منتدى الشنطي
سيغلق هذا المنتدى بسبب قانون الجرائم الاردني
حيث دخل حيز التنفيذ اعتبارا من 12/9/2023
ارجو ان تكونوا قد استفدتم من بعض المعلومات المدرجة
منتدى الشنطي
سيغلق هذا المنتدى بسبب قانون الجرائم الاردني
حيث دخل حيز التنفيذ اعتبارا من 12/9/2023
ارجو ان تكونوا قد استفدتم من بعض المعلومات المدرجة

منتدى الشنطي

ابراهيم محمد نمر يوسف يحيى الاغا الشنطي
 
الرئيسيةالرئيسية  البوابةالبوابة  الأحداثالأحداث  أحدث الصورأحدث الصور  التسجيلالتسجيل  دخول  

 

 العلوم الإسلامية ومقتضيات الاجتهاد والتجديد

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75523
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

العلوم الإسلامية ومقتضيات الاجتهاد والتجديد Empty
مُساهمةموضوع: العلوم الإسلامية ومقتضيات الاجتهاد والتجديد   العلوم الإسلامية ومقتضيات الاجتهاد والتجديد Emptyالسبت 26 أبريل 2014, 11:22 am

العلوم الإسلامية ومقتضيات الاجتهاد والتجديد
العلوم الإسلامية والوعي بالسياق
لا يختلف اثنان اليوم أن من أبرز سمات عالمنا الراهن التركيب والتداخل والسرعة وفداحة وكبر الآثار التي تترتب عن التصرفات بسبب ذلك، ومن هنا فإن من مقتضيات العيش في العصر الراهن القدرة على استيعاب هذه السمات من جهة، ثم القدرة على التجاوب معها بفعالية وإيجابية من جهة ثانية.
ومن أكبر الإكراهات التي يحياها إنسان القرن الحادي والعشرين، عدم التماهي الكلي بين مظاهر الحياة المعاصرة والمبادئ التي يعتقدها ويكنها في جنانه.. بسبب أن الاقتصاد والتدبير قد سارا في اتجاهات لم يكن يُقام فيها اعتبار للقيم وللأخلاقيات؛ بيد أن هذه الأخلاقيات وهذا القيم وهذه المبادئ بقيت كامنة وأحيانا نابضة، في أنفس الناس وفي أذهانهم. وقد استحر النقاش منذ منتصف الثمانينيات من القرن الماضي، حول وجوب إعادة إدخال القيم "ethics" إلى الجوانب الاقتصادية والتدبيرية من أجل رأب هذا الصدع. والسؤال هنا هو: كيف يمكن أن تُدخل القيم، وكيف يمكن أن تُدخل المبادئ والأخلاقيات مرة أخرى إلى الجوانب الاقتصادية والتدبيرية التي تغطي أكثر ساحات النشاط الإنساني الفكري والعملي؟
وفقهاء الشريعة الإسلامية ليسوا في معزل عن هذه الإشكالات، وعن تأثرهم بهذه السمات الحضارية المشتركة والعامة.
ومن هنا فإن ثلاث مشاكل رئيسة تعترضهم اليوم:
المشكلة الأولى: هي كيف يُفقه النص، وما هي آليات وضوابط فقه دينامي متجدد ووظيفي للنص؟ وكيف يمكن التمييز بين الثابت في اجتهادات السابقين وبين ما هو قابل للتحول والتغير؟ وقد سبق أن قال ابن القيم -رحمه الله- في كتابه "إعلام الموقعين": فصل في تغير الفتيا بتغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والعادات والأعراف.. قال: وهو فصلً عظيمً النفع جدا قد دخل على الناس من فرط الجهل به ضررٌ عظيم. فما هي آليات وضوابط التمييز بين الجوانب الثابتة والجوانب القابلة للتجدد في الفقه الإسلامي؟، وكيف يمكن لفقيه الشريعة الإسلامية أن يطور آليات ومنهجيات التعامل مع هذه الجوانب كلها بنفس مقاصدي يروم جلب المصالح ودرء المفاسد باتزان؟
المشكلة الثانية: هي كيف يُفقه الواقع بكل سماته وبكل تمظهراته بالغة التعقيد والتركيب والتشابك، دون أن يكون هناك جور على أي سمة من السمات، احتذاء بقول من قال: ينبغي أن نجعل كل شيء أبسط ما يمكن وليس أبسط مما يمكن، وبأية مناهج وبأية آليات؟ وما هي التكوينات التي يقتضيها كل ذلك؟
المشكلة الثالثة في كيفية تنزيل أحكام النص المطلق المتجاوز المهيمن، بطريقة متوازنة، على هذا الواقع المتقلب المتغير العيني المشخص؛ موازنة بين الأفعال، وترجيحا بين المصالح والمفاسد في ضوء وعي شديد بوجوب اعتبار المآلات والعواقب؛ حتى لا تُجلب مفسدة عوض المصلحة التي كانت مقصودة، أو تُفوَّت مصلحة أكبر من أجل مصلحة أدنى.
وهو ما يستنبط من قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، في الحديث الذي رواه إمامنا مالك من طريق عائشة والذي فيه أن رسول الله - صل الله عليه وسلم - قال: "لولا حدَثَانُ قَوْمِكِ بالكفر لَهَدَمْتُ الكعبة، ولَصَيَّرْتُها على قواعدِ إبراهيم"[1]. ففوت عليه الصلاة والسلام هذه المصلحة (إعادة إقامة الكعبة على قواعد إبراهيم) حتى لا يجلب مفسدة هي أرجح من هذه المصلحة؛ أي افتتان الناس. لأنهم لا يزالون مرتبطين بعالم الأشياء، على حد تعبير مالك بن نبي.
غير أن التعامل مع هذه المشاكل الثلاث في أفق حلها لابد له من مقتضيين منهاجيين:
المقتضى الأول: هو المنطلقات التي ينطلق منها الفقيه المسلم؛ أي "الباراديغمات" (Paradigmes) والنماذج المعرفية. فينبغي أن يكون من الواضح أن الفقيه المسلم يريد تحقيق مرضاة الله، وتحصيل السعادتين العاجلة والآجلة للجنس البشري، ويريد إشاعة التكامل بين أفراد المجموعة البشرية، ويريد إشاعة التكامل بين أفراد المجموعة البشرية؛ هذه الأسرة الإنسانية الممتدة. لأنه قد سادت في أزمنة معينة نماذج أخرى فيها من الانسحاق أو الانغلاق ما فيها.
وإن من الباراديغمات والنماذج المعرفية التي يحق للمسلمين أن يفخروا بها: النموذج التعارفي المنطلق من قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)(الحجرات:13). وهو نموذج يسعى بوازعه الإنسان المسلم؛ ذكرا كان أو أنثى، إلى تحقيق التعاون والتكامل بين أفراد الأسرة الإنسانية الممتدة. إنه نموذج يتجاوز النموذج المعرفي القائم على مجرد التسامح. فالتسامح يستدمج بين طياته أن هذا الآخر في درجة أدنى ولكن أنا أتسامح معه! أو أخطأ وأنا أتسامح معه! بيد أن التعارف فيه الحاجة المتبادلة والاحتياج المتبادل؛ مما يفسح المجال أمام التكميل والإثراء المتبادلين بين العالمين عوض التنافي والصراع.
المقتضى المنهاجي الثاني: هو تحديد آليات التعاطي مع هذه المشاكل الثلاث، وتبين العلاقة الجدلية بين النماذج المعرفية التي تُشكل المنطلقات وبين الآليات المستعملة من أجل تحقيق الغايات المستهدفة أو الأهداف المتغياة.
فالآليات، رغم ما قد يتبادر إلى الذهن من أنها محايدة، ليست كذلك. فلا يجوز الوقوف فقط مع شرط الفعالية في الآليات، وإنما وجب أيضا أن يتم التأكد من تماديها وتناغمها مع المنطلقات. ومع النماذج المعرفية التي تشكل المنطلقات والمبادئ والقيم التي تحملها حضارة معينة ودين معين.
ولقد يسّرنا القرآن للذكر
رتع الإنسان خلال القرن الماضي في مراتع النسبية إلى الضجر، وعاقر الوجودية إلى السأم، ومارَس طولا وعرضا استقلاليته عن الوحي إلى الملل، وطفق تحت أزِّ حاجاته الفطرية، وتطلباته الفكرية، ومقتضيات العولمة، وسؤالات الهوية، والتمزقات الاجتماعية، والقلق الكوني العام من جراء نماء العلوم والاقتصاد والسياسات، في الأغلب، بعيدًا عن الأخلاق والقيم، طفق الإنسان من جراء كل ذلك يتساءل بحثًا عن مسارات جديدة للحضارة ولعيشه فوق هذا الكوكب فرديا وجماعيا. فطفا من ثَمَّ الاهتمامُ بالدين وبالوحي وبالروحانيات فوق سطح الاهتمام من جديد، وبرزت أضربٌ من التعامل مع الوحي تختلف سطحية وعمقا، وبساطة وتركيبا، ولطفا وعنفا، لم يزد بعضها الناس إلا خبالا والطين إلا بلة، وشروط عيش الإنسان فوق هذا الكوكب إلا عسرا.
ومن ثم فإنه ينفتح حين طرح سؤال: أية مناهج للاستمداد من الوحي في السياق الإسلامي؟ دربان متكاملان من التفكير على الأقل:
فأما الأول: فينطلق من يقينيات الوحي ذاتها، إذ يقول الله - سبحانه وتعالى -: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ)(الإسراء:9)، وحالُ المسلمين اليوم ليست بالتي هي أقوم؛ ممّا يفيد حتما وجود اختلال منهجي ومنهاجي في التعاطي مع الوحي والاستمداد منه علمياً وعملياً. تنطرح، طبعا، هاهنا أسئلة أخرى مثل: ما هي "التي هي أقوم"؟ وما مقاييس تحديد "التي هي أقوم"؟ ومن يُحدّد "التي هي أقوم"؟
والحاصل أن الجواب عن هذه الأسئلة الثلاثة جميعها كامنٌ في الوحي ذاته، وليس يقتضي إلا الكشف والتحرير.
ومن الهاديات بهذا الصدد ما يَبرز حينَ تدبر قصص الأنبياء مع أقوامهم المختلفين من تغيّر الأولويات والمقاربات الدعوية والعملية، بسبب تغير الشروط والسياقات والمقتضيات. ومن الهاديات كذلك بروزُ مرحلة الختم بشمولها وعمومها ومرونتها وانفتاحها ومسؤولية إنسانها الكبيرة. كما أن منها قيام تيسير الوحي (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ)(القمر:32)، على كونه بناءً آياتيا بصائريا موائما لعقل الإنسان ووجدانه يسهل على الإنسان استنطاقه والتحاور معه صُعُدًا نحو آفاق معرفية ومنهاجية واسعة جدَّا: (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ)(الواقعة:77)، ومن سمات كرمه هذا العطاء غير المجذوذ.
كل ذا يفيد أن مناهج المقاربة فيها اختلالات لا يمكن، دون تجاوزها، استخلاص "التي هي أقوم" مما يستدعي فتحَ مسارات مراجعات واستدراكات عالمة رصينة لاستئناف مسيرة بناء علوم التيسير وتجديدها.
وأما الدرب الثاني: فهو أننا حين ننظر في القرآن المجيد نجد ضربين من العلـــوم: علـــوم التسخيــــر انطــــلاقــــا مــــــن قـــــول الله تعالــى: (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)(الجاثية:13)، وعلوم التيسير انطلاقا من قوله تعالى: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ)(القمر:32).
علومُ التسخير تُدرَك من خلال النظر والتفكر (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَاْلأَرْضِ)(آل عمران:191). وعلوم التيسير يمكن استخلاصها انطلاقا من التدبر: (أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا)(محمد:24).
والملاحظ هو أن علوم التسخير تطوّرت، وعلوم التيسير لم تتطور بالشكل ذاته؛ فعلوم التسخير تطورت بفضل الحوار المستدام بين الإنسان والكون، واجتهاد الإنسان من أجل استخلاص معالم الأبجد الكوني، واللغة التي بها يتم الحوار مع الكون، ممّا أدى إلى انفجار كل هذه العلوم التي نراها اليوم من الصناعات البسيطة إلى السبرنيطقا (la cybernétique) في تعقيداتها الكبرى، وكذلك في مجالات (Synthetic life) أي الحياة الاصطناعية التركيبية.
وتَبرز من خلال النظر في هذا الصوب قضية أخرى، دائما في ارتباط مع عدم تطور علوم التيسير، وهي وجود نبض معرفي رائع عند علماء الصدر الأول من الصحابة والتابعين وأتباع التابعين... حيث فُتح ملف علوم التيسير، كما رأيناه مع الإمام الشافعي في كتابه "الرسالة"، والإمام مالك، والإمام أبي حنيفة، والفقهاء السبعة قبل ذلك، حيث برزت بوادر علوم الفقه وأصوله؛ وعلوم القرآن والحديث واللغة والكلام وعلوم أخرى شكلت، بالفعل، مداخل للاستمداد من الوحي، ومن القرآن المجيد.
 لكن بعد فترة قليلة من ذلك رأينا انحسارا غير قليل في هذه الجهود وفتوراً في ذاك النبض؛ إذ حصل عجز اللاحق أمام عمل السابق بسبب تعظيم وتعزير في أصلهما محمودين مباركين، غير أن ممارستهما غير الراشدة قد تؤدي إلى عدم التكامل بين مختلف أجيال الأمة وراء أسوتها سيدنا رسول الله - صل الله عليه وسلم -. وبدأت تبرز عبارات مثل "ليس في الإمكان أبدع مما كان" وأضحت كثير من الجهود إثر ذلك، شروحا لأعمال المتقدمين أو تصنيفا لها أو حواشي عليها أو تذييلا على الحواشي.
مع أننا حين ننعم النظر نرى بجلاء أن ثمة واجبًا دينيًّا يتمثل في التجديد المستمر، وهو الذي يعبر عنه حديث رسول الله، - صل الله عليه وسلم -، الذي يقول فيه: "يَحْمِل هذا العلْمَ مِن كل خَلَفٍ عُدُولُه يَنْفُون عنه تحْريفَ الجاهلين وانْتِحالَ المُبْطِلين وتأوِيل الغالِين"[2]. فالتجديد في علوم التيسير في كل هذه المناحي أمرٌ فريضة على أهل الأمانة من العلماء، غير أننا نجد أن هذه الوظيفة لم يُستمر في القيام بها على وجه الكفاية كما يحض على ذلك هذا النص الكريم وأمثاله.
يسجَّل أيضًا في تاريخنا العلمي بهذا الصدد التباس بخصوص ماهية الفهوم السليمة، حتى كأنه ينطبق علينا قول القائل:
وكلٌّ يَدَّعِي وَصْلاً بِلَيْلَى                  وَلَيلَى لَا تُقِرُّ لَهُمْ بِذَاكا
ممّا يقتضي نهضة لتجريد معالم مناهج الاستمداد من الوحي وتوضيحها بجلاءٍ برهاني يتكامل عبر الزمن حتى تضيق مجالات الالتباس والغموض.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75523
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

