فاحشة الزنا
إن الله سبحانه وتعالى خلق الخلق وأوجدهم لغاية سامية ، واستخلفهم في الأرض لأمر عظيم ألا وهو عبادته وحده سبحانه دون سواه ، وأن يُطاع أبداً ، ولا يُعصى أبداً ، ولهذا قال تعالى : [ وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ] ( الذاريات 56 ) ، ولقد فرط كثير من المسلمين بأوامر الله عزوجل ، وأوامر نبيه
عليه وسلم ، بل وارتكبوا مانهوا عنه فاستحلوا ما حرم الله عليهم من المعاصي والفواحش بلا خوف ولا حياء حتى غطى الران قلوبهم واستحقوا غضب الله ومقته .
ولقد قرن الله سبحانه وتعالى الشرك والزنا واللواط بالنجاسة والخبث في كتابه دون سائر الذنوب ، وإن كانت جميع الذنوب تشتمل على ذلك ، لكن الله عزوجل خص هذه الذنوب الثلاثة لغلظها وقباحة فاعلها ومرتكبها عند الله تعالى وشناعة وبشاعة فعلها ، واستقذار ممارسيها عند الله تعالى ، وعند عباده ، لما فيها من تعد لحدود الله ، وعدم مبالاة بأوامره سبحانه وأوامر نبيه عليه الصلاة والسلام ، فقال تعالى : { ياأيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس } ( التوبة 28 ) ، وقال في حق اللواط : { ولوطاً أتيناه حكماً وعلماً ونجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث إنهم كانوا قوم سوء فاسقين } ( الأنبياء 74 ) ، وأما الزناة فجاء وصفهم صريحاً فقال تعالى : { الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات } ( النور26 ) .
قال بن القيم رحمه الله تعالى : [ والمقصود بيان ما في الزنا واللواطة من نجاسة وخبث أكثر وأغلظ من سائر الذنوب ما دون الشرك ، وذلك لأنها تفسد القلب وتضعف توحيده جداً ، ولهذا كان أحظى الناس بهذه النجاسة أكثرهم شركاً ، فكلما كان الشرك في العبد أغلب كانت هذه النجاسة والخبائث فيه أكثر ، وكلما كان العبد أعظم إخلاصاً كان منها أبعد ، فليس في الذنوب أفسد للقلب والدين من هاتين الفاحشتين ] .
وقال بن حجر رحمه الله : [ لقد عد العلماء الزنا من الكبائر ، وبعض الزنا أغلظ من بعض ، فالزنا بحليلة الجار ، أو بذات الرحم ، أو بأجنبية في شهر رمضان ، أو البلد الحرام ، فاحشة مشينة ] .
ولهذا منع النبي
عليه وسلم كل الأسباب المؤدية إلى الزنا ، وجميع الدوافع الدافعة إليه ، فقال
عليه وسلم : [ أيما امرأة استعطرت فمرت على قوم ليجدوا ريحها فهي زانية ] ( النسائي وغيره ) ، وحذر نبي الأمة والرحمة من الدخول على النساء أو الاختلاط لأن ذلك مما قد يدفع ضعاف النفوس إلى ممارسة هذه الفاحشة العظيمة المشينة المحرمة ، فقال : [ إياكم والدخول على النساء ] ، فذكر له رجل ، فقال : أرأيت الحمو يارسول الله ، فقال : [ الحمو الموت ] ، أو كما جاء في الحديث ، فإذا كان هذا مع أخ الزوج ، فما بالنا بمن يتركون الرجال الأجانب يدخلون على نساءهم ومحارمهم دون أن يحرك ذلك ساكناً فيهم من شعور بالغيرة على أعراضهم ومحارمهم ، مدعين بذلك العفة لدى الجنسين ، وأقول : والله إنه ضعف في الدين ، وقلة حيلة لدى أولئك المساكين .
ولهذا قال تعالى محذراً من الدخول على النساء : { وإذا سألتموهن متاعاً فسألوهن من وراء حجاب } ثم ذكر المولى جل وعلا الحكمة البالغة من ذلك فقال : { ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن } ( الأحزاب 53 ) ، وحرم الإسلام على المرأة أن تخرج أمام الرجال الأجانب وهي متخذة زينتها لما في ذلك من جنوح إلى الذنب والمعصية ، وإقبال على الفاحشة والرذيلة ، واستمالة ضعاف النفوس والإيمان والتقوى للإنجراف في بحر الفاحشة ، والوقوع في براثن الزانيات العاهرات الداعيات إلى البعد عن عالم الخفيات فاطر الأرض والسموات ، فقال تعالى : { ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آباءهن أو أباء بعولتهن أو أبناءهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن أو نساءهن أو ماملكت أيمانهن أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال أو الطفل الذين لم يظهروا على عورا النساء ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون } ( النور31 ) ، ثم أمر المولى جلت قدرته عباده الذين لا ستطيعون النكاح ولا يجدون له طريقاً ومسلكاً ، أمرهم بالعفة إلى أن يكتب الله لهم ذلك ، فقال تعالى : { وليستعفف الذين لا يجدون نكاحاً حتى يغنيهم الله من فضله } ( النور 33 ) .
