثة مشهورة في تل أبيب عام 1945 تمت مهاجمة إحدى المقاهي وتحطيمها تماماً بعد انتشار الشائعات بوجود عامل عربي يغسل الصحون في أحد أركان مطبخها الخلفي!(27) بالإضافة إلى العوامل السابقة والفروق الضخمة في الأجور، أصبحت للعامل اليهودي مصلحة مادية مباشرة في استبعاد الفلسطيني. ويرجع ذلك للطبيعة الاستيطانية للمجتمع اليهودي ككل بفلسطين ـ الذي جعل وجوده المادي مبنياً على استبعاد فلسطينيين. فإيجاد مكان في فلسطين لليهودي القادم من أوروبا كان معتمداً بالأساس على استبعاد أو طرد فلاحين فلسطينيين من أرضهم لإقامة مستوطنة. ويضع هذا المجتمع الإسرائيلي بكل طبقاته في تناقض مع الفلسطينيين، ويأخذ هذا التناقض “الخارجي” أولوية على التناقضات الطبقية “الداخلية” بالمجتمع الإسرائيلي نفسه. ويتردد صدى تلك الرؤية بقوة في خطبة موشى ديان الشهيرة بمناسبة مقتل المستوطن روي روتبرج على يد الفدائيين الفلسطينيين في عام 1956:
نحن جيل من المستوطنين، وبدون الخوذة الفولاذية والمدفع لا يمكننا أن نزرع شجرة أو أن نبني بيتاً. وينبغي ألا نلين أمام الحقد الذي يلهب صدور مئات الألوف من العرب حولنا. ينبغي ألا ندير رؤوسنا كي لا ترتعش أيدينا. إن قدر جيلنا هو أن يكون مستعداً ومسلحاً، قوياً وقاسياً، كي لا يقع السيف من قبضتنا وتنتهي حياتنا.(28)
وبفضل العوامل المذكورة أعلاه، نجحت الصهيونية في احتواء الطبقة العاملة اليهودية بفلسطين. ولهذا لا يمكن وصف تلك الطبقة العاملة بال ـ “تقدمية”، ولا يمكن تعليق آمال كبرى عليها في إحداث تغييرات ثورية بالمنطقة. وفي نفس الوقت نجد أنه من السخف، بل من الغباء، أن ننساق وراء الشعارات التي رددها اليسار الستاليني العربي في عام 1948 الداعية لوحدة العامل اليهودي والعربي، أو الشعارات التي يرددها اليوم أشباه المثقفين من مجموعة “كوبنهاجن” حول ضرورة الاتصال باليسار الإسرائيلي “التقدمي” ـ الذي لا يعدو كونه يساراً صهيونياً في حقيقة الأمر.
النازية وانتعاش الصهيونية:
في أواخر العشرينيات من القرن العشرين تعرض مجتمع المستوطنين في فلسطين –ال ـ “يشوف” ـ لأزمة اقتصادية عنيفة، وركود في الهجرة، وارتفاع رهيب في نسبة البطالة، إلا أن صعود النازية والفاشية للحكم في أوروبا أدى إلى تدفق المهاجرين كالطوفان إلى روسيا وفلسطين، خاصةً بعد أن أغلقت الدول الأوروبية أبوابها أمامهم. فوصل عدد المستوطنين الصهاينة في فلسطين إلى 443 ألف شخص بحلول منتصف الثلاثينيات. (29) واختلفت نوعية المهاجرين الجدد؛ فمن بين الفارين من جحيم الفاشية في أوروبا كانت هناك قطاعات واسعة من المهنيين ورجال الأعمال، الأمر الذي أدى إلى انتعاش اليشوف ثقافياً وسياسياً واقتصادياً. ففي الفترة (1925 ـ 1929) بلغ حجم الاستثمارات اليهودية حوالي مليون جنيه فلسطيني، ثم قفز هذا الرقم إلى 7 ملايين في الفترة (1933 ـ 1939). (30) واشتد عود المجتمع الصهيوني، وازدادت قوة تنظيماته المسلحة بفضل الانتعاش الاقتصادي والرعاية البريطانية. وبدأت وحدات “الهاجاناه” العسكرية ـ التي أُنشئت في العشرينيات ـ تكتسب طابعاً نظامياً بحلول عقد الثلاثينيات، وشاركت في صفوف الجيش البريطاني تحت اسم “الفيلق اليهودي” في الحرب العالمية الثانية.
لقد كانت الحرب العالمية الثانية نقطة تحول في تاريخ الحركة الصهيونية ودفعة هائلة لها. فبعد كشف النقاب عن فظائع النازية التي تضمنت إحراق الملايين من اليهود في أفران الغاز، تلقت الحركة الصهيونية تأييداً جارفاً من يهود العالم الذين شعروا بصحة الطرح الصهيوني حول استحالة التوافق بين اليهود وغير اليهود. ولكن لم يأخذ هذا التأييد في معظم الأحوال شكل الهجرة إلى فلسطين ـ كما كان الصهاينة يحلمون، إذ أخذ بالأساس شكل التأييد المادي أو المعنوي. واستمرت الغالبية العظمى من اليهود المهاجرين في الاتجاه إلى أمريكا بدلاً من فلسطين.
واليوم من المهم دائماً تذُّكر دور المحرقة النازية في دفع يهود العالم لتأييد الصهيونية، فالتهليل الذي تقوم به أحياناً الصحافة الرسمية والتيارات الإسلامية والقومية لأي بوادر اضطهاد موجهة ضد اليهود في الخارج (ويتضمن ذلك نفي حدوث الإبادة النازية) له عواقب وخيمة على القضية الفلسطينية. فكلما ازدادت معاداة السامية في الخارج، كلما دفع ذلك يهود العالم إلى تبني الصهيونية واللجوء إلى خيار الهجرة إلى إسرائيل.
الاشتراكية والنضال ضد معاداة السامية:
حاولت الحركة الصهيونية على مدار تاريخها طمس الدور الفعال الذي لعبه اليهود في الحركة الاشتراكية في سعيها لتقديم نفسها كالتيار السياسي الوحيد القادر على تحرير اليهود. منذ نشأتها أولت الحركة الاشتراكية اهتماماً بقضية معاداة السامية، وأكدت على ضرورة الربط بين تحرر الطبقة العاملة والنضال ضد معاداة السامية، نظراً لأن اليهود شكلوا قطاعاً لا يستهان به من الطبقة العاملة الأوروبية، ولأنها رأت معاداة السامية كأحد صور التمييز التي تستخدمها الطبقات الحاكمة لتفريق صفوف العمال. ولعب الكثير من اليهود دوراً مهماً في تأسيس وقيادة الأحزاب الاشتراكية في أوروبا والعالم، وانخرط مئات الآلاف منهم في مختلف الحركات الثورية إلى الحد الذي دفع بوزير مالية روسيا القيصرية ـ الكونت ويت ـ إلى الشكوى لهرتزل بأن اليهود يشكلون 50% من أعضاء الأحزاب الثورية الروسية بالرغم من كونهم يمثلون 5% فقط من تعداد سكان الإمبراطورية الروسية!. (31)
كان أحد هذه الأحزاب هو ال ـ “بوند” –الرابطة العامة للعمال اليهود ـ التي تأسست عام 1897 لتصبح أول حزب اشتراكي جماهيري في الإمبراطورية الروسية. عارضت البوند الصهيونية بشدة، ورفضت فكرة إقامة دولة قومية لليهود، وربطت بين الثورة الاشتراكية وتحرر اليهود. وقد تمتعت البوند بتأييد كاسح في أوساط العمال اليهود، ووصل عدد أعضائها إبان ثورة 1905 في روسيا إلى 40 ألف عضو. وتبوأت كوادر البوند مواقع قيادية كثيرة وقت الأزمات الثورية. ولكن احتوى فكر البوند على ملامح قومية يهودية، إذ دعت لتنظيم العمال اليهود ذاتياً، والحفاظ على استقلالية تنظيمية في الحركة، وانتزاع حق تمثيل العمال اليهود، الشيء الذي رفضه لينين وتروتسكي وباقي البلاشفة لتعارضه مع مبدأ الأممية. وانتقد لينين سياسة البوند التي رأى أنها ستكرس عزلة العمال اليهود بالدعوة لفكرة “الأمة اليهودية”. وكتب لاحقاً يقول: إن مهمة الاشتراكيين ليست التفريق بين الشعوب بل توحيد عمال جميع الشعوب، ثم استطرد قائلاً: “لا تحمل لافتتنا شعار الثقافة الوطنية، بل الثقافة الأممية.” (32) وعلى هذا الأساس رفض حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي ـ بقيادة لينين وعدد من القادة الاشتراكيين الآخرين ومن بينهم يهود ـ الطلب الذي تقدمت به البوند في مؤتمر الحزب عام 1903 لاعتبارها الممثل الأوحد للعمال اليهود في روسيا. فقد رأى الاشتراكيون أن الاستجابة لطلب البوند سينتج عنه “تقسيم العمال داخل منظمات الحزب حسب المبدأ القومي والتخلي عن مبدأ المنظمة الطبقية الواحدة للطبقة العاملة المتواجدة فوق الأرض الواحدة.” (33)
ولاحقاً أثبتت ثورة أكتوبر 1917 صحة الاستراتيجية الاشتراكية التي اتبعها لينين والبلاشفة تجاه المسألة اليهودية. فما أن اندلعت الثورة في روسيا ـ تلك البلد ذات التاريخ الطويل في اضطهاد اليهود ـ حتى اختار العمال الروس ثواراً يهوداً من البلاشفة ـ مثل تروتسكي وكامينيف وزينوفييف وسفيرديلوف ـ لقيادة الحكومة السوفيتية الثورية الجديدة. وأعلنت الثورة حرية العقيدة وألغت العقبات التي فرضتها القيصرية أمام تعليم وإقامة اليهود وكافة الأقليات الدينية والعرقية الأخرى . وخلال الحرب الأهلية (1918 ـ 1922) ضد جيوش الثورة المضادة التي ذبحت آلاف اليهود، طبق الجيش الأحمر الثوري عقوبات صارمة ـ وصلت إلى عقوبة الإعدام ـ ضد مرتكبي المذابح. وفي ظل الحكومة العمالية تم الاعتراف بلغة الـ “ييديش” (لغة يهودية تمزج بين الألمانية والعبرية القديمة، وكانت مستخدمة على نطاق واسع بين اليهود في أوربا الوسطى والشرقية.) ـ التي كان يستعملها اليهود الأوروبيون ـ كإحدى اللغات الرسمية للدولة، وتمت مساواتها بباقي اللغات. وتأسست مفوضية للشئون اليهود ولجنة يهودية خاصة بالحزب البلشفي، وكانت مهمتهما كسب جماهير اليهود للاشتراكية وتشجيع مشاركة اليهود في شئون الدولة العمالية. وشهدت السنوات الأولى للثورة ازدهاراً غير مسبوق للـ “ييديش” وللحياة الثقافية اليهودية. ففي (1926 ـ 1927) كان أكثر من نصف التلاميذ والطلبة اليهود يدرسون في مدارس تستخدم اللغة الييديش، وقدمت 10 مسارح تملكها الدولة عروضها بنفس اللغة. (34)

وقد قررت البوند ـ بعد أن لمست إنجازات الثورة البلشفية في عملية تحرير اليهود ـ أن تحل نفسها وتنضم للحزب البلشفي. ولكن تدهورت أوضاع اليهود لاحقاً بتدهور أوضاع الثورة الروسية نتيجة لانعزالها والحرب الأهلية الطاحنة والتدخل الإمبريالي العسكري. وبانتصار الثورة المضادة بقيادة ستالين ووصول البيروقراطية للحكم ـ على أنقاض المؤسسات العمالية التي دُمِرَت إبان الحرب ـ تم القضاء على جميع مكاسب العمال الثورية ومن ضمنها تحرر اليهود. ولكن تجربة السنوات الأولى من الثورة الروسية أثبتت أن السبيل الوحيد لتحرر اليهود والأقليات يأتي عن طريق اتحادهم مع اخوتهم العمال ضد النظام الرأسمالي الذي يولد علاقات اضطهادهم، وليس عن طريق عزلهم وتجنيدهم لخدمة الإمبريالية كما نادى الصهاينة.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

القضية الفلسطينية – رؤية ثورية التالي »  Empty
مُساهمةموضوع: رد: القضية الفلسطينية – رؤية ثورية التالي »    القضية الفلسطينية – رؤية ثورية التالي »  Emptyالأحد 27 أكتوبر 2024, 10:12 am

3. الصراع في فلسطين قبل نكبة 1948

تطور المجتمع العربي في فلسطين:
اشتغلت الغالبية العظمى من سكان فلسطين بالزراعة. وقد شكل الفلاحون الذين كانوا يشغلون قاعدة الهرم السكاني حوالي 80% من السكان في بداية الحكم البريطاني، وقدر عددهم في عام 1922 بحوالي 478 ألف نسمة؛ ارتفع في عام 1944 إلى 800 ألف قروي مشكلين بذلك 66% من التعداد الكلي للسكان و70% من مجموع السكان العرب بفلسطين. (35) وسيطر عدد ضئيل من العائلات على مساحات شاسعة من الأراضي، فطبقاً للإحصائيات المأخوذة في العشرينيات امتلكت 144 عائلة حوالي 3,1 مليون دونم (1 دونم = ربع فدان) من الأراضي. وامتلك البعض منهم مئات الآلاف من الدونمات. وبلغ مجموع ما تمتلكه 250 عائلة من أراضي ما يساوي حيازات جميع الفلاحين. وبلغ متوسط ما تمتلكه العائلة الفلاحية 0,46 دونم فقط. وبالرغم من امتلاك 65% من عائلات الفلاحين لبعض الرقع الزراعية الصغيرة، إلا أن معظمهم عاش على حد الكفاف. ومن 65% من مجموع الأراضي المؤجرة امتلك ثلثيهما ملاك غائبون مقيمون بالمدن الفلسطينية. (36)
وقد خلق التدخل الاستعماري (البريطاني/الصهيوني) قطاعاً صناعياً حديثاً في فلسطين. واستلزم ذلك تطوير قطاع الخدمات، وتطوير الاقتصاد النقدي، وإعادة توزيع السكان فزاد عدد سكان المدن نظراً لتراجع الزراعة التقليدية أمام الزراعة الرأسمالية المميكنة. وكان نتيجة ذلك أن تعرض الآلاف من الفلسطينيين لفقدان أعمالهم، فقد أدت عملية تركيز الملكية الزراعية إلى تحويل قطاعات من صغار الملاك إلى عمال بالأجر، وأصبح غالبيتهم من العاطلين، مما دفع بالعديد منهم إلى النزوح إلى المدينة بحثاً عن فرص عمل. أما بالنسبة للحرفيين، فقد نجح عدد قليل من العمال المهرة في الالتحاق بعمل في القطاعات الصناعية الأكثر تطوراً، ووقع الباقي في مستنقع البطالة. ولكن استفاد من هذا التطور قطاعان: الأول: هو البرجوازية العربية التي امتلكت معظم أراضي فلسطين بالرغم من تركزها في المدن. فقد تحكمت في تجارة المحاصيل الزراعية ـ وتلك الصناعات المرتبطة بالزراعة مثل الزيوت والصابون وآلات الري ـ من خلال القروض التي تمنحها للفلاحين الصغار ومتوسطي الملكية مقابل الالتزام بتوريد المحاصيل الزراعية لهم. هذا بالإضافة إلى تحكم البرجوازية العربية في الصناعات التقليدية مثل الغزل والنسيج، والمواد الغذائية، والأثاث. الثاني: هو المهنيين؛ فقد واكب عملية التحديث تكوين طبقة وسطى حديثة من المهنيون (موظفين، ومدرسين، ومحامين، وأطباء، إلخ)، وذلك من أجل المشاركة في الأعمال الإدارية والخدمية والحكومية. وتكونت هذه الطبقة بالأساس من أبناء أسر كبار ملاك الأراضي الذين تمكنوا من توفير فرص التعليم الحديث لأبنائهم. (37)
وصاحب تطور العلاقات الرأسمالية نشوء طبقة عاملة صناعية، تركز أغلبها في المجتمع اليهودي بحكم حيازة المهاجرين لمستوى أعلى في التدريب والمهارة، وبحكم تدفق رأس المال اليهودي والبريطاني لدعم الصناعات في القطاع اليهود. وقد بلغ عدد العمال اليهود المنظمين بالهستدروت حوالي 154433 عاملاً في عام 1946. (38) وقد بذل الاستعمار البريطاني/الصهيوني أقصى ما في وسعه لعرقلة نمو الصناعة العربية. وبالفعل كانت الصناعات العربية أقل تطوراً من مثيلاتها اليهودية، ولجأت معظمها ـ كما أسلفنا ـ إلى المجالات التقليدية أو تلك المرتبطة بالنقل والمواصلات. وتركز العمال العرب بمدينة حيفا، وبلغ عددهم حوالي 100 ألف عامل بحلول عام 1946. (39)
العائلات وحركة المقاومة:
كانت لطبقة ملاك الأراضي السيطرة المطلقة على الحياة السياسية الفلسطينية. ولم تلعب البرجوازية الفلسطينية دوراً فعالاً في الساحة السياسة يستطيع تقديم بديل لسياسات ملاك الأراضي التقليدية الرجعية، ويرجع ذلك إلى تشابك العلاقات والمصالح بين ملاك الأراضي والبرجوازية الصاعدة، وانحدار الأخيرة من أصول إقطاعية، وتحجيم قدرتها بواسطة رأس المال اليهودي. واتسمت الحياة السياسية بمنافسة حامية بين عائلات كبار ملاك الأراضي. بدأت المنافسة بين آل الحسيني وآل الخالدي في القرن التاسع عشر، ثم تحولت لاحقاً إلى صراع حامي الوطيس بين آل الحسيني وآل النشاشيبي. (40)
لعبت العائلات دوراً رجعياً في حركة المقاومة، إذ حاولت دائماً توجيه مشاعر غضب الجماهير الفلسطينية تجاه اليهود فقط وتفادي الصراع مع قوات الاحتلال البريطاني. وعمدت في معظم الأحوال إلى اتباع أساليب سلبية غير راديكالية اقتصرت على المذكرات والعرائض والاحتجاجات المكتوبة والمؤتمرات التي تعقد بتصريح من حكومة الانتداب التي كانت تخرج في النهاية بقرارات “معتدلة” (41) وفي وقت الأزمات الثورية حرصت العائلات على كبح حركة الجماهير، إذ كانوا في حالة خوف دائمة من احتمالية خروج زمام الأمور من أيديها، وخوف من أن ازدياد راديكالية فلاحينها قد ينقلب عليها بسبب الأوضاع المزرية التي عاشها الفلاح الفلسطيني نتيجة للقهر والاستغلال الذي مورس ضده بواسطة هذه العائلات.
وتسابقت العائلات ـ في ظل المنافسة والصراع بينهما ـ إلى محاولة التقرب من البريطانيين من أجل الحصول على رضا المندوب السامي وتولي مناصب قيادية محلية. واستغلت كل عائلة الحركة الوطنية لتحقيق مكاسب عائلية لها على حساب الآخرين. واستفاد البريطانيون من هذه المنافسة وعملوا على تعميقها لإضعاف وتفريق صفوف الحركة. (42)
بدأت العائلات ـ منذ فبراير 1919 ـ في عقد سلسلة من المؤتمرات السياسية السنوية والنصف سنوية محاولةً خلق آلية تستطيع بها السيطرة على الحركة الجماهيرية. وبالطبع كان معظم أعضاء هذه المؤتمرات من كبار ملاك الأراضي وأبناء البرجوازية الفلسطينية. وقد تم انتخاب “لجنة تنفيذية” للمؤتمر العربي الثالث في نهاية عام 1920، واستمر عملها حتى المؤتمر السابع، وتم إسناد رئاسة المؤتمر إلى موسى كاظم الحسيني الذي بقى حتى وفاته في عام 1934 رئيساً للجنة التنفيذية وجميع المؤتمرات الوطنية. وقد تقدمت بعض العناصر بطلب للمؤتمر بضرورة إنشاء هيئات عمالية وفلاحية، وبالطبع قوبل الطلب بالرفض من النخبة الفلسطينية في المؤتمر. (43) وفي مذكرتها للجنة التنفيذية للمؤتمر طالبت القيادة الفلسطينية البريطانيين بوقف الهجرة اليهودية باسم محاربة البلشفية! (44)
لم تمنع سيطرة العائلات على الحياة السياسية الانتفاضات والثورات العفوية التي كانت تندلع من وقت لآخر بين صفوف الجماهير الفلسطينية. فشهدت الفترة (1919 ـ 1921) اشتباكات عنيفة بين العرب والصهاينة، وهجوم على مستوطنات صهيونية، وأهداف بريطانية. وتعد انتفاضتي القدس 1920 ويافا 1921 أشهر هذه الانتفاضات. وكان موقف العائلات الفلسطينية منهما هو موقف “المتفرج أو المهدئ”! (45)
وفي محاولة لاستمالة بريطانيا قررت اللجنة التنفيذية إرسال وفد للتفاوض مع تشرشل ـ وزير المستعمرات آنذاك ـ في لندن عام 1921. تضمنت مطالب الوفد إقامة حكومة وطنية ووقف الهجرة اليهودية إلى فلسطين، ولكن
كانت القيادة الفلسطينية مستعدة لتقديم الكثير من التنازلات لبريطانيا مقابل التخلص من سياستها الصهيونية، ففي محادثاته مع الإنجليز في القاهرة 1921 [في طريقه إلى لندن] قال موسى كاظم الحسيني: إن أهداف الوفد العربي تشمل المطالبة بالاستقلال التام، ولكن إذا لم يكن ذلك مستطاعاً فإن الوفد يطالب بأن تكون السلطة الفعلية في يد الإنجليز لا في يد اليهود!(46)
وبالفعل سافر الوفد إلى لندن وأجرى محادثات مع تشرشل باءت جميعها بالفشل الذريع.