العلوم الإسلامية ومقتضيات الاجتهاد والتجديد Empty
مُساهمةموضوع: رد: العلوم الإسلامية ومقتضيات الاجتهاد والتجديد   العلوم الإسلامية ومقتضيات الاجتهاد والتجديد Emptyالسبت 26 أبريل 2014, 11:23 am

وثمة قضية أخرى، تتمثل في الحاجة الماسة إلى إعادة نَظْم تراثنا حتى يكون سهل المتناول متعقَّل المعنى والمبنى، وينطبق عليه قول رسول الله - صل الله عليه وسلم -: "قد ترَكْتُكمْ على المحجّة البَيْضاء ليْلُها كَنَهارها، لا يَزِيغُ عنها بَعْدِي إلا هالِكٌ"[3]. فالإرث مبارك وغني وواسع، والمؤسف أن نرى شيوع التعامل معه في أغلب الأحيان بمنهج الاستظهار والترداد والتبرك والسرد فقط. والسؤال هو كيف يمكن أن نحقق النقلة من هذه الحالة إلى حالة الاعتبار والوظيفية؟ وهذا، لاشك، سيفرض بدوره سلسلة من المراجعات، ويقتضي جملة من الجهود أَزِفَ أوان القيام بها.
إن التجديد في هذه المناهج هو الذي من خلاله يمكن أن يتم إسهامُ المسلمين وشراكتهُم في تشكيل التاريخ المعرفي والحضاري الكوني، انطلاقا من قوة اقتراح قابلة للفهم وللفحص، متأبّية على الردّ والتفنيد، وإلا فإن هذا التاريخ المعرفي والحضاري العام سوف يستمر في التشكل ونحن غيابٌ هذا الغياب الجزئي.
العلم قبل القول والعمل
الإنسان ووجدانه هما حلقة الوصل بين الوحي والكون وحقائقهما من جهة، وبين ذات الإنسان وواقعه من جهة ثانية. وعليه فإن حسن عيش الإنسان فردا واجتماعا فوق هذا الكوكب يتوقف على ثلاثة أضرب من السلامة والضبط والدقة والفاعلية:
أ- سلامة وضبط ودقة وفاعلية المناهج التي تم بها بناء الفكر والوجدان وهندستهما.
ب- سلامة وضبط ودقة المناهج والمعارف التي يتم بحسبها الحوار مع الكون ومع الوحي والاستمداد منهما.
ج- سلامة وضبط ودقة وفاعلية مناهج وطرائق التجسير بين الفكر والواقع من خلال تنزيل ثمرات ما سلف.
ولئن تساوى الناس في الحق في الأخذ من الكون ومن الوحي وفي الحق في الوعي بهما، فإن تفاوتات كبيرة تقوم بينهم في الجوانب المنهاجية والتصورية والقيمية المعيارية، وهذه التفاوتات هي التي تتجلى في واقع الناس وتحدد مواقعهم في مصاف الأمم.. وفيما يلي من كلمات، محاولة جزئية للوقوف على جوانب من هذه الإشكالية (Problématique).
أ- سلامة وضبط ودقة وفاعلية المناهج والنماذج التي بها يتم بناء الفكر والوجدان وهندستهما:
فالتمثلات والرؤى وأضرب التوق الكامنة، بمثابة المفاعل التصوري الذي يصهر ويصنّف وينظم كل ما يرد على الإنسان من داخله أو يفد عليه من خارجه، وهو مفاعل له أهمية حاسمة في مجالات المعرفة والشعور إذ هو المحدد لطبيعتهما ووجهتهما.
وقد بدأت كثير من الأبحاث المعرفية المعاصرة تولي هذه القضية اهتماما متزايدا، غير أنه لم يبلغ بعد درجة الكفاية التي ينم عنها ويؤشر عليها مدى عبور ثمرات هذه الأبحاث إلى المناهج والبرامج التربوية، وإلى الجوانب الفنية والإعلامية وكذا الإنتاجية. إن إرساء قواعد الفكر وأسس الوجدان وهندستهما يدخل بامتياز في ما نبه إليه القرآن الكريم حين الحديث لأول مرة تُعلمُ في تاريخ البشرية، عن صناعة الإنسان في كل من قوله تعالى في حقّ موسى عليه السلام: (وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي)(طه:39)، وقوله سبحانه: (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي)(طه:41).
وهي صناعة تتم حسب مناهج ونماذج تختلف من حيث قدرتها على إطلاق طاقات الإنسان، ومن حيث الوجهة التي سوف تضيفها لهذه الطاقات، وهو اختلاف ناجم أساسا عن مدى استدماج هذه المناهج والنماذج للحقائق الموجودة في الكون مرجع الحركة، والوحي مرجع الوجهة، وتناسقها معها.
وقد أدى عدم إيلاء هذه القضية الأهمية اللازمة، إلى أن يكون بناء الفكر والوجدان في كثير من محطات تاريخ البشرية عشوائيا تلفيقيا، أو أحيانا تحكميا، مما أنتج وينتج مشاكل وآفات ليست بالقليلة.
 ورغم أن القرآن والسنة النبوية في فضائنا الحضاري غنيّان بالبينات والإشارات الهادية بهذا الخصوص، فإنها لم تُتَلق بشكل كاف ومؤسس، وهو أمر وجب استدراكه.
ب- سلامة وضبط ودقة المناهج التي يتم بحسبها الحوار مع الكون ومع الوحي والاستمداد منهما:
فالكون وفق المنظومة القرآنية مسخر للإنسان، وهو محيط به، متحاور معه باستمرار، حوارَ أمرٍ إذ هو مأمور بمقتضى وحي الله له بذلك: (وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا)(فصلت:12)، (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا  بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا)(الزلزلة:4-5)، والكون يُجري حواره الدائم مع الإنسان من خلال بنائيته وبيان آياته ومواءمته للإنسان، كما أن الوحي وفق المنظومة نفسها، مُيَسّر للإنسان، مُفصَّل قد صرّفت آياته وبُيّنت ورُتِّلت وفق نضد تكاملي بديع، وهو كريم يعطي السائل بحسب إقباله واستعداده، فهو إذن بهذا الاعتبار دائم الحوار أيضا مع الإنسان، استشعر ذلك من استشعره وذهل عنه من ذهل عنه.
غير أن هذا الحوار من جهة الكون والوحي شطرُ الحوار فقط، ولا يكمل إلا بشروع الإنسان في الشطر الآخر وهو حواره الواعي معهما، والذي بمقتضاه يسائلهما ويستنطقهما منتجا بحواره مع الكون علوم التسخير التي تُمَكِّن من الحركة للعيش والارتفاق، ومنتجا بحواره مع الوحي علوم التيسير التي تُمَكِّن من الوجهة للسير والاهتداء، ولا رشاد للحركة الفاعلة إلا باقترانها بالوجهة السليمة، وكما أن سلامة وضبط ودقة مناهج الاستمداد من الكون تحتاج إلى تأهيل وهندسة وفق برامج وخطط متنامية عبر الجهد والزمن، فكذا مناهج الاستمداد من الوحي. غير أن الذهول عن هذه المقتضيات في مجال علوم التيسير بالذات، باد للعيان، مما وجب العمل الناجز لاستدراكه.
ج- سلامة وضبط ودقة وفاعلية مناهج وطرائق التجسير بين الفكر والواقع نحو تنزيل سليم لثمرات ما سلف:
لا يخفى أن هذا التجسير أمر عملي إجرائي بامتياز يقتضي وضوحا في عناصره الثمانية، وهي:
1- التوجيه؛ هو الجانب الاستراتيجي التقديري.
2- التخطيط؛ هو عبارة عن تصميم في مجالات الإنسان والمجال والزمان والإمكان لبيان كيفية تنزيل هذه الاستراتيجيات على أرض الواقع، وبرامج ذلك وما يحف بها من إجراءات وضبط وتدقيق.
3- التشريع؛ وهو عبارة عن الشرائع والقوانين المؤطرة والميسّرة والحامية لعمليات التنزيل.
4- التنظيم؛ وهو عبارة عن كيفية تدبير سائر عمليات التنزيل والموارد البشرية والتقنية والمادية المعينة على ترتيب ذلك.
5- التعيين للمسؤولين عن هذا التنزيل أفرادا ومؤسسات، وفق مؤشرات وظيفية واضحة.
6- التمكين؛ فلا معنى للتعيين دون منح الإمكانات المادية والمعنوية المسعفة في القيام بوظائف ومقتضيات التنزيل.
7- الإنجاز؛ أي لكل ما سلف.
8- التقويم؛ وهو الذي يمكّن من النظر في ثمرات هذا التنزيل وتطويرها.
وواضح أن هذه المناهج والطرائق تحتاج في عالمنا عامة، وفي عالمنا الإسلامي خاصة إلى مزيد من الضبط والتدقيق والتّفعيل، فنحن هنا أمام آفاق أُنُفٍ لفقه التنزيل، آفاق لم يستمر ارتيادها بشكل كاف، مما وجب أيضا استدراكه في المجالات العلمية والعملية.
إن ما يُستمدّ من الوحي كما من الكون مرتهن بالمعمار الفكري والوجداني للمستمِدّ، وبمناهج الاستمداد، وكذا بمناهج تنزيل ثمرات هذا الاستمداد. وهو ورش ثلاثي لا شك أنه يستلزم في عالمنا الإسلامي أعمالا كثيرة مستأنفة.
نحنُ، علومُنا، والمستقبل
منذ اكتمال نـزول الوحي والتحاق الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالرفيق الأعلى. عكف المسلمون خلفا عن سلف على كتاب الله تعالى وسنة رسوله - صل الله عليه وسلم - تدبرا وتفكرا واستنباطا واستلهاما باعتبارهما مصدري التشريع اللذين ينبغي أن تدار أمور الحياة كلها وفقا لهدايتهما وإرشادهما.
وقد اختلفت علاقة المسلمين بكتابهم وسنة نبيهم تمثلا وتأسّيا باختلاف العصور والأجيال، فلم تكن الحاجة قائمة على عهد الصحابة  إلى تدوين العلوم وضبطها وتقعيدها؛ إذ كان العلم سلوكا والتزاما، فلما دعت الحاجة إلى التدوين حين كثر اللحن وتجرأ أناس على النصوص، نهضت همم العلماء لتدوين هذه العلوم، فكانت الكتب والمدونات الأولى المؤسسة في كل علم، ثم تواتر التأليف بعد ذلك شرحا واختصارا واستدراكا واستئنافا للنظر، غير أنه حريّ بالذكر أن النشاط التأليفي المتصل باستئناف النظر، كان هو الأقل.
ولقد كان مدار كل هذه العلوم في البداية على النص نشأة وتداولا، حيث كانت في منطلقها متمثلة له علما وعملا، مما جعلها تنفتح بهدايته على الكون وعلومه وعلى الإنسان ومعارفه وتشيد عالميتها الرائعة الأولى. والتي تجلت فيها فعلا أبرز خصائص الوحي وعكست بقدر طيب نوره وإشعاعه في الهداية والرحمة والعدل والحرية والأمن... كما تجلت فيها أيضا كثير من القيم العليا المزكية للإنسان والبانية للعمران.
وهذه العلوم اليوم على الفضل والخير الكبيرين اللذين فيها، أضحت تُكِنُّ مجموعة من العوائق الذاتية تحول دون استئناف العمل البنائي والتجديدي فيها، ويمكن ترتيبها كما يلي:
أول هذه العوائق، أن علومنا الإسلامية دلفت نحو قُطب التقليد، فحينَ مُورست على الإنسان المسلم مجموعة من الضغوط والتقليصات؛ سواء معنوية أو مادية. وحين استُبدل واقع "قل يا ابن أخي ولا تحقر نفسك" (الذي كان يُمارس في الصدر الأول حين قال عمر بن الخطاب  هذه الجملة الرائعة لعبد الله بن عباس  وكان فتى ساعتئذ)، بواقع صه! بدأنا نرى أن بعض العلماء شرعوا في تبوّء مقامات فيها الإطلاق والكليانية ودعوى امتلاك الحقائق... مما قلص الهوامش النقدية، وضيّق مجالات الاجتهاد، وأدى إلى ظهور عبارات من مثل قولهم: ليس في الإمكان أبدع ممّا كان! وظهور أنماطٍ من التبعية تحت دعوى القداسة في بعض الأحيان. إلى غير ذلك من الفهوم التي حين توضع في غير موضعها وتورد في غير موردها تجعل الإنسان المسلم ينسحب من ساحات الإبداع المباركة نحو ساحات التقليد والانكماش الاستهلاكي لما يُعْرَض! فالإبداع وحرية الفكر صنوان. والإبداع والكرامة صنوان.
في الصدر الأول كنا نجد سلوك الإمام المعلم مع تلامذته فيه التشجيع على القول، وقد تقدم مثال عمر بن الخطاب . لكن التاريخ ينقل لنا كذلك أن أبا حنيفة كان يُعجبهُ حين تتعالى أصوات تلامذته محمد بن الحسن الشيباني وأبي يوسف وزفر.. كما كان ذلك يعجب الإمام مالك والإمام الشافعي مع أصحابهما... لما كان ينتجه هذا التعاطي من مداولات وسؤالات وأخذ ورد وثمار. حين استُبدل بهذا الواقع واقع آخر فيه الكليانية والإطلاقية، وعدم المشاركة مع الأستاذ في البحث عن المعلومة وصوغها بدل الاقتصار على التلقي غير التفاعلي... بدأت علومنا تدلف نحو التقليد والترداد.
وثاني هذه العوائق، أن هذه العلوم قد انفكت من النص المؤَسِّس، الوحي ومعطياته، فالعلوم في فترة تأسيسها كانت عبارة عن حوار مع الكتاب والسنة للاتصال الوثيق والمبدئي معهما، وهذا الحوار كان يُعطي بالفعل القابلية لاكتشاف مجموعة من الآفاق، استنادا إلى استثمار المعطيات الموجودة فيهما، واستنادا إلى المقاربة الآياتية للوحي وللكون، ممّا جعل هذا الحوار في الفترة الأولى يُولِّد مجموعة من المعارف المتعلقة بالإنسان والعمران والطبيعة والكون المحيط. ولكن حين كَفَّ هذا الحوار بقيت العلوم الإسلامية منحسرة فيما أنجز خلال تلك الفترات الوضيئة الأولى، دون البناء على مكتسباتها، وقيام اللاحقين بما عليهم هم أيضا من الواجب إزاء هذا الوحي المبارك، وإزاء متطلبات الواقع. وإنه ليتعيّن على المسلمين اليوم استئناف هذا الحوار لسد الثغرات المترتبة عن هذا العطل المنهجي العميق.
وثالث هذه العوائق، أن هذه العلوم قد توزعتها نـزاعاتٌ مذهبية خلال بعض الفترات، نـزاعات قد أدت إلى سجالات لم تكن دائما إيجابية. حيث تحول النص المؤسس إلى حلبة لاقتناص الشواهد والمبررات السجالية والحجاجية التي يستقوى بها طرف على آخر، أو تعزز بها أطروحة على أخرى ولو على حساب وحدة النص البنائية والسياقية، أو على حساب وظيفة العلم البيانية. الأمر الذي كان له أبلغ الأثر في توجيه حركة تدوين العلوم والتأريخ لها من جهة، وعلى مناهج ومقررات التربية والتكوين التي تلقتها أجيال متتالية في الأمة مما أضعف فكر الوحدة والتكامل على مستوى بنيات العلوم وعلى مستوى قضايا الأمة الاجتماعية والسياسية والثقافية.
ورابع هذه العوائق، أن هذه العلوم، قد تسربت إليها خلال تاريخنا مناهج دخيلة كالمنطق الصوري الأرسطي -مثلاً- ممّا أدخل عليها إفسادا جوهريا من الجانب المعرفي؛ لأن المقاربة الأرسطية تعتبر أن العقل هو المولِّد للمعرفة، في حين أن العلوم الإسلامية تأسّست انطلاقا من النقلة الكبيرة التي في الوحي، والتي تَعرض العقل باعتباره مكتشِفًا لهذه المعرفة ومستنبطا لها، وشتان بين المقاربتين: مقاربة التوليد ومقاربة الاكتشاف والاستنباط!
وخامس العوائق، أن هذه العلوم غدت في بعض مراحل تاريخها علوما يغلب عليها التجريد والصورية مما جعلها تنأى كليا أو جزئيا عن هموم ومشكلات الواقع والإنسان، وهي ما جعلت إلا لتيسير حياته وإسعاده في معاشه ومعاده. فتاريخنا متصل من حيث انطلاق هذه الدورة الحضارية الإسلامية بالرسول الأكرم - صل الله عليه وسلم - وبصحبه المنتجبين الذين أسسوا الأنموذج المشكّل للوحدة القياسية؛ أي المعيار وحالة السواء التي وجب ردُّ الأمور إليها في المجالات المعرفية والحياتية. ولاشكّ أن هذا كان وراء كثير من الاختلال في جانب ارتباط العلوم الإسلامية ارتباطا وظيفيا بواقع الإنسان فردا واجتماعا، وهو ارتباط يصعب تصوره إذا لم يتم تجريدُ حالة السواء هذه وتجلية معالم الوحدة القياسية التي تحدثنا عنها، ولم تتم "مَنهَجَة" كيفية التعاطي معهما والاستمداد منهما، بكل الواقعية وكل المرونة اللتين تجعلان هذا الارتباط يجري في إطار منهج قائم على خطوات ثلاث: الخطوة الأولى هي تَمثُّل الوحدة القياسية وحالة السواء، بطريقة علمية بحيث تكون مبوّبةَ وممفصلةً وممنهجة. والخطوة الثانية هي النظر إلى الواقع وتحليله، والوقوف على مقوماته ومكوناته وأدواره وسُلطه ومراكزه.. وحين يعي الإنسان واقعه في استحضارٍ للوحدة القياسية ولحالة السواء، تكون الخطوة الثالثة خطوةً تلقائيةً وهي تجاوز الواقع في استلهامٍ لحالة السواء. مع استدامة الوعي بأن هذه الحالة أيضا كانت محكومةً بواقعها وبأسيقتها في ما عدا الثوابت.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75523
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

