آخر ملوك الهند المسلمين
من مجلة الحج 1372هـ بقلم الأستاذ عبد المنعم النمر .
نحن نعرف تلك المحاكمات الصورية التي كان الإنجليز يتخذونها وسيلة للانتقام من الشرفاء
المدافعين عن بلادهم و كرامتهم . نعرف محاكمة الزعيم عرابي و إخوانه و نعرف
محاكمة دنشواي و غيرها .. و إنني أسوق في هذا الحديث قصة محاكمة أخرى جرت
في الهند لآخر ملك مسلم كان من سلالة الأسرة التيمورية التركية ( الكاتب يتابع الإنجليز
في كذبتهم و يعتقد أنهم مغول و لكنني سأعدل الخطأ من مغول إلى أتراك ) التي سعدت
الهند في ظلالها أكثر من ثلاثمائة سنة سجل التاريخ فيها أنصع صفحاته للملوك المسلمين
.
((أبو ظفر سراج الدين محمد بهادر شاه)) و قرأت في مصدر آخر( أعلم الدين
بهادر شاه )
هذا هو الملك السيئ الحظ كما تسميه كتب التاريخ الأوردية , كان من الشعراء المجيدين
( كما كان جده الأعلى بابر شاه ) و كنيته التي اختارها لنفسه ( أبو ظفر ) كان
يوقع بها على قصائده فاشتهر بها بجوار اسمه .. تولى الملك في ظل النفوذ الإنجليزي
سنة 1837م و ظل به حتى قامت الثورة و اختاره الثوار رئيسا لهم و لما انتهت الثورة
بالإخفاق قبض عليه و على أولاده و حاشيته , و في طريقهم من مقبرة همايون التي كانوا
قد فروا إليها قتل ضابط إنجليزي ثلاثة من أولاده , و كان ذلك عند إحدى البوابات التي
في سور دهلي في ذلك الوقت و قد تهدم السور و لكن بقيت البوابة مشهورة باسم ( خوني
دروازه ) أي بوابة الدم في نيودلهي للآن , حتى إذا وصلوا للقلعة و حان وقت تقديم
الطعام للملك الأسير قدموا له رؤوس أبنائه في طبق على المائدة .
و قد اختاروا له حجرة ضيقة في قلعته و قصره الذي كان يحكم فيه , و اترك وصف
محبسه هذا لأحد الكتاب الهنديين .. الأستاذ صابر .. حيث يقول في مقال له باللغة
الأوردية نشر بجريدة الجمعية لسان حال جمعية العلماء في 6 أغسطس سنة 1957م :
كان بهادر شاه يستمر في محبسه بالحجرة الضيقة متربعا على سرير بسيط عليه تكية واحدة
, و كان دائما مستغرقا في تفكيره , حتى لم يكن يحس بالإنجليز الذين كانوا يترددون
على محبسه للاستهزاء و الشماتة و على بعد ثلاثة أقدام منه كان يوجد رئيس الحرس , و
على باب الحجرة جنديان مسلمان , و قد جردوه في حجرته من كل شيء حتى الورق و
القلم فاضطر مرة أن ينقش بعض خواطره الشعرية على الجدار و كان شاعرا مجيدا و هذه
الأبيات تصور تفكيره و نفسيته في هذه الفترة العصيبة من حياته يقول فيها , ( أين
القصر الذي أصبح الآن قفرا كان من قبل آهلا بالسكان , و المكان الذي استولى عليه
ابن آوى كان عامرا بالإنسان , و القصر الذي لا نجد فيه الآن إلا الخزف و الحصى و
التراب كان مملوءا بالجواهر و اليواقيت , إن أحوال العالم تتقلب دائما فأين كنت من قبل
و أين أنا الآن ؟! إن الذي لا يذكر الله في رغد العيش أو في وقت الغضب و الطيش لا
يعد من الآدميين ) .
و قد بدأت محاكمته في دهلي في 27 يناير سنة 1858م , و سيق كالمجرمين إلى ساحة
المحكمة المؤلفة من الإنجليز .. ثم وجهوا إليه التهم الآتية :
1 – أنه تعاون مع آخرين في الثورة ضد الشركة مع أنه كان يتقاضى مرتبه منها , و
كان يجب عليه أن يكون وفيا لها .
( كان الأمر قد انتهى بهذا الملك و بعض الذين سبقوه أن جردتهم الشركة الإنجليزية من
كل نفوذ و تولت هي إدارة الشئون العامة باسمهم على أن يكون للملك مجرد الاسم و
السلطة الروحية على الشعب فقط و لا دخل له في الحكم على أن تدفع له الشركة
مخصصاته اللازمة له )
2 – أن ابنه ميرزا مغل تعاون مع آخرين ضد الشركة , مع أنهم كانوا من رعاياها
ففي المدة بين مايو و أول أكتوبر سنة 1957م غدروا و أشاعوا أن بهادر شاه صار له
الحكم في الهند و دبروا المؤامرات لقلب الحكومة الإنجليزية في الهند .
3 – حوالي 16 مايو أمر و شارك في قتل 49 من الإنجليز رجالا و نساء و أطفالا داخل
القلعة كما حرص على قتل الإنجليز أينما كانوا .
و قد رد الملك على هذه التهم بنفيها جميعها و أنكر أنه قاد الثورة أو أمر بقتل الإنجليز و
أعلن أنه كان مغلوبا على أمره و ليس بيده شيء ,
( من كتاب محاكمة بهادر شاه لخواجة نظامي ص 1 , 2 باللغة الأوردية )
و لا شك أنه كان لكبر سنه و ضعفه أثر كبير عليه أثناء محاكمته فقد كان عمره أثناء
محاكمته 85 عاما و في هذه السن و هذه الشيخوخة لم يتورع الإنجليز بعد أن انتصروا و
صارت كل السيطرة في أيديهم عن أن ينكلوا به و يقدموه للمحاكمة على هذه الصورة و قد
استطاعوا أن يقدموا بعض الأدلة على دعواهم كما أنهم سخروا بعض حاشيته و خدمه
للشهادة ضده و مع أنه من الثابت أن بهادر شاه حين تولى السلطة و أصبح في يده زمام
الحكم الفعلي حين الثورة كان أول أمر أصدره أنه لا بد من المحافظة على أرواح الإنجليز
المدنيين و أموالهم و أنه بعد هذا الأمر لم يحصل اعتداء ما على غير المحاربين من
الإنجليز كما اعترف بذلك بعض كتابهم ,
كما جاء في العدد الخاص الذي أصدرته جريدة ( نئي دنيا ) أي الدنيا الجديدة في دهلي
في 16 أغسطس 1957م بمناسبة عيد استقلال الهند .
أقول بالرغم من ذلك فإنهم استمروا في محاكمته و لم يطيقوا صبرا على وجود الملك بدون
محاكمة و بدون حكم بعد أن خلعوه من عرشه ...
فحين انتهت جلسات المحاكمة التي طالب فيها المدعي العام بإعدامه , اتجه رأي الأغلبية
من أعضائها و من كبار القواد في الهند إلى إعدامه , و لكن لورد كايننج الحاكم العام
عارض هذا الرأي و رأى أن يستبدل الإعدام بالنفي , و تم له ما أراد من نفيه خارج الهند
.. نعم .. و لم يطيقوا صبرا حتى على وضعه في أحد السجون بالهند !! .
و في الخميس 17 أكتوبر 1858م نفذ أمر النفي و رحل هو و أسرته و بعض أفراد حاشيته
إلى رانقون عاصمة بورما و كان عدد المرحلين 35 فردا ,
ص 44 من كتاب دهلي كي سندا بالأوردية و معناه عقاب دهلي لخواجه حسن نظامي . و
كان من المرحلين معه زوجه زينت محل و أولاده جوان بخت , كلثوم زماني بيكم ,
رونق زماني بيكم و ابن صغير هو جمشيد بخت . ( أسماء البنات تنتهي ببيكم و هو
لقب التأنيث من بيك التركية على الأرجح )
و حينما نزلوا بهم في رانقون أركبوا الملك عربة مكشوفة للجماهير و كانت بورما تابعة
لحكمهم أيضا و ساروا به إلى مقره في شارع كلكتا في أطراف المدينة و خصصوا له مكانا
و لزوجته و أولاده مكانا بجانبه و وضعوا الجميع تحت حراسة مشددة ..
و في أول نوفمبر 1858م في عهد الملكة فكتوريا صدر قرار بنقل حكم الهند من الشركة
إلى يد الحكومة البريطانية و تم تعيين أول حاكم عام من قبل الملكة و هو لورد كايننج و
أصدرت الملكة بيانا بذلك و بخطتها في حكم الهند وجهته إلى الأمراء و الزعماء و الأمة
الهندية .
و بذلك انتهى الحكم الإسلامي رسميا في الهند بعد أن استمر ثمانية قرون و نصف و ظل
الإنجليز يحكمون الهند حتى خرجوا منها مكرهين سنة 1947م . و بودي أيها القارئ أن
استصحب معك هذا الملك السيئ الحظ في منفاه لنر ما فعل الإنجليز معه في لحظاته
الأخيرة , و أيضا بعد هذه اللحظات .
ظل في محبسه المنعزل حتى وافته المنية في عصر يوم الجمعة 14 جمادى الأولى 1279
هـ/ 7 نوفمبر 1862م و قد بلغ من العمر 89 سنة و كان عمره حين تولى العرش سنة
1837م ستين سنة .
و هكذا انطفأت آخر ذبالة من مصباح الأسرة التيمورية التي حكمت الهند منذ أن فتحها بابر
شاه سنة 932هـ 1526م .
مات في محبسه على سرير حقير و ما حوله أحد إلا زوجته زينت محل و ولداه و أخفى
الإنجليز خبر وفاته , و بالغوا في إخفاء الخبر حتى دفنوه قريبا من محبسه و لم يحضر
دفنه إلا طبيبه الخاص و حافظ محمد إبراهيم أستاذ ابنه جوان بخت حيث توليا تكفينه و
تجهيزه و حفر قبره و دفناه , فكانا آخر من لازم الملك التركي حتى أسلماه إلى أمه
الأرض .
و قد تولى الإنجليز حراسة قبره مدة طويلة و لم يكن للقبر أية علامة أو بناء عليه و لذا
كادت تضيع معالمه بعد ما نبتت عليه الحشائش و داسته الخيل بحوافرها حيث كان ميدان
التدريب بجانبه .. و ما كانت هناك علامة تدل على قبره إلا شجرة السدر القريبة التي
ظلت في أذهان الناس تشير إلى مكانه , و ظل القبر مهملا مدة طويلة من الزمن لم يجرؤ
أحد على التحدث عنه و إقامة مبنى عليه فقد كان الإنجليز يمنعون أي أحد من زيارته و
يعملون على إضاعة معالمه حتى لا يتذكر الناس كلما تجمعوا حوله غدرهم و ظلمهم و
بشاعة انتقامهم .
و لقد حاول بعض المسلمين المخلصين بعد سنة 1915م أن يقنعوا الحكومة الإنجليزية في
بورما بإقامة مبنى أو سور حول القبر و لكن جهودهم كانت تذهب أدراج الرياح أمام تعنت
الإنجليز و إصرارهم على محاربة قبر لم يعد يضم بعد هذه المدة إلا ترابا في الوقت الذي
عنوا فيه ببناء مقبرة عظيمة على رماد أحد ملوك البراهمة الهندوس بالهند , و ظل الأمر
كذلك حتى تألفت لجنة من المسلمين في بورما لجمع اكتتابات لبناء المقبرة و في سنة
1932م ذهب وفد إلى ملك حيدر أباد في الهند يطلب مساعدته فرفض , و لعله راعى في
رفضه عواطف سادته الإنجليز فذهب الوفد إلى بومباي و بيدهم خريطة هندسية لمشروع
المبنى و لكنهم لم يظفروا إلا بأربعة آلاف روبية غطت مصاريف رحلتهم فقط و كان الناس
يخشون الإنجليز و تعسفهم إن تبرعوا بشيء لهذا المشروع فرجع الوفد خائبا .. و لم
تظفر مقبرة سلطان الهند من أهل الهند بشيء .. و لكن الجهود تضافرت بعد ذلك
برئاسة الحاج داوود أحمد البورمي حتى تم بناء المقبرة سنة 1946. نعم سنة 1946م بعد
نحو قرن من الزمان و الإنجليز يحاربون عظام القبر أو على الأصح ترابه !!
و المقبرة التي بنيت بعد نحو قرن عبارة عن سور في وسطه قبر الملك و زوجته زينت
محل و بنته رونق زماني بيكم و بجانبه بيت من الخشب مغطى بالصاج لإقامة الزوار و على
يمينه مسجد و بيت للطعام من الخشب بعد أن أصبح مزارا للناس من كل ناحية ..
و مما يجدر ذكره في هذا المقام أن القائد الهندوسي المشهور ( سبهاش تشندربوس )
الذي قام على رأس قوة ضد الإنجليز أثناء الحرب العالمية الثانية , ذهب إلى قبر ملك
الهند السابق في سبتمبر سنة 1943م و أدى له التحية العسكرية تقديرا لموقفه الخالد في
محاولته إخراج الإنجليز سنة 1857م و عاهد الله أمام قبره أن يظل مجاهدا ( لو قال
مناضلا لكان أفضل ) حتى تتحرر الهند و يخرج الإنجليز و تتحقق أمنية الملك المظلوم
الراقد بعيدا عن وطنه ... ثائر يحيي رفات ثائر ...
و قد أرسل إلي أحد الأصدقاء بعد أن زارني و عرف اشتغالي بوضع كتاب عن تاريخ الهند
عددا مخصوصا من مجلة " دور جديد " الأوردية التي يصدرها في رانقون الأستاذ
إبراهيم مظاهري بتاريخ 23 ديسمبر 1956م حوى الكثير من المعلومات عن الملك المظلوم
و قد حلى غلافه بصور للمقبرة و ما كتب عليها :. أرى من المناسب تتميما للبحث أن
أثبت هنا تلك الكلمات التي نقشت على واجهة المقبرة بعد أن تم بناؤها و ها هي ذي :
اليوم بتاريخ 7 نوفمبر 1862م – 14 جمادى الأولى 1279هـ يوم الجمعة صعدت الروح
التي استقرت في بهادر شاه 89 سنة و ودعت جسده إلى الأبد , فغربت شمسه و فاضت
كأس عمره , و احتضنت أرض رانقون آخر مصباح في الأسرة التيمورية , ولد في
جهان أباد و لكنه عانى سكرات الموت بعيدا عن الوطن بآلاف الأميال على سرير بسيط
حقير , و كانت حياته ربيعا حافلا بالخدم و الحشم و لكنه مات و ما حوله إلا ثلاثة :
زوجته و ولداه , و قبل أن تغرب شمس النهار فاضت روحه بعد ما عرف العالم حالة
أسرته المنكودة ؛ فاستقر الجوهر اللامع من دهلي في أرض رانقون فاعتبروا يا أولي
الأبصار .
و تحت هذه العبارة المؤثرة كتب تاريخ وفاته في بيتين من الشعر الأوردي ترجمتهما :
في أربعة عشر من جمادى الأولى يوم الجمعة وقت العصر , كانت هذه اللحظة لحظة
حاسمة في تاريخ الغربة و السجن , قال فيها ملك الموت لملك الهند و هو بعيد عن وطنه
إن جنة الخلد هي وطنك يا ظفر يا غريب الوطن .
و قد توفيت زوجته في 17 يوليو 1886م أما ابنته المدفونة معه أيضا فقد توفيت في 21
أبريل 1930م .
و تشتت الأسرة في بورما و لم يعد لها ذكر هناك أما في الهند فقد عنيت بالسؤال عن ذرية
الأسرة المالكة التركية و لم يمض على زوال ملكها إلا مائة سنة ( وقت كتابة المقال )
فلم اهتد إلى أحد منها , و غاية ما علمته مما يتـناقله الناس , أن منهم بعض الخدم في
البرلمان و غيره من الأمكنة .
و هكذا قضي على هذه الأسرة نهائيا بعد أن حكمت الهند ثلاثة قرون و نصف و أصبحت
الهند لا تعرف أحدا من أعقاب هذه الأسرة التي خلدت أمجادا في الهند لا تزال موضع
فخرها و عزها , لم يعد لها ذكر إلا في الآثار المجيدة النادرة التي خلفتها , و إلا في
بطون الكتب و في أشعار جيدة تركها الملك الشاعر المظلوم و لا يزال كثير من عامة الناس
و خواصهم يرددون في ألم و حسرة تلك الأبيات الحزينة التي فاضت بها شاعرية الملك
الحزين يناجي بها رسول الله صل الله عليه و سلم و هو في وحدته الموحشة و إنني لا
أستطيع أن أنقل للعربية تلك الأبيات بما هي عليه من روعة و موسيقى حزينة و مع ذلك فلا
أحب أن أتركها دون أن أضعها أمام القراء فلعلهم يسكبون – كما سكبت – دمعات
حزينة مع دموع هذا الملك الشاعر المظلوم , دمعات على ملك ذهب و ملك للمسلمين
تولى :
(( يا رسول الله ... ما كانت لي أمنية إلا أن يكون بيتي في المدينة بجوارك
و لكنه أصبح في رنقون و بقيت أمنياتي مدفونة في صدري
يا رسول الله ... كانت أمنيتي أن أمرغ عيني في تراب أعتابك
و لكن ها أنا ذا أتمرغ في تراب رنقون
و بدلا من أشرب من ماء زمزم بقيت هنا أشرب الدموع الدامية ...
فهل تنجدني يا رسول الله.. ولم يبق من حياتي إلا عدة أيام".
و كان أمر الله قدرا مقدورا .