شهد عام 1921 إنشاء مؤسسة لعبت لاحقاً دوراً هاماً في الساحة السياسية ألا وهي “المجلس الإسلامي الأعلى” برئاسة الحاج أمين الحسيني. وكان الحاج أمين الحسيني قد نجح في تبوُّء منصب مفتي القدس بمساعدة المندوب السامي البريطاني، فقد “طبخ” المندوب انتخابات الإفتاء وتحايل على القانون كي يتمكن الحاج أمين الحسيني من هزيمة منافسيه من العائلات الأخرى، وذلك لاستبقاء التنافس بين الحسينية والنشاشيبية إذ كان راغب النشاشيبي يشغل رئاسة بلدية القدس، وبالتالي كان وجود الحاج أمين الحسيني في منصب الإفتاء بنفس المدينة سيزيد حتماً من سعار التنافس على الزعامة في القدس ـ وهو ما حدث لاحقاً بالفعل. وفي مقابل تعيينه وعد الحاج أمين بعدم “إثارة الاضطرابات”. (47)
انقسمت على إثر ذلك الحركة الوطنية الفلسطينية إلى كتلتين: “المجلسيون” أنصار آل الحسيني وقيادة الحاج أمين للمجلس الإسلامي الأعلى؛ و”المعارضون” أنصار آل النشاشيبي المعارضون للحسينية والمجلس الإسلامي. اشتعل سعار التنافس والعراك على الزعامة السياسية بين الفريقين، وامتد إلى جميع جوانب الحياة السياسية والثقافية والاجتماعية بفلسطين. ووصل العراك إلى الحد الذي دفع بعض الشخصيات السياسية العربية للتدخل. فعلى سبيل المثال كتب أحد الكتاب العرب في جريدة “الجامعة العربية” الصادرة في القدس:
وإذا كان لكلمتي العربية الصريحة الصادقة ـ التي لم تخرج مرة عن كونها عربية صريحة صادقة ـ شئ من التأثير فجل ما أبغيه أن يكون ذلك في سبيل التوحيد، بل في سبيل القوة الكامنة في التوحيد، أما إذا كان الحسينيون أو النشاشيبيون أو الطوقانيون أو العبدهادون أو غيرهم من السلائل الفلسطينية المعروفة، لا يرون في الأحزاب غير تلك الوطنية التي لا تقوم إلا بهم ولا تعزز إلا باسمهم، ولا يرون في الجامعة العربية غير جامعة بيتية ومصلحة عائلية، فخير لهم أن ينضموا إلى الحزب الصهيوني، وأن يرسلوا أولادهم إلى الجامعة العبرية في جبل الزيتون.
يقول الحسينيون أن النشاشيبيين يمالئون الصهاينة ويساومونهم على حقوق الأمة، ويقول النشاشيبيون هذا القول في الحسينيين، وأنا لا أصدق ـ ولا أحب أن أصدق ـ القولين… أرى من واجب الأمة أن تنبذ الزعامتين وأن تؤلف من الصالح في الحزبين زعامة جديدة. (48)
وفي عام 1925 اضطرت اللجنة التنفيذية تحت ضغط شديد إلى الدعوة لإضراب عام بمناسبة وصول اللورد بلفور لافتتاح الجامعة العبرية، ونجح الإضراب نجاحاً ساحقاً إذ لقي تجاوباً ضخماً من العمال في أرجاء فلسطين. (49) ولكن اتسمت الفترة اللاحقة (1925 ـ 1928) بصراع عائلي حاد حاول خلاله “المجلسيون” استبعاد “المعارضين” من الحركة الوطنية، إلا أنهم فشلوا في مسعاهم، بل ونجح “المعارضون” في مواجهة المجلس الإسلامي، والتأثير على انتخاباته، وفرض مندوبين لهم عن كل مدينة في المؤتمر الوطني السابع عام 1928. وأدى هذا العراك المستمر والتنافس الحاد إلى خمود الحركة الجماهيرية تماماً خلال تلك الفترة، فلم تشهد فلسطين مظاهرات أو إضرابات.
وجاء المؤتمر العربي السابع عام 1928 ليفضح تخاذل العائلات وانشغالهم بالنزاعات العصبية عن النضال من أجل الاستقلال. شارك في المؤتمر عدد ضخم من المندوبين لم يسبق لهم العمل بالسياسة، ولكنهم ـ نتيجة للعصبية الحزبية والعائلية ـ أتوا ترضيةً لهذه العائلة أو تلك. وتواجد “معارض” في المقابل عن كل مدينة مثّلها “مجلسي”. وانكب أعضاء المؤتمر يناقشون بعض القضايا الزراعية مثل القروض، والضرائب، وقضية الجنسية، والمهاجرين الفلسطينيين، وقضية امتياز مشروع البحر الميت، وضرورة تشكيل حكومة نيابية وديمقراطية. لم يتعرض المؤتمر لقضية الاستقلال، أو إلغاء الانتداب، أو اتخاذ إجراءات حاسمة ضد التواجد البريطاني/الصهيوني. ورفض المؤتمر تماماً الاقتراح ـ الذي قدمه عضو واحد فقط ـ الداعي لتأسيس جمعيات للعمال العرب. واكتفى المؤتمر في النهاية بإرسال برقية مليئة بالأشواق الحارة والعويل لعصبة الأمم ووزارة المستعمرات البريطانية تطالب بتشكيل حكومة برلمانية في فلسطين بموجب الوعود والعهود المقطوعة للعرب من الحلفاء! (50)
ثورة البُرَاق 1929:
في ظل تخاذل العائلات الفاضح انفجرت الجماهير الفلسطينية بثورة عنيفة في عام 1929، فيما عُرِف ب ـ “ثورة البراق”. اندلعت الشرارة الأولى للثورة عندما قام الصهاينة بتنظيم مظاهرة حاشدة في 14 أغسطس بتل أبيب في ذكرى تدمير معبد سليمان. وفي اليوم التالي قاموا بمظاهرة أكبر في شوارع القدس، واتجهوا إلى حائط البراق ـ أو كما يسميه اليهود حائط المبكى ـ مرددين ال ـ “هاتكفاه” (النشيد القومي اليهودي)، وقاموا باستفزاز الفلسطينيين، مما أدى لاندلاع اشتباكات عنيفة بين العرب والصهاينة استمرت لمدة أسبوع استخدم فيها الطرفان الأسلحة البيضاء والنارية. وفتحت القوات البريطانية النار على العرب واقتحمت القدس بالمصفحات لفرض الاستقرار، ولكن الاضطرابات انتشرت في باقي المدن الفلسطينية. ففي الخليل هجم العرب على الحي اليهودي، وقتلوا 60 صهيونياً، وجرحوا أكثر من 50 آخرين. وهاجم العرب أيضاً في نابلس مركزاً للشرطة لانتزاع أسلحة. وفي بيسان ويافا وحيفا اشتعل القتال في الشوارع بين العرب من جهة والصهاينة والبريطانيين من جهة أخرى. وتعرضت بعض المستوطنات الصهيونية لهجمات فدائية أدت لتدمير 6 منها. واحتمى الصهاينة في الصفد بالقوات البريطانية التي فتحت النار على العرب الذين هاجموا حارة اليهود وأحرقوا محالهم التجارية. (51)
أدت الأحداث الثورية المتصاعدة إلى تزايد الرعب في قلوب أعضاء النخبة الفلسطينية الذين تحركوا سريعاً لامتصاص غضبة الجماهير والحد من راديكالية الأحداث، فنشرت العائلات بالقدس بياناً يوم 24 أغسطس داعين فيه الجماهير باسم “مصلحة البلاد” إلى العمل بإخلاص “لحسم الفتنة وحقن الدماء وصيانة الأرواح”، وصدرت بيانات للتهدئة في المدن الأخرى من الزعماء المحليين. (52) وعقدت الزعامات السياسية في يافا اجتماعاً وطنياً عاماً للسكان العرب بالمنطقة في 3 سبتمبر، واكتفت بالاحتجاج الشديد على بيانات المندوب السامي، والمطالبة بلجنة تحقيق من عصبة الأمم، وشكلت لجنة إدارية لمقابلة المندوب السامي لرفع الاحتجاج! وعقدت اللجنة التنفيذية سيلاً متوالياً من الاجتماعات الوطنية بأنحاء فلسطين مكررة مطالب اجتماع يافا. وفي أكتوبر من نفس العام عُقد في القدس مؤتمر قمة كبير حضره القادة الفلسطينيون ومندوبون من سوريا ولبنان والأردن. وخرجت هذه الكوكبة المتلألئة من الزعماء بقرارات مثل سحب الثقة من المندوب السامي، وإرسال برقية بذلك إلى وزير المستعمرات البريطاني، واستنكار الهجرة اليهودية، والمحافظة على الأرض والصناعة الوطنية، والتهديد بعدم دفع الضرائب! (53) … يا لثورية القرارات!!
أدى القهر البريطاني الوحشي وتخاذل العائلات إلى فشل الثورة وقمعها. وكانت حصيلة الأحداث وقوع 133 قتيلاً من الصهاينة وجرح 239 آخرين، أما العرب فسقط منهم 116 شهيداً وجرح 232 آخرين. وعقب ذلك قامت سلطات الانتداب البريطاني بتقديم ما يزيد عن ألف شخص للمحاكمة منهم أكثر من 900 عربي. وصدر الحكم بإعدام 25 عربياً وشخص صهيوني واحد. (54)
ولاحقاً نفى تقرير لجنة اللورد والتر شو لتقصي الحقائق أية صلة للجنة التنفيذية أو المجلس الأعلى الإسلامي بالأحداث الثورية. وأشارت جميع الوثائق الرسمية إلى أن القيادات لعبت دور المهدئ أو اللامسئول. (55) وقد شهد عام 1929 نفسه تشكيل أول تنظيم عربي مسلح ـ “الكف الخضراء” ـ مكوناً من الشباب الساخط على تخاذل القيادات التقليدية، ولكنه سُحِق خلال عام واحد حيث كان أقرب لكونه مجموعة إرهاب فردي تفتقد لبرنامج سياسي. (56)
قامت العائلات عقب الثورة بتكوين وفد من مختلف القادة السياسيين للسفر إلى لندن لمفاوضة البريطانيين. ولكن على عكس وفد 1921 الذي طالب بالاستقلال وإلغاء وعد بلفور؛ جاءت مطالب وفد 1930 منحصرة في قضايا تتعلق بالشئون الداخلية: بيع الأراضي للصهاينة، واستيلائهم عليها بالإرهاب، والمطالبة بإنشاء حكومة نيابية في ظل الانتداب. لم تُذكر قضية الاستقلال بدعوى “الالتزام بالواقعية انطلاقاً من الأخطار التي تهدد فلسطين.” وكالعادة فشل الوفد في انتزاع أي حقوق، فقطع المفاوضات ودعا الفلسطينيين لمقاومة الصهاينة “مقاومة سلمية”. (57)
الطريق إلى ثورة 1936:
شهد عام 1931 تطوراً جديداً للمقاومة الفلسطينية، فقد أسس الشيخ عز الدين القسام ـ رئيس جمعية الشبان المسلمين في حيفا ـ منظمة عسكرية سميت “إخوان القسام”، وكان للقساميين أيديولوجية جمعت بين الإسلام والقومية العربية. ونشطوا في أوساط الطلبة والفلاحين المعدمين الذين هاجروا إلى المدن. ثم بدأ القساميون حملة هجمات مسلحة استهدفت المستوطنات الصهيونية ومواقع بريطانية متبعين استراتيجية حرب العصابات. (58)
ودخلت الطبقة العاملة الفلسطينية إلى الساحة السياسية بقوة، وقامت بموجة عاتية من الإضرابات في الفترة (1930 ـ 1935). وبدأت اللجنة التنفيذية تشعر بأن البساط يُسحب من تحت قدميها، وبأن عزلتها عن الجماهير تزداد، وأصبحت موضع سخط الكثيرين. ورأت قيادة اللجنة التنفيذية في مطلع عام 1933 أنها إذا لم تتحرك فستفقد زمام الأمور، فدعت لاجتماع بالقدس في 24 فبراير لمناقشة قضيتي بيع الأراضي والهجرة اليهودية. اتخذ المؤتمر قراراً باتباع سياسة “عدم التعاون” مع المندوب السامي. وعقد مؤتمر آخر بيافا في 26 مارس لتقرير مبدأ “عدم التعاون” وتحديد آليات تنفيذه. ولكن انتهى المؤتمر كما بدأ، فقد اتفق الجميع على المبدأ ولكنهم تعاركوا حول آليات تنفيذه، فتم ترك تحديد الآليات للجنة خاصة! ولم يقتنع الحاج أمين الحسيني بأن فكرة “عدم التعاون” قد آن أوانها! ومرت 6 أشهر ولم يتم الاتفاق على شئ، فالشيء الوحيد الذي قرر “المجلسيون” فعله هو مقاطعة حفلات البريطانيين الاجتماعية!! أما “المعارضون” فقد استمروا في حضور هذه الحفلات!!! (59)
وفي النهاية انهارت اللجنة التنفيذية مع وفاة موسى كاظم الحسيني في عام 1934. ولم يكن مستغرباً أن تنعاه صحيفة “بالستاين بوست” الصادرة عن “الوكالة اليهودية”، وتكيل له المديح حيث أن سياساته “المعتدلة” قد ساهمت في كبح حركة المقاومة الجماهيرية الفلسطينية، ومنعتها من اتخاذ أي منعطف راديكالي. (60) وزاد الطين بلة مجيء انتخابات بلدية القدس ـ التي كان يسيطر عليها راغب النشاشيبي ـ في أواخر عام 1934. فقد أدى تحالف الحاج أمين الحسيني مع مرشح عائلة الخالدي إلى سقوط النشاشيبي في الانتخابات وحصول الخالدي على المنصب، فجن جنون النشاشيبية واشتد سعار المنافسة بينهم وبين الحسينية بطريقة غير مسبوقة. (61)
وفي محاولة لاحتواء الحركة الجماهيرية المتصاعدة عمدت النخبة التقليدية الفلسطينية إلى تكوين أحزابٍ وطنية. ولكن عكست هذه الأحزاب العصبيات العائلية، فأسس آل النشاشيبي “حزب الدفاع الوطني” في عام 1934، وأسس الحاج أمين الحسيني “الحزب العربي الفلسطيني” في عام 1935. وتأسس “حزب الاستقلال” الذي ضم في عضويته عناصر برجوازية وبرجوازية صغيرة. وكان حزب الاستقلال أقرب في تكوينه إلى “حزب الوفد المصري”، إلا أنه لم ينل نفس التأييد الجماهيري، ولم يستطع لعب الدور الذي لعبه حزب الوفد في تلك الفترة. ورغم شعاراته الأكثر راديكالية مقارنة بأحزاب كبار الملاك إلا أنه كان أكثرهم ضعفاً. (62)
ثورة (1936 ـ 1939):
اشتدت حركة الكفاح المسلح التي أطلقها القساميون، واتخذت بحلول عام 1935 شكل عمليات فدائية مسلحة على نطاق واسع. واستمر القساميون في عملياتهم بالرغم من استشهاد زعيمهم الشيخ عز الدين في عام 1935. واشتدت سخونة الأحداث مع زيادة معدل الهجرة اليهودية بسبب صعود الفاشية للحكم في أوروبا. وشهدت الفترة من 15 إلى 19 إبريل 1936 اشتباكات وحوادث عنف فردي بين العرب والصهاينة، ويجئ 20 إبريل لتدخل يافا في إضراب عام أغلق الأسواق والميناء، أعقبها اندلاع اشتباكات عنيفة في شوارع المدينة. وقوبلت تحركات الفلسطينيين على الفور بالقمع الوحشي من القوات البريطانية، فما كان من زعماء الأحزاب السياسية إلا أن قاموا بمقابلة المندوب السامي معبرين له عن أسفهم على أحداث العنف التي وقعت! وفي غضون أيام قليلة ظهرت إلى الوجود “لجان قومية” ـ مكونة من الشباب ومواطنين عاديين ـ في نابلس التي انضمت إلى الإضراب العام وعمتها مظاهرات حاشدة في 24 إبريل. ولم يُسمع أي صوت للقيادة التقليدية خلال الأيام الستة الأولى. واستمر الإضراب في الانتشار والتصاعد، وبدأت اللجان القومية في الظهور بالمدن والقرى في باقي أنحاء فلسطين. وانضم الطلبة وأعضاء النقابات إلى الحركة، فأضرب المحامون عن العمل بالمحاكم، وقرر الأطباء معالجة الجرحى والفقراء الذين يحملون توصيات من لجان الإسعاف مجاناً. (63)
تحت وطأة الأحداث اضطرت العائلات للتحرك سريعاً متخوفين من فقدان السيطرة على مجريات الأمور، فقامت بتشكيل “اللجنة العربية العليا” برئاسة الحاج أمين الحسيني. لم يكن هناك مفر أمام القيادات التقليدية من تأييد الإضراب والعدول عن إرسال الوفود المعتادة للندن بسبب الضغط الجماهيري الشديد القادم من الشارع الفلسطيني. واضطرت إلى القيام بتمويل جزئي للإضراب. (64)
وتصاعدت الأحداث بحلول شهر مايو، فتم إعلان العصيان المدني عن دفع الضرائب، وقوبلت المظاهرات الفلسطينية برصاص قوات الاحتلال، وانتشر العصيان في صفوف الشرطة العربية التي انضمت للمتظاهرين، وتم تعطيل الطرق وأسلاك التليفون وخطوط البرق، ونسف أنابيب البترول، وقلب القطارات، ومهاجمة المستوطنات الصهيونية والدوريات البريطانية.(65) وأعلنت سلطات الانتداب الأحكام العرفية، واستخدمت العنف العسكري لقمع الثورة، فاستقدمت إمدادات قوامها 30 ألف جندي بريطاني. (66) وشنت القوات الجوية البريطانية هجمات على القرى والمناطق الجبلية حيث كانت تحارب مجموعات فلسطينية مسلحة. ولكن الثورة استمرت بفضل نجاح العمال والفلاحين في تنظيم ميليشيات مسلحة بعيداً عن سيطرة اللجنة العربية العليا. وزاد الزخم الثوري للحد الذي دفع بالمندوب السامي لأن يصف الأحداث بأنها “بداية ثورة”. وفي شمال فلسطين دخلت قوات فدائية من المتطوعين السوريين والعراقيين بقيادة الضابط القومي السوري فوزي القاوقجي للقتال في صفوف الثورة. وجاء رد الفعل البريطاني عنيفاً، فمورست عمليات إبادة كاملة لبعض المدن، ومارست سلطات الانتداب عمليات عقاب جماعي واعتقلت الآلاف. ولكن لم تتوقف الثورة رغم شدة القمع، إلا أن تحقيق الأهداف البريطانية/الصهيونية بوقف الانتفاضة تم تسهيلها بواسطة اللجنة العربية العليا نفسها ـ التي دب الرعب في أوصال قياداتها بسبب نجاح العمال والفلاحين في لعب الدور الأكثر نضالية في المعارك مثبتين قدرة عالية على تنظيم أنفسهم ذاتياً بعيداً عن اللجنة. لقد مثل نهوض الجماهير تهديداً ضخماً لمصالح البرجوازية وملاك الأراضي الفلسطينيين الذين خافوا من فقدان أرباحهم وخسارتهم لموسم الموالح بسبب الإضرابات، وكان رفض اللجنة العربية العليا لخيار الكفاح المسلح انعكاساً لخشيتها من احتمالية أن يوجه السلاح ضدها لاحقاً! (67) ويعلق أحد المسئولين بسلطة الانتداب على تخاذل ومهادنة اللجنة العربية العليا بقوله:

إنه لمن الحماقة تصور أن أعضاء اللجنة ملائكة بدون مصالح. فالعديد منهم على استعداد لبيع الإضراب، وخيانة أتباعهم، والتوصل لحلول وسط مع الحكومة [البريطانية] إذا سنحت لهم الفرصة: وينطبق ذلك أيضاً على العديد من الزعماء المحليين. ولكن لم تسنح لهم الفرصة حتى الآن. إنهم محمولون الآن على ظهور الثوار العرب المصرّين على استمرار النضال حتى الحصول على مطالبهم من الحكومة أو أن يهزموا على يد الحكومة. (68)
في سبتمبر بدأت البرجوازية في الامتناع عن تمويل الإضراب العام كمقدمة للقضاء على الإضراب، وما لبثت اللجنة العربية العليا أن اقترحت على حكام الدول العربية المجاورة أن يصدروا بياناً يطالبون فيه الجماهير الفلسطينية بإنهاء الإضراب لمساعدة اللجنة في السيطرة على الثورة. (69) وكانت اللجنة العربية العليا تحاول جاهدة منذ البداية أن تسيطر على اللجان القومية. وفي الوقت الذي كان يتساقط فيه آلاف الشهداء والجرحى الفلسطينيون برصاص وقنابل القوات البريطانية والعصابات الصهيونية اقتصر نشاط اللجنة على القنوات السياسية “المحترمة” ـ مثل إرسال برقية حارة لملك بريطانيا في 14 يونيو تطالب “جلالته” بالعدل والإنصاف وتنفيذ العهود والوفاء بالوعود! واجتمعت اللجنة عدة مرات بالمندوب السامي لمحاولة التوصل لحل وسط من أجل إيقاف الثورة. بل وقامت بإرسال وفوداً “للتباحث” مع الملوك العرب عملاء الاستعمار لحثهم على الوساطة مع بريطانيا. وكانت تصل أعضاء هذه الوفود برقيات تهديد بالقتل والانتقام إذا خانوا الثورة الشعبية، وذيلت تلك البرقيات بإمضاء “عزرائيلك وجبرائيل الأمة”. (70)

وبالفعل أصدر الملوك العرب نداء إلى الجماهير الفلسطينية بإنهاء الإضراب في أكتوبر 1936 لإعطاء “الفرصة للجهود الدبلوماسية”، فهرولت اللجنة العربية العليا لإصدار دعوة لإنهاء الإضراب “امتثالاً لإرادة أصحاب الجلالة والسمو”. (71) وتوقف الإضراب أخيراً في 13 أكتوبر بعدما استمر لمدة 176 يوماً. (72)
بعد فك الإضراب وتوقف الثورة تقدمت بريطانيا بمشروع في يوليو 1937 لتقسيم فلسطين بين العرب والصهاينة. وقامت بنفي بعض قيادات اللجنة العربية العليا، وهرب البعض الآخر خارج فلسطين. وفي ظل غياب القيادة التقليدية الرجعية اندلعت الثورة مرة أخرى. وهبت تنظيمات مسلحة من الفلاحين، وأضرب العمال في المدن. وأدت الإضرابات والاشتباكات المسلحة إلى إغلاق مدن رام الله وبيت لحم ونابلس، وقاتل البريطانيون 5 أيام لاستعادة السيطرة على المدينة القديمة بالقدس. وقام الفلاحون المسلحون بتهديد ملاك الأراضي واغتيال بعض الشخصيات الفلسطينية المرتبطة بالصهاينة والبريطانيين. ونجح النضال الثوري للجماهير الفلسطينية في هز دعائم سلطة الانتداب للحد الذي دفع بأحد الجنرالات البريطانيين للاعتراف بأن “الإدارة المدنية والسيطرة على البلاد… أصبحت معدومة” (73) استمرت الثورة لمدة 3 سنوات ـ بالرغم من القمع البريطاني/الصهيوني الوحشي، وغياب القيادة الثورية، وضعف التسليح، مخلفةً وراءها ما بين 3 إلى 5 آلاف شهيد وآلاف أخرى من الجرحى. (74)
لماذا غابت القيادة الثورية؟
هذا هو السؤال الذي يطرح نفسه بقوة بعد استعراض أحداث ثورتي 1929 و1936… لماذا كانت الساحة خالية أمام ملاك الأراضي ليهيمنوا على الساحة السياسية في فلسطين؟ بمعنى آخر لماذا لم تتواجد قيادة ثورية قادرة على تعبئة الجماهير العربية بفلسطين ضد الاستعمار والصهيونية، وتطرح بديلاً يخدم مصالح تلك الجماهير لا مصالح النخبة؟ الجواب يكمن في حالة اليسار الفلسطيني ممثلاً في “الحزب الشيوعي الفلسطيني”.
إن إدانة لينين والبلاشفة للصهيونية حقيقة واقعية لا تقبل الشك. وقد كان للينين مساجلات عديدة ضد الصهيونية عند تعرضه لقضيتي الإمبريالية والمسألة اليهودية. وتكشف وقائع اجتماعات المؤتمر الثاني ل ـ “الأممية الشيوعية” (الكومنترن) ـ الذي انعقد في صيف 1920 ـ بوضوح عن موقف البلاشفة من الصهيونية، إذ أشارت أطروحات المؤتمر ـ حول المسائل القومية والاستعمارية ـ إلى فلسطين
كمثال صارخ على الخداع الذي يُمارس على طبقة الكادحين في البلدان المضطهَدة، وذلك بالجهود المشتركة لإمبريالية دول الوفاق وبرجوازية هذا البلد أو ذاك… إن الصهيونية، وبحجة إقامة دولة يهودية في هذا البلد، الذي يشكل فيه اليهود أقلية ضئيلة، قد قدمت السكان الأصليين من الكادحين العرب، قرباناً للاستغلال الإنجليزي. (75)
وقبل المؤتمر، نشرت “المفوضية المؤقتة لشئون اليهود” التابعة ل ـ “مفوضية الشعب لشئون القوميات في الاتحاد السوفيتي” في 28 ديسمبر 1919 بياناً يدين الصهيونية، ويشير إلى
أن الصهاينة يحاولون إزاحة العرب من فلسطين ويستعدون لإنشاء دولة يهودية لهم هناك… إن جماهير العمال اليهود ترى في جمهورية روسيا الاتحادية الاشتراكية وطنها الاشتراكي الذى تدافع عنه في الجبهات مع عمال روسيا وفلاحيها ضد إمبريالية دول الوفاق وجميع عملائها… إننا لسنا بحاجة إلى أية بلدان أخرى، ولا نبدي حقوق قومية لامتلاك فلسطين، ونحن نعترف بهذه الحقوق كاملة لجماهير العرب والبدو الكادحة. (76)

لقد تأسس الحزب الشيوعي الفلسطيني نتيجة لانشقاق يساري عن حزب “بوعالي تسيون” ـ اليساري الصهيوني ـ في عام 1923. وتم قبوله في عضوية الكومنترن في العام التالي ـ في وقت كان الكومنترن قد وقع فيه تحت السيطرة الستالينية. رأت قيادة الحزب أن إمكانية التغيير الثوري في فلسطين تقع على عاتق العمال اليهود وحدهم نظراً لأن التطور الرأسمالي في المناطق الواقعة تحت سيطرة اليهود أسرع من تلك الواقعة تحت سيطرة العرب، ولذا اقتصرت عضوية الحزب على اليهود فقط. لقد أدان الحزب الصهيونية شفهياً ولكنه في الواقع تجاهل موقف الكومنترن ـ إبان الفترة اللينينية ـ تجاه الصهيونية وإصراره على أن “تجربة الاحتلال البريطاني والطابع الاستعماري للصهيونية سيولدان حركة تحرر وطني عربية الطابع.” (77) وبالتالي كان يجب على الحزب أن يتوجه بجهوده التنظيمية بالأساس إلى صفوف العمال العرب لا العمال اليهود الغارقين في مستنقع الصهيونية. وظل الحزب بأغلبيته الكاسحة يهودياً بالرغم من الضغوط التي بذلها الكومنترن على الحزب في العشرينيات كي يتحرك خارج نطاق “الجيتو اليهودي”، ولم ينضم إليه سوى حفنة ضئيلة من العرب. بل ورأى الحزب ثورة 1929 أنها مذبحة جماعية حرض عليها القادة العرب الداعون للجهاد ضد اليهود! ولكن الكومنترن أقام الحزب من عثرته وفرض عليه الرؤية بأنها كانت “ثورة فلاحية ضد الإمبريالية.” (78)
لقد مثّل الكومنترن ـ بعد انهيار الثورة البلشفية ووفاة لينين ـ أداة للسياسية الخارجية للطبقة الحكمة البيروقراطية في الاتحاد السوفيتي. وسيطر الكومنترن على الأحزاب الشيوعية في العالم ووجهها لخدمة مصالح البيروقراطية، وتذبذبت الاستراتيجية التي فرضت على الأحزاب من فترة لأخرى، فتارة يصدر الكومنترن أوامره للأحزاب الشيوعية بالسعي الجاد لإقامة “حكومة سوفيتية من العمال والفلاحين” ـ فتنكب الأحزاب في العمل على أساس توقعات متضخمة للغاية باحتمالات الثورة؛ وتارة أخرى يصدر أوامره بتأجيل قضية الثورة الاشتراكية، والدخول في “جبهات شعبية” مع أكثر قطاعات البرجوازية المحلية تقدماً لتحقيق “الثورة الوطنية الديمقراطية”. وبالتالي تخبط أداء الحزب الشيوعي الفلسطيني. فحتى منتصف الثلاثينيات أخذ الحزب يهاجم اللجنة التنفيذية بصفتها معقل الرجعية، وشجعته موجة إضرابات 1933 على تضخيم احتمالات قيام ثورة. ثم تراجع الحزب عن موقفه ـ بناءً على سياسات الكومنترن ـ واندفع يؤيد حزب الاستقلال بصفته ممثل “البرجوازية التقدمية”. واندفع أيضاً ـ أثناء ثورة 1936 ـ لتأييد اللجنة العربية العليا وسياساتها الرجعية حتى خانت الإضراب وأنهته. ولاحقاً انهار الحزب وتفكك إلى حزبين، أحدهما يضم الأعضاء العرب ويتبع خطاً قومياً عربياً، والآخر يضم الأعضاء اليهود ويتبع خطاً صهيونياً ذي صبغة يسارية. (79)
وتكتمل فضيحة الستالينية بموقف الاتحاد السوفيتي المؤيد لقرار تقسيم فلسطين. ففي إطار التنافس الإمبريالي وصراعات الحرب الباردة بين الاتحاد السوفيتي والغرب، رأت البيروقراطية السوفيتية الحاكمة منافع في تأييد الحركة الصهيونية بفلسطين. فقد رأت في قيام دولة إسرائيل وتبني المشروع الصهيوني فرصة سانحة لطرد بريطانيا خارج الشرق الأوسط، (80) مما يخلق فراغاً استراتيجياً في المنطقة يسمح للاتحاد السوفيتي بالتدخل سريعاً لملئه. وحاول السوفيت أن يصبحوا دولة الحماية للمشروع الصهيوني، على أمل توظيف الدولة الصهيونية لمصالحهم في الشرق الأوسط. وهكذا بعث السوفيت نائب وزير خارجيتهم إيفان مايسكي إلى فلسطين في أكتوبر 1943، حيث قام بزيارة المستوطنات الصهيونية، وتحاور مع بن جوريون وجولدا مائير حول مشاكل الاستيطان، ولم يحاول الاتصال بالجانب العربي. (81) وخرج مايسكي بانطباع لا يمكن وصفه سوى بالعنصرية ويكشف نوايا السوفيت الإمبريالية، فقد رأى أن
من الواضح أن اليهود الاشتراكيين والتقدميين في فلسطين سيكونون أكثر فائدة لنا من العرب المتخلفين الذين تسيطر عليهم مجموعات إقطاعية من الباشوات والأفندية! (82)

وبالتالي بدأت السياسة السوفيتية في الاندفاع في تأييد الحركة الصهيونية، فصوت الوفد السوفيتي ـ في مؤتمر النقابات العالمي في فبراير 1945 بلندن ـ لصالح قرار يؤيد إقامة وطن قومي لليهود بفلسطين، وفي نفس الشهر اتفق ستالين مع تشرشل وروزفلت ـ في مؤتمر يالطا الذي شهد تقسيم العالم مرة أخرى بين دول الحلفاء الإمبريالية ـ حول “حول وجوب إزالة كل معوقات الهجرة اليهودية إلى فلسطين فوراً في مقابل السماح للسوفيت بإقامة مناطق نفوذهم في أوروبا الشرقية”. (83) وفي يوليو من نفس العام، قام الاتحاد السوفيتي بالاعتراف بالوكالة اليهودية، وسمح لها بفتح مكتب في العاصمة موسكو. (84)
وتصل المهزلة إلى ذروتها بتأييد الاتحاد السوفيتي لقرار تقسيم فلسطين في 1947، بل وكان أول دولة تعترف بإسرائيل قبل جميع الدول الأخرى بمجلس الأمن! وقام بإمداد القوات الصهيونية بالسلاح خلال حرب 1948 عن طريق تشيكوسلوفاكيا. واندفعت الدعاية السوفيتية في تصوير الدولة الصهيونية بأنها الدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط! (85) وفرض الاتحاد السوفيتي على الأحزاب الشيوعية العربية قبول قرار التقسيم، تحت دعاوى أن الصهيونية حركة معادية للإمبريالية، (86) وأن التقسيم ضروري “حتى يتم التعايش بين الشعبين العربي واليهودي”. (87) وبالتالي وقف الشيوعيون الستالينيون العرب ضد حرب 1948، ودعوا لوحدة العامل اليهودي والعامل العربي بفلسطين ضد البرجوازية اليهودية والعربية، متجاهلين بذلك الموقف الرجعي للطبقة العاملة اليهودية في فلسطين الغارقة في مستنقع الصهيونية والغير مؤهلة للاتحاد مع النضال الثوري للجماهير العربية.
ليس من الصعب إذاً أن نفهم لماذا غاب البديل الثوري؟ ولماذا كانت الساحة السياسية في فلسطين خالية أمام ملاك الأراضي والبرجوازية؟ ولماذا كان من السهل عليهم السيطرة على الحركة الجماهيرية وتدميرها؟ فما كان ذلك ليحدث لو لم يُمنَ الحزب الشيوعي الفلسطيني بهذا الفشل السياسي الذريع نتيجة لطابعه الستاليني ـ الذي جعله ألعوبة بيد موسكو؛ والخلل البنيوي في عضويته ـ الذي جعله يسقط في مستنقع الصهيونية اليسارية. وتجئ نكبة 1948 ليواجه الشعب الفلسطيني القوات الصهيونية ـ ذات التدريب والتسليح الأوروبي الحديث ـ بدون قيادات أو تنظيمات توجه نضاله ومقاومته. واكتملت المهزلة بدخول القوات العربية الهزيلة إلى فلسطين وهزيمتها أمام القوات الصهيونية. وسيأخذ الشعب الفلسطيني وقتاً طويلاً ليشهد عودة حركة جماهيرية تقاوم الاحتلال الصهيوني في فلسطين مرة أخرى.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

القضية الفلسطينية – رؤية ثورية التالي »  Empty
مُساهمةموضوع: رد: القضية الفلسطينية – رؤية ثورية التالي »    القضية الفلسطينية – رؤية ثورية التالي »  Emptyالأحد 27 أكتوبر 2024, 10:13 am

4. فتح وحركة الفدائيين

المجتمع الفلسطيني والشتات:
اختلفت حدة وقع نكبة 1948 على المجتمع الفلسطيني باختلاف طبقاته. فبالرغم من استيلاء الصهاينة على مساحات ضخمة من أراضي عائلات كبار ملاك، إلا أن أفراد العائلات هربوا خارج فلسطين بأصول وممتلكات تكفي للحفاظ على مكانتهم المرموقة، وانتهت أقلية ضئيلة منهم كلاجئين في المخيمات. أما ملاك الأراضي بالضفة الغربية فقد نجت أراضيهم من هجمات الصهاينة، بل واستفادت العائلات من تدفق لاجئي 1948 على الضفة كقوة عمل رخيصة. وكانت البرجوازية الفلسطينية أقل اللاجئين تعرضاً لخسائر، فقد مكنتها الشبكات والعلاقات التجارية ـ التي أقامها التجار ورجال الصناعة والبنوك الفلسطينيون بالدول العربية المجاورة ـ من نقل وتهريب معظم رأسمالها خارج فلسطين عند وقوع النكبة. ورحبت الأنظمة العربية بالبرجوازية الفلسطينية كعامل إنعاش اقتصادي. وقد أفرز المجتمع الفلسطيني قبل 1948 طبقة برجوازية صغيرة مميزة من المهنيين. انتهت أعداد ضخمة منهم في المخيمات ولكنهم سرعان ما بدءوا في النزوح بكثافة للدول العربية الأخرى ـ وبالذات دول الخليج العربي. (88)
ولكن كانت الصورة مختلفة وقاتمة للاجئين الفقراء الفلسطينيين من الفلاحين والعمال الغير مهرة الذين شكلوا حوالي 80% من الفارين، إذ انتهت الغالبية العظمى منهم محاصرين بداخل المخيمات. (89) لم ترحب الأنظمة العربية بهذا الجيش الضخم من الفقراء الذي عدوه عبئاً سياسياً واقتصادياً عليهم، ويلعب دوراً خطيراً كعامل تثوير لشعوبهم المنهمكة في نضال طبقي ووطني متصاعد منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
أدى الشتات الفلسطيني إلى توسيع ـ وليس تذويب ـ الفوارق الطبقية بين الفلسطينيين، ففي الوقت الذي تكدس فيه فقراء الفلسطينيين في مخيمات بائسة محاصرة بواسطة الأجهزة الأمنية العربية، استوعبت الرأسمالية العربية البرجوازية الفلسطينية. فقد شارك رجال الأعمال الفلسطينيون في مشاريع عملاقة بدول البترول الخليجية ـ وبالذات في قطاعات المصارف والتجارة والتشييد. في حين سدت البرجوازية الصغيرة الفلسطينية العجز الكبير في مؤسسات الدول الخليجية التي كانت في طور الإنشاء بعد خروج الاستعمار البريطاني، فقد كانت تلك المؤسسات بحاجة ماسة إلى مهنيين من معلمين، وأطباء، ومهندسين، وإداريين، الخ. ونتج عن ذلك ارتباط مصالح البرجوازية الفلسطينية ارتباطاً وثيقاً بمصالح الرأسمالية العربية. ولكن كان ينقص البرجوازية الفلسطينية شيئ حيوي للغاية. لم تتمتع تلك البرجوازية بأي سيادة على ممتلكاتها في نطاق جغرافي محدد، ولم تكن تمتلك جهاز سياسياً وطنياً توجهه لخدمة مصالحها. كانت تفتقد المؤسسة التي تكونها أية طبقة رأسمالية صاعدة… كانت البرجوازية الفلسطينية تفتقد “دولة” خاصة بها… وفي هذا السياق نشأت حركة “فتح”. (90)
فتح و”عدم التدخل”:
لقد كان مؤسسو فتح الأصليون ـ ياسر عرفات ورفاقه ـ مجموعة من الشبان الفلسطينيين الذين عاصروا النكبة في صباهم، ولاحقاً اكتسبوا خبرات تنظيمية عن طريق الانخراط في التنظيمات القومية العربية المختلفة الموجودة في المشرق العربي في ذلك الوقت. وشارك البعض منهم في حملة الكفاح المسلح الفدائي الذي انطلق من غزة في 1953 (91) ـ والذي قمعته حكومة الضباط الأحرار في مصر آنذاك. وبعد أن فرغوا من دراستهم بالقاهرة، اتجهوا لاحقاً للعمل بالكويت. وتنوعت مهنهم من العمل بالمقاولات والتدريس وإدارة المؤسسات الحكومية الكويتية. وتمتعوا بمستوى معيشي متميز للغاية مقارنةً بباقي اللاجئين قاطني المخيمات. ولكن الثروة لم تكن كافية لهؤلاء الشباب الوطني، إذ كانوا في حالة سخط شديدة بسبب التهميش وعدم قدرتهم على المشاركة في النظام “السياسي” العربي بطريقة فعالة توازي قوتهم “الاقتصادية” نظراً لافتقادهم لدولة. (92)
أُنشئت نواة التنظيم في عام 1957، وأُطلق عليه اسم “حركة التحرير الوطني الفلسطيني”، ثم تم اختصاره إلى “فتح” ـ عكس كلمة “حتف” الأحرف الأولى لاسم التنظيم. (93) ومنذ لحظة تأسيسها، حرصت فتح على تأكيد “وحدة مصالح الشعب الفلسطيني” في مقاومة الصهيونية، وضرورة أن “يتكاتف الشعب كله” في معركة التحرير. ورفضت تماماً مفهوم “الصراع الطبقي” أو احتمالية تضارب مصالح طبقات الشعب الفلسطيني المختلفة. كما أكدت على أن عملية التحرير ستتم “بدون تدخل” في شئون الدول العربية الأخرى. أُعتبِر مبدأ “عدم التدخل” حجر أساس استراتيجية فتح، ولاحقاً سيكون السبب الرئيسي للكوارث التي ستلحق بالمقاومة الفلسطينية. (94)
في سعيها لإقامة دولة فلسطينية “برجوازية” تأخذ مكانها بين الدول العربية الأخرى، حرصت فتح على عدم مواجهة أي نظام برجوازي آخر بالمنطقة. وكقائد تحرر وطني برجوازي حرص عرفات على تجنب الدخول في صراع مع أي من القادة العرب الآخرين لرغبته في إيجاد مكانٍ له بينهم. ولكن ارتباط الرأسمالية العربية بالإمبريالية كان يحتم على المقاومة الفلسطينية الدخول في صراع معها في سعيها لتحرير فلسطين من الصهيونية ـ كلب حراسة المصالح الإمبريالية في المنطقة. ولذا رغم محاولات عرفات المستميتة في تجنب مواجهة الأنظمة العربية إلا أنه وجد نفسه في مواقف مواجهة لا مفر منها. ولم تر فتح الجماهير العربية كأداة نضال مباشرة وجهد يمكن تعبئته في معركة التحرير ضد إسرائيل، ولكنها رأتهم كوسيلة “للضغط” فقط على الأنظمة العربية كي تتحرك الأنظمة وتساند جهود الثورة الفلسطينية… لم تهدف فتح لتدمير المصالح الإمبريالية في المنطقة، بل سعت لتوائم أوضاع الفلسطينيين بها. (95)
قامت فتح بأولى عملياتها في 1 يناير 1965 معلنةً انطلاقة “الثورة الفلسطينية”. ظلت فتح قوة هامشية منذ انطلاقها، فقد كان الشارع الفلسطيني لا يزال متعلقاً بنظامي عبد الناصر والبعث، متوهمين قدرتهما على تحرير فلسطين. ولكن جاءت نقطة التحول بعد هزيمة الأنظمة في 1967، وبالتحديد في مارس 1968، عندما نجح 300 فدائي من فتح مسلحين بأسلحة خفيفة في تحقيق أول نصر عربي ضد الصهيونية بهزيمتهم لقوة إنزال إسرائيلية قوامها 15 ألف جندي حاولت التقدم إلى الأردن تساندها الدبابات والطائرات النفاثة والهليوكوبترات، فيما عرف بمعركة “الكرامة”. وضع هذا النصر فتح في صدارة الساحة السياسية للجماهير الفلسطينية والعربية، وتدفق عشرات الآلاف من اللاجئين الفلسطينيين والشباب العربي إلى التطوع في صفوف الفدائيين، وقام عرفات وباقي التنظيمات الفدائية بالاستيلاء على قيادة “منظمة التحرير الفلسطينية” التي أنشأتها الأنظمة العربية في عام 1964. (96)
“عدم التدخل” وأيلول الأسود:
بحلول عام 1970 بدأ التناقض الكامن في سياسة فتح (مواجهة الإمبريالية بدون مواجهة الأنظمة العربية المتحالفة معها) يصعد للسطح. فقد بدا واضحاً أن فتح تمثل “دولة بداخل دولة” في الأردن، إذ كانت تمتلك قوات فدائية ضخمة، وإدارات مدنية، ومنظمات تعليم، ومؤسسات اجتماعية، وكانت تدير شئون المخيمات في شريط حدودي طويل مواجه لإسرائيل، وفى الحدود الشمالية وفي العاصمة. وتمتعت بتأييد كاسح في أوساط الفلسطينيين الذين مثلوا آنذاك حوالي 70% من سكان الأردن، وكان لها متعاطفين من ضباط فلسطينيين وأردنيين في مختلف وحدات الجيش الأردني، في حين كانت الطبقة الحاكمة الأردنية ضعيفة ومعتمدة بشكل رئيسي على الجيش والقبائل البدوية، وتأييد محدود من ملاك الأراضي، وقطاعات من البرجوازية المحلية. (97)
ومع تضخم قوة فتح بدأت بوادر صدام وشيك بين المقاومة الفلسطينية والملك حسين، كان من السهل على فتح آنذاك أن تستولي على السلطة في الأردن، إلا أنها ظلت متمسكة بمبدأ “عدم التدخل” ورفض ياسر عرفات بشدة دعاوى الإطاحة بالملك حسين والتي بدأت تتصاعد في صفوف الكوادر القاعدية لفتح نفسها. يتذكر أبو داود ـ أحد قادة فدائيي فتح و”صقورها” بالأردن:
كنت أؤيد فكرة إنه ليس فقط بإمكاننا، بل إنه يجب علينا، الإطاحة بحسين… لم يكن ذلك الشعور سائداً فقط بين اليساريين والمسمين بالراديكاليين في التنظيمات الفدائية الأخرى، فقد كان ذلك أيضاً شعور ورغبة أغلبيتنا في فتح ـ المقاتلين والضباط الشبان. لقد تناقشنا بيننا وبين أنفسنا ـ وأتحدث هنا عن ضباط فتح الشبان ـ مراراً وبجدية بالغة حول الإطاحة بحسين… كان عرفات دائماً يرد ب ـ “لا”. وقال لنا إن الحرب ضد حسين أو أي نظام عربي آخر ليس هو الطريق للتحرير. (98)
أعطى رفض عرفات للمواجهة مهلة كافية لحسين كي يقوم بتجهيز قواته، ثم انقض على المقاومة ليدمرها بالتنسيق مع إسرائيل وأمريكا، فيما عُرف بمذابح “أيلول الأسود 1970”.
كان سقوط نظام الملك حسين ـ المكروه من الجماهير العربية ـ سيؤدي إلى خلخلة المنطقة بأسرها. كانت فتح ستجد نفسها على رأس دولة ثورية يتبعها عشرات الآلاف من الفدائيين، وتؤيدها الملايين من الجماهير العربية. وكانت الأنظمة العربية ستجد نفسها أمام خيار صعب: إما أن تساند الثورة الفلسطينية وتدخل في مواجهة ضد حلفاء حسين الغربيين ـ الأمريكيين والبريطانيين ـ الذين سيهبون لنجدته؛ أو الفرار من مواجهة الإمبريالية (وهو بالطبع ما كان سيحدث) وبالتالي إحراج أنفسهم ـ أي الأنظمة ـ أمام شعوبهم. باختصار كانت فتح ستوضع في مواجهة الإمبريالية وحلفائها العرب، وحتماً كان هذا المناخ الثوري الذي سيعصف بالمنطقة سيؤدي إلى تحركات جماهيرية عنيفة تهدد الأنظمة العربية البرجوازية، وكان هذا كابوس عرفات. (99)
“عدم التدخل” والحرب الأهلية اللبنانية:
خرجت المقاومة إلى لبنان بعد الإبادة التي تعرضت لها في الأردن، وما لبثت أن استردت قوتها وأعادت بناء قواعدها. ولكن حدث تطوران جديدان أديا إلى ازدياد النفوذ البرجوازي في فتح…
أولاً: لقد بدأت فتح نشاطها ممثلةً لبعض القطاعات المغامرة من البرجوازية والبرجوازية الصغيرة الفلسطينية، ولكنها أصبحت لاحقاً تتلقى التأييد المطلق من جميع قطاعات البرجوازية الفلسطينية بعد إفلاس بنك “إنترا” بلبنان، الذي كان مملوكاً لفلسطينيين، ويضم أرصدة فلسطينية ضخمة، وينظم المعاملات المصرفية لرجال الأعمال الفلسطينيين بالمنطقة. جاء إفلاسه نتيجة لسياسات النخبة المارونية الساعية إلى التخلص من الفلسطينيين كمنافس للرأسمالية اللبنانية، وهنا تدافعت البرجوازية الفلسطينية لتمويل جهود فتح الرامية لإنشاء دولة لرأس المال الفلسطيني الشارد. (100)

ثانياً: اكتشفت الأنظمة الخليجية أهمية فتح كوسيلة للسيطرة على العاملين الفلسطينيين المقيمين بدولهم. ورأت في تمويلها لفتح دوراً دعائياً لإظهار الأنظمة بمظهر المشارك في جهود معركة التحرير. وبالطبع طمأنهم “عدم تدخل” فتح على أن مصالحهم لن تتعرض للتهديد من أي نوع. ولكن أدى تدفق “البترودولار” الهائل إلى تعميق التناقضات في الثورة الفلسطينية التي من المفترض أن تكون رأس الحربة في مواجهة الإمبريالية بالمنطقة، (101) فكما يصفها محمد حسنين هيكل:
[تحولت] الثورة الفلسطينية… إلى نموذج لم يسبق له مثيل في التاريخ. فقد أصبحت ثورة “بترودولارية”. وكانت أول بقعة جرت فيها تجربة الثورة “البترودولارية” هي بيروت. وهكذا نشأت وتوثقت علاقة عجيبة بين أصحاب العقائد وخزائن البنوك، وبين الفدائيين وملكات الجمال، وبين الثوار وسادة الإقطاع. (102)
وبالتالي لم يؤدي هذا الوضع إلا للمزيد من إضعاف قدرة المقاومة الفلسطينية على مواجهة الإمبريالية أو حلفائها العرب.
خلق تواجد المقاومة الفلسطينية والمناخ الثوري الذي صحبها شعوراً بالتهديد لدى النخبة المارونية، فالمقاومة أصبحت من أهم اللاعبين في الساحة السياسية اللبنانية بالرغم من محاولات فتح الجاهدة لعدم التدخل. وفي الحالات التي كانت فتح “تتدخل” فيها، فكان تدخلها يأخذ صورة إقامة التحالفات وتمويل وتسليح التنظيمات اليسارية اللبنانية والعربية المختلفة، لا لتأييد نضالهم ضد أنظمتهم، بل ليتبنوا نفس الخط السياسي المهادن الذي اتبعته فتح حيال القضية الفلسطينية، والدعاية لمواقف فتح الاستسلامية. وقد يكون خير مثال على ذلك هو الشعار الذي رفعه اليسار المصري ـ الذي كانت بعض تنظيماته تتلقى دعماً مالياً من فتح والجبهة الشعبية ـ القائل: “بأننا نقبل ما تقبل به منظمة التحرير الفلسطينية”. وفي المناطق التي كانت تسيطر عليها فتح في الجنوب اللبناني، كان “تدخل” فتح كارثياً. فبدلاً من تبني قضايا الفلاحين الشيعة الفقراء الذين رحبوا بقدوم الفدائيين إلى قراهم في أواخر الستينيات، وانخرط بعضهم في صفوف المقاومة، (103) تعاملت فتح معهم على طريقة “أمراء الحرب”، ووصل سخط الجماهير الشيعية الجنوبية على ممارسات فتح الاستبدادية إلى الحد الذي دفع بقطاعات منها إلى الترحيب بالغزو الإسرائيلي في 1982 كطريقة “لتحريرهم” من سيطرة فتح!
ومع اندلاع الحرب الأهلية في عام 1975 حاولت فتح باستماتة تجنب الدخول فيها بالرغم من تصاعد هجمات حزب “الكتائب” الماروني/الفاشي ضد الفدائيين واللاجئين فلسطينيين. واضطرت تحت وطأة المذابح المارونية للفلسطينيين أن تدخل في التحالف اليساري/الإسلامي الذي بدا على وشك أن يقهر الكتائب. ومع دخول جحافل الجيش السوري إلى لبنان لمساندة الكتائب وذبح المقاومة، ارتمت فتح في قتال يائس لحماية المخيمات، (104) واكتملت المأساة بالاجتياح الإسرائيلي، وغزو بيروت، وخروج المقاومة من بيروت إلى تونس في 1982. واعتقد الجميع أن القضية الفلسطينية قد انتهت، وأن الشعب الفلسطيني قد مات ولن تقوم له صحوة مرة أخرى.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

القضية الفلسطينية – رؤية ثورية التالي »  Empty
مُساهمةموضوع: رد: القضية الفلسطينية – رؤية ثورية التالي »    القضية الفلسطينية – رؤية ثورية التالي »  Emptyالأحد 27 أكتوبر 2024, 10:24 am

5. انتفاضة 1987 وتوابعها في المنطقة

جاء انفجار الانتفاضة في ديسمبر 1987 كصدمة للجميع، فأثبت الشعب الفلسطيني للعالم أنه لا يزال حياً ولا يزال قادراً على مقاومة الجبروت الإسرائيلي. وجاء الانفجار هذه المرة على أيدي جماهير الأراضي المحتلة الذين لم يلعبوا الدور الرئيسي في الحركة قبل ذلك، إذ كان فلسطينيو الشتات هم الوقود الأساسي للثورة الفلسطينية. وبمرور الوقت بدا واضحاً عجز إسرائيل عن قمع الانتفاضة بالرغم من استخدامها لأساليب بربرية لقمع المنتفضين.
بدأ الشعب الفلسطيني في خلق مؤسسات نضالية لضمان استمرار الانتفاضة، فظهرت “لجان شعبية” بطريقة عفوية في أنحاء الأراضي المحتلة لتعمل كشبكة للتنسيق السياسي وتقديم الخدمات الاجتماعية. (105) وفي مبادرة عفوية بدون مشاورة القيادات بالخارج، أسرع نشطاء اليسار وفتح في الأراضي المحتلة بتأسيس جبهة متحدة لقيادة الانتفاضة، فظهرت للوجود “القيادة الوطنية الموحدة” (ق.و.م)، وبالطبع تحركت منظمة التحرير الفلسطينية لمحاولة السيطرة على ق.و.م. للهيمنة على الحركة، (106) وعملت جدياً على إخضاع اللجان الشعبية لها. وبدأت بيانات القيادة الوطنية الموحدة في الظهور بدءاً من 8 يناير 1988. (107)
الطبقة العاملة الفلسطينية والانتفاضة:
استخدمت الطبقة العاملة الفلسطينية سلاحاً لم تستخدمه لعقود طويلة… سلاح الإضراب، ففي الأيام التي حددتها بيانات القيادة الوطنية امتنع العمال الفلسطينيون عن الذهاب إلى أعمالهم داخل إسرائيل، ولجأ أصحاب المتاجر الصغيرة إلى الإضرابات التجارية ومقاطعة المنتجات الإسرائيلية.
لقد لعبت الطبقة العاملة الفلسطينية دوراً محورياً في الانتفاضة، سواءً في مواجهات الشوارع مع قوات الاحتلال، أو من خلال الإضرابات الطويلة، والامتناع عن الذهاب للعمل في إسرائيل. ولكنها للأسف لم تمتلك القوة “الاقتصادية” الكافية لهز استقرار الدولة الصهيونية. فقد استمرت سياسات الفصل العنصري بين العمال اليهود والعرب التي بدأها الهستدروت في العشرينيات من القرن الماضي، واستمر الاقتصاد اليهودي مغلقاً على اليهود وحدهم. وبالرغم من استقدام العمالة الفلسطينية للعمل بداخل إسرائيل بعد 1967، ظلت الصناعات الإسرائيلية الرئيسية معتمدة اعتماداً مطلقاً على العمالة اليهودية فقط. أما العمال الفلسطينيون فقد اشتغلوا بالأعمال “الموسمية”، أو تلك التي لا تتطلب مهارة عالية، (لا يزال هذا هو الطابع السائد للعمالة الفلسطينية في إسرائيل اليوم، فيشير تقرير لوزارة العمل بالسلطة الوطنية الفلسطينية عن إحصائيات مأخوذة عام 1997 إلى “أن الغالبية العظمى من العاملين في إسرائيل من الأراضي الفلسطينية هم من العمال غير المهرة أو شبه المهرة، حيث أن 60.5% من العاملين في إسرائيل يعملون في المهن الأولية، و28.8% يعملون في الحرف وما إليها من المهن، في حين أن نسب العاملين في مجال التشريع والإدارة العليا أو نسب المتخصصين أو الكتبة لم تتجاوز أي منها 0.5% من مجموع العاملين في إسرائيل.” التقرير منشور في موقع وزارة العمل على الإنترنت: http://www.mol.gov.ps/arabic/arbindex.htm) والتي تحتل قاع السلم الوظيفي في إسرائيل. (108) وبالتالي لم تتحمل إسرائيل خسائر اقتصادية فادحة، وكان من السهل عليها أن تكسر الإضرابات عن طريق استقدام عمال أجانب، أو الاستعانة بالطلبة، ومد ساعات عمل العمال الإسرائيليين في بعض القطاعات. (109)
الطبقة العاملة الإسرائيلية والانتفاضة:
من ناحية أخرى، تدخل العمال الإسرائيليون لكسر إضرابات العمال الفلسطينيين ـ مثلما فعلوا خلال ثورة 1936 ـ مثبتين ولائهم للدولة الصهيونية. ففي ذروة الإضرابات الفلسطينية في بداية 1988 هبت قيادات الحركة العمالية الإسرائيلية لنجدة الحكومة ورجال الأعمال الإسرائيليين. وبذل الهستدروت جهوداً ضخمة لسد الفراغ الناتج عن غياب العمال الفلسطينيين، ووصل الأمر ببعض قياداته للعمل مجاناً بعض أيام الأسبوع لكسر الإضرابات! (110) يؤكد فيل مارشال أن:
بلا شك استمر الهستدروت في لعب دوره كجزء عضوي من الرأسمالية الإسرائيلية، جزء من الجهاز الذي يفصل بين العربي واليهودي. لم يكن العمال الإسرائيليون مجرد مشاهدين للانتفاضة بل مشاركين في الجهود لتدميرها… لقد كان لديهم مصلحة مادية محددة في قهر الفلسطينيين. (111)
لقد وضح تماماً سيطرة الصهيونية واحتواءها للعمال الإسرائيليين، فالتمايز الشديد في مستويات المعيشة، والفصل العنصري في الوظائف، وطبيعة المشروع الصهيوني القائم على “استبعاد الآخر”، أدوا بالطبقة العاملة الإسرائيلية إلى إيجاد مصلحتها في قهر الفلسطينيين والوقوف خلف برجوازيتها ضدهم.
وبالرغم من الروح القتالية العالية التي أظهرها العمال الإسرائيليون في العديد من النضالات “الاقتصادية” حول رفع الأجور وتحسين ظروف العمل، إلا أنهم لم يحدث في أي موقف أن نجحوا في تعميم نضالهم إلى المستوى “السياسي” أوأن يظهروا موقفاً تضامنياً مع الفلسطينيين، فكما
لاحظ اشتراكيون إسرائيليون في الستينيات من القرن العشرين: لم تحتوِ تجربة خمسين عاماً على مثال واحد لتعبئة العمال الإسرائيليين على أساس نقابي أو مادي لتحدي النظام الإسرائيلي؛ من المستحيل تعبئة حتى أقلية ضئيلة من البروليتاريا بهذه الطريقة. على العكس، وضع العمال الإسرائيليون دائماً ولاءهم الوطني قبل ولائهم الطبقي.

لم تستطع الانتفاضة جذب تأييد قوي أو خلق حركة تضامن حقيقية لدى أي قطاع من المجتمع الإسرائيلي. وجاء رد الفعل المعادي للفلسطينيين موحداً من قِبَل الجميع. أما الحركات التي عارضت السياسات الإسرائيلية القمعية في الأراضي المحتلة فكانت ضعيفة ومهمشة للغاية. فعلى سبيل المثال، حركة “السلام الآن” ـ التي عبأت عشرات الآلاف من الإسرائيليين ضد غزو لبنان ـ فشلت في تنظيم مظاهرات بنفس القوة للدفاع عن حقوق الفلسطينيين. ولم تنجح حركة “يش جفول” ـ المعارضة للخدمة العسكرية في الأراضي المحتلة في جذب تأييد واسع بين صفوف المجندين الإسرائيليين. عارضت الحركتان السياسات الإسرائيلية في الأراضي المحتلة، ولكنهما لم تحاولا جعل قضية المشروع الصهيوني أو حق إسرائيل في تحديد مصير الفلسطينيين موضعاً للتساؤل. ولم تكن حملاتهما سوى نقد ليبرالي “للاستراتيجية” الصهيونية، وليس نقداً لحق إسرائيل في الوجود. (112)
حركات التضامن مع الانتفاضة ومواجهة الأنظمة:
ومع استمرار الانتفاضة ظهرت جلياً قوة القضية الفلسطينية ك ـ “عامل تثوير” قوي في المنطقة. فالفلسطينيون ـ بدءاً من انطلاقة الحركة الفدائية بعد هزيمة الأنظمة العربية الفاضحة في 1967 ـ أصبحوا رمزاً للمقاومة الجماهيرية، ليس فقط ضد الصهيونية، بل وضد الحالة المزرية التي ترزح تحتها شعوب المنطقة. وأصبح من المألوف رؤية “الكوفية الفلسطينية” تتدلى من على أكتاف الراديكاليين العرب ونشطاء اليسار في العديد من بلدان العالم. وقد لا نكون مبالغين إذا قلنا بأن القضية الفلسطينية تلعب الدور الرئيسي في تشكيل الوجدان السياسي للجماهير المصرية والعربية. (الأمثلة على الدور التثويري للقضية الفلسطينية بين الجماهير المصرية لا تنتهي، يكفي أن نستعرض سريعاً بعض المواقف مثل تقدم 20 ألف شاب مصري للتطوع في صفوف الفدائيين الفلسطينيين في الأسابيع القليلة التي أعقبت موقعة الكرامة (مارشال صفحة 233)، وتفجير الانتفاضة الطلابية في بداية السبعينيات على يد “جمعية أنصار الثورة الفلسطينية”، وخروج مليون مصري لضفة قناة السويس من أجل توديع إحدى سفن المقاومة الفلسطينية في طريقها لليمن بعد الخروج من بيروت 82 (مارشال، صفحة 164))
تحولت سريعاً حركات التضامن الجماهيرية ـ التي انتشرت بالدول العربية ـ مع الانتفاضة إلى حركات تهدد أنظمة الحكم نفسها. في البداية جاء رد الفعل في البلدان المتواجدة بها جاليات فلسطينية كبيرة. ففي أقل من أسبوعين قام 10 آلاف فلسطيني ولبناني بمظاهرة في مدينة صيدا اللبنانية، ثم اشتعلت مظاهرات عنيفة بالمخيمات الفلسطينية والمناطق اللبنانية المسلمة. (113) وفي الأردن هاجمت الأجهزة الأمنية بعنف مظاهرات طلاب الجامعات والمدارس ومسيرات الفلسطينيين في مخيمات البقعة والوحدات والحسين وجبل النزهة، وفرقت بالقوة المسيرات التي خرجت من مقار النقابات. (114) وفرضت الحكومة الرقابة العسكرية على الصحف والمجلات الأردنية عند بدء الانتفاضة، وقامت بحملة اعتقالات واسعة بين صفوف المعارضة من كافة الاتجاهات تخوفاً من امتداد الانتفاضة إلى أراضيها، وانتشرت المنشورات في الشارع الأردني منتقدة تخاذل النظام أمام الانتفاضة. (115)
وفي 20 يناير قامت الشرطة المغربية بالتصدي لمظاهرة تضامن قام بها ألفي طالب، فأدى ذلك لمصرع طالبة وإصابة 21 آخرين. فقام الطلبة بالرد بالحجارة على الطريقة الفلسطينية. (116) وقامت حركة تضامن قوية بالكويت حيث كان يعيش آنذاك 300 ألف فلسطيني، ففي ديسمبر 1987 اعتصم عدد كبير من الطلاب بمقار منظمة التحرير الفلسطينية. (117) وفي 8 فبراير 1988 نظم الشباب الفلسطيني مسيرة ضخمة بمدينة الكويت فرقتها قوات الشرطة بالهراوات والقنابل المسيلة للدموع. (118) ونظم سكان هضبة الجولان إضراباً عاماً في الذكرى السادسة لإعلان إسرائيل ضم الجولان إليها، واندفعت تعزيزات عسكرية إسرائيلية لضمان عدم انضمام سكانها إلى الانتفاضة الفلسطينية. وكان سكان الجولان قد أعلنوا تضامنهم مع جماهير الأراضي المحتلة، وأرسلوا مساعدات طبية وغذائية للمخيمات المحاصرة. (119) وفي 14 فبراير 1988، قامت الشرطة التركية بتفريق مظاهرة تضامن من ألف شخص في شوارع اسطنبول. وفي 17 مارس 1988 تظاهر آلاف السودانيين أمام السفارة الأمريكية بالخرطوم خلال إضراب عام احتجاجاً على السياسات الأمريكية تجاه الفلسطينيين. (120)
جاءت أقوى حركة تضامن مع الانتفاضة في مصر، عاكسة مستوى القهر السياسي والاجتماعي الذي تعيش فيه الجماهير المصرية. ففي 20 ديسمبر 1987 نظم طلاب جامعة القاهرة مظاهرة حاشدة طافت الحرم الجامعي رافعين الأعلام الفلسطينية. وحاصرت الجامعة حشود من قوات الأمن المركزي لمنع المظاهرة من الخروج للشارع. (121) وعقب ذلك اجتاحت الجامعات المصرية موجة من المظاهرات العارمة لتأييد الانتفاضة. فتظاهر أكثر من 4 آلاف طالب في حرم جامعة عين شمس منطلقين من أمام كلية الحقوق، وخرجوا إلى الشارع ليسدوا الطريق أمام السيارات، ثم انتقلوا إلى حرم كلية التجارة لعقد مؤتمر طلابي. ونظموا مظاهرة أخرى في 26 ديسمبر 1987 شارك فيها ما يزيد عن 6 آلاف طالب. وفي الوقت نفسه نظم طلبة التيار الإسلامي مظاهرات ضخمة في جامعات المنيا وأسيوط والأزهر. (122) واستمرت مظاهرات الطلبة بجامعة المنصورة رغم قيام الحكومة باعتقال بعض الطلبة وفصل آخرين من الجامعة. وأرسل الصحفيون المصريون رسالة تأييد وتضامن مع الانتفاضة إلى الشعب الفلسطيني أثناء اعتصامهم بمقر نقابتهم احتجاجاً على ممارسات التعذيب التي تنتهجها الحكومة المصرية. وقام 500 طالب بمظاهرة في الجامعة الأمريكية بالقاهرة حرقوا خلالها الأعلام الإسرائيلية. (123) وشارك أساتذة جامعة الإسكندرية طلابهم في المظاهرة التي اندلعت بالجامعة وضمت ما يزيد عن 10 آلاف طالب للمطالبة بطرد السفير الإسرائيلي. (124)
وأضرب المحامون عن العمل في 30 ديسمبر 1987 تضامناً مع الانتفاضة وللمطالبة بقطع العلاقات مع إسرائيل. ورُفعت الأعلام الفلسطينية على مقر نقابة المحامين بالشرقية وبعض مقار المحاكم. وقام المحامون بمسيرات في طنطا والزقازيق إلى مديريات الأمن وحرقوا الأعلام الإسرائيلية. (125)

وفي يوم 1 يناير 1988 خرج المئات من عمال الغزل والنسيج بالمحلة الكبرى عقب صلاة الجمعة في مظاهرة حاشدة تأييداً للانتفاضة، وحرقوا خلالها الأعلام الإسرائيلية أمام مقر الحزب الوطني. (126) هاجمت قوات الأمن المظاهرة واعتقلت بعض العمال. أما الشعارات التي رفعها العمال في البداية تضامناً مع الانتفاضة فسرعان ما تحولت إلى شعارات تطالب بقطع العلاقات مع إسرائيل وتتهم الحكومة بالعمالة لصندوق النقد الدولي وأمريكا، وارتفعت النداءات المطالبة بسقوط النظام. (127) وفي نفس اليوم خرجت مظاهرة جماهيرية ضخمة من جامع الأزهر عقب صلاة الجمعة أيضاً مطالبة بقطع العلاقات مع إسرائيل والجهاد ضدها.اشترك في المظاهرة الآلاف من المواطنين، وطافوا شوارع وسط المدينة قبل أن تتصدى لهم قوات الأمن المركزي بالهراوات والعصي الكهربائية، وتلقي القبض على أعداد كبيرة منهم. (128) ونشط مشايخ الجماعات الإسلامية في المساجد يهاجمون النظام لتحالفه مع أمريكا وإسرائيل، ومطالبين بفتح الحدود للجهاد ضد إسرائيل. (129)
وهاجمت الشرطة مظاهرة مكونة من 200 سيدة إثر محاولتهن لترديد هتافات معادية للنظام بعد أن خرجن من اعتصام نظمه “اتحاد النساء التقدمي” بحزب “التجمع”. وأحاطت 14 سيارة من سيارات الأمن المركزي المحملة بالجنود بمبنى نقابة المحامين تحسباً للقيام بمسيرة إلى مجلس الشعب. وتوافد المئات من المواطنين على مبنى النقابة يوم 5 يناير مرددين هتافات معادية لإسرائيل والحكومة المصرية، وأحرقوا الأعلام الإسرائيلية وعطلوا المرور. (130)