العلوم الإسلامية ومقتضيات الاجتهاد والتجديد Empty
مُساهمةموضوع: رد: العلوم الإسلامية ومقتضيات الاجتهاد والتجديد   العلوم الإسلامية ومقتضيات الاجتهاد والتجديد Emptyالسبت 26 أبريل 2014, 11:23 am

فإذا لم تُلحظ الفوارق وأريدَ استعمال القياس بشكل آلي فإن ذلك سوف يؤدي إلى الخطأ في التقدير. و"مفهوم الأسوة" قائم أساسا على هذا الوعي، ولذلك فثمة فرق بين التأسّي والاقتداء. فالقدوة في القرآن المجيد مرتبطة بالهدى: (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ)(الأنعام:90). أمّا بالنسبة للرسول الأكرم - صل الله عليه وسلم - فهو أُسوة؛ أي أنك تعي واقعك وتتمثّل نموذجية المتأسَّى به في وعي بالفوارق. وهذا أمر محوري في هذا الباب.
فحين ذهلنا عن هذه المنهجية في التعاطي مع تاريخنا أصبحنا نجعل كل فترات هذا التاريخ نموذجية تتركب بعضها على بعض! وحين لم نُحكم الفصلَ بين الوحدة القياسية (حالة السواء) وبين سائر المراحل، ولم نجعل كل المراحل الأخرى خاضعةً لهذه الخطوات الثلاث التي أشرنا إليها... حدثت أزمة.
وحين اعتقدنا لفترة أن المراد هو الاقتداء وليس هو التأسي حدثت أيضا أزمة؛ لأننا أردنا -في فترات معينة- إعادة إنتاج هذا الواقع بكل حيثياته. في حين أن هذا منالٌ يستحيل؛ لأن الأسيقة الكونية والمحلية والنفسية والفكرية، والأفق المعرفي، كل ذلكم يتغيّر. فلا يُمكن أبدًا أن إعادة إنتاج هذا الواقع بحذافيره، مما أدى ويؤدي لأضرب من الاختلال المضرة بالنص وبالواقع.
وبوعي ما سلف يصبح لتاريخنا حضور استلهامي واعتباري هادٍ، بعيد كل البعد عن أي حضور تأزيمي.
وسادس هذه العوائق، أن هناك إشكالا نجده منسابا في كل فصول تاريخنا العلمي والمعرفي، يتعلق بقضية الثابت والمتحول، وما هي الطريقة والمنهجية التي بها نُمقدرُ Le dosage الثابت ونعرفه ونعرّف حدوده، حتى لا نصادمه ولا نتجاوزه. ثم نعرف ونُمقدرُ المتحوِّل الذي سيكون موضوعًا للاجتهاد المستأنَف في كل عصر كما نصّ عليه العلماء. حين لم نستثمر الجهد المطلوب واللازم في هذه القضية، وتركناها منتثرة في كتب النابغين من علماء الأمة دون جمع، ولم تُتَلَقَّ الإشارات الكثيرة الموجودة في القرآن والسنة إلى هذه القضية فبقيت غير بينة المعالم حصلت مشاكل كثيرة. وقد أورد ابن القيم -رحمه الله- في كتابه "أعلام الموقعين" فصلا سماه "في تغير الفتوى واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد". فنحن الآن مطالبون مرة أخرى بفتح ملف الثابت والمتحول في مجال العلوم الإسلامية... بما يلزم من مقدرة Dosage واتزان وتشرّع حتى نستطيع تجاوز جانب من هذه الأزمات التي نعيشها اليوم.
وهنا وجب الانتباه إلى العائق السابع، والذي يفرض ذاته ويتمثل في قضية الباراديغمات؛ أي الأنساق والأطر المرجعية والمركبات المفاهيمية التي تقود عمليتنا التفكيرية والتحليلية، وتؤطر أضرب النظر الذي نستعمله ونوظفه. هذه الباراديغمات أمرٌ لم يُعطَ حقه، في أفق تحرير وتجريد الباراديغمات الكامنة من جهة وراء العلوم الإنسانية حتى نتعامل معها برشد وفاعلية واتزان، ونجرّد من جهة ثانية الباراديغمات الكامنة وراء علومنا ومعارفنا الإسلامية حتى نتأكد من قرآنيتها وسلامتها، حتى لا تبقى علومنا خاضعة لباراديغمات غير سليمة نُضفي عليها سربال القداسة ويكون لها من التأثير السلبي علينا وعلى تاريخنا ما يكون. ومن ذلك إدراك النواظم المنهجية الكلية بين العلوم الإسلامية التي توحدها في أصل انبثاقها الأول وتزيح عنها توهم الاكتمال والشرف والأفضلية والاستقرار.. وتجسر علاقتها التكاملية مع دوائر العلوم الأخرى في ضوء مقاصد وفلسفات العلوم كما يقرها القرآن المجيد في أبعادها الإنسانية والكونية التواصلية والتعارفية من غير نـزوع نحو هيمنة أو استبداد معين. 
هذه العوائق حين استحكمت صيرت هذه العلوم كما استقرت بعدُ، في كثير من مناحيها وأبوابها تنسدّ مناهجها دون الاجتهاد والإبداع، مما يستدعي مراجعات في ضوء هذه العوائق بغرض تخليص علومنا من آثارها السلبية، وإزاحة الشوائب العالقة بها وجعلها قادرة وحاضرة في موكب التدافع الكوني الراهن تسهم فيه ولو بمقدار في ظل ظروف وتحولات قاهرة لاترحم المتخلف عنها.
تجديد العلوم الإسلامية: مسار أمة ومصيرها
"ما سماه الله سبحانه في كتابه: فقهًا، وحكمة، وعلمًا، وضياء، ونورًا، وهداية، ورشدًا، فقد أصبح بين الخلق مطويًّا، وصار نسيًا منسيًّا.
ولما كان هذا ثلما في الدين مُلِمًّا، وخطبا مدلهمًّا، رأيت الاشتغال بتحرير هذا الكتاب مهما: إحياء لعلوم الدين، وكشفا عن مناهج الأئمة المتقدمين، وإيضاحا لمباهي العلوم النافعة عند النبيئين والسلف الصالحين[4].
ثمانية قرون ونيف مرت على هذا الكلام المبارك للإمام الغزالي -رحمه الله- (ت 505هـ)، وقد قيل هذا الكلام نفسه، وأثيرت معانيه بصيغ متقاربة، قبل صاحب الإحياء وبعده، في اندراج تام ضمن قوله - صل الله عليه وسلم -: "إن الله يَبْعَث لهذه الأمة على رأس كلِّ مائة سنة مَن يجدِّد لها دِينَها"[5].
وهو كلام يمكن رصده في اللحظات التاريخية التي يكون فيها انفصال بين علوم الدين والنص المؤسس كتابا وسنة من جهة، وبينها وبين المجتمع من جهة ثانية، وهو ما عبر عنه ابن القيم -رحمه الله- (ت 751هـ) في "مدارج السالكين". حين قال: "سبحان الله! ماذا حرم المعرضون عن نصوص الوحي، واقتباس العلم من مشكاته من كنوز الذخائر؟! وماذا فاتهم من حياة القلوب واستنارة البصائر؟ قنعوا بأقوال استنبطتها معاول الآراء فكرا، وتقطعوا أمرهم بينهم لأجلها زُبرا... درست معالم القرآن في قلوبهم فليسوا يعرفونها، ودثرت معاهده عندهم، فليسوا يعمرونها، ووقعت ألويته وأعلامه من أيديهم، فليسوا يرفعونها. وأفلَت كواكبه النيرة من آفاق نفوسهم، فلذلك لا يحبونها، وكُسفت شمسه عند اجتماع ظُلم آرائهم وعُقدها فليسوا يبصرونها.
خلعوا نصوص الوحي عن سلطان الحقيقة، وعزلوها عن ولاية اليقين، وشنّوا عليها غارات التأويلات الباطلة، فلا يزال يخرج عليها من جيوشهم كمين بعد كمين.."[6]. وهو المعنى نفسه الذي نلمسه عند الإمام الشاطبي -رحمه الله- (ت790هـ) في "موافقاته" حين يقول: "فإني شرعت في تأليف هذه المعاني، عازما على تأسيس تلك المباني، فإنها الأصول المعتبرة عند العلماء، والقواعد المبني عليها عند القدماء... ليكون لك أيها الخِلّ الصّفي، والصديق الوفي، هذا الكتاب عونا لك في سلوك الطريق، وشارحا لمعاني الوفاق والتوفيق، وليكون عمدتك في كل تحقُّق وتحقيق، ومرجعَك في جميع ما يعنّ لك من تصور وتصديق؛ إذ قد صار علما من جملة العلوم، ورسما كسائر الرسوم. وموردا لاختلاف العقول وتعارض الفهوم. لا جرم أنه قرَّب عليك المسير، وأعلمك كيف ترقى في علوم الشريعة وإلى أين تسير، ووقف بك من الطريق السابلة على الظهر، وخطب لك عرائس الحكمة ووهب لك المهر"[7].
لكن علامة المغرب الإمام الشاطبي -رحمه الله- يستحضر كون دعوته التجديدية قد تكون مثار انتقاد وتشكيك، فيستبق بهدوء، وتمكن وإيجابية، ونسبية، وتواضع، الاعتراضات ويدحضها بجملة من التحريرات والتقريرات القبلية، بما يشبه المواكبة النفسية لخائض هذه اللجة؛ والتحصين بالحجة، من الشبهات مخمدا منها الضجة، وما أجمل تواضعه ونسبيته واحترازه -رحمه الله- حين يقول: "فإن عارضك دون هذا الكتاب عارض الإنكار، وعمي عنك وجه الاختراع فيه والابتكار، وغرّ الظانَّ أنه شيء ما سُمع بمثله، ولا أُلِّف في العلوم الشرعية الأصلية أو الفرعية ما نسج على منواله، أو شكِّل بشكله، وحسبك من شرّ سماعه، ومن كل بدعٍ في الشريعة ابتداعه؛ فلا تلتفت إلى الأشكال دون اختبار، ولا ترم بمظنّه الفائدة على غير اعتبار، فإنه بحمد الله أمر قررته الآيات والأخبار، وشدّ معاقده السلف الأخيار، ورسم معالمه العلماء الأحبار، وشدّ أركانه أنظار النظّار، وإذا وضح السبيل لم يجب الإنكار، ووجب قبول ما حواه، والاعتبار بصحة ما أبداه من الإقرار، حاشا ما يطرأ على البشر من الخطأ والزلل، ويطرق صحة أفكارهم من العلل، فالسعيد من عدت سقطاته، والعالم من قلت غلطاته.
وعند ذلك فحق على الناظر والمتأمل، إذا وجد فيه نقصا أن يُكمّل، وليحسن الظن بمن حالف الليالي والأيام، واستبدل التعب بالراحة والسهر بالمنام، حتى أهدى إليه نتيجة عمره، ووهب له يتيمة دهره، فقد ألقى إليه مقاليد ما لديه، وطوقه طوق الأمانة التي في يديه، وخرج عن عهدة البيان فيما وجب عليه، وإنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى.."[8].
التفطن نفسه نجد عنه تعبيرات مباشرة في كتابات بعض رواد العلماء المعاصرين.
فهذا علال الفاسي -رحمه الله- (ت 1976م/1395هـ)، يقول في النقد الذاتي: "ولقد كان الإسلام رسالة تستمد قوتها من الوحي، وتستجيب في مطامحها لحاجة الفكر والروح، استجابتها لحاجة الجسم الإنساني في حدود الفطرة التي فطر عليها الإنسان، وإذا كان الوحي خاصا بصاحب الرسالة الأول؛ (أي من حيث الإيحاء وتقلبه)، فإن مهمة المواصلة لتحقيق الغاية التي بعث بها. وهي هداية الخلق إلى طريق السعادة في الدارين، لم تنته، ولن تنتهي أبدا، بل أصبحت ملقاة على عاتق من يشعرون بالمسؤولية، وينشدون الحرية من ذوي المعرفة والفكر من المسلمين، وأصبح  تجديدها وتغيير أساليبها منوطين بكل رجال الإصلاح الذين يجب أن لا يخلو منهم جيل كي يصلحوا التحريف، ويحقوا الحق، ويزيلوا الزيغ، حتى يعود الفكر الإسلامي غضا طريا كما كان، وهل أدل على هذا من الحديث الشريف الذي يقول: "إِنَّ اللهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا". وإذا كان هذا الحديث خرج مخرج الوعد الإلهي، فإن له من سنن الدين وطبيعته ما يهيئ المسلمين لتحقيقه... على أن الذي يهمنا هو ما يشتمل عليه هذا الحديث من روح صريحة وضمنية تؤذن بأن الأمة الإسلامية تخضع للتطور كغيرها من الأمم الأخرى، وتنذر بأنه لا تمر مائة عام إلا وتكون في حاجة لبعث جديد ويقظة ثانية"[9].
بيد أن بحاثة باكستان فضل الرحمن -رحمه الله- (ت 1988م/1409هـ)، وهو يربط بمنهجية عالية الدقة، أزمة علوم الدين، بالانفصال عن النص المؤسس، يضيف عاملين آخرين هما: الأول: عدم تجريد الرؤية الكلية الناظمة الكامنة في الوحي، ليستهدى بهديها في سائر أعمال العلماء الاستنباطية، والثاني: اختراق الفكر الهلينيستي للعلوم الإسلامية وفي ذلك يقول: "إن النقص وعدم الدقة في مناهج وأدوات العلوم الإسلامية، يرجع أساسا إلى غياب منهجية مناسبة لفهم القرآن نفسه، وقد بات ظاهرا وبينا وجود فشل في مجال استبانة معالم الرؤية الكلية الناظمة والتوحيدية الكامنة في القرآن، فشلٌ عززه الإصرار على التركيز على المقاربة التجزيئية الذرية لمفردات القرآن الكريم وآياته، بمنهج "التعضية"؛ (أي أخذا من قوله تعالى: (جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ)(الحجر:91)). وقد كانت نتائج هذه المقاربة الذرية للقرآن المجيد، أن الأحكام كانت في بعض الأحيان تؤخذ من آيات ليست أحكامية من حيث قصدها.
وفي غياب تجريد هذه الرؤية الكلية كانت الضريبة في مجال التشريع هي اختراق المناهج الدخلية لسد الفراغ الذي تركه غيابها مما كانت له آثار مدمرة في بعض الأحيان"[10].
قبل الإمام الغزالي -رحمه الله- إذن، وبعده، كابد علماء كثر مسألة تجديد العلوم الإسلامية، فالإمام أبو حنيفة (ت 150هـ)، والإمام مالك (ت 179هـ)، والإمام الشافعي (ت 204هـ)، وكذا الإمام أحمد (ت 241هـ)، واجهوا مشكلة المنهج في مجال التعامل مع النص والاستنباط منه، ولفيف المحدثين اجتهدوا في مضامير الرواية والدراية، ونخل الدخيل من الأصيل حتى صفّوا ووفّوا، رحمهم الله، وجزاهم عن الإسلام والمسلمين خيرا. والإمام الأشعري (ت 324هـ) رام جمع ورصد وتحليل وتأصيل مقالات الإسلاميين، كما حاول بناء إجماع إسلامي في مجال الاعتقاد، وبعده وارثه أبو بكر الباقلاني -رحمه الله- (ت 403هـ)، والإمام الجويني (ت 478هـ) اشتغل بالتجديد في قضايا الإمامة والمجتمع والحكامة العملية في مجال التعامل مع النصوص الشرعية، والارتقاء بالعلوم الإسلامية إلى الوظيفية، والفقيه ابن رشد (ت 595هـ) اجتهد في تبيان ما بين الحكمة والشريعة من اتصال وتجاوز الثنائيات المستحكمة في علوم الدين وعقول المشتغلين بها، بين العقل والنقل، والإرادة والأسباب، كما تطلع إلى معالجة الفقه الخلافي والارتقاء به من ربقة النزاع والتأزيم، إلى آفاق الإيجابية والثراء، كما رأينا جهود مدرسة آل تيمية، وآل المقدسي، في كثير من القضايا المنهجية، ومحاولة العودة إلى الأصول ومنهج الصدر الأول، مع تميز ابن تيمية أحمد بن عبد الحليم (ت 728هـ) باجتهادات متعددة ونوعية في الفقه وأصوله، والتفسير، والمنطق، والسياسة الشرعية وغيرها.
كما أن عبد الرحمن بن خلدون (ت 803هـ) قاد حركة رائدة في مجال التأسيس للعلوم الاجتماعية، وإعادة تشكيل النسق الثقافي الإسلامي، في أفق إخراج عمران إسلامي قادر على استئناف نبضه وعطائه الحضاريين، دون نسيان ذكر رموز آخرين، من أمثال ابن حزم، والباجي، وابن عقيل، وملا صدرا، وشاه ولي الله الدهلوي، والنائيني، والشوكاني، والوزير الصنعاني، والآلوسي، والطباطبائي، وزروق، والأفغاني، وعبد الرحمن الكواكبي، والسنوسي، والمهدي، وابن باديس، ومحمد إقبال، وبديع الزمان سعيد النورسي، والمودودي، وأبو الحسن الندوي، ومالك بن نبي، وعبد القادر عودة، وإسماعيل راجي الفاروقي، ولويز لمياء الفاروقي، ومنى أبو الفضل، وغيرهم بفضل الله كثير ممن انتقلوا إلى رحمة الله، أو ممن لا يزالون أحياء بين ظهرانينا ولهم كسبهم البارز في هذه الحلبات المباركة.
ولئن كان ثمة من خلاصة، يمكن أن ينفصل بها المرء من مثل هذا الاستقراء الجزئي لمحاولات تجديد العلوم الإسلامية، فهي أن التجديد، ليكون ذا فاعلية ونفع اليوم، فلابد له من جملة شروط:
1- الاستيعابية: ونقصد بها الاستيعابية في مجال تمثل العلوم موضوع التجديد، من حيث المعرفة بها نشأة، ومضمونا، ومباحث، وسيرورة، ومقاصد، وثمرات ومشاكل، وبدون هذه الاستيعابية، فيعسُر تصوُّر تجديد مثمر.
2- التساؤلية: وهو شرط يُسلِمُ إليه سابقه، إذ لا يمكن دون استيعابية أن يفضى إلى مرحلة التساؤلية الفاحصة داخل هذه العلوم؛ والمؤدية إلى الوقوف على مدى انبنائها على النص المؤسس وانطلاقها منه وكذا الوقوف على مدى وظيفيتها، وواقعيتها، وعلى أنجع مناهج وأساليب التقويم والتجديد فيها.
3- المعرفية: ونقصد بها الغوص في بُنى هذه العلوم وأنساقها ومناهجها للتأكد من اندراجها في النسق المعرفي الذي جاء به الوحي.
4- الوظيفية: بحيث يتم الحرص على التأكد من مدى خدمة العلوم الإسلامية للإنسان فردا واجتماعا، وإعانته على تحصيل السعادتين في انضباط لضوابط التيسير ووضع الإصر والأغلال، وإحلال الطبيات، وتحريم الخبائث، التي بيّنها الوحي الخاتم (النص المؤسِّس).
5- الجماعية: ونقصد بها وجوب ارتكاز التجديد في مجال العلوم اليوم على العمل العلمي البحثي التجديدي الجماعي التكاملي وذلك لِتَفَرُّع الإشكالات ومجالات الإصلاح داخل هذه العلوم والمعارف، وهو شرط لن يكون تنزيله الاجتهادي ناجعا، إلا إذا توافرت الشروط الأربعة السالفة، مع إضافة أربعة شروط ضرورية أخرى، وهي:
6- الانغمارية: ونقصد بها الانغمار الواعي والذكي، في هموم ومشاكل الإنسان محليا وكونيا لمعرفتها أولا، ثم الاجتهاد ثانيا لوجدان حلول وظيفية وعملية لها، انطلاقا من النسقين المعرفي والقيمي الإسلاميين، مما سوف يعطي للأداء الجماعي روحه ومقاصده ونفعيته.
7- الاستشرافية: بحيث لا يتم الاشتغال بالمهم وتأخير الأهم، وبالمفضول وإهمال الأفضل، كل ذلك في تحديد دقيق للأولويات وهندسة لها.
8- الحكامة والتدبير الجيدان، على المستويات الأكاديمي، والبشري، واللوجيستيكي، والزمني.. مما قد يجر إهماله إلى اضطراب في إنجاز شرط الجماعية. ولا شك أن من مقتضيات ذلك، الشرط الأخير، والذي هو:
9- التكوين الأساسي والمستمر: بحيث يتم بناء مناهج تكوين المكِونين والمكوَنين في ضوء الوعي بكل ما سلف، ليتم بعد ذلك، وتأسيسا عليه تنسيق جهود فرق البحث المنتقاة فكريا ونفسيا ووجدانيا واستراتيجيا ومواكبتها بالتكوين المستمر حتى يكون الأداء بحول الله مثمرا.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75523
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

العلوم الإسلامية ومقتضيات الاجتهاد والتجديد Empty
مُساهمةموضوع: رد: العلوم الإسلامية ومقتضيات الاجتهاد والتجديد   العلوم الإسلامية ومقتضيات الاجتهاد والتجديد Emptyالسبت 26 أبريل 2014, 11:24 am

إن التجديد في علومنا الإسلامية كان وكما رأينا، دوما حاضرا وبطريقة عضوية عبر مسار أمتنا، تطلبا واجتهادا، كما أن هذا التجديد لاشك، أمر مصيري لها، وجوديا، فيما يستقبل من تاريخها.
عن القيم الدينية والأخلاقية.. والمدنية-الاجتماعية
سوف نكتفي بين يدي هذا الحديث في تعريفنا للقيم بالإشارة إلى ثلاثة أمور:
1- أن مختلف التعاريف للقيم تتحوصل حول كونها مجموعة من القوانين والمقاييس تنبثق عند جماعة ما، وتتخذها معايير للحكم على الأفكار والأشخاص في تمظهرهم الفردي والجماعي والتصرفات والمسلكيات، ويكون للقيم من القوة والتأثير على الجماعة، وما يسربلها بصفة الإلزام والضرورة والعمومية، وأي خروج عليها أو انحراف عن اتجاهاتها يصبح خروجا عن مبادئ الجماعة وأهدافها ومثلها العليا، فالقيم، إذن، هي موجهات السلوك وضوابطه وموازينه، وهي حراس الأنظمة وحامية البناء الاجتماعي ومفعّلته.
2- أن من القيم ما هو ثابت وهو القسم المتعلق بمرتكزات الهوية، ومنها ما هو ديناميكي؛ إذ يطبع القيم ما خلا العقدية، حركية كبيرة فيما يخص ترتيبها بحسب الأولويات التي تفرضها حاجة المجتمع في سياق حضاري وظرف تاريخي معينين.
3- إنّنا نعيش، اليوم، وعلى الصعيد العالمي، أزمة انهيار نظم القيم بسبب التغيرات الكبيرة التي أصابت بُنى المجتمعات، وأنماط الإنتاج، وسيولة المعلومات، وهياكل العلاقات الأسرية والاجتماعية والدولية، ومضامين وأشكال القوانين التي باتت تنظم كل ذلك، ممّا زج بالإنسان المعاصر في أنواع متعددة من المعاناة كالإحباط، وخيبة الأمل Frustration، والإحساس بالاغتراب Aliénation، والشعور بالضعف Powerlessness، والمعاناة من عدم الانسجام، ومظاهر الشذوذ في الحياة والسلوك Normlessness.
ولقد أُحِلّت على الصعيد العالمي محل القيم المنهارة، قيم جديدة ذات طابع براغماتي تتسم بنسبية كبيرة جدا بسبب الضعف في المعطيات الناجم عن القصور في البحث والاستقراء من جهة، وعن الافتقار إلى مرجعية صواب ثابتة بالنسبة للأغلبيين من جهة ثانية.
بناءً على ما مر، فإن أي مجتمع يرنو إلى أن يكون له وجود مستقبلي بالنظر إلى موضوع القيم، ينبغي له أن يكون متوفرا على آليات تنظيرية وتربوية واجتماعية.
الآليات التنظيرية: لتمكنه من:
• ضبط معالم وحدود مرجعية المجتمع وكذا منطقها الداخلي.
• ضبط مناهج قراءة المرجعية واستنطاقها والاستنباط منها وبلورة التمثل لها وكذا ضبط مناهج تنقيح هذه المناهج وتفعيلها.
• ضبط مناهج التعرف على الواقع La représentation du réel، محليا، وإقليميا، وعالميا، وكذا  ضبط آليات التحسس على التوجهات الكبيرة العارمة Les mégatendances التي تتبرعم فيه لتوظيفها إن كانت إيجابية، أو لاجتنابها إن كانت سلبية، أو لمقاومتها إن كانت مدمرة مخترقة.
• ثم ضبط آليات تفعيل القيم الإيجابية الموجودة وإنتاج الأخرى المفقودة استهداءً بعناصر الضبط المتقدمة.
وهذا يفيد أن الجهات التي تحرك هذه الآليات التنظيرية ليست بالضرورة هي وزارات التربية الوطنية، بل كذلك الجامعات والمنتديات، ومستودعات التفكير Think Tanks، والجمعيات، وهيئات العلماء الخ.
الآليات التربوية والتواصلية: لتمكنه من تعدية هذه القيم إلى أفراده بطريقة فعالة وإيجابية ومقنعة، وتندرج تحت الآليات التربوية المقتضيات الآتية:
- المقتضيات التكوينية.
- المقتضيات المنهاجية.
- المقتضيات الديداكتيكية.
- المقتضيات الحكامية.
- المقتضيات التقييمية.
الآليات الاجتماعية: لتمكن من العبور بثمرات الآليات السالفة، إلى مختلف أنواع العمل العام الذي يتخذ المجتمع ككل ميدانا له.
- العمل الثقافي.
- العمل الجمعوي.
- العمل السياسي.
- العمل الاجتماعي.
- العمل الإعلامي.
فما هي اليوم حدود فعالية وإنتاجية وتناسق وتكامل هذه الآليات؟ وما هي توجهاتنا في تحديد خصاصاتنا بشأنها؟ وما هي إنجازاتنا من أجل تجاوز هذه الخصاصات استراتيجية وتخطيطا وتنظيما وتشريعا وتقويما؟
إن جردا سريعا لسمات الوضع الراهن لنُظمنا التعليمية بخصوص القيم يفيدنا ست إفادات رئيسة:
1- مسألة القيم لا تندرج ضمن البناء التمثلي والتصوري الديناميكي الذي تقتضيه أهمية القيم كما بسطنا خطوطه العامة آنفا.
2- التوجيهات الواردة بهذا الشأن رغم أنها مهمة لا تتجاوز التعميم إلى التخصيص والتدقيق والأجرأة.
3- الاستراتيجيات البيداغوجية لا تمكن من تحقيق هذه التوجيهات الواردة رغم عموميتها بل وربما بسبب عموميتها.
4- التداخل بين المجالات، المعرفي -العقلي والحس- حركي، والوجداني في التخطيط لتحقيق القيم في فكر وبنية ووجدان المتلقي يجعل من الاضطلاع بهذه الوظيفة أمرا بالغ الدقة والتركيب مما يجعل تنفيذنا لها لا يرقى في كثير من الحالات إلى المطلوب.
5- الضعف البارز في ضبط التعامل مع الأهداف التربوية المنتمية إلى المجالات الثلاثة المذكورة أعلاه، وخصوصا الأهداف الوجدانية التي لها صلة مباشرة بالقيم، ونلاحظ هذا الضعف في وضع الأهداف وصياغتها، كما في الوسائل الديداكتيكية المتخذة وكذا في المتابعة والتقييم.
6- القصور الظاهر في بلورة نسق فعال للأنشطة الموازية، والدعامات التقنية المواكبة، سواء كانت سمعية بصرية أم مقروءة مما من شأنه أن يمكن من دعم أداء التخطيط المنهاجي، والعمل القسمي لتركيز القيم في وجدانات وعقول الخاضعين للعملية التربوية.
يبرز أن استدراك ما سلف يقتضي جملة تدابير:
1- وضع تأصيل معرفي أولي للمجال التصوري الذي ينبغي أن يندرج ضمنه زرع القيم في بلداننا.
2- التجديد في مجال وضع وبناء الصنافات المفصلة للأهداف الوجدانية المصوغة من مختلف القيم التي نريد تركيزها في وجدانات المتلقين وأجهزتهم المفاهيمية في ضوء التأصيل المذكور أعلاه ثم ــ أجرأة هذه الأهداف لتكون قابلة للتنفيذ في مختلف أشكال النقل والاتصال مع وجوب الحرص على التكامل الذي نصصنا عليه سابقا.
3- وضع سلسلة أدلة تضم مجموعة من التقنيات والأنشطة الملائمة لهذا المجال، والقابلة للاندراج ضمن تنفيذ الاستراتيجيات التربوية والاتصالية.
4- تحديد بعض طرائق التقييم لإنجاز الأهداف المصوغة من القيم المراد تركيزها في وجدانات المتلقين.
5- التنسيق بين كل هذه الأهداف ضمن استراتيجيات عامة لتيسير التنفيذ.
في محورية السند الديني للأخلاق والقيم
يشكل الانفجار المعلوماتي غير المرشَّد، والتلوث، والتكنولوجيات القابلة للاستعمال في مختلف الاتجاهات، والاكتشافات العلمية المتيممة شطر الربح، والمنفلتة من كل كبح، والصراعات الدينية والطائفية والعرقية، والنزعات التوسعية، اقتصاديا، وسياسيا، وجغرافيا، يشكل كل ذلك اليوم، مصادر تأثير كبير على الحياة فوق كوكبنا وما حوله، وقد بات من الضروري التفكير في آليات وإجراءات للحد من الآثار السلبية لما سلف ذكره، ولضبط مناهج الكسب العلمي والاكتشافي ضبطا استشرافيا، حتى توقّع كافة أضرب النشاط الإنساني بحسب النفع، وتتجافى عن الإفساد، ولا يُتصور ذلك في انفكاك عن استحضار وعي قيمي، وأخلاقي وظيفي، مستوعب لمختلف مظاهر العطاء الإنساني، مع التكييف التفصيلي بحسب طبيعة كل منها.. في أفق استخلاص جملة من الشفرات والقوانين التنظيمية، التي تسهم في تيسير تحقيق مقاصد الحفاظ على الضروريات، من دين، وحياة، وكرامة، ونسل، وعقل، ومال، على الصعيد الكوني، مما يعتبر عملا ناجزا بسبب ما بات يتهدد النوع البشري من مخاطر آزفة.
وهو لاشك عمل ينبغي تأطيره برؤى واضحة، واستراتيجيات ناهجة، وهندسات ناجعة، في مراعاة لما يحف هذا العمل من حساسيات بالغة، مما يستلزم تظافر الجهود بين الحكومات ومؤسسات المجتمع المدني، والعلماء، والمثقفين، والمربّين، والمبدعين، والمشرّعين، وكل المكلفين بالتنزيل تصميما وتنفيذا.
وجب أن يستحضر بهذا الصدد وجود جملة من المقاربات اليوم، لموضوع الأخلاق والقيم، تنظر للأديان والثقافات باعتبارها عوائق دون بلوغ التوافق الكوني في المجال القيمي والأخلاقي، مع تقديم للرفاه ومقتضياته، ومسارات البحث العلمي ونتائجه، ومكاسب التحرر وإنجازاته، على تطلبات التدين وتشريعاته، وقد استحكمت اليوم هذه المقاربات في عالمنا، وباتت تهدد بانهيار العديد من النظريات الأخلاقية، والأنساق المعيارية، والدساتير السلوكية، التي كانت إلى حدّ الآن توجه الحضارة السائدة.
ولعل استشعار هذا المستقبل قيد التخلق، والتوجس من نتائجه، هو الذي يكمن وراء الاهتمام المتزايد عالميا في المحافل الأكاديمية، والمحاضن البحثية المختلفة، بمبحث القيم والفلسفات الأخلاقية، في كافة الميادين المعرفية والعلمية والمهنية، غير أننا نلاحظ -رغم كثرة ونوعية الجهود المبذولة بهذا الصدد في عالم اليوم- عدم القدرة على تجاوز عجز الكسب التحديثي عن بلورة أخلاق وقيم عقلية، تلتفّ حول الفراغ الذي خلفه تدمير السند الديني الاعتقادي للأخلاق والقيم.
لقد أثبت السند الديني للأخلاق والقيم في صيغته الإسلامية، أنه قادر على تجاوز القطيعة بين المرجعيتين الدينية والعقلية، وأنه لا تعارض بين صحيح المنقول وصريح المعقول، وأنه لا تعارض بين مصالح العباد، وتشريع رب العباد، فحيثما المصلحة المنضبطة بضوابطها ثمة شرع الله، وذلك من خلال ما يكنّه الوحي الخاتم من إمكانات هائلة للتوفيق بين حاجات الحرية الشخصية، وحاجات بناء السلطة، وبين ما يهدي إليه من انسجام جمالي بين الأخلاق الفردية الخاصة، والأخلاق الجماعية المشتركة، حيث لا تضيع مصلحة الفرد وحرياته، أو حقوق الجماعة وتطلباتها، غير أن هذه الآفاق رغم وضوحها من حيث المبدأ، تقتضي تشميرا تنظيريا، ومنهاجيا، وتربويا، وإجرائيا كبيرا، مما له جملة مقتضيات لابدّ من تجريد العزم لاستجماعها واستكمالها.
وإنه لمن المطلوب اليوم بإلحاح، أن يتم شفع الجهود الهامة التي تبذل في مجال الدرس الأخلاقي والقيمي، باستنطاق صيغ الإسناد الديني للأخلاق والقيم الموجودة في عالمنا، قصد فتح إمكانات أوسع للتأطير الإيجابي والانسيابي لأكبر قدر من المجموعات البشرية بهذا الصدد.
ويمكن إجمال هذه المقتضيات في خمسة:
أولها: ضبط الإطار النظري، واستكمال التحديد المفاهيمي والمجالي للأخلاق والقيم، في أفق الاستبانة النقدية البناءة لمعالم منظومات القيم السائدة في عالمنا، في اعتبار لمختلف المجالات التداولية التي تحددها طبيعة النظم الثقافية المعيارية المرجعية العامة، وتحددها الأسيقة التاريخية والحضارية.
ثانيها: الوقوف على مختلف المقاربات المنهاجية المعتمدة في التعاطي مع المنظومات الأخلاقية والقيمية في عالمنا.
ثالثها: ضبط أضرب الصلة بين الأخلاق والقيم، وما هو سائد في محاضنها من معتقدات ورؤى وتمثلات للعالم وللحياة والأحياء، وتحديد أوجه التأثر والتأثير بين الأخلاق والقيم، وبين المعتقدات والرؤى والتمثلات.
ورابعها: رصد أوجه التلازم الوظيفي بين الأخلاق والقيم، وبين مختلف تمظهرات التربية والتعليم والإعلام، في أفق استبانة المضامين الأخلاقية والقيمية السارية في النظم التعليمية والإعلامية، وتقويمها من هذا الصوب.
وخامسها: الرصد الميداني لتأثير المنظومات الأخلاقية والقيمية على مناهج بناء الذات ونحت الشخصية الإنسانية في بعديها الفردي والاجتماعي، وتوجيه أضرب الكسب الإنساني في مختلف المجالات.
وهذه مقتضيات لابد منها، حتى لا يبقى التوق إلى رتق ما فُتق من علاقة بين السند الديني للأخلاق والقيم، وبين مناهج التأصيل والتنظير والتفعيل في هذا المجال، مجرد آمان نعيش بها زمن كتابة أو قول رغد، في انفكاك عن تطلبات التنزيل الإجرائي الراشد على أرض الواقع، لهذا البعد المحوري من أبعاد الحياة الإنسانية.
النظر المقاصدي وسؤال التجديد
من المسلّم به عند علماء الأمة، أن أحكام الشريعة الإسلامية إنما شرعت لتحصيل مقاصد؛ غايتها تحقيق مصالح الناس في العاجل والآجل، وبعض هذه المقاصد منصوص عليه في القرآن الكريم والسنة الشريفة على وجه التصريح، وبعضها مشار إليه على وجه الإيماء والتنبيه، والدوران والإخالة، والسبر والتقسيم، وبعضها منضبط وظاهر بحيث لا يختلف النظار في تحديده والاعتداد به.
وقد روعي في كل حكم من أحكام الشريعة إما حفظ ومراعاة ضرورة من الضروريات الخمس المعهودة: (الدين والنفس والعقل والنسل والمال)، أو غيرها من الضروريات المستحدثة، تبعا لتطور الحياة الاجتماعية وتركيبها، وتعدد مستلزماتها؛ وهي الضروريات التي تمثل الأساس الذي ينبني عليه الاجتماع والعمران البشري في كل زمان ومكان؛ وإما مراعاة وحفظ المصالح الحاجية، التي لولا ورودها على الضروريات لَلَحِق بالناس قدر غير يسير من الضيق والعنت والحرج؛ وإما مراعاة وحفظ المصالح التحسينية، التي جرى ربطها بمكارم الأخلاق ومحاسن العادات. وهو الربط الذي وسعه باحثون معاصرون ارتقوا بالأخلاق إلى مستوى المبدأ المرجعي الحاكم لكل المصالح.
والناظر في السياق التاريخي لمباحث مقاصد الشريعة، يلحظ جهدا مباركا في استبانة حلقاتها، والكشف عن مسالكها، وذلك منذ مرحلة التأصيل المرجعي مع نزول القرآن الكريم وترجمته العملية السنة الشريفة، مرورا بمراحل: التأسيس النظري مع الرواد الأوائل من أمثال الإمام الترمذي الحكيم (ت 320هـ)، والإمام القفال الشاشي الكبير (ت 365هـ)، والإمام الأبهري (ت 375هـ)، والإمام العامري (ت 381هـ)، والإمام الباقلاني (ت 403هـ)، وإمام الحرمين الجويني (ت478هـ)، والإمام الغزالي (ت 505هـ)، والإمام الرازي (ت 606هـ)، والإمام الآمدي (ت 631هـ). ثم مرحلة الجمع بين التأصيل النظري والتفعيل العملي مع سلطان العلماء العز بن عبد السلام (ت 660هـ)، والإمام القرافي (ت 684هـ)، وابن تيمية (ت 728هـ)، وتلميذه ابن القيم (ت 751هـ)، ثم مرحلة النضج النظري والإبداع المنهجي مع اللوذعي الإمام أبي إسحاق الشاطبي المالكي (ت 790هـ)... وصولا إلى مرحلة الإحياء واستئناف الاجتهاد المقاصدي مع جيل النصف الثاني من القرن الرابع عشر الهجري إلى اليوم (الأستاذ علال الفاسي، والشيخ الطاهر ابن عاشور، والشيخ عبد الله دراز...) وقد حاولت هذه الزمرة الكريمة، تحقيق أهم نصوص هذا العلم، ومحاولة نقده، وقراءة محتويات أهم مصنفاته، تدقيقا وتركيزا على بعض قضاياه، واجتهاداً في تجديد مضامينه، وتقريبها من التداول العام.
ويبرز الفكر المقاصدي اليوم باعتباره مجالا علميا غنيا، يمكن إذا تم تسييقه، أن يفتح أمام الباحثين أبوابا جديدة للاشتغال والإبداع، أبوابا يستطيعون، إن ولوجوها بمسؤولية، القيام بقراءة متجددة لنصوص الوحي، وامتلاك آليات جديدة للاجتهاد الفقهي، وتنزيل متجدد للأحكام على الوقائع، كما سوف يمكّنهم ذلك من تقريب إدراك فحوى الشرع والشريعة من العالمين.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75523
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

العلوم الإسلامية ومقتضيات الاجتهاد والتجديد Empty
مُساهمةموضوع: رد: العلوم الإسلامية ومقتضيات الاجتهاد والتجديد   العلوم الإسلامية ومقتضيات الاجتهاد والتجديد Emptyالسبت 26 أبريل 2014, 11:25 am

ويتجلى البعد الوظيفي للمقاصد أكثر، انطلاقا من كون العلم بالمقصد المراد من الحكم الشرعي، يكتسي أهمية قصوى في فهمه الفهم السليم من جهة، وكذا في تنزيله التنزيل الرشيد والناجع من جهة أخرى؛ بناء على أن كل مسألة تفتقر إلى نظرين: أحدهما في دليل الحكم، والآخر في مناط الحكم؛ وضابط ذلك أن تنزيل الحكم الشرعي بعد ثبوته بمُدركه يتوقف على عدة أمور في مقدمتها؛ الوعي بسياق التنزيل (سياق الحال أو المقام)، ثم دراسة مناطه تحقيقا في نطاق النوع (تحقيق المناط العام)، وتصديقا في نطاق العين (تحقيق المناط الخاص) وهو أخص وأدق من سابقه.
مما يقتضي ضرورة الجمع عند إجراء الأدلة بين المقدمات النقلية، والموضوعات المناطية (سياق الخطاب، والتخاطب، والتنويط)، مع الوعي بالمقتضيات العامة للتنزيل بأبعادها الزمانية والمكانية، ومعطياتها الاجتماعية والعلمية، واستحضار العلوم الخادمة والمعارف اللازمة في هذا الباب.
وحري بالذكر أن مقاصد الشريعة رغم تعددها وتنوعها، فإنها تتركز في مقصد كلي جامع جرى التعبير عنه تارة بـ"جلب المصالح ودرء المفاسد"، وتارة بـ"تحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها"، كما جرى النظر إلى فريضة "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" باعتبارها ترجمة سلوكية لجلب المصالح ودرء المفاسد.
وقد وظف مقاصديونا المعاصرون نظرية المقاصد في صلتها القوية بمبدأ المصلحة، سعيا لصياغة تشريعية متجددة تحاول المزاوجة بين النص والسياق، وبين الأحكام ومناطاتها، سعيا لبلورة مشروع إصلاحي نهضوي للأمة يمكنها من استئناف رسالتها في الشهود الحضاري الذي لا يُتصور تحققه بدون الاضطلاع بواجب الاستخلاف والتعمير المستمد من المقاصد العليا للدين الخاتم الموجهة لسائر أنواع الفعل الإنساني (القلبي، والعقلي، والوجداني، والبدني)، مع الحرص على مد الجسور بين الإسلام والمعطيات والقيم الكونية ذات الصلة، وبوجه خاص، بمنظومة حقوق الإنسان.. وقضايا التنمية الشاملة والمستدامة.. التي تعد بمثابة  غايات ومقاصد عامة للشريعة، وجب تكييفها مع نسيجها وأحكامها، في اعتبار رصين لمختلف الأسيقة المحيطة.
ولعل من أبرز ميزات الفكر المقاصدي، كونه فكرًا كليًّا يأبى الانحسار في ظواهر الأدلة الجزئية، دون وصلها مع الأدلة الكلية؛ في حرص على المواءمة باتساق ووظيفية، بين الدليل الكلي أو الأصلي، والدليل الجزئي أو الفرعي، بحيث لا يصح تصور الأدلة الشرعية، إلا من خلال انبنائها على مقدمتين:
إحداهما: نقلية، تثبت بالنقل عن الشارع نقلا صحيحا. والثانية: نظرية، تثبت بالنظر والاستدلال. الأولى ترجع إلى نفس الحكم الشرعي. والثانية ترجع إلى تحقيق مناط الحكم، في تجاوز واضح للمقاربة المقتصرة على "طلب المعاني من الألفاظ"، وسعي أصيل إلى الانطلاق من إدراك كون علم الشريعة علما برهانيا، مبنيا على القطع المناقض للظن. وهو القطع الذي يوازي في النقليات، اليقينَ في العقليات.
وكما أن "الكليات العقلية" تؤسسها مبادئ العقل لأنها مفاهيم، فإن "الكليات الشرعية" يؤسسها "قصد الشارع"؛ لأنها غايات؛ وبيان ذلك أن الشارع لم يكلف الناس بما كلفهم به من واجبات في العبادات والمعاملات، من دون مقاصد معينة، كما أنه ما من حكم جزئي من أحكام الشريعة، إلا وهو يحمل معه معنى الكلي؛ أي قصد الشارع منه. ولذلك فكل جزئيات الشريعة تنتظمها كليات مقاصدية.
ولا يخفى أن الاستفادة من تراثنا الفقهي، رغم ما يمثله من قيمة علمية استثنائية، لا يُتصوَّر حصولها، إلا بتجلية وجرد ما يكنّه هذا التراث المبارك في بنيته من أعراف تغيرت، ومصالح تبدلت، وأوضاع وظروف وسياقات اندرست، للتمكن من النظر الاجتهادي المستأنف المستجيب لواجب التجديد، من خلال التفاعل الإيجابي المتشرّع، مع التحولات النوعية التي طبعت عالمنا المعاصر، على مستوى علاقاته الاقتصادية والمالية، والتكنولوجية، والاجتماعية، والسياسية.. وأنظمته المؤسساتية، والقانونية، والمعلوماتية، والثقافية، والمعيارية.. ولا شك أن المبحث المقاصدي إذا تم تنقيحه وتفعيله، يعد من أهم وأنجع آليات تجديد منظومتنا الفقهية والقانونية الفذّة، ردما للهوة التي ما فتئت تتعمق بين نص رباني مطلق، وواقع شديد التغير والتركيب.
وهو ما يستدعي إيجاد حلول فقهية تتساوق مع ما تم بناؤه في فقهنا ومختلف مسائله وقضاياه ومقاصده، قصد تفعيل كل ذلك التفعيل الشامل المستوعب برشادة لكليات الدين الهادية، وكليات الحياة النابضة.
المقاصد ومقتضيات الاجتهاد والتجديد
تعد مقاصد الشريعة مكونا من مكونات الخطاب التشريعي منذ نزوله، وعنصرا أساسيا في تنزيله، وآلية داخلية لتفعيله، ومقرراتها إحدى الركائز الأساسية التي يبنى عليها الاجتهاد؛ إذ تشكل إطارا شرعيا مرجعيا، وفق منهجية استدلالية منضبطة، وبحسب معطيات يتداخل فيها النقلي، والعقلي، والواقعي.
وقد شكلت مقاصد الشريعة الإسلامية كسبا معرفيا معتبرا، ودافعا معنويا، أسهم في إبراز واقعية وعالمية ورحمة الدين الخاتم، على تغير الأزمنة، والأمكنة، والوقائع، والمستجدات، والسياقات.. والدارس لكرونولوجيا هذا العلم الجليل، يجد المدونات الفقهية والأصولية في المذاهب الإسلامية المختلفة، وفي مقدمتها مذهب إمام دار الهجرة، مالك بن أنس -رحمه الله- تحفل بألفاظ علمية من قبيل "حكمة التشريع"، و"علل الشرائع"، و"مقاصد التشريع"، و"مآخذ الشرائع"، و"أسرار التشريع"، و"مدارك الأحكام"، وغيرها من المركبات المفاهيمية التي تتحرك بوظيفية في التراث الأصولي، وكتب النوازل، وكتب السياسة الشرعية، متصلة حينا، ومنفصلة حينا آخر، ومترادفة في بعض الأحايين، في قواعد معلومة، مثل قاعدة الاستحسان، والقياس، والاستصحاب، والعرف، ومراعاة الخلاف، والمصالح المرسلة، وسد الذرائع وفتحها، واعتبار المآل.. وهي ألفاظ/أصول منطلقها الأساس مراعاة قصد الشارع، واستحضاره في معاني ومباني الخطاب التشريعي في الإسلام.
وإن الناظر فيما كتب من مؤلفات وموسوعات مباركة، وما أنجز من دراسات وأبحاث طيبة في مقاصد الشريعة، يلحظ تراكما في التأصيل، وأحيانا في التنزيل على قضايا محددة.. فمنذ القرن الأول الهجري تعددت انشغالات العلماء بالفكر المقاصدي، وتوسعت أنظارهم فيه.
وبالإضافة إلى أهميتها العلمية، والمعرفية، ركز التداول المعاصر حول استثمار مقاصد الشريعة كثيرا على المزاوجة بين النص والسياق، وبين الأحكام ومناطاتها، مع الحرص على توظيف نظرية المقاصد في صلتها القوية بمبدأ المصلحة، كما رام هذا التداول مد الجسور بين الإسلام والقيم الكونية ذات الصلة، وبوجه خاص، بمنظومة حقوق الإنسان، وقضايا التنمية الشاملة والمستدامة، ومختلف الأنساق الفكرية، والثقافية الكونية ذات الحضور القانوني التداولي في عالم اليوم، وذلك لأن عدم استحضار هذا المعطيات والتجانف عنها، من شأنه أن يدلف بمنظومتنا الفكرية والشرعية إلى هوامش الفعل الحضاري، وليس كعلم المقاصد وسيلة للنظر الراشد والمتزن في هذه المعطيات الحضارية الحارقة، وفي مدى تلاؤمها مع نسيجها التشريعي والأحكامي، ومواءمتها لأسيقتنا الحضارية، والاجتماعية، والثقافية المستقبِلة.
ولا يخفى أن إناطة الأحكام بمقاصد الشريعة ودورانها معها وجودا وعدما، تكسب الفقه الإسلامي مرونة وقدرة على استيعاب تغير الأحوال وتبدل الأعصار، وتيسّر بناء نظر اجتهادي مستأنف، يستجيب لواجب التجديد في منظوماتنا الفكرية والعلمية، في تفاعل إيجابي مع مختلف المستجدات التي اصطبغ بها عالمنا المعاصر، في تعاقداته الاقتصادية، والمالية، والقانونية، وعلاقاته السياسية، والاجتماعية، والثقافية، وأنظمته المؤسساتية، والتكنولوجية، والتواصلية.
ذلك لأن من أبرز ميزات الفكر المقاصدي، كونه فكرًا كليا، واقعيا، مرنا، وظيفيا، استشرافيا، يأبى الانحسار في ظواهر الأدلة الجزئية، دون وصلها مع الأدلة الكلية؛ في حرص على المواءمة باتساق وتواشج، بين روح ومقتضيات الدليل الكلي أو الأصلي، وإمكانات الدليل الجزئي أو الفرعي.
وجليّ أن الحرص على التواشج العلمي والعملي بين الفهم والتنزيل في هذا الجانب، يمكن أن يسهم في اختراع مفهوم دينامي ووظيفي لمقررات مقاصد الشريعة، ويسهّل عمليات التنزيل على أرض الواقع، في مراعاة لكافة مقتضيات السياق.
 




[sup][1][/sup]     أخرجه مالك في الموطأ، كتاب الحج، باب ماجاء في بناء الكعبة، حديث رقم: 104.
 [sup][2][/sup]     رواه الإمام أحمد وصححه، وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى (10/353)، رقم: 20911.
 [sup][3][/sup]     أخرجه ابن ماجه عن العرباض بن سارية، افتتاح الكتاب في الإيمان وفضائل الصحابة والعلم، باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين، رقم: 43.
 [sup][4][/sup]     الإمام الغزالي، إحياء علوم الدين، (8/1).
 [sup][5][/sup]     أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الملاحم، باب ما يذكر في قرن المائة، رقم (4291)، والحاكم في المستدرك (568-567/4). رقم (7592) و(7593).
 [sup][6][/sup]     مدارج السالكين (5/1).
 [sup][7][/sup]     الموافقات (25-24/1).
 [sup][8][/sup]     الموافقات (26-25/1).
 [sup][9][/sup]     النقد الذاتي، علال الفاسي، (ص:127-126).
 [sup][10][/sup]    الإسلام والحداثة، فضل الرحمن، (ص:2-3).

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
 
العلوم الإسلامية ومقتضيات الاجتهاد والتجديد
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» الإسلام السياسي بين مرجعية النص وفقه الاجتهاد
» البروتستانتية الإسلامية و الجذور الماسونية للإحيائية الإسلامية
» لماذا نتعلم العلوم الشرعية
» قبسات من العلوم الكونيه
» حين تغيب العلوم عن ثقافتنا

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتدى الشنطي :: موسوعة البحوث والدراسات :: بحوث دينيه-
انتقل الى: