إن التجديد في علومنا الإسلامية كان وكما رأينا، دوما حاضرا وبطريقة عضوية عبر مسار أمتنا، تطلبا واجتهادا، كما أن هذا التجديد لاشك، أمر مصيري لها، وجوديا، فيما يستقبل من تاريخها.
عن القيم الدينية والأخلاقية.. والمدنية-الاجتماعية
سوف نكتفي بين يدي هذا الحديث في تعريفنا للقيم بالإشارة إلى ثلاثة أمور:
1- أن مختلف التعاريف للقيم تتحوصل حول كونها مجموعة من القوانين والمقاييس تنبثق عند جماعة ما، وتتخذها معايير للحكم على الأفكار والأشخاص في تمظهرهم الفردي والجماعي والتصرفات والمسلكيات، ويكون للقيم من القوة والتأثير على الجماعة، وما يسربلها بصفة الإلزام والضرورة والعمومية، وأي خروج عليها أو انحراف عن اتجاهاتها يصبح خروجا عن مبادئ الجماعة وأهدافها ومثلها العليا، فالقيم، إذن، هي موجهات السلوك وضوابطه وموازينه، وهي حراس الأنظمة وحامية البناء الاجتماعي ومفعّلته.
2- أن من القيم ما هو ثابت وهو القسم المتعلق بمرتكزات الهوية، ومنها ما هو ديناميكي؛ إذ يطبع القيم ما خلا العقدية، حركية كبيرة فيما يخص ترتيبها بحسب الأولويات التي تفرضها حاجة المجتمع في سياق حضاري وظرف تاريخي معينين.
3- إنّنا نعيش، اليوم، وعلى الصعيد العالمي، أزمة انهيار نظم القيم بسبب التغيرات الكبيرة التي أصابت بُنى المجتمعات، وأنماط الإنتاج، وسيولة المعلومات، وهياكل العلاقات الأسرية والاجتماعية والدولية، ومضامين وأشكال القوانين التي باتت تنظم كل ذلك، ممّا زج بالإنسان المعاصر في أنواع متعددة من المعاناة كالإحباط، وخيبة الأمل Frustration، والإحساس بالاغتراب Aliénation، والشعور بالضعف Powerlessness، والمعاناة من عدم الانسجام، ومظاهر الشذوذ في الحياة والسلوك Normlessness.
ولقد أُحِلّت على الصعيد العالمي محل القيم المنهارة، قيم جديدة ذات طابع براغماتي تتسم بنسبية كبيرة جدا بسبب الضعف في المعطيات الناجم عن القصور في البحث والاستقراء من جهة، وعن الافتقار إلى مرجعية صواب ثابتة بالنسبة للأغلبيين من جهة ثانية.
بناءً على ما مر، فإن أي مجتمع يرنو إلى أن يكون له وجود مستقبلي بالنظر إلى موضوع القيم، ينبغي له أن يكون متوفرا على آليات تنظيرية وتربوية واجتماعية.
الآليات التنظيرية: لتمكنه من:
• ضبط معالم وحدود مرجعية المجتمع وكذا منطقها الداخلي.
• ضبط مناهج قراءة المرجعية واستنطاقها والاستنباط منها وبلورة التمثل لها وكذا ضبط مناهج تنقيح هذه المناهج وتفعيلها.
• ضبط مناهج التعرف على الواقع La représentation du réel، محليا، وإقليميا، وعالميا، وكذا ضبط آليات التحسس على التوجهات الكبيرة العارمة Les mégatendances التي تتبرعم فيه لتوظيفها إن كانت إيجابية، أو لاجتنابها إن كانت سلبية، أو لمقاومتها إن كانت مدمرة مخترقة.
• ثم ضبط آليات تفعيل القيم الإيجابية الموجودة وإنتاج الأخرى المفقودة استهداءً بعناصر الضبط المتقدمة.
وهذا يفيد أن الجهات التي تحرك هذه الآليات التنظيرية ليست بالضرورة هي وزارات التربية الوطنية، بل كذلك الجامعات والمنتديات، ومستودعات التفكير Think Tanks، والجمعيات، وهيئات العلماء الخ.
الآليات التربوية والتواصلية: لتمكنه من تعدية هذه القيم إلى أفراده بطريقة فعالة وإيجابية ومقنعة، وتندرج تحت الآليات التربوية المقتضيات الآتية:
- المقتضيات التكوينية.
- المقتضيات المنهاجية.
- المقتضيات الديداكتيكية.
- المقتضيات الحكامية.
- المقتضيات التقييمية.
الآليات الاجتماعية: لتمكن من العبور بثمرات الآليات السالفة، إلى مختلف أنواع العمل العام الذي يتخذ المجتمع ككل ميدانا له.
- العمل الثقافي.
- العمل الجمعوي.