وفي نفس اليوم قام طلبة جامعة عين شمس بمظاهرات ضخمة خرجت من ساحة الحرم وأوقفت المرور بميدان العباسية للمطالبة بقطع العلاقات مع إسرائيل وطرد سفيرها. وجرت اشتباكات واسعة بين الطلبة وقوات الأمن المركزي التي أطلقت عليهم العشرات من القنابل المسيلة للدموع، وأعملت الشرطة فيهم الركل والسحل والضرب بالهراوات والعصي الكهربائية والأذرع الحديدية. وأطلق الضباط أعيرة نارية في الهواء. وقد قامت قوات الأمن باعتقال 84 طالباً وأصابت 320 آخرين. وظهر الدور التثويري للقضية الفلسطينية بوضوح في المظاهرات، فلم تتناول المظاهرات القضية الفلسطينية فقط، بل امتدت لتناول جنون أسعار السلع التموينية وإلغاء الدعم. وتجاوب المواطنون مع الطلبة فانضموا إليهم، وقاموا بإسعاف المصابين منهم، وأخفوا بعضهم في منازلهم بعيداً عن مطاردات الأمن. وتوقفت الحياة الدراسية عقب ذلك لمدة يومين، ثم نظم الطلاب مظاهرات بالحرم الجامعي للمطالبة بالإفراج عن زملائهم المعتقلين، وأضربوا عن الدراسة احتجاجاً على ممارسات وزارة الداخلية. (131) ويجئ يوم 12 يناير ليقوم 4 آلاف طالب بمظاهرة طافت أرجاء الجامعة، ثم خرجت إلى شارع الخليفة المأمون لتتصدى لها قوات الأمن المركزي، وحينما احتمى الطلبة بالحرم الجامعي اقتحمت القوات الحرم مستخدمين القنابل المسيلة للدموع والعصي الكهربائية، وأعملت فيهم الضرب، واعتقلت العديد منهم. لم يتراجع الطلبة أمام إرهاب الحكومة، ففي اليوم التالي تجمع الطلاب أمام كليات الآداب والتجارة والعلوم والحقوق، وخرجوا في مظاهرة إلى الأحياء المجاورة. سارت المظاهرة في اتجاه منشية الصدر، وشارك فيها عدد كبير من المواطنين. تناولت المسيرة ـ بجانب التنديد بالتقاعس عن تأييد الانتفاضة والمطالبة بطرد السفير الإسرائيلي ـ غلاء الأسعار وشجب الإرهاب الذي يمارسه وزير الداخلية. وكعادتها قامت قوات الأمن المركزي بمهاجمة الطلبة والمواطنين بوحشية، فقام المواطنون بالتضامن مع الطلبة وأخفوهم في منازلهم. (132)
وما لبثت السلطات أن أصدرت تعليمات خاصة إلى المسئولين في جميع قنوات التليفزيون المصري بالعمل على تجاهل صور وأخبار الانتفاضة والتقليل منها بقدر الإمكان. (133) ورفض وزير الثقافة الطلب الذي تقدم به الفنانون المصريون لإقامة يوم فني تضامناً مع الانتفاضة على مسرح الطليعة المملوك للدولة، فلجأ الفنانون إلى نقابة المحامين لإقامته. وتزامن ذلك مع اعتصام مئات الشباب بمقر حزب التجمع في الإسكندرية. ونظم المعتقلون السياسيون إضراباً عن الطعام لمدة 24 ساعة تضامناً مع الشعب الفلسطيني. (134)
كان على النظام المصري التحرك سريعاً كي يحتوي توابع الانتفاضة، فقام مبارك بزيارة سريعة للبيت الأبيض في 28 يناير للتقدم بمبادرة للحكومة الأمريكية تتضمن “وقف العنف” في الأراضي المحتلة، والدعوة لعقد مؤتمر دولي للتوصل إلى تسوية شاملة. (135) تآمرت جميع الأنظمة على الانتفاضة، إذ أوضحت الأحداث في مصر مخاوف كل نظام عربي بخصوص القضية الفلسطينية…
فخلال مقاومتهم للصهيونية، واجه الفلسطينيون السيطرة الإمبريالية على المنطقة؛ وخلال تضامنهم مع الفلسطينيين، واجه الطلاب والعمال العرب العلاقات الطبقية بمجتمعاتهم أنفسها، والعلاقات التي تربط حكامهم بالنظام العالمي. (136)
وكتب محمد سيد أحمد يقول:
لقد أصاب الأنظمة العربية الوجوم، وزاد وجومها كلما تعاظم شأن الانتفاضة وطال الصمود، وكأنما الذي أصبح يشغلها هو خطر أن تصوب الحجارة إليها لا إلى إسرائيل. وكأنها أصبحت تشعر بنوع من التضامن مع إسرائيل في ضرورة إطفاء نار الانتفاضة، قبل أن تستفحل، ولذا كانت الانتفاضة سبباً للضغط على الفلسطينيين لا على إسرائيل من أجل تسوية عادلة. (137)
استمرت الحكومة المصرية في شن حملات اعتقال لا هوادة فيها ضد الطلبة والمهنيين والعمال، واستمرت الجامعات مشتعلة بالمظاهرات والاعتصامات للمطالبة بالإفراج عن المعتقلين. وحددت قوى المعارضة في مصر يوم 30 مارس 1988 ليكون يوم العلم الفلسطيني، فقامت الأحزاب والنقابات والجامعات برفع العلم الفلسطيني على مبانيها. فما كان من ضباط أمن الدولة إلا أن هاجموا الأشخاص الذين حاولوا رفع الأعلام، وبدأت حملة اعتقالات جديدة ومداهمات لمنازل الطلبة والمهنيين وأعضاء الأحزاب لضبط ومصادرة الأعلام الفلسطينية التي بحوزتهم! (138)
وفي ظل المناخ العاصف الذي فجرته الانتفاضة في المنطقة، انفجرت انتفاضة في الجزائر على غرار النموذج الفلسطيني، ففي 4 أكتوبر نزلت الجماهير الجزائرية إلى الشوارع تتظاهر ضد الإجراءات التقشفية التي اعتزمت حكومة الشاذلي بن جديد تنفيذها. عمت الإضرابات جميع مصانع الجزائر، فهاجمت الجماهير رموز السلطة والثروة، وأشعلت النيران في مقار الحزب الحاكم، والفنادق الفاخرة، ومحلات القطاع العام، ومقار المجالس البلدية، وشركات الطيران، وسيارات السفراء. (139) واضطر بن جديد إلى إنزال قوات الجيش لقمع الانتفاضة، فواجه المنتفضون الجيش بالحجارة وهم متشحون بالكوفيات على “الطريقة الفلسطينية”. (140) وهرع جميع الحكام العرب لتأييد بن جديد وإبداء تعاطفهم حتى أولئك الذين تربطهم علاقات سيئة أو مقطوعة مع الجزائر ـ ومنهم مبارك. فخرجت مانشيتات الصحف الرئيسية بتصريحات له يدعو فيها الشعب الجزائري إلى “التعقل والاستقرار لأن التمادي في الاضطراب من شأنه أن يعود في النهاية بالخراب على المواطن الجزائري”، وأعرب عن أمله في أن “تسيطر القيادة الجزائرية على مقاليد الأمور في هدوء وأن يعم الاستقرار والأمن والأمان هذا البلد الشقيق”. (141)
لم يخف على أحد الارتباط الوثيق بين أحداث الجزائر وما يحدث بفلسطين، وكيف أصبح الفلسطينيون المثل الذي يحتذي به لمواجهة القمع. فكتبت مجلة الميد إيست ميرور المتابعة للصحافة العربية:
لا يريد الحكام العرب “انتفاضة” جزائرية…[و] نظراً لأن قلقهم الأعظم هو انتشار “انتفاضات” على غرار فلسطين إلى أراضيهم، تدافع الملوك والرؤساء العرب لبعث رسائل تعاطف وتأييد للرئيس الشاذلي بن جديد. (142)
ويؤكد فيل مارشال على أن:
تحققت أسوأ مخاوف الحكام العرب. أصبح الخطر الآن أن التضامن [من قِبَل الجماهير العربية] مع الفلسطينيين قد صار تقليداً لهم. (143)
وفي منتصف شهر إبريل 1989 ـ أي بعد حوالي 6 أشهر من الانتفاضة الجزائرية ـ انفجرت انتفاضة أخرى… في الأردن. ففيما يعد أخطر أزمة مر بها نظام الملك حسين منذ أيلول الأسود، خرجت مظاهرات ضخمة في مدن الأردن الجنوبية ـ التي كانت تعد المعاقل الرئيسية لتأييد النظام الأردني ـ بعد قرار الحكومة رفع أسعار الغذاء. واشتعل قتال شرس بين آلاف الشباب الغاضب من جهة والشرطة والجيش الأردنيين من جهة أخرى لمدة 5 أيام. وفي معن استولى 4 آلاف متظاهر على وسط المدينة وانضمت إليهم قوات الشرطة في الهتاف ضد نظام حسين. وفي منطقة طفيلة تجمهر آلاف الشباب متشحين بالكوفيات ليلقوا بالحجارة على قوات حسين معلنين: “هذه انتفاضة الضفة الشرقية”. (144) وحتى في المناطق التي لم يمتد إليها القتال، أيدت الاجتماعات والمؤتمرات الجماهيرية مطالب الجنوب بخصوص إلغاء زيادات الأسعار، ووقف الإجراءات التقشفية، واستقالة الحكومة، ومعاقبة المسئولين الفاسدين، ورفع قانون الطوارئ الذي ساري عمله منذ 1976، وإصلاحات انتخابية، وفي بعض المناطق ـ تأييد الانتفاضة الفلسطينية تأييداً عملياً. (145) ومرة أخرى لم يكن خافياً على أحد الصلة بين انتفاضات فلسطين ـ الجزائر ـ الأردن، حتى الإسرائيليون فهموا الرسالة جيداً، فكما أكد وزير الطاقة الإسرائيلي موشى شاحال ـ أثناء أحداث الأردن ـ بأن الانتفاضة الفلسطينية قد أصبحت “النموذج الذي يحتذي به في أي وقت تتواجد به الحاجة لتغيير الواقع” في المنطقة. (146)
عرفات و”عدم التدخل”… مرة أخرى!
وفي وجه التأييد الجماهيري الكاسح للانتفاضة أصر عرفات على التمسك ب ـ “عدم التدخل”، فلم يحاول الاتصال أو تأييد حركات التضامن الجماهيرية، بل وجه تحركاته كلها للأنظمة. وسارعت الأنظمة لإعادة علاقاتها مع منظمة التحرير الفلسطينية وتحسينها مثلما فعلت سوريا والأردن، واستخدمت عرفات لتهدئة حدة حركات التضامن بدولها. وبدأ عرفات في الظهور بجانب الملوك والرؤساء في مؤتمرات المناصرة راسماً على وجهه ابتسامته البلهاء ومشيداً بالدعم الممنوح. فبالرغم من القمع الوحشي للمظاهرات الفلسطينية، ذهب عرفات إلى الكويت ليكيل الثناء والمديح للعائلة المالكة الكويتية لجهودها في خدمة القضية الفلسطينية!! (147) وفي احتفال حاشد أقامه الاتحاد العام لنقابات عمال مصر في يناير 1989 للاحتفال بالذكرى الرابعة والعشرين لانطلاقة الثورة الفلسطينية سمحت الحكومة المصرية لعرفات بالحضور والتحدث في الاحتفال. فخاطب عرفات عمال مصر مشيداً ب ـ “عودة مصر إلى الصف العربي”، وتكلم عن “سلام الشجعان” الذي هو مقبل عليه. (148) وفي أول زيارة للقاهرة منذ 1985 أشاد أبو إياد عقب محادثاته مع مبارك بـ “الموقف المصري الحكيم”، وتكلم عن ضرورة تكوين لجنة عربية تضم حكومات مصر وسوريا ولبنان والأردن والمنظمة للإعداد لمؤتمر دولي للسلام. (149) وأثناء انتفاضة الجزائر التزم عرفات وباقي قادة منظمة التحرير الصمت، وبعد شهر من قمع الانتفاضة بالدبابات، ظهر عرفات بجانب الشاذلي بن جديد في دورة المجلس الوطني الفلسطيني، ليقدمه بصورة “صديق الانتفاضة [الفلسطينية] والنضال المعادي للإمبريالية”.(150) وفي أحداث انتفاضة الأردن أرسلت فتح أوامر صارمة لأعضائها بعدم التدخل في مجريات الأحداث، وبذلت جهوداً ضخمة على الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين والجبهة الديمقراطية كي لا يصدرا بيانات ضد النظام الأردني، ووقفت فتح صامتة أمام حملة القمع الشرسة التي تعرض لها الإخوان المسلمون والحزب الشيوعي الأردني. فقد رأت مرة أخرى أن سقوط حسين قد يهز استقرار المنطقة بأكملها، ويعرض مصالح الرأسمالية العربية للخطر، ويفسد المسيرة السلمية الوليدة التي كانت فتح تطرق أبوابها بشدة لسنوات طويلة. (151)
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

القضية الفلسطينية – رؤية ثورية التالي »  Empty
مُساهمةموضوع: رد: القضية الفلسطينية – رؤية ثورية التالي »    القضية الفلسطينية – رؤية ثورية التالي »  Emptyالأحد 27 أكتوبر 2024, 10:26 am

6. المسيرة الاستسلامية

في خضم الانتفاضة، أعلن عرفات بوضوح قبوله إقامة دويلة فلسطينية في غزة والضفة الغربية، وقام بالاعتراف بإسرائيل، وأعلن نبذه لـ “الإرهاب”. لقد كان موقف عرفات الاستسلامي نتاج التحول الذي بدأت فتح في تبنيه منذ 1974 حينما أعلنت قبولها بالاكتفاء بدولة في الأراضي المحتلة عام 1967، أعقبها سعي حثيث لمحاولة فتح قنوات اتصال سرية مع أمريكا والقوى اليهودية “التقدمية” على حسب تعبير المنظمة. ولكن أمريكا وإسرائيل الذين لم يكونا على استعداد للتفاوض مع عرفات قبل ذلك، رأوا أن التفاوض لا مفر منه الآن من أجل إيقاف زلزال الانتفاضة وتوابعه في المنطقة.
الطريق إلى أوسلو:
لقد تضافرت عدة مؤثرات داخلية وخارجية، دفعت الأطراف المتنازعة إلى الجلوس على مائدة المفاوضات. فمن ناحية كانت الانتفاضة الفلسطينية قد بدأت في الانحسار نتيجة: لهيمنة عرفات الخانقة عليها؛ والخسائر المادية والبشرية الفادحة التي تكبدها الفلسطينيون بدون رؤية أي تغيير جذري لائحة في الأفق ـ خاصةً بعد انحسار حركات التضامن مع الانتفاضة في المنطقة نتيجة للقمع وعدم وجود تنظيمات جماهيرية قادرة على تعبئة الحركة في اتجاه تغيير النظم العربية الحاكمة؛ وغزو صدام حسين للكويت الذي أصاب الفلسطينيين مرة أخرى بالآفة التاريخية للمقاومة الفلسطينية ـ الاعتماد على الأنظمة العربية، إذ خُدِعَت جماهير الأراضي المحتلة بدعايات صدام حول تبنيه للقضية الفلسطينية وحول قدرة الجيش العراقي على “حرق نصف إسرائيل” بالأسلحة الكيماوية.
أما منظمة التحرير فكانت تلهث منذ السبعينيات وراء أية تسوية، ووجدت في الانتفاضة القوة التي يمكن تعبئتها من أجل إجبار إسرائيل وأمريكا على القبول بالجلوس والتفاوض معها في مقابل إيقاف الانتفاضة. واشتد تمسك عرفات بالتسوية كالغريق الذي يتمسك بقشة بعد العزلة الشديدة التي تعرض لها عقب انتهاء حرب الخليج بسبب موقف المنظمة من الغزو. فقد أقدم عرفات على تأييد غزو العراق للكويت لشعوره الجارف بالإحباط لتجاهل أمريكا له بالرغم من التنازلات الضخمة التي بادر بتقديمها، وسخطه على دول الخليج لأنهم فشلوا ـ في نظرة ـ على التأثير على أمريكا، والأهم من هذا وذاك ضغط الشارع الفلسطيني الشديد عليه. لم يقدر عرفات على تجاهل هذا الضغط الجماهيري بالرغم من تعارضه مع مصالح رأس المال الفلسطيني بالكويت الذي تعرض لأزمة شديدة بسبب نتائج الحرب واضطر للهروب إلى الأردن وبعض الدول العربية الأخرى، هذا بالإضافة إلى حسابات عرفات الخاطئة حول الأزمة وإمكانية حلها سلمياً.
أمريكا أيضاً رأت أن الفرصة قد أصبحت سانحة ـ بعد حرب الخليج ـ للتوصل إلى تسوية لحل النزاع. فانهيار الاتحاد السوفيتي، وتدخل أمريكا السريع لملء الفراغ الاستراتيجي في الشرق الأوسط بعد غياب السوفيت، وظهورها أمام الأنظمة العربية الحليفة والمعادية كصاحبة الكلمة العليا والسيطرة المطلقة… كل هذا خلق لديها الثقة بقدرتها على دفع التسوية، وفرض الاستقرار على المنطقة ـ بعد فترة طويلة من الصراع ـ من أجل تأمين مصالحها.
السلطة الفلسطينية وقمع “الإرهاب”:
بعد سلسلة من الاتصالات السرية توصلت منظمة التحرير الفلسطينية مع إسرائيل إلى اتفاق أوسلو في 1993 الذي دشن مرحلة جديدة من التنازلات التاريخية في حقوق الشعب الفلسطيني، وبموجبه نشأت السلطة الوطنية الفلسطينية. وبالرغم من الوعود والأحلام البراقة التي باعها عرفات للجماهير الفلسطينية حول تحويل غزة إلى “سنغافورة” الشرق الأوسط، إلا أن الواقع جاء عكس ذلك.
بعد مفاوضات مضنية نجح عرفات في الخروج بغزة التي كانت كابوس إسرائيل الأمني ـ ما عدا المستوطنات التي بقيت تحت السيادة الإسرائيلية. أما الضفة الغربية، فحدث ولا حرج. بحلول أواخر عام 1999 كانت السلطة قابعة على 10% من الأراضي (منطقة أ)، في حين احتفظت إسرائيل بالسيطرة على 64% من الأراضي (منطقة ج)، وتركت 26% من الأراضي للإدارة المدنية الفلسطينية واحتفظت اسرائيل لنفسها بالسيطرة الأمنية عليها. (152)

والكارثة الكبرى هي تحول السلطة الوطنية على مدار السنوات الماضية إلى جهاز أمني قمعي مهمته السهر على أمن إسرائيل وحمايتها من “الإرهاب” طبقاً للاتفاقيات الموقعة. فأجهزة عرفات الأمنية (وبالأخص الاستخبارات العسكرية، والأمن الوقائي، والقوة 17) لعبت دوراً قذراً في التصدي للعمليات الفدائية الموجهة ضد الدولة الصهيونية، فقامت ـ بالتعاون مع الموساد والمخابرات المركزية الأمريكية ـ بحملات اعتقال لا هوادة فيها ضد مناضلي حماس والجهاد والجبهة الشعبية بعد أي عملية فدائية يقومون بها أو عند تجاوز معارضتهم لعرفات “الخط الأحمر”. فبلغ عدد المعتقلين في السنوات الخمس الأولى حوالي 500 معتقل، (153) وفي عام 1998 وحده اعتقلت السلطة 450 شخص، (154) وفي عام 1999 حوالي 350 معتقل سياسي. (155) وتم إنشاء محكمة أمن الدولة العليا للمحاكمات السريعة الليلية لهؤلاء المناضلين، فمثلاً استغرقت محاكمة المناضل محمود أبو هنود ـ قائد حماس العسكري في الضفة الغربية ـ حوالي 5 دقائق! ليصدر بعدها الحكم بسجنه 12 عاماً بتهمة تكوين خلايا مسلحة، وإقامة قيادة بديلة للسلطة!! (156) هذا بالإضافة إلى قيام أجهزة الأمن الفلسطينية بفتح النار على المتظاهرين، وتعذيب المعتقلين وقتلهم، والتحرش بالصحفيين والمثقفين، وإغلاق الصحف والمجلات، واغتيال المعارضين.(157)
لقد نصت اتفاقية أوسلو على أن الأجهزة الأمنية الفلسطينية يجب أن “تتحرك بطريقة منظمة ضد مظاهر العنف والإرهاب…واعتقال ومحاكمة الأفراد المشتبه في تحضيرهم لأعمال عنيفة وإرهابية”، ولكن ليس من حق السلطة اعتقال أي إسرائيلي سواء لأسباب جنائية أو سياسية. ومن المثير للسخرية أن الشرطة الفلسطينية قد بلغ قوامها حوالي 40 ألف شخص، أي تملك السلطة شرطياً لكل 50 مواطن ـ وهي أعلى نسبة موجودة في العالم ـ لدولة لم تُعلَن بعد! (158)
وتمهيداً للحل النهائي المقترح، تحرص أجهزة الأمن العرفاتية على قمع أو احتواء جميع أشكال المعارضة في الشارع الفلسطيني ـ سواء كانت إسلامية، أو يسارية، أو حتى في صفوف فتح نفسها. وقد يكون خير مثال على ممارسات سلطة عرفات الاستبدادية هو رد فعل أجهزته الأمنية تجاه بيان “الوطن ينادينا” الذي وقع عليه 20 من الشخصيات العامة الفلسطينية، بعضهم أعضاء في فتح، ومثقفون، وعدداً من أعضاء المجلس التشريعي. اتهم البيان ـ الذي تم إصداره وتوزيعه في أواخر نوفمبر 1999 ـ السلطة بالفساد والاستبداد والتآمر مع الصهاينة ضد مصالح الشعب الفلسطيني. جاء رد فعل السلطة هستيرياً، فقامت باعتقال 8 من الموقعين وألقت بهم في سجن المخابرات بأريحا وسجن نابلس، وفرضت الإقامة الإجبارية على 3 آخرين من بينهم بسام الشكعة، رئيس بلدية نابلس السابق، الذي فقد ساقيه الاثنين في هجوم قامت به إحدى التنظيمات صهيونية في عام 1980. ولم تعتقل السلطة أعضاء المجلس التشريعي الموقعين على البيان نظراً لتمتعهم بالحصانة البرلمانية، ولكن ارتفعت أصوات أتباع عرفات بالمجلس التشريعي مطالبة برفع الحصانة عن “المنحرفين” ومحاكمتهم. في اليوم نفسه هاجم 3 ملثمين معاوية المصري أحد الموقعين من أعضاء المجلس التشريعي، وأطلقوا عليه النار فأصيب في قدمه، وقد اتهم مركز المعلومات الفلسطيني موسى عرفات ـ رئيس الاستخبارات العسكرية وابن عم ياسر عرفات ـ بتدبيره للحادث. (159)

فساد السلطة الفلسطينية:
لم تصبح السلطة الفلسطينية فقط شريكة عدو الأمس في قمع الجماهير الفلسطينية، بل أصبحت أيضاً تنسق معه في نهب المعونات الدولية التي يفترض أن تذهب لخدمة المشاريع الاجتماعية والبنية التحتية بمناطق السلطة. فالغالبية من أموال هذه المعونات تذهب إلى جيوب عرفات وحاشيته الفاسدة.
لقد أثبت ممارسات عرفات ورجاله في “الأراضي المحررة” قدراتهم الفائقة في مجالات النهب والاستغلال بطريقة تثير إعجاب عتاة الحكام في ديكتاتوريات العالم الثالث. فقد ساهم الفساد الذي يقوم به رجال السلطة ـ بجانب الحصار الإسرائيلي الخانق ـ في تدهور الأوضاع الاقتصادية في “الأراضي المحررة” منذ أوسلو. ففي غزة ارتفعت معدلات البطالة، وانخفض متوسط دخل الفرد، واشتدت الظروف القاسية التي يعيش فيها اللاجئين بالمخيمات والعشش. طبقاً لتقرير الأمم المتحدة في 1997، انخفض متوسط دخل الفرد بأكثر من 39% منذ اتفاقية أوسلو، ووصل تدهور الأوضاع للحد الذي دفع العديد من الأسر إلى تسريح أطفالهم للتسول في شوارع غزة، وأشار التقرير بقلق إلى انتشار عمالة الأطفال بشكل “منذر بالخطر”. وفى ظل هذه الظروف البائسة، تسارعت في أحد بقاع غزة “المحررة” حركة التشييد؛ وخاصة تشييد الفيلات الخاصة والقصور الفخمة في حي “الرمال”. ففي هذا الحي الراقي، تتناثر الوزارات، ومؤسسات السلطة، والفيلات، والقصور، وأماكن الترفيه مثل كباريه “زهرة المدائن” الذي يكتظ أسبوعياً برجال عرفات وباقي أعضاء النخبة الفلسطينية، أو “التوانسة” كما يطلق عليهم أهالي غزة ـ نسبة إلى قدومهم من تونس المقر السابق لمنظمة التحرير الفلسطينية ـ تعبيراً عن الكراهية الشديدة التي تكنها لهم جماهير غزة. (160)
في هذا الحي أيضاً، يتواجد مكتب عرفات المطل على البحر، ويوجد أيضا “نادى المنتدى” الفخم الذي يعد إحدى الأماكن الترفيهية الأساسية لحاشية عرفات. ويتضمن الحي فيلا محمود عباس (أبو مازن) ـ مهندس اتفاق أوسلو ـ التي زادت تكلفتها عن 2 مليون دولار والتي كتب الناس على سورها الخارجي “هذا ثمن بيعك لفلسطين”. أما نبيل شعث وزير التخطيط فقد تزوج أخيراً وأقام 4 حفلات زفاف الأولى في القاهرة، والثانية في غزة، والثالثة في القدس الشرقية، ولكي يرضى أصدقائه الإسرائيليين لأنهم لم يتمكنوا من حضور حفله بالقدس الشرقية بسبب إقامته في “بيت الشرق” الذي تعتبره إسرائيل مقراً “غير شرعي”، فأقام لهم الحفل الرابع في فندق “الأمباسادور”! (161)

بالإضافة إلى هذه المظاهر المستفزة، انكشف الغطاء عن فضيحة أخرى في السنوات الأخيرة، وهي حساب ياسر عرفات في بنك “ليومى” في تل أبيب، هذا الحساب الذي يسمى “بالصندوق الثاني”. وهذا الحساب لا يخضع لإشراف وزارة المالية، بل يخضع لسيطرة ياسر عرفات شخصياً بجانب مستشاره الاقتصادي محمد رشيد. ومصادر تمويله تأتي من طريقين: الأول، عن طريق إسرائيل نفسها، فتقوم إسرائيل بإيداع حصيلة الجمارك والضرائب المفروضة على إمدادات البترول التي تنقلها إلى “الأراضي المحررة” في هذا الحساب. والثاني، عن طريق كبار رجال الأعمال الفلسطينيين الذين يوجهون جزءاً من أرباحهم إلى هذا الحساب في مقابل تسهيل عرفات قيامهم باحتكار الاقتصاد الفلسطيني. ولا يعرف أحد غير أصحاب الحساب كم حجم المبالغ التي استخدمت لتمويل نشاطات السلطة الفلسطينية؟ وكم هي المبالغ التي حولت إلى حسابات خاصة؟ وإن كانت التقديرات تشير إلى قيام إسرائيل وحدها بتحويل ما لا يقل عن 166 مليون دولار في الفترة (1994 ـ 1997). (162) فلماذا يحتاج عرفات كل هذا الاحتياطي؟ طبقاً لما كتبته صحيفة هآرتس الإسرائيلية، أن الصندوق الثاني مخصص ل ـ “حالات الطوارئ”، وللخطط السرية المجهزة لإنقاذ عرفات وأفراد عائلته وعدد من كبار المسئولين في حالة وقوع انقلاب أو حرب أهلية. والحساب السري مخصص لتسهيل إقامة قيادة في المنفى تحاول استعادة السيطرة مرة أخرى. (163) والهدف الآخر من الحساب هو تمويل ممارسات الفساد والقمع الأمني التي يراها عرفات ضرورية من أجل تدعيم سيطرته السياسية، ومن أجل الحفاظ على أمن إسرائيل. (164)
وتزداد معاناة الجماهير الفلسطينية عن طريق الاحتكارات التي واكبت تأسيس السلطة. فقد سعى التوانسة جدياً لتدعيم سلطتهم السياسية وزيادة ثرواتهم بواسطة احتكارهم لأهم القطاعات الاقتصادية الحيوية في مناطق نفوذ السلطة الفلسطينية. تتحكم تلك الاحتكارات في 27 سلعة أساسية تورد إلى مناطق السلطة، مثل الحديد والأسمنت والوقود واللحم. وقد منحت إدارة هذه الاحتكارات لعدد من كبار المسئولين في السلطة والأجهزة الأمنية، وأقاربهم، بمشاركة رجال الأعمال الإسرائيليين. حيث يستورد صاحب الاحتكار البضاعة التي يسيطر عليها من المنتج أو المستورد في إسرائيل ويقوم بعد ذلك ببيعها للفلسطينيين بسعر أعلى. ولا يعلم أحد شيئاً عن أين تذهب رسوم الضرائب وغيرها من الرسوم التي من المفترض أن تصل إلى السلطة، وكل الأموال التي تجبى من الاحتكارات، وتدعى السلطة عدم قدرتها على إعطاء معلومات عن هذه الأموال تحت دعاوى أمنية.(165) يقول تاجر من غزة وهو أحد مناضلي فتح السابقين:
لكل ثورة مناضلوها ومفكروها ومرتزقوها، لقد قتل مناضلونا واغتيل مفكرونا ولم يبق لنا إلا المرتزقة، وهؤلاء لا يفكرون بالقضية على الإطلاق إنهم يعلمون أن وضعهم مؤقت كما كانوا في تونس وكأي سلطة تشعر بقرب نهايتها فلا يهمها إلا الربح من موقعها حتى يزول. (166)
وكمثال فج على ذلك نجد أنه في اليوم التالي لفتح نفق البراق ـ الذي فجر انتفاضة مصغرة بالقدس في 1996، وفى ذروة الاشتباكات الدامية بين جنود الجيش الإسرائيلي والفلسطينيين، جرى اتصال تليفوني بين أرييه زييف ـ مسئول الجمارك الإسرائيلية ـ وأحد كبار المسئولين الاقتصاديين بالسلطة الفلسطينية، ولم يتناول الحديث تطورات الوضع في قضية النفق ولكن المسئول الفلسطيني طلب من زييف أن يعرف إن كانت إسرائيل تستطيع تقديم موعد تحويل الأموال يومين لأسباب فنية تتعلق بأيام عطلة في التقويم الفلسطيني! وقد استجاب زييف لهذا الطلب. (167)
ولا يمكن تجاهل شركة “البحر” التي كانت السيدة سها زوجة عرفات قد أسستها بالتعاون مع بعض المساهمين. فهذه الشركة ابتلعت غزة لدرجة تسمية الغزاوية لها ب ـ “المحيط”، فهي منخرطة في كل شئ من العقارات والإعلانات والكمبيوترات والأدوية والتأمين وصولاً إلى كباريه “زهرة المدائن”. واعتادت شركة البحر الضغط على بعض المستثمرين لكي تكون شريكة معهم فإذا رفضوا فيمكن أن ينتهي بهم الأمر في أحد سجون السلطة بتهمة “التعاون مع العدو”. (168)
واتباعاً لمبدأ “إن لم تستح فافعل ما شئت”، يشارك وزير الشئون المدنية بالسلطة الفلسطينية جميل طريفي (وهو أحد كبار المقاولين) في عمليات بناء المستوطنات الإسرائيلية في الأراضي المحتلة، لاهثاً وراء أرباح المقاولات، وغير مكترث بتسليم الأراضي الفلسطينية للمستوطنين الصهاينة أو بطرد أعداد ضخمة من الفلسطينيين نتيجة لعمليات البناء تلك! (169)

المستوطنات:
تمثل المستوطنات إحدى الأركان الأساسية في الاستراتيجية الإسرائيلية لتوطيد أقدام الاحتلال والسيطرة على الجماهير الفلسطينية في الأراضي المحتلة وبالذات في الضفة الغربية. بدأت العملية الاستيطانية في يوليو 1967 ـ أي بعد شهر واحد من الحرب ـ تحت اسم “مشروع آلون”. في البداية اقتصر المشروع خلال عقدي السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي على جيوب جغرافية صغيرة، ولكنه اكتسب دفعة قوية في التسعينيات بعد بدء مسيرة التسوية على يد حكومات العمل والليكود سواء. فزاد عدد المستوطنين الصهاينة من 110 ألف في عام 1993 إلى 195 ألف في يونيو 2000. (170)
تهدف العملية الاستيطانية إلى خلق حزام من المستوطنات يحيط بالقدس الشرقية من أجل خلق حقيقة واقعة على الأرض يصعب تغييرها؛ لكي تتمكن إسرائيل من فصل القدس عن الضفة الغربية وضمها كعاصمة موحدة لدولتها في مفاوضات الحل النهائي. هذا بالإضافة إلى تقطيع أراضي الضفة الغربية إلى كانتونات (أو مقاطعات صغيرة) متفرقة معزولة عن الأراضي الزراعية الخصبة، ومصادر المياه، والسوق العالمي، وتمنع الفلسطينيين من تحقيق سيادة كاملة عليها. كما أن المستوطنين –المدججين بالسلاح ـ صاروا احتياطياً استراتيجياً لا غنى عنه للجيش الإسرائيلي في فرض الاستقرار ومواجهة انتفاضات الجماهير الفلسطينية. (171)
انتفاضة الأقصى:
قبل انتفاضة الأقصى، لم تكن الجماهير الفلسطينية خانعة أمام التنازلات التاريخية والخيانات المتوالية التي يقوم بها عرفات، ولم تقف ساكنة أمام الممارسات الإسرائيلية. فقد سبقت الانتفاضة الحالية سلسلة من المواجهات، والعمليات الاستشهادية، وهبات عفوية كانت تقوم من كل حين إلى آخر ـ أقواهما كانتا انتفاضة “نفق البراق” في سبتمبر 1996 ومظاهرات “أيام الغضب” في مايو 2000 في الذكرى الثانية والخمسين للنكبة. ولكن انتفاضة الأقصى جاءت أكثر قوة وعنفاً بطريقة أعادت إلى الأذهان انتفاضة 1987.
اندلعت الانتفاضة عقب زيارة زعيم الليكود السفاح إرييل شارون ـ مهندس مذبحة صبرا وشاتيلا ـ للحرم الشريف بالقدس في مصاحبة كتيبة عسكرية إسرائيلية قوامها ألف جندي في يوم الخميس 28 سبتمبر 2000 بإذن من رئيس الوزراء إيهود باراك، وبعد أن كانت الجهات الأمنية الإسرائيلية قد تلقت ضمانات من قوى الأمن الفلسطينية بعدم وقوع اشتباكات! رداً على تلك الزيارة الاستفزازية اشتعلت مواجهات دامية بمنطقة الحرم في اليوم التالي، مما أدى لاستشهاد 7 فلسطينيين وأصيب 200 آخرين برصاص الجنود الصهاينة. تصاعدت الأحداث سريعاً لتنتشر المظاهرات والاشتباكات بين الجماهير الفلسطينية والقوات الإسرائيلية في القدس الشرقية، ثم امتدت إلى غزة وباقي مدن الضفة، وكان مفترق “نتساريم” في غزة مركزاً للاشتباكات الدامية في يوم السبت 30 سبتمبر حيث قتل الطفل محمد جمال الدرة البالغ من العمر 12 عاماً عن عمد على يد الجنود الصهاينة، ونقلت صورة موته بكل وضوح وحشية الاحتلال الإسرائيلي، مما أقام الدنيا كلها ولم يقعدها.(172) وانضم جنود الشرطة الفلسطينية إلى المنتفضين واشتبكوا بالسلاح مع جنود الاحتلال. ولأول مرة منذ عام 1976 نظم عرب 48 ـ أو من يطلق عليهم أحياناً عرب إسرائيل ـ مظاهرات حاشدة سرعان ما تحولت إلى اشتباكات دامية مع قوات الأمن الإسرائيلية في مدن 48.
وقامت إسرائيل بتصعيد عسكري غير مسبوق، فلم تكتف بإطلاق الرصاص الحي والمطاطي على المنتفضين البواسل العزل من السلاح، ولكنها استخدمت طائرات الهليوكوبتر والمدفعية الثقيلة في قصف مراكز الشرطة الفلسطينية والمخيمات والأحياء السكنية بالصواريخ، وفرضت حصاراً طويلاً على مدن الضفة الغربية وغزة لتعزلهم عن بقية العالم، واستخدمت الدبابات في ضرب المتظاهرين والمدن، وقامت باغتيال مسئولين كبار في السلطة وبعض قادة فتح. ويسقط بحلول السابع من يناير 2001 حوالي 331 شهيداً و10705 جريح من الفلسطينيين، (173) بالإضافة إلى 13 شهيداً من عرب 48، وقُتِل 45 صهيونياً. (174)
تناقضات السلطة الوطنية الفلسطينية:
شهدت الاشتباكات في الانتفاضة الأخيرة ـ وفي انتفاضة نفق البراق 1996 ـ انضمام قطاعات واسعة من ضباط وجنود الشرطة الفلسطينية وتنظيم فتح إلى المنتفضين، ودخولهم في مواجهات بالذخيرة الحية مع جنود الاحتلال. فما تفسير “صحوة الضمير” تلك التي انتابت رجال أمن السلطة؟! هل استيقظ ضميرهم فجأة بعد سنوات من قمع الجماهير الفلسطينية و”التنسيق الأمني” مع العدو الصهيوني؟!
إن السلطة البرجوازية في أي دولة عبارة عن جهاز قمعي يحمي مصالح الطبقة الرأسمالية الحاكمة. ولكن السلطة الفلسطينية لها خصوصيتها، فهي أيضاً مؤسسة قمعية تمثل مصالح البرجوازية الفلسطينية، ولكنها تعاني من تناقضات بسبب عدم حل المسألة الوطنية الفلسطينية حتى مع تأسيس السلطة. فحركة فتح (أو على الأقل كوادرها القاعدية) ما زالت جزءاً من حركة التحرر الوطني الفلسطينية، بالرغم من التنازلات الضخمة والخيانات المتوالية التي تقوم بها قياداتها. وما زالت بحاجة إلى قدر ما من التعبئة الجماهيرية في مواجهة إسرائيل، وإن كان هدف التعبئة في هذه الحالة هو دعم موقفها التفاوضي وليس الإطاحة بالدولة الصهيونية. ووجود فتح في السلطة مبني ليس على القمع وحده بل أيضاً على تأييد الشارع الفلسطيني لها، وإن كان هذا التأييد في الانخفاض المتزايد منذ بدء العملية الاستسلامية. وبالتالي يتحتم على قيادة فتح الاستجابة للضغط الجماهيري القادم من أسفل إبان الانتفاضات وإلا فقدت شرعيتها أمام الجماهير الفلسطينية وأمام كوادرها القاعدية نفسها. وليس معنى ذلك أن بداية الاشتباكات المسلحة التي اندلعت بين جنود الشرطة الفلسطينية ونشطاء “التنظيم” (ذراع فتح الضاربة في التعبئة الجماهيرية والعمل العسكري) من جهة والقوات الإسرائيلية من جهة أخرى قد أتت أوامرها من القيادة العرفاتية. فقد سبقت الانتفاضة سلسلة من حوادث هجوم فردية من جانب بعض أفراد الشرطة الفلسطينية على الجنود الصهاينة، وقد أدان عرفات بشدة تلك الحوادث. نستطيع القول بأن بداية اشتراك الجنود الفلسطينيين في القتال كانت حركة عفوية من قواعد الأجهزة الأمنية لم تستطع قيادات السلطة كبحها، وإن شجعتها لاحقاً بقدر محسوب عند التصعيد الإسرائيلي.
بالإضافة إلى ما سبق، هناك عامل آخر محوري في تحديد حركة الضباط والجنود الفلسطينيين إبان الانتفاضات الجماهيرية. إن هؤلاء الضباط والجنود ليسوا سوى فدائيين ناضلوا بالسلاح لسنوات عديدة ضد الدولة الصهيونية، والعديد منهم كانوا من القيادات الشابة لانتفاضة 1987. لقد نشأ هؤلاء الضباط والجنود في كنف الأفكار السياسية الراديكالية، التي تمحورت حول هدف واحد هو تحرير فلسطين. وبالرغم من إدماج العديد من هؤلاء الفدائيين السابقين في السلطة عن طريق الامتيازات الممنوحة والمرتبات الضخمة المدفوعة بالدولار، إلا أن الشواهد تجزم بوجود قطاع لا يستهان به من الضباط والجنود يتوهم في سلطة الحكم الذاتي كونها مرحلة انتقالية في مشوار الكفاح المسلح لتحرير فلسطين، ويراها مكسباً متمثلاً في خلق “أرض محررة” تستخدم كقاعدة انطلاق واستكمال للثورة الفلسطينية. وبالتالي فإن سلسلة الخيانات المتوالية التي يقوم بها عرفات، والتعاون “الأمني” مع إسرائيل عدو الأمس، والمهام القمعية التي تقوم بها أجهزة السلطة ضد المناضلين والجماهير الفلسطينية… كل هذا يخلق تناقضاً صارخاً في وعي هؤلاء الفدائيين السابقين، وتجعلهم يبتعدون عن العمل في أجهزة السلطة أو ينحازون للجماهير فور تصاعد المد الثوري.
إن عرفات ـ الذي اتخذ موقفاً متخاذلاً في بداية الانتفاضة الأخيرة باستجداء إسرائيل لرفع الحصار في مقابل قيامه بتهدئة الأوضاع ـ لم يستطع الاستمرار في موقفه المستكين، فقام بركوب الموجة الثورية، وأفرج عن العشرات من المعتقلين الإسلاميين، وأطلق نشطاء “التنظيم” إلى الشوارع لقيادة المظاهرات والهجمات الفدائية ضد قوات الاحتلال، وتبنى لهجة إعلامية “متشددة” تجاه إسرائيل… كل ذلك من أجل السيطرة على الشارع الفلسطيني، ووضع فتح على رأس الانتفاضة للتحكم فيها. (175) ومن ناحية أخرى لم تنقطع جهوده لتهدئة الأوضاع عند ظهور أي بادرة للتسوية، واستمرت الاتصالات بينه وبين باراك وكلينتون وباقي الأنظمة العربية لمحاولة “إنقاذ عملية السلام”، وبالطبع لم يحاول الاتصال بحركات التضامن التي اشتعلت بعنف في أرجاء المنطقة. ولكن كل وقفٍ لإطلاق النار كان ينهار سريعاً تحت وطأة التصعيدات البطولية للجماهير الفلسطينية المنتفضة أو بسبب هجمات الجنود والمستوطنين الصهاينة التي لم تنته. وفي وقت كتابة هذه الكراسة، كان التنسيق الأمني بين السلطة وإسرائيل قد استأنف مرة أخرى.
التصعيد القمعي الإسرائيلي:
أثارت حدة التصعيد الإسرائيلي للمواجهات العسكرية دهشة الكثيرين، فاستخدام المدفعية والطائرات والدبابات والصواريخ ضد المتظاهرين لم يحدث بهذا المستوى البربري من قبل حتى إبان انتفاضة 1987، ففي خلال الأسابيع الست الأولى من انتفاضة الأقصى، سقط من الضحايا الفلسطينيين 15% من إجمالي الضحايا الذين سقطوا في انتفاضة (1987 ـ 1993) التي استمرت لمدة 6 سنوات! (176) تكمن الدوافع وراء ذلك التصعيد الهمجي في وصول المفاوضات إلى “الخطوط الحمراء” التي يعجز على المفاوضين من الجانبين تجاوزها، وهي القضايا التي كان الطرفان يتعمدان إرجاء مناقشتها بقدر الإمكان بسبب تعقيداتها وخطورتها البالغة، وأهمها قضيتي القدس وحق العودة للاجئين الفلسطينيين.
إن التوقيع على التنازل في أي من القضايا السابقة في المفاوضات لا يعد سوى توقيع أمر بالإعدام على المتنازل على يد شعبه. وقد اعترف عرفات بذلك للرئيس الأمريكي ـ إبان محادثات كامب ديفيد ـ بقوله: “إذا تنازلت عن السيادة في الحرم الشريف فسيكون مصيري كمصير السادات”. (177) وبالتالي فإذا كان الطرفان قد وصلا إلى الخطوط التي لا يستطيعان تجاوزها، وصار على أحد منهما تقديم “تنازلات انتحارية”، فقد رأت إسرائيل أن الوقت قد أزف لاستعراض عضلاتها مرة أخرى وتذكير السلطة الفلسطينية بمن يملك الجبروت العسكري ومن هو صاحب الكلمة العليا، من أجل تلقين قيادات السلطة درساً قاسياً يظل ماثلاً في أذهانهم عند العودة مرة أخرى للجلوس حول مائدة المفاوضات.


...  يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

القضية الفلسطينية – رؤية ثورية التالي »  Empty
مُساهمةموضوع: رد: القضية الفلسطينية – رؤية ثورية التالي »    القضية الفلسطينية – رؤية ثورية التالي »  Emptyالأحد 27 أكتوبر 2024, 10:27 am

....   تابع


6. المسيرة الاستسلامية



اليسار الإسرائيلي وانتفاضة الأقصى:
لم يختلف موقف اليسار الإسرائيلي تجاه انتفاضة الأقصى عن مواقفه السابقة تجاه الانتفاضة الأولى. بل وجن جنون قادته لانضمام عرب 48 لصفوف المنتفضين. فكما كتب روني بن إفرات:
مفكرو اليسار الصهيوني يشعرون بالإهانة إذ لم يكن ليخطر ببالهم أبدا أن تقوم الجماهير العربية في إسرائيل وتتمرد على نظام الفتات الذي تفرضه عليها الدولة. عامل المفاجأة يعود إلى إيمان هؤلاء الساسة والكتاب بان التمييز اللاحق بالمواطنين العرب والذي يعتبرونه “غير مقبول عليهم”، ليس بالدرجة التي تغير قناعة العرب في إسرائيل بأنهم يعيشون في دولة متطورة وأن حالهم افضل من حال بقية الشعوب العربية التي تعيش حالة الفقر والتخلف ودون مخصصات التأمين الوطني. المظاهرات الجماهيرية والاستعدادات الكفاحية العالية التي أبداها الشباب العرب كانت عبارة عن صفعة في وجه اليسار الإسرائيلي. كانت تلك ضربة للصورة الوهمية التي رسمها اليساريون المزورون وصوّروا فيها إسرائيل على أنها دولة ديمقراطية وان مؤسساتها تضمن الحقوق والحريات للجميع.(178)
وبالفعل كان الهجوم على الفلسطينيين وعرب 48 من جميع جبهات اليسار الإسرائيلي، كتب “اليساري” ارييه كسبي في ملحق هآرتس (14/10):
عرب إسرائيل لم يخرجوا إلى الشوارع في مسيرة حزن. لم تكن هناك انفجارات احتجاجية مدنية مشروعة. إن من خرج إلى الشارع مسلحا بالحجر والسلاح لمهاجمة شرطة إسرائيل في الوقت الذي يحارب فيه جنود إسرائيليون على بعد عدة كيلومترات، انضم عمليا إلى صفوف أعدائنا. (179)

ويكرر يشاي منوحين ـ المتحدث باسم حركة “يوجد حد” (التي تضم الجنود الرافضين للخدمة العسكرية في المناطق المحتلة ولبنان) ـ نفس الرأي ولكن بنبرة الطف عندما يقول:
يجب أن نميز بين ما هو مسموح للفلسطينيين تحت الاحتلال وبين ما هو مسموح للمواطن الإسرائيلي. لا أرى في تصرف (المواطنين العرب) خيانة كما يراها عدد من الأصدقاء في اليسار، ولكن هذا الوضع يتطلب منا تحديد الخلل في العلاقات بين العرب واليهود. (هآرتس، 10/10). (180)
لم تجد انتفاضة الأقصى تأييداً حقيقياً من أي قطاع من المجتمع الإسرائيلي، مثل ما حدث إبان الانتفاضة الأولى. وجاء أداء حركات السلام ضعيفاً في التأثير، وصهيونياً في التوجه. فيؤكد جين شاؤول أن “منذ اندلاع العنف، في نهاية سبتمبر، لم تنظم سوى مظاهرات صغيرة ومعزولة للاحتجاج على استخدام باراك للقوات الأمنية الإسرائيلية ضد الفلسطينيين العزل”. (181) وحتى في الاحتفالية السنوية التي نظمتها حركة السلام الآن في 4 نوفمبر 2000 لإحياء الذكرى الخامسة لاغتيال رئيس الوزراء السابق إسحاق رابين، ظهر بوضوح احتواء الصهيونية لحركة السلام واليسار الإسرائيلي. فقد تجمهر أكثر من 50 ألف شخص، ملوحين بالأعلام الإسرائيلية، وهاتفين “ليس لدينا وطن آخر. أقوياء، متحدون، فخورون”. وصفق الحاضرون بشدة عندما اعتلى المنصة الرئيس الإسرائيلي “اليميني” موشى كاتساف ودعا لوحدة الشعب الإسرائيلي من اليسار واليمين، والعلمانيين والمتدينين، والأوروبيين والشرق أوسطيين. ووصلت المشاعر القومية العنصرية التي سادت في الاحتفالية للحد الذي دفع بجريدة هآرتس الإسرائيلية إلى وصف الحدث بكونه “احتفالاً دينياً بدون إله”! (182) ويلاحظ شاؤول مرة أخرى أن
قبول تبرير الحكومة السياسي للهجوم العسكري ضد الفلسطينيين، والدعوة للوطنية والوحدة القومية ـ اللذين كانا واضحين بقوة في الاحتفالية ـ يمثلان مظهرين أساسيين لحركة السلام الإسرائيلية. فمرجعيتها دائماً هي الحاجة للحفاظ على الدولة الصهيونية، ولكنهم يرون أن هذا لا يمكن الحفاظ عليه سوى بالسماح للفلسطينيين بإقامة شكل ما من الدولة. (183)

أما اليسار “الراديكالي” الإسرائيلي، مثل جبهة حداش وكتلة السلام، فقد اتسمت ردود فعله بمحاولة يائسة لإقناع الجمهور الإسرائيلي بضرورة “إعادة مسار اتفاق أوسلو إلى طريقه الصحيح”، والعودة للوضع الذي كان سائداً عشية الاحداث، كما لو كان ذلك الوضع مقبولاً أصلاً من الشعب الفلسطيني! تبرز الخطوط السياسية العامة لهذا القطاع من اليسار ـ الذي يشمل جبهة حداش وعناصر “يسارية” في حزب ميرتس ـ في إعلان مدفوع نشرته هآرتس (12/10). يتضمن الإعلان عدة مطالب موجهة إلى رئيس الوزراء باراك من شأنها تحقيق السلام ووقف الحرب. والجدير بالانتباه لهما مطلبان ـ واحد يطالب بفك “المستوطنات الاستفزازية” والثاني يطالب بنقل “السيادة على الأحياء العربية في القدس للفلسطينيين بما في ذلك الحرم الشريف، مع إبقاء المدينة مفتوحة وحرة والحفاظ على سيادة إسرائيل في البراق (حائط المبكى) وفي الشارع المحاذي”. من هذين المطلبين يبرز تقديم المزيد من التنازلات للصهيونية في موقف هذه التيارات، فموقفهما ـ الصهيوني أيضاً ـ في الماضي كان يطالب بتطبيق “قرارات الشرعية الدولية” وفك كافة المستوطنات، ويعتبر القدس الشرقية أرضاً محتلة يجب الانسحاب الكامل منها وتسليمها للسيادة الفلسطينية. ويؤكد بن إفرات أن من “الواضح أن المطالب التي تنص عليها عريضة اليسار صيغت بطريقة تتلاءم مع الأفكار التي اقترحت في كامب ديفيد بهدف إنقاذ حكومة باراك.” (184)
حركة التضامن مع الانتفاضة، والأنظمة العربية:
انفجر الشارع العربي بمظاهرات ساخطة ضد الصهيونية والإمبريالية الأمريكية… وضد الأنظمة العربية. فعمت المظاهرات جميع دول المنطقة بلا استثناء، وامتدت لتشمل العديد من بلدان العالم الإسلامي وأوروبا وأمريكا. فاجتاحت موجة من المظاهرات ضمت عشرات الآلاف في مصر، والأردن، وتونس، والسودان، وليبيا، واليمن، ولبنان، والعراق، وسوريا، وإيران. بل وامتدت إلى دول الخليج ذات التراث الضعيف ـ أو المعدوم ـ في التظاهرات الجماهيرية؛ فخرج الطلبة في مظاهرات بالكويت، والسعودية، والإمارات، والبحرين. وفي الغرب، نظمت الجاليات العربية والإسلامية واليسار عدة مظاهرات متفرقة، فتظاهر 4 آلاف شاب عربي في باريس أمام السفارة الإسرائيلية، وتظاهر آلاف آخرون في لندن وجلاسجو ومانشستر ببريطانيا. (185) وفي نيويورك نظم العرب والمسلمون بأمريكا عدة مسيرات ومظاهرات ضمت ما يزيد عن 5 آلاف شخص. (186)
لقد وضعت انتفاضة الأقصى الأنظمة العربية في موقف لا يحسدون عليه، وكشفت بوضوح عن تقاعس الأنظمة وتخاذلها عن تأييد الفلسطينيين، وفضحت العلاقات الوثيقة التي تربط تلك الأنظمة بالإمبريالية الأمريكية. وأوضحت الانتفاضة مرة أخرى القدرة التثويرية العالية للقضية الفلسطينية بين الجماهير العربية. فقد خلقت حالة من التعميم السياسي وسط التحركات الجماهيرية التي دفعها تحركها التضامني مع الفلسطينيين إلى: الدخول في صدام مع الأنظمة، وإبراز التوازي بين ما يحدث في الأراضي المحتلة وما يحدث للجماهير العربية علي أيدي الأنظمة. وحاولت الأنظمة بأقصى جهدها ارتداء ثياب “التشدد” تجاه إسرائيل، ولكن اقتصر “تشددها” على الخطابات والبيانات الإعلامية. وفي مواجهة الحركة التضامنية الجماهيرية ناورت الأنظمة بين استخدام القمع المباشر ومحاولة الاحتواء.

ففي المغرب، وبعد سلسلة من التحركات الجماهيرية الغاضبة، قام النظام المغربي بالسماح بمظاهرة رسمية ضمت حوالي مليون مواطن، بالتعاون مع جميع قوى المعارضة الدينية والعلمانية. وكان في مقدمة المتظاهرين رئيس الوزراء عبد الرحمن اليوسفي، وممثلين عن حركة العدل والإحسان الإسلامية المحظورة، وقادة تيارات سياسية أخرى. (187) وفي العراق، كثف النظام من دعايته “المتشددة” تجاه إسرائيل، وقام بتنظيم سلسلة من المظاهرات ـ التي ضمت عشرات الآلاف ـ في بغداد تقدمها كبار المسئولين في حزب البعث الحاكم. (188) وطالب النظام بفتح الحدود للحرب ضد إسرائيل، وأعلن عن فتح باب التطوع للجهاد والعمليات الانتحارية، ولكن بالطبع بقي كل هذا على ورق وفي أبواق الدعاية! وفي الأردن، حيث هاجم الملك عبد الله “التعنت الإسرائيلي”، وأمر بنقل بعض جرحى الانتفاضة للعلاج بمستشفيات الأردن، وأجّل إجراءات إرسال سفيره لتل أبيب، بقي “التشدد” ضد إسرائيل مقتصراً أيضاً على الإعلام. فقد قمعت الحكومة حركة التضامن التي اشتعلت بالأردن بين الطلبة والنقابات المهنية. وفرضت حظراً على جميع المسيرات والتظاهرات، ونشرت الجيش على مداخل مخيم “البقعة” للاجئين، بل وقامت قوات الأمن الأردنية بقتل أحد سكان المخيم أثناء التظاهر. (189) ولكن هذا لم يمنع الجماهير الأردنية من بناء حركة تضامنية قوية، فتحدى طلبة الجامعة الأردنية قرار الحظر وخرجوا بتظاهرات تندد بالمجازر الإسرائيلية. وواجهت مظاهرات الطلاب قوات الأمن التي حاصرت المنطقة وطلبت من الطلبة التفرق وعدم إكمال المسيرة باعتبارها محظورة، إلا أن الطلاب رفضوا الانصياع لقوات الأمن التي قامت بتفريقهم بالقوة. وشهدت المنطقة مواجهات استخدمت فيها الحجارة والعصي، واعتقلت قوات الأمن الأردنية نحو 17 طالبا فيما بقي نحو ألف طالب يهتفون داخل الحرم الجامعي. (190) وقمعت قوات الأمن بوحشية كل المظاهرات التي حاولت الوصول للسفارة الإسرائيلية، وشهدت المنطقة المحيطة بالسفارة اشتباكات دامية قام فيها المتظاهرون بقذف الأمن بالحجارة، وحرق الأعلام الإسرائيلية وسط هتافات تتهم الحكام العرب بالخيانة.(191)
وفي سوريا، أشعل النظام حرباً “إعلامية”، وجه فيها “قذائف” من الخطابات وبيانات الشجب والاستنكار. وقام بتنظيم سلسلة من المؤتمرات والمظاهرات الرسمية تحت رعاية حزب البعث الحاكم، واكتفى بذلك، مؤكداً على أن السلام ما زال خياراً استراتيجياً. ولكنه لم يتورع عن قمع المظاهرة الطلابية التي انطلقت من جامعة دمشق مستهدفة السفارة الأمريكية. فقد خرج المئات من الطلبة السوريين والفلسطينيين والعرب من الجامعة في 4 أكتوبر محاولين الوصول للسفارة الأمريكية. وبالفعل نجح الطلبة في التجمهر أمام السفارة التي ضربت حولها قوات الأمن السورية طوقاً أمنياً مشدداً. قام أحد الطلبة بالتسلل للسفارة وتسلق مبناها، لينزل العلم الأمريكي المرفوع، فقام الأمن باعتقاله فور نزوله. وهاجم الطلبة السفارة ملقيين بالزجاجات والحجارة على نوافذها، فردت قوات الأمن عليهم بالرصاص المطاطي، والضرب بالهراوات، وفتح خراطيم المياه. وأدت الاشتباكات إلى سقوط 15 جريحاً. (192)

وتكتمل مهزلة “تشدد” الأنظمة العربية بما حدث في اليمن. فقد بذل النظام جهوداً ضخمة في احتواء الغضب الجماهيري الذي عم في أرجاء اليمن. وتقدم مسئوليه المظاهرات الجماهيرية المسلحة التي ضمت عشرات الآلاف من المواطنين للمطالبة بالجهاد ضد إسرائيل. وكان الرئيس اليمني في القمة العربية من الداعين لخيار الحرب وفتح حدود دول الطوق للجهاد. وبالرغم من ذلك قمعت قوات الأمن اليمنية بوحشية المظاهرات الجماهيرية التي اتجهت للسفارة الأمريكية ومكتب الأمم المتحدة. (193) بل وأدان الرئيس اليمني بشدة الهجوم الفدائي الانتحاري الذي فجَّر المدمرة الأمريكية “يو إس إس كول” التي كانت رابضة بميناء عدن، ووصفه بكونه “عملاً إجرامياً”! وهرع لتفقد الجرحى من الجنود الأمريكيين في المستشفى وعرض على الحكومة الأمريكية التعاون الأمني في التحقيق وراء هذا الحادث “الإرهابي”! (194)
لقد خيم شبح تصدير الانتفاضة الفلسطينية للشارع العربي على المنطقة مرة أخرى، وخلق هذا حالة من الهلع لدى الملوك والرؤساء العرب، للحد الذي دفع بالأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان إلى القول لباراك بأن “هناك مخاوف في العالم العربي من أن العنف قد ينتشر من خلال مظاهرات الشوارع للدول العربية المجاورة، ويهز استقرار المنطقة كلها”. (195) وأضاف عنان ـ الذي كان قادماً لتوه من الدوحة حيث كان المؤتمر الإسلامي منعقداً في منتصف شهر نوفمبر ـ بأنه وجد
…بين مندوبي المؤتمر الإسلامي إحساساً ب ـ “التوتر” خشية أن ينتشر عدم الاستقرار. فهم قلقون من الموقف في بلادهم. فكلما كان هناك المزيد من المظاهرات في بلادهم، كلما تحركت الشوارع، كلما زاد حجم المشكلة لحكوماتهم. (196)

وفي مصر انفجرت حركة تضامن في غاية القوة متركزة أساساً بين صفوف الطلبة. فاجتاحت المظاهرات الغالبية العظمى من الجامعات والمعاهد العليا. بدأت المظاهرات في يوم 30 سبتمبر بجامعة الإسكندرية بقيادة التيار الإسلامي، وضمت المظاهرة حوالي 6 آلاف طالب تحركوا للاحتجاج على الممارسات الإسرائيلية، وللتضامن مع الفلسطينيين. وفي اليوم التالي اندلعت المظاهرات في جامعة المنوفية التي تظاهر في ساحتها ما بين 4 إلى 5 آلاف طالب.
وينتشر الزخم ليصل إلى جامعة القاهرة التي بدأت تتحرك فيها آلاف الطلاب ـ بقيادة التيار الإسلامي ـ في 2 أكتوبر رافعين الشعارات المطالبة بتحرير القدس، وحرقوا الأعلام الإسرائيلية. ولكن بدأت مجريات الأحداث تأخذ منحاً أكثر راديكالية في جامعة القاهرة، وبدأ اليسار في التدخل بقوة وتصدر الحركة ـ خاصةً بعد تخاذل الإسلاميين ولجوءهم للتنسيق مع الأمن والحد من راديكالية الحركة عندما بدأت في التصاعد. ففي يوم 4 أكتوبر تحرك 5 آلاف طالب ـ تحت قيادة طلاب اشتراكيين ـ في مظاهرة طافت بأرجاء الحرم الجامعي للمطالبة بطرد السفير الإسرائيلي، وقاموا بحرق الأعلام الإسرائيلية. فقامت قوات الأمن بغلق بوابات الحرم الجامعي لمنع الطلبة من الخروج للشارع، وألقت عليهم القنابل المسيلة للدموع، فرد الطلبة بقذف قوات الأمن المركزي بالحجارة، وأحرقوا مباني الأمن وسيارتين للشرطة. وسرعان ما تحولت المظاهرة من “التضامن” مع الفلسطينيين إلى “مواجهة” النظام، فترددت الهتافات المنددة بالقمع السياسي وبتحالفات النظام مع إسرائيل وأمريكا. واستكملت المظاهرات في 7 أكتوبر، فكسر الطلبة أبواب الجامعة، وخرجوا إلى الشارع ـ محاولين الوصول لمبنى السفارة الإسرائيلية ـ لتتصدى لهم قوات الأمن المركزي التي قامت بمطاردتهم حتى كوبري عباس وأعملت فيهم الضرب والاعتقال. ثم استمرت المظاهرات في ساحة الجامعة لتصل ذروتها في 14 أكتوبر عندما تحرك حوالي 7 آلاف طالب ـ بقيادة طلاب اشتراكيين ـ إلى خارج الجامعة، وساروا بالمظاهرة في شارع بين السرايات. وقام بعض الطلبة بتحطيم واجهات مطعم “كنتاكي” الملاصق للجامعة. ثم اشتبكوا مع قوات الأمن المركزي التي طاردتهم إلى داخل الحرم الجامعي، حيث تبادلوا التراشق بالحجارة.

وفي جامعة عين شمس تحرك الطلبة بالآلاف للتضامن مع الفلسطينيين في حركة لعب فيها اليسار الاشتراكي والناصري دوراً محورياً. فتجمهر حوالي 7 آلاف طالب في يوم 8 أكتوبر أمام قصر الزعفران ليخرجوا إلى الشارع ـ وينضم إليهم طلبة كلية تجارة والعديد من المواطنين ـ في مسيرة إلى ميدان العباسية. احتل الطلبة والمواطنون ـ الذي بلغ عددهم حوالي 12 ألف شخص ـ الميدان حتى الثامنة مساءاً محاطين بقوات الأمن المركزي. وفي اليوم التالي تجمهر حوالي 7 آلاف طالب ليقوموا بمظاهرة، وحاولوا الخروج إلى الشارع مرة أخرى، ولكن قوات الأمن تصدت لهم بعنف. (197) واستمرت المظاهرات لليوم التالي 10 أكتوبر بالرغم من القمع الأمني، حيث قام أحد ضباط الشرطة بالدخول في المظاهرة بسيارته عن عمد، فصدم طالبين. فهاجمه الطلاب وأوسعوه ضرباً، وقاموا بإحراق 5 سيارات من ضمنهم سيارتين للشرطة.
وشهدت نفس الفترة مظاهرات ضمت الآلاف في جامعة الزقازيق وسوهاج. (198) واستخدمت قوات الأمن العنف من أجل تفريق مظاهرة من 8 آلاف طالب في المنيا تنادي بالحرب ضد إسرائيل. وواصل طلاب جامعة الإسكندرية مظاهراتهم، وتجمهر الآلاف منهم في مسيرة في يوم 14 أكتوبر للمطالبة بالحرب ضد إسرائيل، وطالبوا الحكام العرب بوقف تخاذلهم ومساندة الفلسطينيين. وفي اليوم التالي تحرك حوالي 10 آلاف طالب في جامعة الإسكندرية والمنصورة للمطالبة أيضاً بالحرب، ونظم المئات من أساتذة الجامعات مسيرة صامتة في جامعة القاهرة للتعبير عن رفضهم لاستقبال باراك في مصر.(199)
وانضم طلاب الجامعة الأمريكية بالقاهرة للحركة، فقاموا بتنظيم اعتصام بداخل الحرم الجامعي في يوم 2 أكتوبر. ثم نظموا سلسلة من المظاهرات على مدار الأسبوع اللاحق كان أقواها في 4 أكتوبر، حيث أضربوا عن الدراسة، ونظموا مظاهرة ضمت المئات من الطلبة بساحة الجامعة المطلة على ميدان التحرير، بل وصعد بعض الطلبة إلى سطح المبنى الرئيسي وقاموا بإنزال العلم الأمريكي، وحاولوا رفع العلم الفلسطيني على سارية العلم، إلا أن أمن الجامعة منعهم. ودوت الهتافات في ميدان التحرير حتى المساء منددة بالممارسات الصهيونية، وتخاذل الأنظمة العربية، وانعدام الحريات في مصر. (200)

وفي ظاهرة لم تشهدها مصر منذ أحداث ثورة 1919 والحركة الوطنية بالأربعينيات، عمت المظاهرات المدارس والمعاهد. فنظم التلاميذ مظاهرات تهتف بحياة الطفل الشهيد محمد الدرة، وتندد بالممارسات الصهيونية ضد أطفال وشباب الشعب الفلسطيني، وقاموا بإحراق الأعلام الإسرائيلية، وهاجمت أعداداً ضخمة من التلاميذ محلات “سينسبري” ظناً منهم بأنها شركة إسرائيلية.
وشهدت النقابات المهنية تحركات تضامنية، فشارك المئات من الصحفيين في اعتصام بمقر نقابتهم في يوم 4 أكتوبر. قام المعتصمون بحرق الأعلام الأمريكية والإسرائيلية معربين عن رفضهم لزيارة باراك لمصر، ورددوا الهتافات التضامنية مع النضال الفلسطيني والمنتقدة لتخاذل الحكام العرب. ونظم المحامون مؤتمرات مناصرة واعتصامات بمقر نقابتهم ـ في ظل محاصرة من قوات الأمن ـ للتنديد بالعدوان الصهيوني وتخاذل الأنظمة العربية. وأقامت نقابة الفنانين مؤتمراً تضامنيا مع الانتفاضة في 13 أكتوبر، وأرسلت برقية لوزارة السياحة تطالب بمنع دخول السياح الإسرائيليين إلى الأراضي المصرية، وبرقية أخرى لوزارة الزراعة تطالب بطرد “الخبراء الزراعيين” من مصر. (201) ونظم عدد من المرشحين اليساريين في انتخابات مجلس الشعب مظاهرات تضامنية بدوائر ترشيحهم. كما قام الآلاف من المصلين بجامع الأزهر في 6 و13 أكتوبر بمظاهرة عقب صلاة الجمعة، حيث أحرقوا وبصقوا على الأعلام الإسرائيلية. (202)
كانت السمة العامة لمعظم ـ إن لم يكن جميع ـ المظاهرات التي اشتعلت بالأراضي المصرية هي ربط ما يحدث في فلسطين بما يحدث في مصر، وتحولها سريعاً من التضامن مع الفلسطينيين… إلى انتقاد تخاذل النظام… إلى إثارة قضايا “داخلية” مرتبطة بالحريات السياسية والظروف المعيشية. وقد يكون الشعار “ثورة ثورة حتى النصر، في فلسطين وشوارع مصر” الذي انتشر بين طلبة الجامعات كالنار في الهشيم خير مثال على ما نقول.
وبالطبع سارع النظام لمحاولة السيطرة على الأحداث كي لا يفلت زمام الأمور من يديه. وجاءت تحركاته على 3 مستويات. فأولاً، حاول النظام جاهداً إطفاء نار الانتفاضة الفلسطينية عن طريق جهود دءوبة لإقناع إسرائيل والسلطة الوطنية بالعودة لمائدة المفاوضات والتوصل لتسوية مؤقتة. ومن هنا جاء مؤتمر شرم الشيخ الذي شهد التوصل لأول اتفاق لوقف إطلاق النار، ثم ـ بتعمق الأزمة ـ عقدت سلسلة من اللقاءات والجولات المكوكية مع المسئولين الفلسطينيين والإسرائيليين والأمريكيين للتوصل إلى تسوية سريعة. وتضمنت هذه اللقاءات التي انعقدت بالقاهرة مؤامرات صريحة من النظام والسلطة والإسرائيليين والأمريكان لقمع الانتفاضة، والتعامل معها “على قدم المساواة مع الإرهاب والعدوان الصهيوني”. (203) ووصل الأمر إلى استضافة اجتماع في 7 يناير 2001 بين مسئولي الموساد والمخابرات المركزية الأمريكية والأمن الفلسطيني والمخابرات المصرية لبحث استئناف التعاون الأمني! (204) وفي الوقت ذاته هاجم النظام دعاوى الحرب التي ترددت بواسطة بعض القوى السياسية، وأكد استمرار تمسكه بخيار السلام، بل ووجه تهكماً شخصياً لرؤساء الدول الذين أطلقوا مثل هذه الدعاوى. ووقف النظام ضد أية قرارات “متشددة” ضد إسرائيل اقترحتها الدول “المتطرفة” في أي من المؤتمرات أو القمم التي انعقدت، بطريقة نالت إعجاب أحد الخبراء السياسيين الإسرائيليين الذي أكد بأن
لقد لعب [النظام المصري] دوراً في غاية الإيجابية في التجمعات العربية والإسلامية على مدار الأسابيع الماضية من أجل تهدئة المد، وتخفيف مشاريع القرارات التي اقترحتها القوى الأكثر راديكالية. (205)

ثانياً، كان للنظام أيضاً نصيبه من ركوب موجة “التشدد” للرد على الاتهامات بالتقاعس، فحملت تصريحاته انتقادات لاذعة للسياسية الإسرائيلية بوصفها بال ـ “تعنت” و”الإضرار بالسلام”. وشنت أجهزة الإعلام الرسمية حملات دعائية ضد إسرائيل، وفجرت الصحف فجأة قضية القبض على جاسوس مصري يعمل لحساب الموساد. واضطر النظام تحت الضغط الجماهيري العنيف إلى تقديم موعد القمة العربية من يناير 2001 إلى 20 أكتوبر 2000، وفي النهاية اضطر إلى استدعاء السفير المصري من تل أبيب. ولكن مناورات النظام لم تخدع الجماهير، فلجأ للخيار الثالث وهو قمع حركة التضامن أمنياً وإعلامياً. فشنت مباحث أمن الدولة حملة اعتقالات لعشرات من النشطاء السياسيين في الجامعات وبعض المهنيين، واستخدمت العنف في التصدي لأي تحرك جماهيري، ومنعت المئات من الطلبة ـ المشتبه في كونهم من النشطاء ـ من الدخول لساحة الجامعة، وتحركت أبواق الدعاية الرسمية تهاجم “الفوضى” و”القوى المخربة” التي كانت وراء أحداث الشغب، واستغل النظام قيام المتظاهرين في غزة بحرق العلم المصري وصور الرئيس عقب القمة العربية ـ احتجاجاً على رفضه اتخاذ أي موقف حازم تجاه إسرائيل ـ ليشن حملة إعلامية شرسة ضد الفلسطينيين متهماً إياهم بالجحود ونكران الجميل وعدم تقدير جهود “الشقيقة الكبرى” مصر! بفضل هذه العوامل السابقة، وبالذات العامل الثالث القمعي، انحسرت حركة التضامن بعد مرور شهر من اندلاعها. ولكن تلك الفترة كانت كافية لبث الرعب في قلب النظام، مما دفع بجريدة هآرتس الإسرائيلية لكتابة:
طالما كانت المفاوضات بين إسرائيل والفلسطينيين تجري في القنوات الدبلوماسية، تمتعت مصر بدور المستشار ـ المراقب. [ولكن] تصاعد العنف، وانتشار الانتفاضة إلى شوارع القاهرة والإسكندرية قد أخرجا مبارك من موقعه المريح. إنه يتدخل [في المفاوضات] الآن بطريقة شخصية، ليس فقط من أجل مساعدة الفلسطينيين، بل من أجل بقاءه أيضاً… لقد كان مبارك يتصرف كأن الانتفاضة تحدث في مصر. (206)
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

القضية الفلسطينية – رؤية ثورية التالي »  Empty
مُساهمةموضوع: رد: القضية الفلسطينية – رؤية ثورية التالي »    القضية الفلسطينية – رؤية ثورية التالي »  Emptyالأحد 27 أكتوبر 2024, 10:29 am

7. نحو انتفاضات عربية

لقد تسبب مبدأ “عدم التدخل ـ كما أسلفنا ـ في كارثة ضخمة لحركة المقاومة الفلسطينية وهي عزلتها عن الحركة الجماهيرية بالدول العربية، ويجب وضع ذلك في الحسبان عند محاولة طرح بديل ثوري للقضية الفلسطينية. وللأسف لا تتواجد على الساحة السياسية الفلسطينية اليوم أي من القوى التي قد تلعب هذا الدور الحيوي في ربط الانتفاضة الفلسطينية ضد الصهيونية بنضال الجماهير العربية ضد أنظمتها الرجعية حليفة الإمبريالية ـ التي يتعارض تحرير فلسطين مع مصالحها.
إفلاس اليسار الفلسطيني:
على مدار تاريخ حركة المقاومة الفلسطينية، تعرض مبدأ “عدم التدخل” لانتقادات حادة من تنظيمات اليسار الراديكالي الفلسطيني مثل “الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين” و”الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين”. نشأت الجبهة الشعبية نتيجة للتحولات اليسارية التي بدأت تشهدها “حركة القوميين العرب” في بداية الستينيات بعد انهيار تجربة الوحدة المصرية ـ السورية التي كشفت بوضوح حدود قدرة المشروع الناصري على توحيد العرب ووجود طبقات بداخل الوطن العربي “تناقضت مصالحها مع التوجه الاشتراكي للوحدة”. (207) بالرغم من مفهوم الحركة الخاطئ حول الاشتراكية أو أوهامها المتعلقة بقدرة عبد الناصر على مواجهة الإمبريالية والصهيونية، إلا أن التنبه إلى وجود أعداء طبقيين “بالداخل” بدأ ـ منذ مؤتمر الحركة في 1962 ـ يشد انتباه الحركة لمفهوم “الصراع الطبقي” ومحدودية المشاريع القومية التي قدمتها الأنظمة العربية آنذاك. (208) وجاءت هزيمة الأنظمة العربية الفاضحة في 1967 وانتصارات فتح لتخلقا حالة تثويرية في صفوف الحركة لتتبنى “الماركسية ـ اللينينية”، وتتأسس الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بقيادة جورج حبش في أواخر عام 1967. (209)
رفضت الجبهة الشعبية مبدأ “عدم التدخل” في الشئون العربية، ودعت لربط النضالات والقضايا الطبقية بالقومية، إذ رأت أن “النضال الفلسطيني جزء من حركة التحرر العربية بأسرها وحركة التحرر الأممية”. (210) وحملت الجبهة الشعبية الأنظمة العربية البرجوازية مسئولية الهزيمة في 1967، بسبب عدم قدرة الأنظمة على الدخول في مواجهة حقيقية ضد الصهيونية نظراً لارتباطها بالإمبريالية، ومحاولاتها الحفاظ على علاقاتها بالسوق الرأسمالي العالمي، وخوفها من تعبئة جماهيرها، ووقوفها ضد أي تحول اجتماعي ثوري ببلدانها، وقمعها الإرهابي للعمال والفلاحين العرب بواسطة أجهزتها البيروقراطية. (211) ودعت الجبهة إلى “تعبئة الجماهير الفلسطينية والعربية” في حرب شعبية ضد الدولة الصهيونية، والنضال ضد “جميع أشكال الاستغلال التي تمارس بواسطة الإمبريالية والصهيونية والبرجوازية العربية”. (212) إذ كانت الجبهة ـ منذ انطلاقها ـ واضحة حول أعدائها الثلاثة الذين يجب مواجهتهم:

الصهيونية، والإمبريالية، والرجعية العربية… فالإمبريالية هي العدو المطلق، والصهيونية هي العدو المباشر، أما الأنظمة العربية فهي العدو المرجح قيامه بتسديد الضربة الأولى للمقاومة الفلسطينية. (213)

لقد تأثرت الجبهة الشعبية ـ وانشقاقاتها اللاحقة ـ بالأفكار القومية الراديكالية والستالينية التي كانت منتشرة آنذاك في ساحة “اليسار” بالمنطقة. ويترجم هذا نفسه في توجهات الجبهة لإقامة تحالفات مع “الدول الاشتراكية”، وتبنيها نظرية “المراحل” التي تعرقل مسيرة الثورة الاشتراكية في سبيل تحقيق ما يسمى بال ـ “الثورة الوطنية الديمقراطية”. (214) وأدت تلك الرؤيا بالجبهة الشعبية إلى التفريق بين الأنظمة العربية “الرجعية” و”الوطنية” ـ بالرغم من نفي صفة “الاشتراكية” عن جميع الأنظمة. (215) فقد رأت الجبهة أن الأنظمة “الوطنية” ـ وبالذات في مصر ـ قد حققت العديد من الإنجازات في مواجهة الإمبريالية والصهيونية والرجعية العربية، وأن السياسة التي تتبع حيال هذه الأنظمة هي التحالف معها، ومحاولة تغيير استراتيجيتها.(216)

أما الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، فقد نشأت كانشقاق يساري من الشعبية في فبراير 1969 بقيادة نايف حواتمة. تعددت العوامل الكامنة وراء الانشقاق، ولكن كان أهمها: الاختلاف حول دور البرجوازية الصغيرة في الثورة، والموقف من الأنظمة العربية. فعلى عكس الجبهة الشعبية ـ التي رأت للبرجوازية الصغيرة دوراً قيادياً في الثورة الوطنية الديمقراطية، رأت الجبهة الديمقراطية أن البرجوازية الصغيرة غير مؤهلة للعب دور محوري في الثورة، وأن القيادة يجب أن تكون بالأساس للعمال والفلاحين. ورفضت الجبهة الديمقراطية التفريق بين الأنظمة “الرجعية” و”الوطنية”، فبالنسبة لها الأنظمة “الوطنية” لا شئ سوى أنظمة “برجوازية صغيرة” غير قادرة على خوض النضال الثوري ضد إسرائيل والإمبريالية.(217) واتهمت الجبهة الديمقراطية فتح بوقوعها تحت سيطرة البرجوازية الفلسطينية التي لا تختلف عن البرجوازيات العربية الحاكمة، وانتقدت استعداد فتح لقبول سلاح وتمويل من الأنظمة العربية متهمةً إياها بأنها قد أصبحت “سلاح تكتيكي بأيدي الأنظمة العربية”. ورفضت الجبهة الديمقراطية أيضاً مبدأ فتح الداعي ل ـ “عدم التدخل” في شئون الدول العربية. (218)
وبالفعل حاولت الجبهتان بجدية التدخل في الصراع الطبقي بالأردن قبل أيلول الأسود. فقامت الشعبية بمحاولات دءوبة لخلق صلات مع الفلاحين الأردنيين وتبني قضاياهم، وتنظيم بعضهم في ميليشيات مسلحة، وكسبهم على تأييد القضية الفلسطينية، وتجنيدهم في الحركة الفدائية، كما كان للجبهة الشعبية نفوذ في بعض المناطق الصناعية التي ضمت عمالاً فلسطينيين، ونجحت في التدخل في بعض الإضرابات العمالية، كما حاولت جدياً ـ وإن لم تكلل جهودها بنجاح كبير ـ تكوين نقابات لعمال الزراعة، والفلاحين الفقراء، وعمال المصانع في مناطق نفوذها. (219) وحاولت الجبهة الديمقراطية تحقيق نفس الأهداف، فحاولت خلق صلات مع القرى الأردنية ومخيمات اللاجئين، وعملت على إرسال محرضين سياسيين للريف من أجل إنشاء خلايا لها في القرى، وتبني قضايا الفلاحين الأردنيين، وتكوين ميليشيا مسلحة في قرى نفوذها. (220) وعشية اندلاع أحداث أيلول الأسود، كانت الجبهة الديمقراطية أول من رفع شعار “كل السلطة للمقاومة”، وانضمت إليها الجبهة الشعبية على الفور في القتال ضد قوات حسين. وشاركت الجبهتان منذ بداية الحرب الأهلية اللبنانية في صفوف التحالف اليساري ـ الإسلامي ضد حزب الكتائب الفاشي. (221)
ولكن ضعف الإمكانيات البشرية والمادية للجبهتين، وطبيعة أيديولوجيتهما الستالينية ـ التي تحمل في جوهرها: التصالح الطبقي واستبدال مشاركة الجماهير في الثورة ب ـ “الطليعة الثورية” التي تقوم بالتغيير بالنيابة عن الجماهير، حالتا دون أن يلعبا دوراً مؤثراً في ربط الثورة الفلسطينية بالجماهير العربية، بل وأديا في النهاية إلى تقديمهما لتنازلات ضخمة لفتح والأنظمة العربية.
فبالنسبة للجبهة الشعبية، بالرغم من مناداتها ب ـ “تعبئة الجماهير” الفلسطينية والعربية في معركة التحرير، إلا أنها لجأت لعمليات خطف الطائرات من أجل لفت “أنظار الرأي العام العالمي إلى الظلم الذي لحق بالشعب الفلسطيني” (222)، بالإضافة إلى عمليات فدائية ضد المصالح الإسرائيلية والأمريكية في فلسطين والدول الغربية. ولكن المشكلة الأساسية في اتباع استراتيجية الكفاح المسلح الفردي (في ظل غياب حركة جماهيرية) هي تهميش الجماهير واستبدالها، فبدلاً من إشراك الجماهير الفلسطينية والعربية في معركة التحرير (على غرار الانتفاضة)، استبدلت الجبهة بالجماهير “الطليعة الثورية” ـ المكونة من الفدائيين المسلحين ـ التي ستقوم بالثورة “من أجل” الجماهير التي يصبح دورها في هذه الحالة هو التهليل لما يقوم به الفدائيون أو في أفضل الأحوال دعمهم معنوياً ومادياً. وبالتالي يؤدي هذا إلى مزيد من الانعزال عن الحركة الجماهيرية وليس العكس. (تطلق الأدبيات الماركسية على هذه الاستراتيجية مصطلح “الاستبدالية”، أي استبدال الجماهير بـ “النخبة الثورية”.) يضاف إلى ما سبق عامل آخر ساهم في تدهور الجبهة الشعبية، وهو الموقف المتذبذب من الأنظمة العربية. فقد أدى تفريق الجبهة الشعبية بين الأنظمة “الرجعية” و”الوطنية” إلى سقوطها في فخ التحالفات مع الأنظمة العربية التي ترتدي قناعاً “راديكالياً”، وجعلها ألعوبة في يد تلك الأنظمة. ففي البداية تقاربت الجبهة الشعبية مع النظامين المصري والعراقي، (223) ثم تقاربت مع النظام الليبي فترة، وفي النهاية وقعت في قبضة نظام الأسد في سوريا.
أما الجبهة الديمقراطية، فحدث ولا حرج. فبالرغم من نشأتها “اليسارية” انقلبت الجبهة إلى أقصى اليمين على مستوى الأفكار والمواقف بعد أحداث أيلول الأسود. فقد تقاربت الجبهة الديمقراطية مع فتح ودخلت في تحالفات معها. وكانت أول من اقترح بعد الخروج من الأردن فكرة إقامة “دويلة” فلسطينية في أي “أرض محررة” من الأراضي المحتلة الفلسطينية. وبعد حرب أكتوبر 1973، وبدء مسيرة التسوية بين مصر وإسرائيل، تقدمت الجبهة الديمقراطية باقتراح بإنشاء “سلطة وطنية” في غزة والضفة الغربية. وكان لها السبق في إدخال مصطلحات ـ مثل: أرض محررة، مرحلة انتقالية، برنامج مرحلي ـ إلى القاموس الفلسطيني. وسريعاً ما التقطت فتح الخيط، وشجعها مجيء هذه التنازلات من “اليسار”، لتتقدم هي الأخرى في 1974 بقبول إقامة دويلة فلسطينية في غزة والضفة الغربية. (224)
دفع الطابع البرجوازي الصغير لقيادة الجبهة الديمقراطية بالإضافة إلى أيديولوجيتها الستالينية إلى تقديم تنازلات ضخمة أمام اليمين الفلسطيني. ترجع أسباب الانحراف إلى محاولات الجبهة الديمقراطية الدءوبة لتوفيق مصالح البرجوازية الفلسطينية وباقي الجماهير الفلسطينية، مما أدى بها إلى تذيل البرجوازية الفلسطينية (فتح)، والتضحية بمصالح الجماهير الفلسطينية. لقد رأت الجبهة الديمقراطية ـ بالرغم من عويلها “الراديكالي” ـ بأن للبرجوازية الفلسطينية دوراً قيادياً مهماً في الثورة الفلسطينية، وحددت نوعين من التناقضات: “التناقض الرئيسي بين الشعب (بكل طبقاته بما فيه الطبقة العاملة والبرجوازية) من جهة وبين الإمبريالية والصهيونية من جهة أخرى؛ والتناقض الثانوي بين الطبقة العاملة والبرجوازية داخل الشعب الفلسطيني.” (225) وبالتالي أغرقت الجبهة الديمقراطية نفسها في التحالف مع فتح، وبدلاً من خلق قيادة ـ بديلة للبرجوازية الفلسطينية ـ لجماهير العمال والفلاحين واللاجئين الفلسطينيين، اتبعت الجبهة الديمقراطية استراتيجية “إقناع” البرجوازية الفلسطينية بتبني مطالب الجماهير تحت مسميات عديدة مثل “الوحدة الوطنية الفلسطينية” و”القواسم المشتركة” بين البرجوازية والجماهير. ولم تستثمر الديمقراطية انتفاضة 1987 لخلق قيادة بديلة، بل ازدادت اندفاعاً نحو تذيل فتح، واستمرت في التزامها المطلق بالوحدة مع فتح، حتى بعد إعلان عرفات تنازله عن الميثاق الوطني الفلسطيني وبدء الحوار مع أمريكا. وأدت تلك الاستراتيجية الكارثية إلى انشقاق عميق في صفوف الديمقراطية عام 1988، وذهاب الكثير من عناصرها القيادية لمعسكر عرفات، لتدشن مرحلة جديدة من انحسار النفوذ اليساري في أوساط الجماهير الفلسطينية. (226)
واليوم لا يمكن وصف حالة اليسار الفلسطيني الراديكالي سوى بالمأساة. فترى فلول اليسار الفلسطيني، أن الحل يكمن في منافسة البرجوازية الفلسطينية على كيفية استغلال الواقع الجديد بطريقة افضل. وليس في جعبة اليسار اليوم سوى الدعوى لـ “تصحيح” أو “تجاوز” أو “استغلال” اتفاق أوسلو بشكل افضل، بعد التسليم بأنه أمر واقع لا يمكن تغييره. ومن هنا يبرر سعيه للتوفيق بين مصلحة البرجوازية ومصلحة الجماهير الفلسطينية، بما يسميه ب ـ “القواسم المشتركة”.
لقد عارض اليسار الفلسطيني في البداية اتفاق أوسلو معارضة شديدة ودعا لإسقاطه، ولكنه أخذ مع الوقت يتراجع عن موقفه هذا. برز هذا التراجع من خلال الاقتراحات والمبادرات التي تقدمها الجبهة الديمقراطية للسلطة الواحد تلو الآخر، مثل دعوة حواتمة لعرفات بإعلان بسط السيادة الفلسطينية على الأراضي المحتلة قبل 4 مايو 1999، وهو التاريخ الذي كان من المفترض فيه ـ بموجب اتفاق أوسلو ـ انتهاء المرحلة الانتقالية وإعلان الدولة الفلسطينية. ورغم فشل المبادرة بتأجيل عرفات لإعلان الدولة، وتمسكه بعدم إغضاب شركائه الإسرائيليين، اقترحت الجبهة الديمقراطية على عرفات الإصرار على أن ينفّذ إيهود باراك اتفاق واي ريفر الذي سبق لها أن عارضته واستنكرته في مؤتمرين بمدينتي رام الله ودمشق! (227) واليوم بعد أن فشلت بإقناع فتح ب ـ “العودة للخندق الوطني”، تعرض الجبهة الديمقراطية مشاركتها في عملية التفاوض بشكل مباشر مع إسرائيل على الأسس المتفق عليها في أوسلو سعياً للحصول على نتيجة افضل من تلك التي حققها عرفات حتى الآن. (228)
في كتابه “أوسلو والسلام الآخر المتوازن” يدعي نايف حواتمة، أن السبيل الأوحد للحل يكمن في “إعادة بناء البيت الفلسطيني”. ويحاول في كتابه إثبات أن اليسار الفلسطيني نجح ـ رغم الخلافات ـ في “إعادة اليمين البرجوازي (فتح) للبيت الفلسطيني وللقواسم المشتركة، وبإنقاذه من محاولاته الانحراف عن البرنامج الوطني والانخراط في صيغة كامب ديفيد، أو تفويض الأردن بالتمثيل الفلسطيني”! (229)

ويكمل الرفيق حواتمة تنظيراته العبقرية في ذات الكتاب زاعماً أن الوحدة الوطنية قادرة على إحداث المعجزات: “إعادة بناء البيت الفلسطيني هو وحده الذي يفتح على إعادة بناء العلاقة الفلسطينية ـ العربية مع الأقطار العربية (شعوبا ودولا)، وعلى قاعدة المصالح العليا المشتركة في إنجاز عملية التحرر الوطني لشعب فلسطين، وانسحاب المحتلين إلى ما وراء خطوط 4 يونيو 1967، بما فيها القدس الشرقية عاصمة دولة فلسطين”. (230) ولا ندري هنا أية أنظمة عربية يريد الرفيق حواتمة بناء علاقات معها؟ أتلك الأنظمة التي تاجرت بالقضية، وأبادت الفلسطينيين في المخيمات، وأذاقت اللاجئين بأراضيها صنوفاً وألواناً من القمع والاضطهاد، وتآمرت على الفدائيين، وباعت نفسها للإمبريالية الأمريكية؟!
وتصل أوهام الرفيق حواتمة إلى قمتها عندما يكتب أن الوحدة الوطنية المزعومة ستؤدي إلى أن “تصحح الإدارة الأمريكية سياستها الإسرائيلية، الفلسطينية، الشرق أوسطية، الأمريكية ـ العربية، ويصبح ممكناً الإفادة من مساحة مصالح الدور الأوروبي في الشرق الأوسط ومساحة مصالح روسيا والصين واليابان. ويصبح ممكنا إعادة الروح لقرارات ومرجعية الشرعية الدولية، ووقف تآكلها وتراجعها منذ أوسلو حتى الآن.” إذن في نظر حواتمة، ليس هناك ضرورة لمواجهة الإمبريالية التي فرضت على الشعب الفلسطيني اتفاق أوسلو، ف ـ “البديل الثوري” هو التفاهم مع أمريكا، وإيجاد “قاسم مشترك” مع حكومتها الإمبريالية! (231)
وقد عبر حواتمة عن آرائه العبقرية الفذة بمصافحته للرئيس الإسرائيلي السابق عيزرا فايتسمان في جنازة السفاح الراحل الملك حسين ـ جزار الثورة الفلسطينية الذي كان حواتمة أول من دعا لإسقاطه في أيلول الأسود! وفى مقابل جهود حواتمة الجبارة في إيجاد “القواسم المشتركة”، حذفت الحكومة الأمريكية اسم الجبهة الديمقراطية من قائمة المنظمات الإرهابية في العالم لعام 1999.
وقد طوّر جورج حبش، الأمين العام السابق للجبهة الشعبية، فكرة الفصل بين إسرائيل وأمريكا في حوار مطول نشر جاء فيه: “ليس الانتصار على أمريكا هو الشرط لتحقيق أهدافنا، ولا يمكن القول أننا لا نستطيع أن ننتصر على إسرائيل إلا إذا انتصرنا على أمريكا. لماذا؟ لأننا نريد مصارعة موقع من مواقع الإمبريالية الأمريكية، وليس أمريكا. إننا نصارع هذا الموقع المرتبط بالإمبريالية، وشرط انتصارنا في هذا الموقع لا يعني مقارعتنا للإمبريالية في كل المواقع والانتصار عليها.” وبدلاً من تبني استراتيجية صراع الطبقة العاملة ضد النظام الإمبريالي العالمي، يفضّل اليسار الفلسطيني توجيه “نضاله” نحو البحث عن “مساحة مصالح دور أوروبا وروسيا والصين واليابان”. (232) كأن إسرائيل خادمة لمصالح أمريكا فقط وليس معظم باقي الإمبرياليات الغربية المتحالفة مع أمريكا! أو كأن مصالح الإمبرياليات الأخرى قد تتواءم مع مصالح الكادحين الفلسطينيين!

وبالرغم من قيام الجبهة الشعبية برفع شعارات معارضة للتنازلات إلا أنها بدت أيضاً في اللهاث خلف عرفات ومسيرة التسوية تحت نفس الشعارات التي ترفعها الجبهة الديمقراطية مثل “إعادة ترتيب البيت الفلسطيني، الوحدة الوطنية، تفعيل منظمة التحرير،الخ” وبدا هذا واضحاً في الحوار الذي انعقد تحت رعاية الحكومة المصرية في 1 أغسطس 1999 بالقاهرة بين عرفات وأبو علي مصطفى الأمين الذي أصبح لاحقاً الأمين العام للجبهة الشعبية خلفاً لجورج حبش.( 233)
وتشترك الجبهتان الآن في قصر دعايتهما السياسية على الدعوة للتمسك بـ “قرارات الشرعية الدولية” التي فرضتها الإمبريالية الأمريكية من خلال الأمم المتحدة، وتناسيا فكرة تحرير كامل التراب الوطني الفلسطيني. ويغطيان هذا التنازل تحت مسميات مختلفة مثل “ضرورات المرحلة” أو “المرحلة الانتقالية”. (234) أما عن علاقة اليسار “الثوري” بالسلطة فيلخصها أحد قيادات الجبهة الديمقراطية بالتالي:
ليس ثمة في صفوف المعارضة من يطرح، أو ينوي، أو يدعو إلى، إقامة سلطة بديلة أو سلطة موازية. وبهذا المعنى، فإن الإقرار بوحدانية السلطة قائم ومفروغ منه. أما أن تُطالِب المعارضة، اشتقاقاً من ذلك، باحترام الالتزامات المملاة على السلطة بموجب الاتفاقات، فإن هذا يعني إفراغ المعارضة من مضمونها. (235)
باختصار، لقد “تنازل اليسار تماماً عن طرحه، أو حتى نيته استبدال السلطة البرجوازية، وينحصر كل مطلبه في الاعتراف بنشاطه كمعارضة سلمية تعبر عن رأيها دون أن تمس بشرعية السلطة”! (236)

تناقضات المعارضة الإسلامية:
تمثل التنظيمات الإسلامية ـ حركة حماس بالأساس بالإضافة إلى حركة الجهاد الإسلامي ـ كبرى قوى المعارضة اليوم بالأراضي المحتلة، والمنافس الرئيسي لحركة فتح بالشارع الفلسطيني. لقد نشأت الحركتان من عباءة جماعة الإخوان المسلمين الفلسطينية. جاءت حركة الجهاد كانشقاق تنظيمي من الجماعة في أوائل الثمانينيات، أما حماس فنشأت نتيجةً للحالة التثويرية التي انفجرت في صفوف الإخوان بغزة إبان انتفاضة 1987. فلم يكن للإخوان نشاطاً سياسياً بالأراضي المحتلة قبل الانتفاضة، واقتصر عملهم على الدعوة، و”أسلمة” المجتمع الفلسطيني، عن طريق “تربية النشء” وشبكة خدمات اجتماعية. ولكن الانتفاضة نقلت الإخوان إلى مرحلة جديدة، فقد كان لزاماً على الجماعة أن تتدخل في الأحداث الضخمة الجارية. وبالفعل قررت الجماعة ـ بزعامة الشيخ أحمد ياسين ـ أن تنشئ ذراعاً ضارباً لها، فظهرت للوجود “حركة المقاومة الإسلامية”، حماس. (237)
قبل الانتفاضة بسنوات كانت حركة الجهاد الإسلامي هي التنظيم الإسلامي الوحيد المسلح في فلسطين. فقد نشأ التنظيم على يد كوادر إخوانية فلسطينية كانت تدرس بمصر في أواخر السبعينيات ـ أبرزهم الشهيد فتحي الشقاقي، حيث اقتربوا من فكر التنظيمات الإسلامية الراديكالية في مصر مثل الجهاد، وتنظيم “التكفير والهجرة”. (238) انتقد الشقاقي ورفاقه لدى عودتهم إلى فلسطين تقاعس الإخوان عن العمل السياسي، وتأجيلهم للجهاد حتى يتم أسلمة المجتمع الفلسطيني، وتقاربهم ـ أو على الأقل موقفهم المائع ـ من الأنظمة العربية ذات الصلات الوطيدة بالإمبريالية الغربية مثل مصر والسعودية والأردن. ولكنهم في نفس الوقت نظروا للنظام الإسلامي بإيران كالنموذج الذي يُحتذي به. ورأوا أن تحرير فلسطين لن يأتي سوى ب ـ “العمل الثوري للطليعة الإسلامية”، (239) فقد ركزت أيديولوجية الجهاد على العمل العسكري الذي تقوم به النخبة المسلحة، وهنا لا يختلف تنظيم الجهاد جذرياً عن باقي تنظيمات اليسار الفلسطيني التي استبدلت بالجماهير “الطليعة الثورية” أو “الطليعة العمالية”. وبدأت الحركة عملياتها المسلحة في منتصف الثمانينيات، ومازالت نشطة حتى اليوم في تنفيذ العمليات الفدائية والاستشهادية، ولكنها تعد قوة سياسية ذات تأثير هامشي في الشارع الفلسطيني مقارنة بفتح، أو مقارنة بالقوة الأخرى التي لها نصيب الأسد من التأييد في المعسكر الإسلامي، وهي حماس. ولذا سنركز في هذا الجزء على عرض التجربة النضالية لحماس.
باشتعال الانتفاضة، نشطت حماس في قيادة المظاهرات، والدعوة للإضرابات، ثم بدأت أنشطتها العسكرية في العام اللاحق بشن “حرب السكاكين” ضد جنود الاحتلال الصهيوني والمستوطنين. ثم تأسست “كتائب الشهيد عز الدين القسام” كجناح عسكري منظم للحركة في ديسمبر 1992. وفي غضون أسبوع قامت الكتائب بقتل 5 جنود إسرائيليين وخطف وقتل السادس. مما دفع بإسرائيل إلى نفي 400 من القيادات الإسلامية إلى مرج الزهور بجنوب لبنان. ولكن الهجمات لم تنته، وتحت ضغط الرأي العام العالمي اضطرت إسرائيل إلى إرجاع المبعدين في ديسمبر 1993. (240)
نمى تأثير حماس، وانتشر سريعا في صفوف الجماهير الفلسطينية. وساعدت على ذلك عدة عوامل. فقد استفادت حماس بشدة من البنية التحتية التي خلقتها لها المنظمة الأم “الإخوان المسلمون” ـ والمتمثلة في شبكات علاقات، ومؤسسات عمل جماهيري. وقد تمكن الإخوان من تكوين تلك البنية عبر سنوات عديدة كانت قوات الاحتلال مشغولة عنهم آنذاك بقمع تنظيمات المقاومة المسلحة. (241) والأهم من ذلك نجحت حماس في اكتساب أرضية تأييد جماهيري واسعة بسبب الفشل الذريع الذي منيت به القوى العلمانية الأخرى: فتح واليسار. ففي عيون الجماهير الفلسطينية كان ماثلاً خسائر وتنازلات فتح الضخمة على مدار تاريخها، والفساد المستشري في منظمة التحرير، وتخاذل التنظيمات اليسارية أمام فتح والأنظمة. واكتسبت أرضية أوسع بعد معارضتها للمسيرة السلمية والخيانات العرفاتية المتوالية. فمع كل تنازل يقدمه عرفات يتحول آلاف الشباب الفلسطيني نحو الحركة الإسلامية الرافضة لعملية السلام. (242)
ولكن بالرغم من نفوذها الجماهيري الواسع، لا تطرح حماس بديلاً حقيقياً على الجماهير الفلسطينية. فبجانب الشعارات الفضفاضة حول “فلسطين الإسلامية” و”الجهاد” و”تطبيق الشريعة”، تعاني حماس من قصور وتناقضات في استراتيجيتها السياسية تمنعها من تحقيق الثورة وتحرير فلسطين. فالاعتماد المتزايد على العمليات العسكرية يؤدي ـ كما أوضحنا في الجزء السابق ـ إلى إضعاف الحركة الجماهيرية وليس تقويتها، إذ تستبدل بمشاركة الجماهير في عملية التحرير “النخبة المجاهدة المسلحة” التي تقوم بالعمليات، ويسهل ذلك على إسرائيل والسلطة الفلسطينية ضرب تلك النخبة بالاغتيالات أو بالحبس، على عكس المواجهات الجماهيرية ـ على غرار الانتفاضة ـ التي من الصعب على إسرائيل ضربها إلا إذا أبادت الشعب الفلسطيني بأكمله! هذا بالإضافة إلى أن عمليات حماس العسكرية ـ مثل التفجيرات الانتحارية بداخل إسرائيل أو اغتيال الجنود والمستوطنين ـ قد تكون موجعة للدولة الصهيونية، وقد تكون وسيلة ضغط للجلاء عن بعض المناطق في الأراضي المحتلة، ولكنها غير كافية للإطاحة بالدولة الصهيونية أكملها، وتحرير فلسطين “من النهر إلى البحر”.
وورثت حماس نفس التراث الرديء للمقاومة الفلسطينية في قضية “عدم التدخل”. فتنص مبادئ حماس على كون الحركة “غير معنية بالشئون الداخلية للدول، ولا تتدخل بسياسات الحكومات المحلية… وتحرص على حصر ساحة المواجهة مع الاحتلال الصهيوني من فلسطين، وعدم نقلها إلى أي ساحة خارجية”. (243) بل والأسوأ من ذلك هو العلاقات التاريخية التي تربط الحركة بالأنظمة الخليجية ـ أشد الأنظمة العربية رجعية وعمالة للإمبريالية. (244)
وككل الحركات الإسلامية ـ التي تضم طبقات ذات مصالح متناقضة وتركيبة يغلب عليها الطابع البرجوازي الصغير ـ تتخبط حماس بين المواجهة من جهة والتنازل والتهادن من جهة أخرى، وتعجز عن تقديم مشروع سياسي متماسك. فموقف حماس الرسمي من العملية السلمية هو رفض “مبدأ التسوية السياسية أياً كان مصدرها، وأياً كانت بنودها، فإنها تنطوي على التسليم للعدو الصهيوني بحق الوجود في معظم أرض فلسطين”، (245) ولكن في الواقع تخبطت مواقف حماس تجاه عملية الصلح مع الدولة الصهيونية، وتجاه مستوى المواجهة وحدودها. ويسود المنظمة صراع بين “المعتدلين” و”المتطرفين” ـ أو بمعنى آخر بين “الإصلاحيين” و”الراديكاليين”. فبالرغم من موقفها المبدئي الرافض لاتفاقية أوسلو ولعملية التسوية برمتها، أعلن الشيخ أحمد ياسين في نوفمبر 1993 ـ أي بعد توقيع اتفاق أوسلو بشهرين ـ في خطاب أرسله من السجن عن إمكانية التوصل لوقف إطلاق النار لمدة 10 أو 20 عاماً إذا انسحبت إسرائيل من الأراضي المحتلة. كما اقترح بدءاً من 1996 على مؤيديه المشاركة في العملية الانتخابية، ومواجهة الاتفاقات بين إسرائيل والسلطة الوطنية “بكل الوسائل المتحضرة”. وقد فُهم من تصريحات الشيخ ياسين أنها “علامة للاعتراف بإطار السلطة الوطنية المستقبلي، وتشجيع الحد من المقاومة المسلحة”. (246)
ولكن الأحداث لم تترك فرصة للـ “الاعتدال”، فكان على حماس التحرك والرد على مذبحة الحرم الإبراهيمي في الخليل التي نفذها المستوطن الصهيوني باروخ جولدشتاين في 25 فبراير 1994. جاء انتقام حماس قوياً بخمس عمليات استشهادية ـ في غضون 8 شهور ـ قتلت 35 صهيونياً وجرحت 135 آخرين. (247) وبالرغم من الهجمات، تم تأكيد رسالة الشيخ ياسين “المعتدلة” في مؤتمر صحفي شهير لموسى أبو مرزوق ـ أحد قيادات حماس السياسية ـ بدا وكأنه اعترافاً بأوسلو كحقيقة واقعة لا يمكن تغييرها. فقد أكد أبو مرزوق إمكانية التوصل ـ في حالة انسحاب إسرائيل من الأراضي المحتلة وتفكيك المستوطنات ـ “لهدنة من أجل إعطاء فرصة لحكومة العدو للخروج من حالة الإخفاق” التي تعاني منها عملية السلام بسبب “الأساس الخاطئ” لانطلاقها. وأضاف أبو مرزوق بأن حماس
لا تجد مانعاً في أن تقوم شرطة منظمة التحرير الفلسطينية، أو القوى الدولية، أو حتى السلطات الأردنية أو المصرية، بالإشراف على الأراضي [المحتلة] بعد الانسحاب الإسرائيلي. وستتعاون حماس مع أي هيئات فلسطينية تُؤَسس في مناطق الانسحاب، وستشارك في أي انتخابات حرة في الأراضي لاختيار القيادة الفلسطينية. بل وستشارك الحركة في مؤسسات الحكم الذاتي في حالة عدم منعها من التعبير عن التطلعات الحقيقية للشعب الفلسطيني. (248)

وبالرغم من حملات الاعتقال الشرسة للمئات من مناضلي حماس التي قامت بها السلطة الوطنية الفلسطينية بالتعاون مع أجهزة الأمن الصهيونية، إلا أن حماس رفضت مواجهة السلطة كمؤسسات عميلة لإسرائيل والنخبة الفلسطينية، بل وسيّد الاتجاه “المعتدل” رأيه بضرورة الانفتاح على السلطة والتحاور معها. (249) ودبت التوترات بالحركة بين الاتجاهات “الراديكالية” و”الإصلاحية”، فاتجهت القيادة “المعتدلة” إلى التفاهم مع عرفات وتوصلت إلى اتفاق غير معلن لوقف العمليات الفدائية حتى لا “تحرج” السلطة. وبالفعل توقفت عمليات حماس والجهاد من سبتمبر 1995 إلى فبراير 1996. وفي المقابل خففت السلطة من ضغوطها الأمنية على الحركة. بل وتم اقتراح إنشاء “حزب الخلاص الإسلامي” كحزب سياسي للحركة، وتقدمت 3 من قيادات حماس “المعتدلة” بغزة لترشيح أنفسهم في الانتخابات العامة. ولكن دب العراك في صفوف الحركة حول تلك الخطوة التي رأتها القطاعات الراديكالية بأنها تنازل للعملية الاستسلامية، وفشلت الحركة في التوصل لإجماع حول تلك الاستراتيجية، فسحب المرشحون أنفسهم من الانتخابات، ولكن تم تأسيس حزب الخلاص بعد الانتخابات مباشرة. (250) واستمر الصراع على تسييد المواقف بين الإصلاحيين والراديكاليين، ويجئ اغتيال الاستخبارات الصهيونية للشهيد يحي عياش (المهندس) ـ قائد كتائب عز الدين القسام المسئول عن العمليات الاستشهادية ـ في 5 يناير 1996 ليفجر تناقضات حماس بطريقة غير مسبوقة.
احتشد حوالي 100 ألف شخص في جنازة عياش، وسط هتافات تطالب بالثأر. وجاء انتقام الإسلاميين موجعاً، في هيئة 4 عمليات استشهادية في تل أبيب والقدس، نتج عنها مقتل 58 صهيونياً. ولكن انفتحت أبواب الجحيم على الحركة، فقامت السلطة الفلسطينية ـ بالتعاون مع الصهاينة ـ بإطلاق حملة ل ـ “تدمير” حماس والجهاد، فتم اعتقال وتعذيب حوالي 1200 من المناضلين الإسلاميين، واقتحمت قوات الأمن الفلسطينية الجامعة الإسلامية و30 من مؤسسات حماس، وفرضت السلطة سيطرتها على مساجد غزة. (251)
بجانب العواقب الأمنية الوخيمة، دخلت حماس في حالة “تخبط بعد الهجمات أظهرت بوضوح تشوش غير مسبوق في الحركة”. (252) ففي 3 مارس، أعلنت مجموعة مجهولة سمت نفسها “تلامذة يحي عياش” مسئوليتها عن العمليات الثلاث الأولى، وأعلنت الجهاد مسئوليتها عن العملية الرابعة. وطالب تلامذة يحي عياش “أخاهم الذي وقع بياناً [سابقاً] لكتائب عز الدين القسام، يدعو فيه إلى وقف لإطلاق النار، بأن يتوقف عن توزيع هذا البيان”. (253) وبالفعل في اليوم اللاحق صدر بيان من كتائب عز الدين القسام يأمر وحداتها في غزة والضفة الغربية ب ـ “الإطاعة الفورية والمطلقة للأمر المركزي الصادر عن قيادة [كتائب] القسام بوقف العمليات الاستشهادية ضد اليهود”. (254) وفي اليوم نفسه عقدت قيادة حماس بغزة اجتماعاً طارئاً مع السلطة الوطنية، وفي اليوم التالي خرج اثنان من قياداتها السياسية في مؤتمر صحفي بطلب لجميع الوحدات القسامية بوقف العمليات. وقبل القبض عليه بفترة قصيرة، نفى محمود زهار المتحدث الرسمي باسم حماس مسئولية قيادة حماس بغزة عن تلك العمليات، ولمح لقدوم تكليفات العمليات الأخيرة من قيادة حماس بالأردن. وفي 10 مارس صرح محمد نزال ممثل حماس بالأردن بأن الحركة لم تأخذ قراراً بوقف أو استئناف العمليات. ولكن في اليوم ذاته صدر بياناً آخر باسم “القيادة العامة لكتائب القسام” ينذر بالمزيد من العمليات! (255)
وبعد شهرين من الغموض والتخمينات، ظهرت حقيقة ما يجري وراء الستار. إذ تبين أن عناصر “معتدلة” من كتائب القسام كانت قد توصلت لاتفاق مع محمد دحلان مسئول جهاز الأمن الوقائي في السلطة ينص على وقف الهجمات، ولم تكن القيادة السياسية لحماس بغزة تعلم أي شيء عن هذا الاتفاق ـ بالرغم من عدم توقع معارضتها له، أما الهجمات الاستشهادية فقامت بها عناصر “راديكالية” في الكتائب معارضة للاتفاق مع السلطة وأخذت على عاتقها الانتقام لاستشهاد عياش بمباركة قيادة حماس بالخارج. (256) وعقب ذلك بدأ “المعتدلون” في التحرك سريعاً لاحتواء صراع التكتلات بداخل الحركة، وتهميش العناصر “الراديكالية”، ومحاولة التفاهم مع السلطة مرة أخرى. (257)
وبدأ ميزان القوة بداخل حماس يميل لكفة “المعتدلين”، بعودة “المعتدل” عبد العزيز الرنتيسي لغزة بعد إطلاق سراحه من السجون الإسرائيلية في 20 إبريل 1997، ورجوع “المعتدل” موسى أبو مرزوق إلى عمان بالأردن بعد خوض معركة قضائية استمرت لمدة عامين في أمريكا حول تسليمه لإسرائيل. دشن القائدان مرحلة جديدة من التنازلات بنجاحهما في التوصل لإجماع في صفوف الكوادر القيادية بالحركة حول:
أولاً، لن يكون هناك صراع أو رد انتقامي ضد السلطة الفلسطينية. ثانياً، ستقتصر العمليات المسلحة على الردود الانتقامية فقط، وستكون موجهة فقط ضد الجنود والمستوطنين. ثالثاً، ستسعى حماس لتحويل نفسها إلى لاعب إقليمي يحظى بالتأييد الدبلوماسي، وحتى المالي، من القوى [أي الدول] العربية والإسلامية. (258)
وأخذ الاتجاه “المعتدل” دفعة أقوى بإطلاق سراح الشيخ ياسين من السجون الإسرائيلية في 1 أكتوبر 1997. أعلن الشيخ بوضوح سعي حماس الجاد نحو تحسين العلاقات مع السلطة الفلسطينية، وأكد أن “في حالة إقامة دولة فلسطينية، سيتوقف عنفنا”. (259) وأكد مرة أخرى إمكانية التوصل لهدنة مع إسرائيل في حالة انسحابها الكامل من غزة والضفة، وتفكيك المستوطنات، وإقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية. (260) ولكن تدخل الشيخ ياسين لم ينه الصراع. إذ استمر التيار “الراديكالي” في التواجد، واستمرت محاولات “الإصلاحيين” لتهميشه، ففي زيارة إلى منزل الشيخ ياسين قامت بها بعض القيادات “الراديكالية” والمسئولون عن العمليات الاستشهادية، اشتكى عبد الفتاح السطري ـ أحد القادة البارزين في الكتائب ـ للشيخ من أنهم “لم يعودوا يحظون برعاية قيادات الحركة، بل حوربوا وضويقوا وصار بعضهم هدفاً للاغتيال والمضايقة المادية”. (261)
وتسبب استشهاد محيي الدين الشريف ـ أحد قادة الكتائب والملقب بالمهندس رقم 2 ـ في تفجير المزيد من الصراعات في صفوف الحركة، حيث تراشق الجميع الاتهامات. ففي حين اتهم الرنتيسي إسرائيل بتدبير عملية قتل الشريف، أشار التحقيق الذي أجرته السلطة بأن تصفية الشريف جاءت نتيجة لصراعات داخلية بالحركة. (262) وما زال الغموض يكتنف الواقعة.
وتستمر حملة الاختراقات التنظيمية والاغتيالات الصهيونية للقادة القساميين، ومن ناحية أخرى تقوم السلطة الوطنية بحملات اعتقال وتعذيب للمئات من كوادر الحركة بالتعاون مع الموساد والمخابرات المركزية الأمريكية، مما أدى لإضعاف كتائب عز الدين القسام بشدة. ويعمق هذا من التشوش في استراتيجية الحركة، والصراع بين “المعتدلين” الذين اندفعوا أكثر لمحاولة الوصول لتفاهم مع السلطة و”الراديكاليين” الذين لا يريدون تقديم أي تنازل لإسرائيل والسلطة الفلسطينية العميلة. وظهر ذلك بوضوح عند قيام السلطة باعتقال 300 من مناضلي حماس عقب عملية استشهادية في 29 أكتوبر 1998 ـ أي بعد أسبوع من توقيع اتفاقية واي ريفر. فقد صدر بيان باسم كتائب عز الدين القسام في 1 نوفمبر يهدد بمهاجمة ضباط السلطة الفلسطينية إذا استمر القمع، ولكن أسرع قادة حماس على الفور لإدانة البيان. لقد كان من الواضح أن البيان ليس “تحذيراً موجهاً لعرفات فقط، ولكنه موجه أيضاً إلى قيادة حماس الداخلية بأن لا ينهوا الكفاح المسلح”. (263)
لم يختلف أداء المعارضة الإسلامية عن التنظيمات العلمانية الأخرى في الحركة الوطنية الفلسطينية، فهي تنتمي لنفس التراث البرجوازي الصغير الذي يعاني من تناقضات ضخمة في استراتيجيته السياسية بين المواجهة والمهادنة. وقد تشهد الفترة المقبلة تعميق هذه التناقضات، ففي الوقت الذي ستحاول فيه “الشرائح العليا” من الحركة التوجه نحو المزيد من “الاعتدال” والتقارب مع السلطة والمسيرة الاستسلامية، ستتواجد هناك قطاعات أخرى ـ قوامها الفقراء والشباب الغاضب على “تخاذل” القيادات ـ تحاول توجيه الحركة نحو منعطف أكثر راديكالية. هل سينتج عن ذلك انشقاق في الحركة؟ أو انهيارها؟ أو تستطيع القيادة المعتدلة تحويل حماس إلى حركة “سياسية” معارضة تعمل في إطار الشرعية؟ أو تنجح العناصر الراديكالية في تصعيد الكفاح المسلح؟ المستقبل وحده هو القادر على إعطاء الإجابة حول مصير الحركة، ولكن الأكيد هو أن حماس باستراتيجيتها الحالية لا تستطيع تقديم بديل جذري أو تحرير فلسطين “من البحر إلى النهر”


.....  يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

القضية الفلسطينية – رؤية ثورية التالي »  Empty
مُساهمةموضوع: رد: القضية الفلسطينية – رؤية ثورية التالي »    القضية الفلسطينية – رؤية ثورية التالي »  Emptyالأحد 27 أكتوبر 2024, 10:30 am

.... تابع
7. نحو انتفاضات عربية





هل يوجد حل وسط للقضية الفلسطينية؟
اتجهت فتح منذ 1974 لتبني خيار إقامة “دولتين لشعبين”، وهذا هو نهج التسوية الحالية، فقد تخلت الحركة الفدائية الفلسطينية عن مبدأ تحرير كامل التراب الوطني. ولكن هل هذا الخيار قابلاً للتطبيق؟ وهل هناك “حل وسط” للقضية الفلسطينية في الظروف الحالية للمنطقة؟ الجواب هو…لا.
إن الحل الوسط ـ أو بمعنى آخر الحل البرجوازي ـ للقضية الفلسطينية لن يقوم إلا بدولة فلسطينية مستقلة في غزة والضفة وعاصمتها القدس الشرقية، ولكن ذلك من المستحيل تحقيقه. إن إسرائيل لن تستطيع التنازل عن القدس التي تمثل إحدى الأركان الأساسية لخرافات مشروعها الصهيوني، وستبقى القدس الغربية والشرقية المحتلة تحت السيادة الصهيونية، وسيكون على الفلسطينيين الاعتراف بها كعاصمة لإسرائيل، وفي أفضل الأحوال قد تأخذ السلطة الحق في الإشراف المدني على المقدسات الإسلامية وبعض الأحياء العربية. وستوسّع حدود القدس لتضم قرى فلسطينية مجاورة، وسيكون بإمكان السلطة الفلسطينية الإعلان عن إحدى هذه القرى كعاصمتها البديلة، ومن المرشح أن تكون تلك القرية هي أبو ديس.
أما الدولة الفلسطينية التي ستنشأ فلن تكون دولة ذات سيادة حقيقية، فأي اتفاق للتسوية سيفرض التعايش بين 300 ألف مستوطن يسيطرون على 50% من أراضي الضفة الغربية والقدس وبين مليوني فلسطيني سيكون عليهم الاكتفاء بما تبقى من الأرض والرضوخ لسلطة فلسطينية تابعة للدولة الصهيونية. وستسيطر الدولة الصهيونية على الحدود الخارجية للدولة الفلسطينية المستقبلية، وعلى المعابر بين غزة والضفة الغربية. وفي ظل المحاصرة الإسرائيلية التي لن تسمح بنمو اقتصاد فلسطيني قوي سيعتمد اقتصاد الدولة الفلسطينية بالأساس على تصدير العمالة غير الماهرة إلى إسرائيل واستيراد المنتجات الإسرائيلية. كما أن سيطرة إسرائيل على الحدود معناها بقاء السيادة العليا على المناطق الفلسطينية بيدها، وفي هذا الوضع ستبقى للسلطة الفلسطينية صلاحيات مدنية فحسب تتعلق بإدارة الشئون المدنية للمواطنين الفلسطينيين، دون أن تكون لها صلاحية اتخاذ قرارات مناقضة للمصالح الأمنية والاقتصادية الإسرائيلية. وتماشياً مع هذا الوضع ستلجأ السلطة الفلسطينية لإحكام سيطرتها على الجماهير الفلسطينية عن طريق قمع سافر للحريات من جهة وشراء الولاء من جهة أخرى (وهذا بالفعل ما تقوم به السلطة منذ دخولها غزة). ورغم حديث حكومة باراك عن ضرورة الفصل بين الشعبين، فالواقع سيكون مغايراً تماماً، إذ أن مساحات شاسعة من المناطق الفلسطينية ستُلحق بإسرائيل من خلال بسط السيادة الإسرائيلية على المستوطنات. وبالطبع ستكون السيطرة الأمنية المطلقة على المناطق الفلسطينية بيد إسرائيل، وستكون أرزاق العمال الفلسطينيين رهينة للمشاريع الإسرائيلية. في هذا الواقع الذي تخلقه التسوية، يتواجد الفلسطينيون والإسرائيليون في كيانين منفردين، ولكن تحت سيادة عليا واحدة ـ إسرائيلية، ويتمتع في ظلها الإسرائيليون بكامل الحقوق السياسية، ويفتقد الفلسطينيون أبسط الحقوق الوطنية. (264)

بالإضافة إلى ما سبق، ستكون الدولة الفلسطينية المستقلة منزوعة السلاح، ولن يكون من صلاحياتها توقيع اتفاقات عسكرية مع دول معادية لإسرائيل، وعليها التوصل لترتيبات أمنية ـ لإدارة سياستها الداخلية والخارجية ـ مع إسرائيل، بحيث لن يكون في مقدرتها تشكيل تهديد عسكري من أي نوع للدولة الصهيونية.
في ظل هذا الواقع ـ الذي لا علاقة له بمدى براعة “المفاوض” الفلسطيني أو إخفاقه ـ يصبح مفهوم الدولة الفلسطينية المستقلة فارغاً من مضمونه، ويصبح مفهوم “الأرض المحررة” التي ستكون قاعدة لاستكمال الثورة الفلسطينية ضرباً من الوهم… فما نتحدث عنه هنا هو “محمية” إسرائيلية، أو قمر فلسطيني صغير يدور في فلك الكوكب الإسرائيلي.
وأخطر شئ سينتج عن أي “حل وسط” للقضية الفلسطينية هو التفريط اللامحال حدوثه في حق عودة لاجئي 1948 المتكدسين في مخيمات لبنان والأردن وسوريا، والبالغ عددهم حوالي 3,7 مليون شخص. (265) لن تسمح إسرائيل بأي حال من الأحوال بعودة هؤلاء اللاجئين لمنازلهم في مناطق 1948 أو أن يتم استيعابهم في الأراضي المحتلة. وفي أفضل الأحوال قد تسمح إسرائيل بعودة أعداداً منهم، وبالطبع لا يحتاج الأمر لعبقرية شديدة لكي نعرف أن إسرائيل لن تسمح سوى بعودة حفنة ضئيلة من هؤلاء الملايين، والباقي ستدفع له أمريكا وإسرائيل تعويضات هزيلة، وسيعملان على جمع الأموال لتنفيذ مشاريع توطين واسعة خارج فلسطين. ولكن أين يمكن توطين حوالي 4 مليون لاجئ فلسطيني؟! فدول الطوق العربية لن ترضى بتوطينهم، وقد أعلنت الأنظمة العربية ذلك مراراً، أما الدول الغربية التي عرضت المشاركة في التوطين ـ مثل كندا وأستراليا ـ ستستوعب أعداداً لن تصل بأي حال من الأحوال إلى 4 مليون لاجئ.
نحو انتفاضات عربية:
لقد أثبتت تجربة المقاومة الفلسطينية خلال الأربعة عقود الماضية إفلاس البرجوازية الفلسطينية في تقديم حل جذري للقضية. كما أثبتت أن استراتيجية الاعتماد على الأنظمة العربية والكفاح المسلح لن يؤديا إلا لمزيد من الكوارث والنكبات للشعب الفلسطيني. فالأنظمة العربية ترى في الفلسطينيين عدواً خطراً وعاملاً لهز استقرار عروشهم؛ والكفاح المسلح ضد دولة متفوقة عسكرياً مثل إسرائيل قد ينجح في إجلاءها عن جنوب لبنان أو بعض المناطق في الأراضي المحتلة، ولكنه لن يستطيع الإطاحة بدعائمها وتحرير فلسطين من النهر إلى البحر. وفي ظل خيانة البرجوازية الفلسطينية ـ الغارقة حتى أذنيها في التحالفات مع الصهيونية والإمبريالية ـ متمثلة في عرفات، وفشل البرجوازية الصغيرة متمثلة في حماس والجبهتين في خلق البديل، ليس أمام المقاومة الفلسطينية سوى الاعتماد على النضال الجماهيري الانتفاضي بقيادة الطبقة العاملة الفلسطينية ضد الصهيونية، فالمواجهات الجماهيرية هي الوحيدة القادرة على هز استقرار الدولة الصهيونية لا عمليات العنف الفردي التي دأبت المقاومة على تنفيذها منذ نشأتها. ولكن صغر حجم الطبقة العاملة الفلسطينية وانعدام تأثيرها “الاقتصادي” على الدولة الصهيونية، يجعلها غير قادرة على القيام بتحرير فلسطين وحدها، بل يجب أن تعتمد على مشاركة باقي الجماهير العربية. ويطرح هذا عدة إشكاليات ومهام أمام الثوريين في فلسطين والعالم العربي حول كيفية ربط النضال الفلسطيني ضد الصهيونية بنضال الجماهير العربية ضد أنظمتها المتحالفة مع الإمبريالية والمعادية للفلسطينيين بقدر معاداتها للطبقات الكادحة ببلدانها.
لقد استغل عرفات حالة الإحباط التي سادت بين الجماهير الفلسطينية مع انحسار الانتفاضة والانتصار الأمريكي في حرب الخليج لتمرير سياسة التسوية الاستسلامية التي انتهجها بدايةً بمدريد إلى أوسلو، وطابا، وواي ريفر، وكامب ديفيد، وأخواتهم. ولكن هذه السياسة قد وصلت إلى نهاية طريقها المسدود، وقد بدأت الجماهير الفلسطينية في التحرك من جديد مهددة ليس فقط السلطة الفلسطينية وإسرائيل ولكن أيضا استقرار النظام في مصر وباقي الدول العربية، وهذا ما يفسر قلق الأنظمة العربية ومحاولاتها المستمرة لدفن القضية. ولكن المقاومة الفلسطينية لن تستطيع تحقيق أي نجاح حقيقي ضد الدولة الصهيونية طالما بقيت محصورة في التنظيمات الحالية المفلسة سياسياً، وطالما بقيت معزولة عن الجماهير في مصر وسوريا والأردن ولبنان والعراق…
لقد أظهرت الانتفاضة الفلسطينية جلياً قدرتها التثويرية بين جماهير المنطقة متمثلة في تفجير حركات تضامن جماهيرية عنيفة تحولت إلى مواجهات مع الأنظمة العربية. إن تحرير فلسطين لن يبدأ إلا عندما تبدأ الثورات في مصر وفي بقية دول المنطقة، ولكن هذا لا يعني على الإطلاق أن القضية يجب أن تنتظر حتى تحدث تلك الثورات، فيتحتم على الثوريين الالتحام بحركات التضامن التي تنفجر، ومواصلة فضح “مشاريع السلام” الإمبريالية بالمنطقة، وفضح الحركات البرجوازية والبرجوازية الصغيرة في كل استسلام يحاولون تمريره وفي كل استراتيجية فاشلة يحاولون انتهاجها، والربط دائما بين القضية الفلسطينية وبين قضايا الصراع الطبقي في العالم العربي، واستغلال كل المناسبات لتشكيل لجان تضامن مع الجماهير الفلسطينية، والدعاية إلى أن الإطاحة بالدولة الصهيونية لن يتحقق إلا بربط النضال الجماهيري الفلسطيني بنضال الجماهير العربية ضد أنظمتها. فنفس الأنظمة العربية التي تحمي مصالح أمريكا في المنطقة، وتعمل كل ما بوسعها لإخماد الثورة الفلسطينية، وترتبط مصالحها ارتباطاً وثيقاً بالصهيونية والرأسمالية العالمية… هي نفسها التي تقمع جماهيرها، وتشردهم، وتجوعهم بالخصخصة والإصلاح الاقتصادي.
كل خطوة يتخذها المناضلون في البلدان العربية في بناء حركة مناهضة بشكل جذري للرأسمالية في بلدانهم هي خطوة لتحرير فلسطين. إن العروش العربية تحمي الدولة الصهيونية من غضب الجماهير، كما تساند أمريكا وإسرائيل هذه العروش ضد جماهيرها. لقد آن الأوان ـ بعد أكثر من خمسين عاماً من المآسي والهزائم ـ لفهم حقيقة أن الأنظمة العربية ليس من مصلحتها العمل على تحرير فلسطين، بل إنها العائق الأساسي على طريق التحرير. إن كل رامي للحجارة يُقتَل بالرصاص في غزة والضفة الغربية يقابله عامل عربي يُطرَد من مصنعه وفلاح عربي يُطرد من أرضه وسجين عربي يُعذَب ويُقتل في السجون العربية. لقد عملت الحركات والأنظمة البرجوازية كل ما بوسعها للفصل ما بين تحرير الأرض المحتلة من الصهيونية وتحرير الجماهير العربية من الديكتاتورية والرأسمالية، وها هي النتيجة: مزيد من الهزائم، مزيد من الاستيطان والاستسلام في فلسطين، ومزيد من القهر والإفقار للجماهير العربية.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

القضية الفلسطينية – رؤية ثورية التالي »  Empty
مُساهمةموضوع: رد: القضية الفلسطينية – رؤية ثورية التالي »    القضية الفلسطينية – رؤية ثورية التالي »  Emptyالأحد 27 أكتوبر 2024, 10:31 am

8. هوامش


1. روجرز، آن. “المسألة اليهودية”. الفصل 34 من كتاب تقرير اشتراكي. تحرير: ليندزي جيرمان وروب هوفمان. لندن: بوكماركس، 1998. صفحة 280.
2. المصدر السابق، صفحة 281.
3. المصدر السابق، صفحة 1 ـ 283.
4. هيكل، محمد حسنين. المفاوضات السرية بين العرب وإسرائيل. الجزء الأول. القاهرة: دار الشروق، 1996. صفحة 29.
5. روجرز، صفحة 283.
6. مارشال، فيل. الانتفاضة: الصهيونية والإمبريالية والمقاومة الفلسطينية. لندن: بوكماركس، 1989. صفحة 30.
7. سلفا، لانس. “الصهيونية: المسيح الكاذب”. أمريكا: إنترناشيونال سوشياليست ريفيو. ربيع 1998. صفحة 9 ـ 10.
8. المصدر السابق، صفحة 10.
9. هيكل، صفحة 68.
10. سلفا، صفحة 10.
11. المسيري، عبد الوهاب. الأيديولوجية الصهيونية. الجزء الأول. الكويت: عالم المعرفة، 1982. صفحة 143.
12. المصدر السابق، صفحة 144.
13. مارشال، صفحة 33.
14. المسيري، صفحة 141.
15. مارشال، صفحة 33.
16. المصدر السابق، صفحة 34.
17. سلفا، صفحة 11.
18. المسيري، عبد الوهاب. الجمعيات السرية في العالم. القاهرة: كتاب الهلال. نوفمبر 1993. صفحة 205.
19. المصدر السابق، صفحة 206.
20. المسيري، الأيديولوجية الصهيونية، صفحة 140.
21. سلفا، صفحة 10.
22. مارشال، صفحة 214.
23. المصدر السابق، صفحة 35.
24. المصدر السابق، صفحة 37.
25. المصدر السابق، صفحة 37.
26. الحوت، بيان نويهض. القيادات والمؤسسات السياسية في فلسطين 1917 ـ 1948. بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 1981. صفحة 518.
27. كليف، توني. “اليهود، إسرائيل، والمحرقة”. لندن: سوشياليست ريفيو. مايو 1998. صفحة 20.
28. مذكور في كتاب ليلى سليم القاضي، المنظمة الاشتراكية الإسرائيلية (ماتسبن). بيروت: دراسات فلسطينية، عدد 83، يوليو 1971. صفحة، 72.
29. مارشال، صفحة 37.
30. المصدر السابق، صفحة 38.
31. سلفا، صفحة 10.
32. المصدر السابق، صفحة 10.
33. شريف، ماهر. “قضية فلسطين ومناقشات المؤتمر الثاني للأممية الشيوعية”. بيروت: شئون فلسطينية، العدد (70)، سبتمبر 1977. صفحة 6 ـ 1927.
34. سلفا، صفحة 11.
35. البديري، هند أمين. أراضي فلسطين بين مزاعم الصهيونية وحقائق التاريخ. القاهرة: جامعة الدول العربية، 1998. صفحة 283.
36. الإحصائيات المذكورة واردة في كتاب فيل مارشال، صفحة 57.
37. مارشال، صفحة 58.
38. البديري، صفحة 284.
39. المصدر السابق، صفحة 284.
40. الحوت، صفحة 176.
41. الموسوعة الفلسطينية. الجزء الأول. دمشق: هيئة الموسوعة الفلسطينية، 1984. صفحة 611.
42. مارشال، صفحة 60.
43. الحوت، صفحة 140 ـ 143.
44. المقاومة الفلسطينية: الواقع والتوقعات. بيروت: دار الطليعة، 1971. صفحة 47.
45. الحوت، صفحة 147.
46. المقاومة الفلسطينية، صفحة 46.
47. الحوت، صفحة 204 ـ 205.
48. المصدر السابق، صفحة 178.
49. المصدر السابق، صفحة 192.
50. المصدر السابق، صفحة 194 ـ 196.
51. الموسوعة الفلسطينية، صفحة 615.
52. الحوت، صفحة 229.
53. المصدر السابق، صفحة 222 ـ 225.
54. الموسوعة الفلسطينية، صفحة 616.
55. الحوت، صفحة 228 ـ 229.
56. مارشال، صفحة 60.
57. الحوت، صفحة 236، 238.
58. مارشال، صفحة 60 ـ 61.
59. الحوت، صفحة 283 ـ 290.
60. المصدر السابق، صفحة 298.
61. المصدر السابق، صفحة 300.
62. مارشال، صفحة 60 ـ 61.
63. الحوت، صفحة 331 ـ 342.
64. مارشال، صفحة 62.
65. الحوت، صفحة 349.
66. مارشال، صفحة 41.
67. المصدر السابق، صفحة 62 ـ 63.
68. المصدر السابق، صفحة 63 ـ 64.
69. المصدر السابق، صفحة 63.
70. الحوت، صفحة 244 ـ 246.
71. المصدر السابق، صفحة 357.
72. الموسوعة الفلسطينية: الجزء الثالث، صفحة 628.
73. مارشال، صفحة 64.
74. المصدر السابق، صفحة 65.
75. مذكور في مقالة ماهر الشريف، صفحة 120.
76. مذكور في مقالة ماهر الشريف، صفحة 119.
77. مارشال، صفحة 66.
78. المصدر السابق، صفحة 66.
79. المصدر السابق، صفحة 67 ـ 69.
80. بينن، جويل. العلم الأحمر هل كان يرفرف هناك؟: السياسات الماركسية والنزاع العربي الإسرائيلي. (ترجمة كمال السيد) القاهرة: دار الثقافة الجديدة، 1996. صفحة 33.
81. المسيري، عبد الوهاب. موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية: الجزء الثالث. القاهرة: دار الشروق، 1999. صفحة 172.
82. المصدر السابق، صفحة 172.
83. المصدر السابق، صفحة 173.
84. المصدر السابق، صفحة 173.
85. المصدر السابق، صفحة 172 ـ 173.
86. بينن، صفحة 33.
87. المسيري، موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية: الجزء الثالث. صفحة 173.
88. مارشال، صفحة 97.
89. المصدر السابق، صفحة 97.
90. المصدر السابق، صفحة 101 ـ 103.
91. الموسوعة الفلسطينية: الجزء الثاني، صفحة 205.
92. مارشال صفحة 104 ـ 105.
93. الموسوعة الفلسطينية: الجزء الثاني، صفحة 205.
94. مارشال، صفحة 103.
95. المصدر السابق، صفحة 117.
96. المصدر السابق، صفحة 122.
97. المصدر السابق، صفحة 123.
98. مذكور في كتاب فيل مارشال، صفحة 124.
99. المصدر السابق، صفحة 122 ـ 124.
100. المصدر السابق، صفحة 129 ـ 130.
101. المصدر السابق، صفحة 130 ـ 131.
102. هيكل، محمد حسنين. المفاوضات السرية بين العرب وإسرائيل: الجزء الثالث (سلام الأوهام، أوسلو ـ ما قبلها وما بعدها). القاهرة: دار الشروق، 1996. صفحة 49.
103. صايغ، روزماري. الفلسطينيون: من فلاحين إلى ثوار. لندن: زد برس، 1979. صفحة 156.
104. مارشال، صفحة 135.
105. هانتر، ف. روبرت. الانتفاضة الفلسطينية: حرب بطرق أخرى. لندن: 1991. صفحة 63.
106. “البرجوازية الوطنية تخون برنامجها القومي”. الفصل الثالث من كتاب القضية الفلسطينية والبديل الاشتراكي:رؤية جديدة في عصر العولمة، الصادر عن “منظمة العمل الديمقراطي (حزب دعم)” في يافا. مأخوذ من الإنترنت: http://www.odaction.org/alsabar/mismah/pdf/chap3.pdf
107. المصدر السابق، صفحة 64.
108. مارشال، صفحة 154.
109. المصدر السابق، صفحة 154 ـ 155.
110. المصدر السابق، صفحة 156.
111. المصدر السابق، صفحة 156.
112. المصدر السابق، صفحة 156 ـ 157.
113. المصدر السابق، صفحة 164.
114. الأهالي، 16 إبريل 1988، صفحة 2.
115. الأهالي، 17 فبراير 1988، صفحة 2.
116. الأهالي، 27 يناير 1988، صفحة 2.
117. الأهالي، 23 ديسمبر 1987، صفحة 4.
118. مارشال، صفحة 165.
119. الأهالي، 17 فبراير 1988، صفحة 1.
120. مارشال، صفحة 100.
121. الشعب، 22 ديسمبر 1987، صفحة 1.
122. الشعب، 29 ديسمبر 1987، صفحة 4.
123. الأهالي، 23 ديسمبر 1987، صفحة 14.
124. الوفد، 28 ديسمبر 1987.
125. الأهالي، 6 يناير 1988، صفحة 4 ـ 5.
126. المصدر السابق، صفحة 1.
127. مارشال، صفحة 167.
128. الشعب، 5 يناير 1988، صفحة 1.
129. مارشال، صفحة 168.
130. الأهالي، 6 يناير 1988، صفحة 1.
131. الشعب، 12 يناير 1988، صفحة 3.
132. الشعب، 18 يناير 1988، صفحة 2.
133. الشعب، 12 يناير 1988، صفحة 1.
134. الأهالي، 13 يناير 1988، صفحة 4.
135. الأهالي، 27 يناير 1988، صفحة 2.
136. مارشال، صفحة 167 ـ 168.
137. الأهالي، 6 إبريل 1988، صفحة 2.
138. الشعب، 5 إبريل 1988، صفحة 4.
139. أخبار اليوم، 8 أكتوبر 1988، صفحة 1.
140. مارشال، صفحة 174.
141. الأهرام، 11 أكتوبر 1988، صفحة 1.
142. مذكور في كتاب فيل مارشال، صفحة 175.
143. مارشال، صفحة 175.
144. المصدر السابق، صفحة 188.
145. المصدر السابق، صفحة 188.
146. المصدر السابق، صفحة 188.
147. المصدر السابق، صفحة 194.
148. الشعب، 10 يناير 1989، صفحة 3.
149. الشعب، 14 فبراير 1989، صفحة 2.
150. مارشال، صفحة 195.
151. المصدر السابق، صفحة 189.
152. تقرير منظمة الشفافية الدولية لعام 2000. مأخوذ من موقع المنظمة على الإنترنت:
http://www.web.amnesty.org/web/ar2000web.nsf/countries/7dae741e5b9afed5802568f200552959?OpenDocument
153. تقرير منظمة الشفافية الدولية لعام 1999. مأخوذ من موقع المنظمة على الإنترنت: http://www.amnestyusa.org/ailib/aireport/ar99/mde21.htm
154. المصدر السابق.
155. تقرير منظمة الشفافية الدولية لعام 2000.
156. “محاكمة المجاهد محمود أبو هنود وصمة عار في جبين السلطة”. بيان صادر عن حركة حماس في 2/1/2000.
157. أليكسندر، آن. “بدون قوة في غزة: السلطة الفلسطينية وأوهام عملية السلام.” لندن: انترناشيونال سوشياليزم جورنال. العدد رقم 89. شتاء 2000. مأخوذ من موقع المجلة على الإنترنت:
http://www.isj1text.fsnet.co.uk/pubs/isj89/alexander.htm
158. شاؤول، جين. “الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات يقمع معارضيه”. مأخوذ من موقع World Socialist Web Site على الإنترنت: http://www.wsws.org/articles/1999/dec1999/araf ـ d09 ـ prn.shtml
159. “السلطة الفلسطينية تنتقم”. يافا: مجلة تشالنج الصادرة عن حزب دعم. يناير ـ فبراير2000. العدد رقم 59. مأخوذ من موقع المجلة على الإنترنت: http://www.odaction.org/challenge/index.htm
160. هيرست، ديفيد. “بدون خجل في غزة”. لندن: جارديان ويكلي. 27/4/1997. مأخوذ من الإنترنت:
http://user.tninet.se/~rqh534r/Ammars%20websida/shameless.htm
161. المصدر السابق.
162. شوارتز، ميشيل. “حساب سري في تل أبيب يمول القمع العرفاتي”. يافا: مجلة شالينج الصادرة عن حزب دعم، عدد رقم 43. مأخوذ من موقع المجلة على الإنترنت:
http://www.odaction.org/challenge/index.htm
163. هيرست.
164. شوارتز.
165. المصدر السابق.
166. هيرست.
167. شوارتز.
168. هيرست.
169. المصدر السابق.
170. الإحصائيات مذكورة في مقال آن أليكساندر.
171. المصدر السابق.
172. بن إفرات، يعقوب. “انتفاضة جماهيرية بدون برنامج أو قيادة.” يافا: جريدة الصبار. العدد 123. مأخوذ من موقع الجريدة على الإنترنت: http://www.odaction.org/alsabar/123/intifada.htm
173. إحصائيات جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني. مأخوذ من موقع الجمعية على الإنترنت: http://www.palestinercs.org
174. “عشرات الآلاف من الإسرائيليين يحتجون على اقتراحات السلام الأمريكية”. مأخوذ من موقع شبكة CNN الإخبارية على الإنترنت: http://europe.cnn.com/2001/WORLD/meast/01/08/mideast.03/index.html
175. سلفا، لانس. “الوقوف في وجه جالوت”. إنترناشيونال سوشياليست ريفيو، 6 ديسمبر، 2000. صفحة 6.
176. المصدر السابق، صفحة 2.
177. بن إفرات، يعقوب. “انتفاضة جماهيرية بدون برنامج أو قيادة.”
178. بن إفرات، يعقوب. “اليسار الإسرائيلي وانتفاضة الأقصى.” يافا: جريدة الصبار. العدد 122. مأخوذ من موقع الجريدة على الإنترنت: http://www.odaction.org/alsabar/122/yasar.htm
179. المصدر السابق.
180. المصدر السابق.
181. شاؤول، جين. “لماذا فشلت حركة السلام الإسرائيلية؟” مأخوذ من موقع World Socialist Web Site على الإنترنت: http://www.wsws.org/articles/2000/nov2000/isr ـ n07 ـ prn.shtml
182. المصدر السابق.
183. المصدر السابق.
184. بن إفرات، يعقوب. “اليسار الإسرائيلي وانتفاضة الأقصى.”
185. “موجة مظاهرات تجتاح الشرق الأوسط.” لندن: سوشياليست ووركر، 14 أكتوبر. مأخوذ من موقع الجريدة على الإنترنت: http://www.socialistworker.co.uk/1/18/sw1/1836.htm
186. دوراند، ماريا ف. “الفلسطينيون يتظاهرون.” إيه بي سي نيوز. مأخوذ من الإنترنت:
http://abcnews.go.com/sections/us/dailynews/mideast ـ usprotests001013.html
187. خميس، حسين. “الأنظمة العربية بين الغضب الشعبي وأمريكا”. يافا: جريدة الصبار. العدد 123. مأخوذ من موقع الجريدة على الإنترنت: http://www.odaction.org/alsabar/122/arab.htm
188. “الآلاف من العراقيين ينظمون مظاهرات مؤيدة لفلسطين”. أيريش تايمز. 6 يناير 2001. مأخوذ من موقع الجريدة على الإنترنت: http://www.ireland.com/newspaper/breaking/2000/1003/breaking33.htm
189. “القوى الشعبية الأردنية ترفض موقف الحكومة المانع للمظاهرات”. 10/10/2000. مأخوذ من الموقع “Arabic News.Com” الإخباري على الإنترنت:
http://www.arabicnews.com/ansub/Daily/Day/001010/2000101008.html
190. خميس، حسين. “الأنظمة العربية بين الغضب الشعبي وأمريكا”.
191. “مظاهرات احتجاجية بالأردن ضد مذبحة الأقصى”. 5/10/2000. مأخوذ من الموقع ” “Arabic News.Com الإخباري على الإنترنت:
http://www.arabicnews.com/ansub/Daily/Day/001005/2000100542.html
192. “الطلبة السوريون يتظاهرون ضد المذابح الإسرائيلية”. 4/10/2000. مأخوذ من الموقع ” “Arabic News.Com الإخباري على الإنترنت:
http://www.arabicnews.com/ansub/Daily/Day/001004/2000100450.html
193. “مجلس الأمن يدين العدوان الإسرائيلي، مظاهرات غاضبة في أرجاء البلاد”. يمن تايمز. 9 ـ 15 أكتوبر 2000. مأخوذ من موقع الجريدة على الإنترنت:
http://yementimes.com/00/iss41/front.htm#1
194. “العثور على مواد لصنع المتفجرات في شقة يمنية”. 17 أكتوبر 2000. مأخوذ من موقع شبكة “CNN”الإخبارية على الإنترنت: http://www.cnn.com/2000/US/10/17/uss.cole.03/index.html
195. كينون، هيرب. “عنان: العالم العربي قلق من انتشار العنف”. جيروزاليم بوست. 15 نوفمبر 2000. مأخوذ من موقع الجريدة على الإنترنت: http://www.jpost.com/Editions/2000/11/15/News/News.15538.html
196. المصدر السابق.
197. فرج، فاطمة. “أصداء الانتفاضة.” القاهرة: الأهرام ويكلي، 12 ـ 18 أكتوبر 2000. صفحة 7.
198. فرج، صفحة 7.
199. فرج، فاطمة. “العلم الفلسطيني فوق النيل.” القاهرة: الأهرام ويكلي، 19 ـ 25 أكتوبر 2000. صفحة 7.
200. فرج، “أصداء الانتفاضة”، صفحة 7.
201. فرج، “العلم الفلسطيني فوق النيل”، صفحة 7.
202. فرج، “أصداء الانتفاضة”، صفحة 7.
203. تصريح صحفي لحركة حماس “حول اجتماع التنسيق الأمني بين السلطة الفلسطينية والعدو الصهيوني في القاهرة”. 7/1/2001.
204. المصدر السابق.
205. رودج، ديفيد. “الخبراء: العلاقات مع مصر مستمرة بالرغم من الاستدعاء”. جيروزاليم بوست. 22 نوفمبر 2000. مأخوذ من موقع الشبكة على الإنترنت:
http://www.jpost.com/Editions/2000/11/22/News/News.15993.html
206. باريل، زفي. “زلزال الانتفاضة يضرب السوق في مصر”. هآرتس، 3 يناير 2001. مأخوذ من موقع الجريدة على الإنترنت: http://www3.haaretz.co.il/eng/scripts/article.asp?mador=5&datee=01/03/01&id=105423
207. سويد، محمود. التجربة النضالية الفلسطينية: حوار شامل مع جورج حبش. بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 1998. صفحة 19.
208. شالياند، جيرارد. المقامة الفلسطينية. ترجمه للإنجليزيةمايكل بيرل. بريطانيا: بيليكان بوكز، 1972. صفحة 159.
209. مارشال، صفحة 121.
210. “منصة الجبهة الشعبية”. لاكور، والتر (محرر). القارئ الإسرائيلي العربي: تاريخ توثيقي للصراع في الشرق الأوسط. بريطانيا: بيليكان بوكز، 1970. صفحة 452.
211. المصدر السابق، صفحة 451 ـ 453.
212. المصدر السابق، صفحة 453.
213. شالياند، صفحة 161.
214. مارشال، صفحة 121.
215. شالياند، صفحة 162.
216. التل، سهير سلطي. حركة القوميين العرب وانعطافاتها الفكرية. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية. سلسلة الثقافة القومية (31). أغسطس 1996. صفحة 198 ـ 199.
217. شالياند، 85 ـ 86.
218. مارشال، صفحة 122.
219. شالياند، 163 ـ 164.
220. المصدر السابق، 89 ـ 90.
221. مارشال، صفحة 124، 135.
222. سويد، صفحة 44.
223. شالياند، صفحة 85.
224. مارشال، 179 ـ 180.
225. “البرجوازية الوطنية تخون برنامجها القومي”.
226. المصدر السابق.
227. “اليسار الفلسطيني يتخلى عن برنامجه الثوري”. الفصل الرابع من كتاب القضية الفلسطينية والبديل الاشتراكي: رؤية جديدة في عصر العولمة، الصادر عن “منظمة العمل الديمقراطي (حزب دعم)” في يافا. مأخوذ من الإنترنت:
http://www.odaction.org/alsabar/mismah/pdf/chap4.pdf
228. المصدر السابق.
229. المصدر السابق.
230. المصدر السابق.
231. المصدر السابق.
232. المصدر السابق.
233. “المعارضة العلمانية الفلسطينية في مفترق الطرق: حوارين مع أبو علي مصطفى (الجبهة الشعبية) ونايف حواتمة (الجبهة الديمقراطية)”. بيروت: جورنال أوف بالستاين ستاديز.عدد رقم 2. شتاء 2000. صفحة 87.
234. المصدر السابق، صفحة 80، 82.
235. مذكور في “البرجوازية الوطنية تخون برنامجها القومي”.
236. المصدر السابق.
237. كريستياناسن، ويندي. “التحدي والتحدي المضاد: رد حماس غلى أوسلو”.بيروت: جورتال أوف بالستاين ستاديز. عدد 3. ربيع 1999. صفحة 20.
238. أبو عمر، زياد. “حماس: خلفية تاريخية وسياسية.” بيروت: جورنال أوف بالستاين ستاديز. عدد 4. صيف 1993. صفحة 8.
239. المصدر السابق، صفحة 9.
240. كريستياناسن، صفحة 21.
241. أبو عمر، صفحة 7.
242. مارشال، فيل. “أطفال الستالينية”.لندن: إنترناشيونال سوشياليزم جورنال. عدد 68. خريف 1995. مأخوذ من موقع المجلة على الإنترنت: http://www.isj1text.fsnet.co.uk/pubs/isj68/marshall.htm
243. “تعريف بالحركة: العلاقات الخارجية لحركة حماس”. مأخوذ من موقع حماس الرسمي على الإنترنت: http://64.33.100.82/index ـ h.html
244. مارشال، صفحة 205.
245. “تعريف بالحركة: موقف حركة حماس من التسوية السياسية”. مأخوذ من موقع حماس الرسمي على الإنترنت: http://64.33.100.82/index ـ h.html
246. كريستياناسن، صفحة 23.
247. المصدر السابق، صفحة 23.
248. المصدر السابق، صفحة 23.
249. المصدر السابق، صفحة 24 ـ 26.
250. المصدر السابق، صفحة 27.
251. المصدر السابق، صفحة 29.
252. المصدر السابق، صفحة 29.
253. المصدر السابق، صفحة 29.
254. المصدر السابق، صفحة 29.
255. المصدر السابق، صفحة 29.
256. المصدر السابق، صفحة 29.
257. المصدر السابق، صفحة 30.
258. المصدر السابق، صفحة 30.
259. المصدر السابق، صفحة 31.
260. المصدر السابق، صفحة 31.
261. شهاب، زكي. “كتائب القسام… أنهكتها الاختراقات وتطاردها الخلافات والتصفيات والأجهزة السرية البديلة”. مجلة الوسط. 21/9/1998. صفحة 25.
262. كريستياناسن، صفحة 32.
263. المصدر السابق، صفحة 32 ـ 33.
264. “القضية الفلسطينية بدون حل وسط”. الفصل العاشر من كتاب القضية الفلسطينية والبديل الاشتراكي: رؤية جديدة في عصر العولمة، الصادر عن “منظمة العمل الديمقراطي (حزب دعم)” في يافا. مأخوذ من الإنترنت:
http://www.odaction.org/alsabar/mismah/pdf/chap10.pdf
265. طبقاً لإحصائيات الأونروا، مذكورة في تقرير CNN “عشرات الآلاف من الإسرائيليين يحتجون على اقتراحات السلام الأمريكية”.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
 
القضية الفلسطينية – رؤية ثورية التالي »
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» رؤية أستراتيجية في القضية الفلسطينية
» القضية الفلسطينية
» القضية الفلسطينية
» عن القضية الفلسطينية
» مسارات القضية الفلسطينية

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتدى الشنطي :: قصة قضية فلسطين :: دراسات وبحوث تخص القضية الفلسطسنسه-
انتقل الى: