تحقيق استقصائي يكشف فداحة التهويد والاستيطان بالقدس
2/2/2014
لا توجد بقعة واحدة في القدس المحتلة، إلا وتتجسد فيها أشكال متعددة من جرائم الاحتلال، التي تستهدف أساسا اقتلاع الفلسطينيين وزرع البؤر الاستيطانية من أجل تغيير معالم المدينة كليا، خصوصا في البلدة القديمة والأحياء المجاورة.
والبلدة القديمة، هي كيلومترواحد مربع، تتجه إليها أنظار مليارات بني البشر، لما تضمه أسوارها العتيقة من أماكن مقدسة إسلامية ومسيحية، وأبرزها المسجد الأقصى وكنيسة القيامة، إلا أن الاحتلال جعل من هذه البقعة حالة مأساوية، تشكل نماذج للغالبية الساحقة من جرائم الاحتلال من استيطان وتغيير معالم المكان وهويته، وتضييق الحياة على الأهالي، الذين بغالبيتهم الساحقة يعيشون في بيوت صغيرة، يصعب الوصول والدخول إليها، ولكن صمود الأهالي يشكل أسطورة في معركة البقاء.
زرع الاحتلال عدة بؤر استيطانية في البلدة، منها الكبيرة، ومنها تلك التي فرضت على عائلات فلسطينية تقاسم بيوتها، بفعل عقود بيع وشراء مزورة، وهناك المأساة الكبرى. كما لم تكن الأنفاق التي يحفرها الاحتلال تحت وفي محيط المسجد الاقصى، اعتداء على المكان المقدس فحسب، بل أدى إلى تصدعات وتشققات البيوت المجاورة.
وخلال جولة على مجموعة من البيوت التي جرت وتجري من تحتها حفريات ترى مشاهد في غاية الخطورة، فأحد البيوت تظهر عليه التصدعات في كل مكان، وهو ليس من البيوت التي تركها أصحابها، بل وضعيته الهندسية جيدة جدا ومرممة بما يليق، ولكن التصدعات ضربت الأسقف والأرضية، ولا توجد غرفة واحدة أفلتت من خطر التصدعات.
وليس هذا فحسب، بل محظور على هذه العائلة أن تستنشق الهواء على سقف بيتها الجميل، وأن تجلي عيونها ببريق قبة الصخرة المشرفة، التي تبعد بضعة عشرات الأمتار، فالمحتلون وبتوصية من عصابات المستوطنين يمنعون العائلة من الصعود إلى السقف، إلا للقيام بمهمة قصيرة ومغادرته فورا، إذ إن شرطة الاحتلال بالمرصاد، وإذا غابوا فإن المستوطنين بصغارهم قبل كبارهم لا ينتظرون إذنا ليلقوا الحجارة على أهل البيت.
في بيت آخر، لا يبدو الوضع أفضل، فالمرور إجباري عبر زقاق ضيق جدا ومعتم للوصول إلى ما لا يمكن احتماله، حيث بيت متواضع فيه أطفال، قد وصلته الحفريات الإسرائيلية، فانهارت عتبة المدخل، ليغطوا الحفرة الكبيرة بألواح خشبية هشة، ما يشكل جريمة ترتكب في رابعة النهار.
في كل بيت أو متجر يسمع المستطلع الحكاية ذاتها، اذا يجمع المقدسيون على ان الاحتلال ومستوطنيه "عرضوا علينا أموالا كثيرة لشراء البيت"، مؤكدين "والله كل نقود الدنيا لا تجعلنا نبيع ذرة تراب من هذا البيت، إنه بيتي وهويتي ورثناه عن أجداد أجدادنا".
ولكل البيوت رواية وتاريخ ولكل بيت شوق للعائلة وأكثر، ولكن في أحد البيوت رواية وتاريخ، إنه بيت عائلة الإمام، بيت عريق انقضت عليه عصابات المستوطنين لتسيطر عليه، ولكن النضال أثمر، رغم ان المستوطنين سيطروا على غرفة أو أكثر منه، وهذا البيت هو بيت خال القائد الفلسطيني الراحل ياسر عرفات.