- العمل السياسي.
- العمل الاجتماعي.
- العمل الإعلامي.
فما هي اليوم حدود فعالية وإنتاجية وتناسق وتكامل هذه الآليات؟ وما هي توجهاتنا في تحديد خصاصاتنا بشأنها؟ وما هي إنجازاتنا من أجل تجاوز هذه الخصاصات استراتيجية وتخطيطا وتنظيما وتشريعا وتقويما؟
إن جردا سريعا لسمات الوضع الراهن لنُظمنا التعليمية بخصوص القيم يفيدنا ست إفادات رئيسة:
1- مسألة القيم لا تندرج ضمن البناء التمثلي والتصوري الديناميكي الذي تقتضيه أهمية القيم كما بسطنا خطوطه العامة آنفا.
2- التوجيهات الواردة بهذا الشأن رغم أنها مهمة لا تتجاوز التعميم إلى التخصيص والتدقيق والأجرأة.
3- الاستراتيجيات البيداغوجية لا تمكن من تحقيق هذه التوجيهات الواردة رغم عموميتها بل وربما بسبب عموميتها.
4- التداخل بين المجالات، المعرفي -العقلي والحس- حركي، والوجداني في التخطيط لتحقيق القيم في فكر وبنية ووجدان المتلقي يجعل من الاضطلاع بهذه الوظيفة أمرا بالغ الدقة والتركيب مما يجعل تنفيذنا لها لا يرقى في كثير من الحالات إلى المطلوب.
5- الضعف البارز في ضبط التعامل مع الأهداف التربوية المنتمية إلى المجالات الثلاثة المذكورة أعلاه، وخصوصا الأهداف الوجدانية التي لها صلة مباشرة بالقيم، ونلاحظ هذا الضعف في وضع الأهداف وصياغتها، كما في الوسائل الديداكتيكية المتخذة وكذا في المتابعة والتقييم.
6- القصور الظاهر في بلورة نسق فعال للأنشطة الموازية، والدعامات التقنية المواكبة، سواء كانت سمعية بصرية أم مقروءة مما من شأنه أن يمكن من دعم أداء التخطيط المنهاجي، والعمل القسمي لتركيز القيم في وجدانات وعقول الخاضعين للعملية التربوية.
يبرز أن استدراك ما سلف يقتضي جملة تدابير:
1- وضع تأصيل معرفي أولي للمجال التصوري الذي ينبغي أن يندرج ضمنه زرع القيم في بلداننا.
2- التجديد في مجال وضع وبناء الصنافات المفصلة للأهداف الوجدانية المصوغة من مختلف القيم التي نريد تركيزها في وجدانات المتلقين وأجهزتهم المفاهيمية في ضوء التأصيل المذكور أعلاه ثم ــ أجرأة هذه الأهداف لتكون قابلة للتنفيذ في مختلف أشكال النقل والاتصال مع وجوب الحرص على التكامل الذي نصصنا عليه سابقا.
3- وضع سلسلة أدلة تضم مجموعة من التقنيات والأنشطة الملائمة لهذا المجال، والقابلة للاندراج ضمن تنفيذ الاستراتيجيات التربوية والاتصالية.
4- تحديد بعض طرائق التقييم لإنجاز الأهداف المصوغة من القيم المراد تركيزها في وجدانات المتلقين.
5- التنسيق بين كل هذه الأهداف ضمن استراتيجيات عامة لتيسير التنفيذ.
في محورية السند الديني للأخلاق والقيم
يشكل الانفجار المعلوماتي غير المرشَّد، والتلوث، والتكنولوجيات القابلة للاستعمال في مختلف الاتجاهات، والاكتشافات العلمية المتيممة شطر الربح، والمنفلتة من كل كبح، والصراعات الدينية والطائفية والعرقية، والنزعات التوسعية، اقتصاديا، وسياسيا، وجغرافيا، يشكل كل ذلك اليوم، مصادر تأثير كبير على الحياة فوق كوكبنا وما حوله، وقد بات من الضروري التفكير في آليات وإجراءات للحد من الآثار السلبية لما سلف ذكره، ولضبط مناهج الكسب العلمي والاكتشافي ضبطا استشرافيا، حتى توقّع كافة أضرب النشاط الإنساني بحسب النفع، وتتجافى عن الإفساد، ولا يُتصور ذلك في انفكاك عن استحضار وعي قيمي، وأخلاقي وظيفي، مستوعب لمختلف مظاهر العطاء الإنساني، مع التكييف التفصيلي بحسب طبيعة كل منها.. في أفق استخلاص جملة من الشفرات والقوانين التنظيمية، التي تسهم في تيسير تحقيق مقاصد الحفاظ على الضروريات، من دين، وحياة، وكرامة، ونسل، وعقل، ومال، على الصعيد الكوني، مما يعتبر عملا ناجزا بسبب ما بات يتهدد النوع البشري من مخاطر آزفة.
وهو لاشك عمل ينبغي تأطيره برؤى واضحة، واستراتيجيات ناهجة، وهندسات ناجعة، في مراعاة لما يحف هذا العمل من حساسيات بالغة، مما يستلزم تظافر الجهود بين الحكومات ومؤسسات المجتمع المدني، والعلماء، والمثقفين، والمربّين، والمبدعين، والمشرّعين، وكل المكلفين بالتنزيل تصميما وتنفيذا.
وجب أن يستحضر بهذا الصدد وجود جملة من المقاربات اليوم، لموضوع الأخلاق والقيم، تنظر للأديان والثقافات باعتبارها عوائق دون بلوغ التوافق الكوني في المجال القيمي والأخلاقي، مع تقديم للرفاه ومقتضياته، ومسارات البحث العلمي ونتائجه، ومكاسب التحرر وإنجازاته، على تطلبات التدين وتشريعاته، وقد استحكمت اليوم هذه المقاربات في عالمنا، وباتت تهدد بانهيار العديد من النظريات الأخلاقية، والأنساق المعيارية، والدساتير السلوكية، التي كانت إلى حدّ الآن توجه الحضارة السائدة.
ولعل استشعار هذا المستقبل قيد التخلق، والتوجس من نتائجه، هو الذي يكمن وراء الاهتمام المتزايد عالميا في المحافل الأكاديمية، والمحاضن البحثية المختلفة، بمبحث القيم والفلسفات الأخلاقية، في كافة الميادين المعرفية والعلمية والمهنية، غير أننا نلاحظ -رغم كثرة ونوعية الجهود المبذولة بهذا الصدد في عالم اليوم- عدم القدرة على تجاوز عجز الكسب التحديثي عن بلورة أخلاق وقيم عقلية، تلتفّ حول الفراغ الذي خلفه تدمير السند الديني الاعتقادي للأخلاق والقيم.
لقد أثبت السند الديني للأخلاق والقيم في صيغته الإسلامية، أنه قادر على تجاوز القطيعة بين المرجعيتين الدينية والعقلية، وأنه لا تعارض بين صحيح المنقول وصريح المعقول، وأنه لا تعارض بين مصالح العباد، وتشريع رب العباد، فحيثما المصلحة المنضبطة بضوابطها ثمة شرع الله، وذلك من خلال ما يكنّه الوحي الخاتم من إمكانات هائلة للتوفيق بين حاجات الحرية الشخصية، وحاجات بناء السلطة، وبين ما يهدي إليه من انسجام جمالي بين الأخلاق الفردية الخاصة، والأخلاق الجماعية المشتركة، حيث لا تضيع مصلحة الفرد وحرياته، أو حقوق الجماعة وتطلباتها، غير أن هذه الآفاق رغم وضوحها من حيث المبدأ، تقتضي تشميرا تنظيريا، ومنهاجيا، وتربويا، وإجرائيا كبيرا، مما له جملة مقتضيات لابدّ من تجريد العزم لاستجماعها واستكمالها.
وإنه لمن المطلوب اليوم بإلحاح، أن يتم شفع الجهود الهامة التي تبذل في مجال الدرس الأخلاقي والقيمي، باستنطاق صيغ الإسناد الديني للأخلاق والقيم الموجودة في عالمنا، قصد فتح إمكانات أوسع للتأطير الإيجابي والانسيابي لأكبر قدر من المجموعات البشرية بهذا الصدد.
ويمكن إجمال هذه المقتضيات في خمسة:
أولها: ضبط الإطار النظري، واستكمال التحديد المفاهيمي والمجالي للأخلاق والقيم، في أفق الاستبانة النقدية البناءة لمعالم منظومات القيم السائدة في عالمنا، في اعتبار لمختلف المجالات التداولية التي تحددها طبيعة النظم الثقافية المعيارية المرجعية العامة، وتحددها الأسيقة التاريخية والحضارية.
ثانيها: الوقوف على مختلف المقاربات المنهاجية المعتمدة في التعاطي مع المنظومات الأخلاقية والقيمية في عالمنا.
ثالثها: ضبط أضرب الصلة بين الأخلاق والقيم، وما هو سائد في محاضنها من معتقدات ورؤى وتمثلات للعالم وللحياة والأحياء، وتحديد أوجه التأثر والتأثير بين الأخلاق والقيم، وبين المعتقدات والرؤى والتمثلات.
ورابعها: رصد أوجه التلازم الوظيفي بين الأخلاق والقيم، وبين مختلف تمظهرات التربية والتعليم والإعلام، في أفق استبانة المضامين الأخلاقية والقيمية السارية في النظم التعليمية والإعلامية، وتقويمها من هذا الصوب.
وخامسها: الرصد الميداني لتأثير المنظومات الأخلاقية والقيمية على مناهج بناء الذات ونحت الشخصية الإنسانية في بعديها الفردي والاجتماعي، وتوجيه أضرب الكسب الإنساني في مختلف المجالات.
وهذه مقتضيات لابد منها، حتى لا يبقى التوق إلى رتق ما فُتق من علاقة بين السند الديني للأخلاق والقيم، وبين مناهج التأصيل والتنظير والتفعيل في هذا المجال، مجرد آمان نعيش بها زمن كتابة أو قول رغد، في انفكاك عن تطلبات التنزيل الإجرائي الراشد على أرض الواقع، لهذا البعد المحوري من أبعاد الحياة الإنسانية.
النظر المقاصدي وسؤال التجديد
من المسلّم به عند علماء الأمة، أن أحكام الشريعة الإسلامية إنما شرعت لتحصيل مقاصد؛ غايتها تحقيق مصالح الناس في العاجل والآجل، وبعض هذه المقاصد منصوص عليه في القرآن الكريم والسنة الشريفة على وجه التصريح، وبعضها مشار إليه على وجه الإيماء والتنبيه، والدوران والإخالة، والسبر والتقسيم، وبعضها منضبط وظاهر بحيث لا يختلف النظار في تحديده والاعتداد به.
وقد روعي في كل حكم من أحكام الشريعة إما حفظ ومراعاة ضرورة من الضروريات الخمس المعهودة: (الدين والنفس والعقل والنسل والمال)، أو غيرها من الضروريات المستحدثة، تبعا لتطور الحياة الاجتماعية وتركيبها، وتعدد مستلزماتها؛ وهي الضروريات التي تمثل الأساس الذي ينبني عليه الاجتماع والعمران البشري في كل زمان ومكان؛ وإما مراعاة وحفظ المصالح الحاجية، التي لولا ورودها على الضروريات لَلَحِق بالناس قدر غير يسير من الضيق والعنت والحرج؛ وإما مراعاة وحفظ المصالح التحسينية، التي جرى ربطها بمكارم الأخلاق ومحاسن العادات. وهو الربط الذي وسعه باحثون معاصرون ارتقوا بالأخلاق إلى مستوى المبدأ المرجعي الحاكم لكل المصالح.
والناظر في السياق التاريخي لمباحث مقاصد الشريعة، يلحظ جهدا مباركا في استبانة حلقاتها، والكشف عن مسالكها، وذلك منذ مرحلة التأصيل المرجعي مع نزول القرآن الكريم وترجمته العملية السنة الشريفة، مرورا بمراحل: التأسيس النظري مع الرواد الأوائل من أمثال الإمام الترمذي الحكيم (ت 320هـ)، والإمام القفال الشاشي الكبير (ت 365هـ)، والإمام الأبهري (ت 375هـ)، والإمام العامري (ت 381هـ)، والإمام الباقلاني (ت 403هـ)، وإمام الحرمين الجويني (ت478هـ)، والإمام الغزالي (ت 505هـ)، والإمام الرازي (ت 606هـ)، والإمام الآمدي (ت 631هـ). ثم مرحلة الجمع بين التأصيل النظري والتفعيل العملي مع سلطان العلماء العز بن عبد السلام (ت 660هـ)، والإمام القرافي (ت 684هـ)، وابن تيمية (ت 728هـ)، وتلميذه ابن القيم (ت 751هـ)، ثم مرحلة النضج النظري والإبداع المنهجي مع اللوذعي الإمام أبي إسحاق الشاطبي المالكي (ت 790هـ)... وصولا إلى مرحلة الإحياء واستئناف الاجتهاد المقاصدي مع جيل النصف الثاني من القرن الرابع عشر الهجري إلى اليوم (الأستاذ علال الفاسي، والشيخ الطاهر ابن عاشور، والشيخ عبد الله دراز...) وقد حاولت هذه الزمرة الكريمة، تحقيق أهم نصوص هذا العلم، ومحاولة نقده، وقراءة محتويات أهم مصنفاته، تدقيقا وتركيزا على بعض قضاياه، واجتهاداً في تجديد مضامينه، وتقريبها من التداول العام.
ويبرز الفكر المقاصدي اليوم باعتباره مجالا علميا غنيا، يمكن إذا تم تسييقه، أن يفتح أمام الباحثين أبوابا جديدة للاشتغال والإبداع، أبوابا يستطيعون، إن ولوجوها بمسؤولية، القيام بقراءة متجددة لنصوص الوحي، وامتلاك آليات جديدة للاجتهاد الفقهي، وتنزيل متجدد للأحكام على الوقائع، كما سوف يمكّنهم ذلك من تقريب إدراك فحوى الشرع والشريعة من العالمين.