وحذر الله تعالى عباده من كل ما من شأنه أن يكون ذريعة إلى فعل فاحشة الزنا ، من الستر وعدم الاختلاط بين الرجال والنساء ، وعدم التكسر في كلام النساء مع الرجال ، وعدم خروج المرأة من بيتها بغير محرم لأن ذلك يفضي إلى عواقب وخيمة ، فيه فساد هذه الأمة ، وجاء الخطاب صريحاً لأمهات المؤمنين ، وقصد به نساء الأمة أجمعين ، فقال تعالى : { يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولاً معروفاً * وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله } ( الأحزاب 32/33 ) .
ومع ذلك كله فقد استهان كثير من الناس اليوم بكثير من المحرمات حتى أصبحت لديهم كأنها من المأمورات ، فاختلط الحلال بالحرام عند تلك الفئة من الناس ، فأضحوا لا يعرفون معروفاً ولا ينكرون منكراً ، ومن هذه الفواحش التي لعب الشيطان بعقول مرتكبيها فاحشة ( الزنا ) ، وسوف نتطرق إلى هذا الموضوع الهام والفاحشة العظيمة التي حرمها الإسلام ، ويمقتها أصحاب العقول والإلمام ، ويأباها صاحب الدين والخلق ، بل ترفضها البهائم العجماوات ، ولا تقبلها على ما فيها من فقد للعقول والأفهام ، قال تعالى : { قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق . . . } ( الأعراف 33 ) ، وقال تعالى : { ولا تقربوا الفواحش ماظهر منها وما بطن } ( الأنعام 151 ) . وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله
عليه وسلم : [ ليس أحد أحب إليه المدح من الله عز وجل ، من أجل ذلك مدح نفسه ، وليس أحد أغير من الله عز وجل ، من أجل ذلك حرم الفواحش ، وليس أحد أحب إليه العذر من الله عز وجل ، من أجل ذلك أنزل الكتاب وأرسل الرسل ] ( مسلم ) .
ومن هذه الفواحش الزنا ، والزنا من أبشع الفواحش التي حرمها الله جل وعلا وحرمها رسوله
عليه وسلم ، وأجمعت الأمة قاطبة على تحريمه ، وهو من أقبح المعاصي والذنوب على الإطلاق ، ومن أعظم الجرائم ومن كبائر الذنوب والمعاصي ، لما فيه من اختلاط الأنساب الذي يبطل بسببه التعارف والتآلف والتعاون على الحق وفيه هلاك الحرث والنسل ، لأنه اشتمل على هذه الآثار القبيحة ، والنتائج السيئة ، ورتب الله عليه حداً صارماً وقاسياً ، وهو رجم الزاني بالحجارة حتى الموت إن كان متزوجاً ، والجلد والتغريب إن لم يكن متزوجاً ، ليحصل بذلك الارتداع والابتعاد عن هذه الفاحشة القبيحة ، والزنا من أكبر الكبائر بعد الكفر والشرك بالله وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ، قال
عليه وسلم : [ اجتنبوا الكبائر وسددوا وأبشروا ] ( أحمد في صحيح الجامع برقم 146 ) .
وهو محرم بكتاب الله وسنة نبيه
عليه وسلم وإجماع الأمة الذي نقله كثير من أهل العلم ، قال تعالى : { ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا } ( الإسراء 32 ) ، وقال
عليه وسلم : [ لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ] ( متفق عليه ) ، وقال عليه الصلاة والسلام : [ إذا زنى العبد خرج منه الإيمان وكان كالظلة ، فإذا انقلع منها رجع إليه الإيمان ] ( قال الحاكم صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي ) .
فجاء التحريم مواكباً لما تقتضيه الطبيعة البشرية ، ولما يسببه الزنا من أضرار وأمراض بالغة ، سواءً العضوية أو النفسية أو الاجتماعية ، فالزنا يسبب أمراضاً خطيرة وفتاكة بالجسم ، ويؤدي إلى اضطراب المجتمعات ، وتفكك الأسر ، ولا أدل على ذلك من التفكك والضياع الذي تعيشه معظم الأسر الغربية وانحلال الحياء بسبب اقتراف فاحشة الزنا ، فمجتمع لا هم له إلا إشباع شهواته الغريزية ، ولذاته الجنسية ، ذاك مجتمع فاشل هابط ساقط ، ولا يأمن بعضه بعضاً لاستفحال هذه الفاحشة فيهم . فهم معرضون لشديد عقاب الله وأليم عذابه .
فعند إقدام الزاني على الزنا وعند قيامه به في هذه الحالة قد ارتفع الإيمان فوق رأسه فهو بلا إيمان ، ففي هذه الحالة انتفى الإيمان من قلبه وجوارحه حتى يترك هذه المعصية ـ عياذا بالله من ذلك ـ فكيف إذا جاء ملك الموت لتنفيذ أمر الله وقبض الأرواح ، والزناة والزواني في هذه الحالة التي تغضب جبار السموات والأرض ، كيف سيكون المصير ؟ كيف وقد خرج الإيمان وجاء الموت ؟ على أي حال كان هذا الزاني وهذه الزانية ؟ إنهما كانا على حال تُغضب الله العزيز الجبار شديد العقاب ، فالله يمهل للظالم ولا يهمله ، وإذا أخذه لم يُفلته ، بل يأخذه أخذ عزيز مقتدر ، قال
عليه وسلم : [ إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ، ثم قرأ : { وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد } ( هود102 ) ، فهل هناك أقبح من أن يأتي رجل امرأة لا تحل له ؟ وهل هناك أفظع من أن يضع رجل نطفته في فرج حرام لا يحل له ؟ فكيف إذا داهم ملك الموت هؤلاء الزناة ؟ كيف سيكون الخلاص ؟ وأين المهرب والملتجأ ؟ وأين الناصرون ؟ وأين المنقذون ؟ وأين الآمرون بالزنا ؟ وأين شيطانهم الذي دفعهم لارتكاب تلك الفاحشة الشنيعة ؟ إن الشيطان الذي زين لهم القيام بالزنا وهون أمره في قلوبهم سيتخلى عنهم في ذلك الموقف العصيب الرهيب ، ومن ينفع إذا جاء الموت ، وغرغرت الروح وبلغت الحلقوم ، والله لن ينفع العاصي في تلك اللحظة أحد من الخلق أجمعين ـ فنسأل الله أن يحسن خاتمتنا ـ ويرد عليهم الشيطان في قول الله تعالى : { وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لاغالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال إني برئ منكم إني أرى مالا ترون إني أخاف الله والله شديد العقاب } ( الأنفال 48 ) ، ويقول جل وعلا : { وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتمون من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم } ( إبراهيم 22 ) ، ماذا سيقول الزناة لهادم اللذات ؟ ومفرق الجماعات ؟ ماذا سيقولون لملك الموت ؟ أيقولون أمهلنا حتى نتوب إلى الله ، أم يقولون انظرنا حتى نعاهد الله ألا نعود لمثل ذلك ؟ يقول الله جل شأنه في أمثال أولئك : { حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون * لعلي أعمل صالحاً فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها ومن وراءهم برزخ إلى يوم يبعثون } ( المؤمنون 100 ) ، أتدري ما البرزخ ؟ إنه حياة القبر وما أعده الله للزناة والزواني فيه من ألوان العذاب التي لا يعلمها إلا هو سبحانه ، يقول تعالى : { وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لايفرطون * ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين } ( الأنعام 61/62 ) ، وقال تقدس في علاه : { قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوماً ضالين * ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون * قال أخسئوا فيها ولا تكلمون } ( المؤمنون 106/107 ) . إن هناك من العذاب مالا تطيقة الجبال الراسيات ، فضلاً عن أن يطيقه إنسان اكتسى لحماً وعظماً ، أما كان لهؤلاء أن يصبروا على طاعة الله ، ويصبروا عن معاص الله ، ويعلموا أن من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه ، وقد أمروا بترك الزنا والابتعاد عنه وأوجد لهم نبيهم عليه الصلاة والسلام طريقاً ومسلكاً يتبعه من لايستطيع الباءة والقدرة على الزواج من البنين والبنات ، فبين نبي الرحمة والهدى معالم الدين الحنيف لكافة الأمة ، كيف لا ؟ وقد قال الله عن نبيه
عليه وسلم : { لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم } ( التوبة 128 ) ، فهاهو النبي
عليه وسلم يبين الطريق الأمثل لمن لم يستطع الزواج والقدرة عليه بقوله عليه الصلاة والسلام : [ يامعشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ، فإنه أحصن للفرج وأغض للبصر ، ومن لم يستطع فعليه بالصوم ، فإنه له وجاء ] ( البخاري ) ، ثم ماذا بعد الموت ؟ أين مصير الزناة والزواني ؟ يقول تعالى :{ ومن وراءهم برزخُ إلى يوم يبعثون } ( المؤمنون 100 ) ، البرزخ كما قلنا هو حياة القبر ، فماذا سيكون مصيرهم هناك ، إنه تنور ( فرن ) أسفله واسع وأعلاه ضيق يوضع فيه الزناة والزواني ويأتيهم العذاب والنار من تحتهم وهم يصرخون ويصيحون ، فمن ينصرهم في ذلك الموقف العسير ؟
فلا إله إلا الله ، ولاحول ولاقوة إلا بالله .