وأحد أحياء البلدة القديمة هو "حي القرمي"، ويعيش فيه أكثر من 150 مقدسياً من أطفال ونساء وشيوخ، وقد طالت منازلهم انهيارات وتشققات تهدد حياتهم منذ العام الماضي 2013، ما اضطرهم إلى إخلاء مساكنهم، ورغم كل أعمال الصيانة التي جرت سابقا وتجري حاليا مجددا، إلا أن المنازل مهددة بالانهيار في أية لحظة بسبب ما يجري اسفل حي القرمي، ويضاف إليه استيلاء قطعان المستوطنين على عدد كبير من العقارات في المنطقة، والتي تعمل جاهدةً لتهجير ما تبقى من المواطنين المقدسيين في الحي.
وعن ذلك قالت الحاجة المسنة فريدة أسعد الجعبري لـ"الغد"، إن "أحياء البلدة القديمة بكاملها معرضة لتهويد والاستيلاء وليست حي القرمي فقط، لأن المستوطنين متواجدون بكثرة في هذه البلدة، ويسعى الاحتلال لتهجير ما تبقي من المقدسيين المرابطين لخارج حدود القدس حتى تبقى المستوطنين بالمكان.
وأضافت الجعبري :"أعيش في هذا البيت مع عائلتي، وقد تشقق بالكامل وكأن زلزالاً هز المدينة، كل هذا بسبب ما يجري من حفريات أسفل أحياء البلدة القديمة، موضحةً ان العمل يجري تحديداً أثناء نوم المواطنين إذ تسمع اصوات الآلات التي تستخدم للحفريات بشكل واضح واهتزاز في جدران المنزل بشكل قوي".
وأكدت الحاجة الجعبري "أريد ان ابقى في منزلي حتى آخر يوم من عمري، ولكن نطلب من الجميع بأن يهتموا بقضية المواطن المقدسي الذي يخوض صراعا صعبا في ظروف معقدة"، مضيفة "نصارع من أجل البقاء بينما نسمع عن دعم لا نراه".
وطالبت المسؤولين الفلسطينيين والعرب والمسلمين بأن لا يتخلوا عن القدس، وأن يسلطوا أنظارهم للعمل على بقاء وصمود المواطنين ومساندتهم معنوياً ومادياً للتخفيف عن كاهلهم، خاصة أن القدس تمر بظروف اقتصادية صعبة.
حي الشيخ جراح
وبموازاة سعي سلطات الاحتلال وعصابات المستوطنين للسيطرة على أكثر ما يمكن من البلدة القديمة، فإنها تسعى أيضا للسيطرة على الأحياء القديمة التي تحيط بالبلدة القديمة من الخارج، ففي الماضي سعت إلى زرع بؤر في حي المصرارة المقابل لباب العمود، إضافة إلى زرع بؤر في حيي رأس العمود وسلوان، جنوبي البلدة القديمة، وجبل الزيتون، في شرق البلدة، والشيخ جراح شمال البلدة القديمة، وتقريبا كل الجرائم متشابهة، وإن كان التركيز أكثر حاليا على حيي سلوان والشيخ جراح، الذي طرد منه الاحتلال عدد من العائلات المقدسية في السنوات القليلة الماضية، وسلم بيوتها لعصابات المستوطنين الإرهابية، بزعم ملكية مزيفة، منذ ما قبل العام 1948.
ويقول المواطن محمد شماسنة أحد اصحاب المنازل المهددين بالطرد من حي الشيخ جراح وسط مدينة القدس المحتلة إن الاحتلال الإسرائيلي صعد من الهجمة على الحجر والبشر في مدينة القدس، ويعمل على مواصلة مشاريعه الاستيطانية في احياء المدينة لتهجير أهلها الحقيقيين.
ويضيف شماسنة "كثيرا ما نسمع عبر وسائل الإعلام حول الحديث عن المفاوضات والسلام بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي من أجل حلول مشاكل كثيرة عالقة منذ احتلالها لليوم الأول للمدينة، موضحاً عن أي سلام يتحدثون، بينما نتعرض ويومياً في المدينة لهجوم يستهدف وجودنا وبقاءنا فيها من قبل الاحتلال، وهذا من خلال عدة وسائل ومسارات، مثل رفع ضريبة المسطحات الباهظة جدا، وغيرها من الضرائب والرسوم البلدية، وأيضا هجمات من قبل مؤسسة الضمان الاجتماعي الحكومية، إضافة إلى كل أشكال التمييز ضدنا، إذ إن المستوطنين يتمتعون بامتيازات على حساب وجودنا في المدينة.
وأشار شماسنة، إلى أن منزلهم الكائن في حي الشيخ جراح مهدد بالاستيلاء عليه من قبل أربع عائلات من المستوطنين التي تدعي ملكيتها للعقار قبل العام 1948، موضحاً أنه في السنوات الأخيرة استولت قطعان المستوطنين على عدد من البيوت بدعم من سلطات وحكومة الاحتلال، ومن خلال وثائق مزورة أقرت بها محاكم الاحتلال، ما أدى إلى تهجير عائلات فلسطينية عن الحي، وزرع المستوطنين بدلاً منهم، ولا يكتفي المستوطنون بهذا، "بل يعملون على تنغيص حياتنا في الحي الذي ولدنا ونشأنا فيه، وأقمنا عائلات، وعائلات الأبناء، ونراهم يوميا ينكلون بالنساء والأطفال والرجال، فتهرع قوات الاحتلال لتعتقل العشرات منا نحن الفلسطينيين بحجة التصدي لقطعان المستوطنين".
من جهة أخرى تعتزم بلدية الاحتلال إنشاء مبنى مكون من 9 طوابق في الحي على مساحة قاعدة تفوق ألف متر مربع، وسيكون حجم البناء الكلي متعدد الطبقات أكثر من 9600 متر مربع، بهدف إقامة مقر لمعهد ديني يهودي يستقدم أعدادا هائلة من المستوطنين لتثبيت بؤرتهم الاستيطانية في الحي. وسيقام المبنى الاستيطاني الجديد في أرض خالية تعود ملكيتها لإحدى العائلات الفلسطينية، ولكن سلطات الاحتلال صادرتها ووضعتها بيد ما يسمى "دائرة أراضي إسرائيل"، وأخلت سابقا عائلة كانت تعيش في المكان ببيت من الصفيح.
ويرى الفلسطينيون بهذا المشروع الاستيطاني الجديد خطورة كبيرة، سيغير الكثير من معالم الحي، نظرا لما سيتبعه من أنظمة سير وإجراءات يفرضها الاحتلال حول المبنى، ما يجعل حياة الفلسطينيين في الحي وفي كل المنطقة المحيطة مستحيلة.
وقد واجهت إسرائيل بعض الانتقادات في الآونة الأخيرة بسبب هذا المشروع، ومنها اعتراض أميركي، ولكن الأمر لم يصل إلى حد الصدام مع الحلبة الدولية، ما يزيد من خطورة تنفيذ المشروع، خاصة أن دوائر سلطات الاحتلال ماضية في إنجاز تخطيطه.
سلوان
ورغم تشابه الجرائم، إلا أن المؤامرة مختلفة على حي سلوان الذي يبعد بضع مئات من الأمتار عن المسجد الاقصى المبارك، إذ زرع الاحتلال بؤرة استيطانية من خلال تزييف وثائق، وقد بلغ حد التزييف إلى درجة أن وسائل الإعلام العبرية لم تستطع التستر على حجم المؤامرة حينما ظهرت قبل عدة سنوات. كذلك، تسعى عصابات استيطانية تربط نفسها بما يسمى "هيكل سليمان" المزعوم، باختلاق اساطير وأكاذيب تنسبها للتوراة، مثل أن حي سلوان كان ما يسمى "حديقة داود"، أي ان النبي داود كان يتجول في حديقة في المكان، وهذه خرافات مختلقة، فقط من أجل تبرير المؤامرة للسيطرة على الحي، أمام أوساط من الجمهور الإسرائيلي.
وتدعي سلطات الاحتلال أنها أصدرت أوامر تدمير لـ22 منزلا في منطقة "حي البستان" الأكثر استهدافا في الحي، ولكن أهالي الحي يؤكدون أن الحديث يجري عن 80 منزلا، إذ إن البيوت المهددة بالتدمير تنتشر على 60 % من مساحة حي البستان، وتعرض بلدية الاحتلال على العائلات المستهدفة أن تلجأ إلى جيرانها ليبنوا بيوتهم فوق البيوت القائمة، ومن المفارقة، أنه على الرغم من أن بلدية الاحتلال ترفض ترخيص البيوت المقامة على أرض وقفية منذ الفترة العثمانية، وهناك وثائق تؤكدها، إلا أنها تجبي عنها ضريبة المسقفات.
ويضاف إلى هذا، أن في حي سلوان ثمة 600 بيت إضافي مهددة بالتدمير تحت ذريعة "عدم الترخيص"، ما يرفع عدد البيوت المهددة إلى 680 بيتا. ويشير مركز معلومات "وادي حلوة" إلى أن طواقم بلدية الاحتلال وزعت منذ مطلع العام الحالي 30 أمر هدم على منشآت سكنية ورياضية وتجارية في سلوان، بحجة البناء دون ترخيص. وهذا عدا عشرات الإنذارات في أحياء أخرى في المدينة.
ويقول ابن حي سلوان أحمد صيام، إن بلدية الاحتلال فرضت عليه مخالفة بناء تجاوزت قيمتها 20 ألف دولار، وعلى الرغم من أنه اضطر لدفعها كاملة، إلا أن بلدية الاحتلال ترفض استصدار ترخيص للبيت، رغم تعهدات سابقة، ما يعني أن البيت يبقى مهددا بالتدمير في أي وقت.
ويقول صيام إن الأوضاع في مدينة القدس على أرض الواقع تختلف اختلافاً كلياً عما يثار في مباحثات السلام الأميركية الفلسطينية الإسرائيلية، لأن ما نراه على الأرض هو استمرار في الاستيطان بشكل واسع، واستمرار السعي للسيطرة على أحياء سلوان، وخاصة تلك القريبة من الأقصى، وكل يوم يدعون أنه تم كشف آثار تعود لآلاف السنين، ولكن لا نرى شيئاً على أرض الواقع، والهدف هو خلق مبررات للسيطرة على الحي.
وأوضح صيام، أنه حسب ما يسمعه أهالي الحي، فإن الاحتلال وضع له هدفا بالسيطرة الكاملة على المنطقة التي يريدها من حي سلوان الواسع حتى العام 2020، وبذلك يسعى الاحتلال إلى تغيير الطابع الإسلامي العربي في المدينة.
تدهور متسارع في أوضاع القدس اقتصاديا واجتماعيا
يعاني الفلسطينيون في القدس المحتلة، أسوأ الأوضاع الاقتصادية الاجتماعية، نتيجة أسباب تراكمية فرضها الاحتلال فورا منذ العام 1967، ويصعدها بشكل دائم، فمحاصرة المدينة وتقسيمها بجدار احتلالي خطير ضرب اقتصادها الذي ارتكزت عليه تاريخية، استنادا إلى تواصل المدينة مع محيطها والضفة الغربية وقطاع غزة، وتدفق السياحة العالمية عليها، ولهذا فإن الاحتلال وضع خطة استراتيجية مبرمجة، لجعل الفلسطينيين في المدينة شريحة اقتصادية اجتماعية ضعيفة يكون همها الاساسي أن تلهث وراء قوت يومها، وبالتالي دفع أعداد كبيرة منهم على الرحيل.
من الصعب التوصل إلى معطيات دقيقة حول نسب الفقر والبطالة، كون أن قسما كبيرا من الأهالي الفلسطينيين ليسوا مسجلين في سجلات الاحتلال ولا في سجلات السلطة الفلسطينية، ولكن حسب تقديرات نشرتها جمعية حقوق المواطن الإسرائيلية، فإن 78 % من الفلسطينيين في القدس المحتلة يعيشون تحت خط الفقر، وترتفع هذه النسبة بين الأطفال إلى 84 %، بينما من الصعب معرفة نسبة البطالة الدقيقة، بسبب طبيعة سوق العمل التي فرضها الاحتلال، إذ يكثر في المدينة طابع العمل غير المنظم والمسجل، وفي هذا النوع من العمل تكون الرواتب متدنية جدا، ومن دون شروط اجتماعية، ولكن إذا عرفنا أن نسبة البطالة بين فلسطينيي 48 تتراوح ما بين 23 % إلى 25 %، فإن هذه النسبة أعلى في القدس المحتلة.
وفي حديث لـ"الغد" يقول المدير العام لـ"مركز القدس للحقوق الاجتماعية والاقتصادية" زياد الحموري، إن اقتصاد مدينة القدس تاريخيا وحتى الاحتلال في العام 1967، كان يرتكز على السياحة الداخلية والخارجية، وقد بدأ الاحتلال منذ العام 1967 بضرب السياحة العالمية، فبطبيعة الحال أدى احتلال المدينة إلى وقف السياحة الإسلامية والعربية، وفي المقابل، بدأ الاحتلال بتوجيه السياحة العالمية إلى فنادقه في القدس الغربية، والسيطرة على حركة تلك السياحة من خلال مكاتبه، ولاحقا زرع ثلاثة فنادق ضخمة في القدس الشرقية لضرب الفنادق الفلسطينية، فحتى العام 67 كان في المدينة 2200 غرفة فندقية، وهبط عددها اليوم إلى 1400 غرفة.
وتابع الحموري قائلا، إنه ابتداء من نهاية العام 1987، بدأ الاحتلال يفصل المدينة عن سائر أنحاء الضفة الفلسطينية وقطاع غزة، بزرع عشرات الحواجز حول المدينة، ومنع الفلسطينيين من دخولها إلا بتصاريح، وكان ذلك في فترة انتفاضة الحجارة، واستمر الحال إلى أن بدأ مشروع جدار الفصل الاحتلالي في الضفة الغربية ومن ثم في القدس المحتلة.
ويضيف الحموري، أن هذا الحال لم يضرب الاقتصاد السياحي فحسب، بل أيضا القطاع التجاري في المدينة، إذ أن القدس كانت مدينة مركز لعشرات القرى التي تحيط بها، عدا عن أنها مدينة مركزية في الضفة، وهذا الحال أدى إلى ضرب اقتصاد التجار وتحويل قسم كبير منهم إلى شريحة ضعيفة، تهدف إلى ضمان ما يسد قوت يومها، ويؤكد أن في البلدة القديمة ما لا يقل عن 250 متجرا مغلقا كليا، إضافة إلى عشرات المتاجر التي تعاني من أوضاع سيئة للغاية تهدد بإغلاقها.
وما يقوله الحموري، ملموس بشكل واضح في أسواق البلدة القديمة، فالمشهد الغالب إما حوانيت مغلقة، أو مجموعات تجار تجلس في حلقات أمام حوانيتها، ورغم أن المنافسة بينهم ضرورية على ضوء تشابه البضائع المعروضة، إلا أنهم التقوا على الهم الواحد، ويضيف، إن ضعف الحركة التجارية، يحول مركز المدينة بعيد غياب الشمس إلى "مدينة أشباح" خالية من المارّة، ولا توجد حياة ليل، بينما الوضع مختلف في ضواحي ضخمة فصلها الجدار عن مركز المدينة.
وليس هذا فحسب، فإن ضرب القدس اقتصاديا، يعني ضرب اقتصاد الكثير من القرى الزراعية في محيطها، التي كانت تعتمد على "تصدير" مزروعاتها إلى القدس، وبعد فصلها عن المدينة بالجدار الاحتلالي، باتت تبحث عن أسواق في داخل الضفة، ولكن المشكلة هناك أن تلك الأسواق تعتمد على قراها المحيطة، وتبرز هذه القضية في قرى شمال القدس المحتلة، التي كانت مرتبطة كليا بالقدس وكأنها جزء منها، مثل قرية بير نبالا وجوارها. وبشأن المفاوضات الجارية، يقول الحموري، إنه ليس متفائلا، إذ لا توجد مؤشرات تدفع إلى هذا التفاؤل إن كان بسبب الموقف الإسرائيلي المتعنت، أو بسبب الموقف الأميركي المساند عمليا للاحتلال، أو بسبب الحالة الفلسطينية الداخلية، التي لا يمكنها بوضعية كهذه أن تشكل أداة ضغط على الاحتلال.
ويبقى هناك حديث بعيدة عن الإعلام لما فيه من حرج، ولكن المجتمع الفلسطيني المقدسي، هو ككل المجتمعات في العالم، فأينما حل البؤس الاجتماعي كان منسوب الآفات الاجتماعية أكبر، ومدينة القدس تعاني من استفحال الجريمة ومن انتشار مقلق للمخدرات، ومن المؤكد أن سلطات الاحتلال التي تفرض قوتها على المدينة، هي آخر من يكون معنيا بفرض السلم المجتمعي ومكافحة هذه الآفات، ما يعني استمرار استفحالها، وهذا مصدر قلق كبير في المدينة.
إسرائيل "تُجنّس" 20 ألف مقدسي
أظهرت جولة لـ"الغد" على شخصيات مقدسية، ان قلقا كبيرا يساورها على مصير المدينة، مشددين على التمسك بالموقف الوطني العام، والتأكيد على عدم وجود حل نهائي من دون أن تكون القدس عاصمة للدولة الفلسطينية.
ولفتوا إلى الواقع المأساوي الذي تعيشه المدينة على مختلف المستويات، موضحين أن ما لا يقل عن 20 ألف مقدسي قد طلبوا وحصلوا على الجنسية الإسرائيلية، إلا أن هذه الظاهرة آخذة بالتراجع كثيرا من الآونة الأخيرة.
يقول الدكتور محمد جاد الله، إن واقع المدينة مأساوي بكل معنى الكلمة، فالمعاناة على مستوى الفرد والمجتمع كبيرة جدا وتتفاقم باستمرار، ولكن في المقابل فإن الوعي عالٍ جدا، فالمقدسيون واعون لكل مخططات التهويد والأسرلة التي يمارسها الاحتلال على الأرض، ولكنهم يشعرون أن لا ظهير لهم، وأن السلطة الفلسطينية والعالمين العربي والإسلامي لا يساندونهم بالقدر الذي يعلن عنه رسميا في الخطاب الرسمي، بينما الاحتلال يصعد ممارساته الاستيطانية وممارسات تضييق الخناق.
وحذر د.جاد الله من مؤامرة تهويد وأسرلة المدينة، فوفق المعطيات التي بين أيدينا، يظهر أن نحو 20 ألف من المقدسيين طلبوا وحصلوا على الجنسية الإسرائيلية، ولكن هذه الظاهرة آخذة بالتراجع بشكل ملحوظ، لأنه حتى قبل فترة كنا نرى جموعا من الأجيال الشابة اليائسة تتوجه إلى مكاتب الاحتلال بطلب الحصول على الجنسية، ولكن بعد أن تبين أن لا اساس لكل الوعود بالامتيازات تراجعت هذه الظاهرة كثيرا في الآونة الأخيرة، كما أن سلطات الاحتلال باتت ترفض غالبية الطلبات.
وحول الحراك السياسي الحالي، الذي بادرت له الولايات المتحدة، يقول د.جاد الله، إننا لسنا متفائلين من هذا الحراك، لأن الموقف الأميركي الرسمي يحمل البرامج الإسرائيلية ويحاول إجراء بعض التعديلات التجميلية عليها، فالبرامج الأميركية والإسرائيلية تبدو لنا واحدة، بمعنى أن كل الأرض هي أرض يهودية والحديث هو فقط عن "منح بعض الامتيازات للسكان"، وأشار إلى أن الإدارة الأميركية باتت تتبنى ما يسمى بـ"يهودية الدولة"، وتريد فرضه على الجانب الفلسطيني.
وأضاف د.جاد الله قائلا، إنه على ضوء الوضع القائم، فأيضا لا أمل بأي حال للقدس في ظل الظروف القائمة، متمنيا أن تتمسك القيادة الفلسطينية ممثلة بالرئيس محمود عباس، بموقفها المعلن من مدينة القدس، في كل قنوات التفاوض، المباشرة أو السرية إن وجدت، كما قال.
ويقول الشخصية المقدسية عبداللطيف غيث، إنه كما هو واضح، فإن ملف القدس ليس مطروحا من قبل الجانب الإسرائيلي في هذه المفاوضات، وحينما يتم طرحه، فإن الجانب الإسرائيلي يخرجه من سياقه ويضعه في السياق الذي يريده الاحتلال، ونحن نرى وجود شبه اجماع إسرائيلي في ما يتعلق بالقدس، كي تبقى ما تسمى "العاصمة الأبدية لإسرائيل"، وأن ممارسات الاحتلال على الأرض تصب في هذا الاتجاه.
وتابع غيث قائلا، إن أقصى ما تعرضه إسرائيل هو أن يكون التواجد الفلسطيني الرسمي في أحياء وضواحي محسوبة على القدس، ولكنها ليست ضمن منطقة نفوذ المدينة كما حددها الاحتلال، مثل أن يكون مقر الدولة الفلسطينية في بلدة أبو ديس، كذلك يعرض الاحتلال الإسرائيلي أيضا، أن تكون المسؤولية الفلسطينية في القدس على بعض النواحي المدنية المتعلقة بشؤون المواطنين، وكل هذا مرفوض فلسطينيا.
ويرى غيث أن الجانب الفلسطيني المفاوض "ارتكب خطيئة كبرى" منذ بدء المفاوضات قبل 20 عاما، حينما قبل بتأجيل قضية القدس إلى مفاوضات الحل النهائي، وهذا ما فسح المجال أمام الاحتلال بفرض وقائع كثيرة على الارض لتدمير احتمالات الانسحاب من المدينة المحتلة. ويعمل الاحتلال على أساس معادلة أقل ما يمكن من السكان العرب على أقل ما يمكن من الأرض الفلسطينية في المدينة، وتوسيع الاستيطان إلى أقصى الحدود.
ويؤكد غيث أن حياة المواطن المقدسي باتت جحيما نتيجة الممارسات الاحتلالية اللاإنسانية واللاأخلاقية، عدا عن عدم شرعيتها، وتراه يدافع عن وجوده وعن تفاصيل حياته اليومية، عدا قضيته الأساسية، وبهذا يهدف الاحتلال إلى انهاك المجتمع الفلسطيني المقدسي ليكون عاجزا عن المقاومة.
ويقول الناشط السياسي المقدسي مأمون العباسي، إن ما نشهده من حراك واتصالات دولية ومفاوضات، ما هو إلا مجرد حوار بصوت عال، ولا يوجد أي مؤشر إلى قرب التوصل إلى اتفاق، كما أن ما يشاع عن حراك وزير الخارجية جون كيري، وما يسمى بـ"اتفاق الإطار"، لا نعتقد أنه أمر واقعي، ونحن نرفض أي اتفاق مرحلي يعيدنا إلى مطب اتفاقيات اوسلو التي عملت على تأجيل القضايا الجوهرية إلى الحل النهائي.
ويتابع العباسي قائلا، إن قضية القدس هي قضية حاسمة في الحل النهائي، لأن القدس هي عاصمة الدولة الفلسطينية ولا نقبل بأي حلول جزئية، أو الحديث عن تواجد فلسطيني في بعض الأحياء، وما نقبله إلى جانب أن تكون القدس عاصمة، أن تكون أيضا عاصمة مفتوحة للديانات وسهولة الوصول إلى الأماكن المقدسية. وحول احتمالات التوصل إلى حل في ظل الحكومة الإسرائيلية القائمة، يقول العباسي، إن كل المؤشرات تدل على أنه لا أمل في التوصل إلى حل نهائي في ظل الحكومة الإسرائيلية القائمة، وهي حكومة يمينية متطرفة، كل ما في جعبتها هو المزيد من الاستيطان، وتحويل التجمعات السكانية الفلسطينية في الضفة إلى مجرد كانتونات مغلقة.
إسرائيل تمنع مشاريع تطوير أردنية في "الاقصى" بملايين الدنانير
شهد المسجد الاقصى المبارك في العام الماضي ذروة جديدة في الاعتداءات والانتهاكات الإسرائيلية، برزت من خلال تسجيل ذروة في عدد الاقتحامات لباحات المسجد، ومطالبة أوساط رسمية في حكومة الاحتلال، لتقسيم أوقات الصلاة في المسجد بين المسلمين واليهود، والى جانب هذا سجلت اعتداءات على مقدسات اسلامية ومسيحية في المدينة، خاصة في اطار جرائم "تدفيع الثمن".
وبناء على إحصائيات دائرة الأوقاف الاسلامية، عن العام 2013، فقد اقتحم المسجد الاقصى خلال العام الماضي أكثر من 9050 متطرفا، بينهم وزراء في حكومة الاحتلال، ونواب كنيست ومسؤولون إسرائيليون، في حين أن عدد المقتحمين في العام 2012 كان حوالي 7700 مستوطن، وفي العام 2010 أقل من 6 آلاف مستوطن، ما يعني ان وتيرة الاقتحامات في تزايد مستمر.
وتتم الاقتحامات كل أيام الأسبوع، ما عدا الجمعة والسبت، من باب المغاربة الذي استولت سلطات الاحتلال على مفاتيحه عقب احتلال القدس الشرقية وتشرف على هذا الاقتحامات المبرمجة، التي ترفضها دائرة الأوقاف الإسلامية، ويتصدى له المرابطون في المسجد الأقصى.
كما منعت قوات الاحتلال صلاة الجمعة في المسجد الأقصى خلال العام الماضي 6 مرات، أربع جمع متتالية في شهري آذار (مارس) ونيسان (ابريل)، ومرتين في شهر أيلول (سبتمبر)، وذلك بمنع من تقل أعمارهم عن 40 عاما من الدخول إليه.
أما على صعيد اقتحام قوات الاحتلال، القوات الخاصة والقناصة والمخابرات والمستعربين، لساحات الأقصى فقد تمت في العام الماضي 13 مرة، وأبعدت سلطات الاحتلال ما يزيد على 350 مواطنا عن المسجد الأقصى، لفترات متفاوتة تبدأ من أسبوع حتى ستة أشهر، مع إمكانية التمديد لفترات اخرى، ومن أبرز المبعدين مدير المسجد الشيخ ناجح بكيرات.
ومن أبرز الأحداث التي حدثت في الأقصى العام الماضي، قيام ضابط بركل المصحف الشريف والدوس عليه داخل ساحات الأقصى، ونزع حجاب سيدة داخل المسجد، ومحاولات لاقتحام مسجد قبة الصخرة، اضافة إلى رفع العلم الإسرائيلي في ساحاته، وشرب الخمر.
وتواصلت الاعتداءات على المقدسات الإسلامية والمسيحية، من بينها الاعتداء على مقبرة مأمن الله مرتين خلال العام الجاري، بخط الشعارات العنصرية عليها مسيئة للنبي محمد عليه الصلاة، وتحطيم شواهد للقبور، كما تم الاعتداء على مسجد النبي داود بتكسير واجهاته ورخامه العثماني، كما تم تسجيل ثلاثة اعتداءات على كنائس، وهي "رقاد السيدة العذراء" وكنيسة البروتستانت، والكنيسة اللاتينية، بخط شعارات عنصرية مسيئة للسيد المسيح، كما قامت قطعان المستوطنين بتنفيذ عدة اعتداءات على المقدسيين خلال الأعياد العبرية.
ويقول مدير عام الأوقاف الاسلامية في القدس، الشيخ عزام الخطيب، إنه من الواضح أن الأوقاف الاسلامية والمسيحية في القدس هي تحت الرعاية الهاشمية، بموجب اتفاقيات ما نص عليه اتفاق السلام بين المملكة الأردنية وإسرائيل، إلا أن حكومة إسرائيل تدعم المتطرفين في اقتحاماتهم للمسجد الاقصى المبارك، ولا نراها تتخذ موقفا حاسما في مطالبة متطرفين بينهم وزراء، بفرض تقسيم أوقات الصلاة في المسجد الاقصى بين المسلمين واليهود، الأمر الذي نتصدى له ولن نسمح بتطبيقه، فالمسجد الاقصى هو في صلب عقيدة المسلمين في كل العالم، وأي اعتداء على الأقصى هو اعتداء على أكثر من 1,7 مليار مسلم.
وأكد الشيخ الخطيب على أن حكومة إسرائيل تعرقل تنفيذ مشاريع تطويرية وعمرانية بملايين الدنانير، بتمويل شخصي من جلالة الملك عبد الله الثاني والصندوق الهاشمي لاعمار المسجد الأقصى المبارك، منها مشاريع كهرباء ورصف جديد وإنارة جديدة، وتزويد المسجد بسيارة إطفاء، يمنع الاحتلال ادخالها، وهي ما تزال في الأردن، وأشار إلى وجود عطاءات لمشاريع بقيمة 600 ألف دينار قد رست على مقاولين، إلا أن إجراءات الاحتلال تمنع تنفيذ هذه المشاريع.