الحديث عن المرأة ودروها في حياتنا السياسية الحاضرة مطلوب ومهم في المجتمع الإسلامي كله, لأن المرأة المسلمة بين شقي رحى, أو بين أمرين أحلاهما مر: بين فريق من أهل الرأي والقدرة على الفعل يرون أنها لا تصلح لشيء الا انجاب الأطفال ورعاية المنزل.
وأصحاب هذا الرأي يرون المرأة كلها عورة: وأنها المصدر الوحيد للفتنة. وأن خروجها من البيت لأي سبب كان هو أعظم محنة. إن الذي اصاب المسلمين من فساد الدنيا والدين مرجعه كله إلى المرأة! وبعض هؤلاء يجاهر بأن عملها حرام. ومصافحتها حرام. والحديث معها في أي شأن حرام، أو قريب من الحرام.
وليس أشد خطأ من أصحاب هذا الرأي إلا أصحاب الرأي النقيض له، الذين يرون أن كل قيد متعلق بحشمة المرأة وحجابها أو عفتها وصيانتها: تخلف ورجعية. ويدعون المرأة المسلمة إلى التشبه بنساء الغرب اللاتي لم يعد يحول بينهن وبين شيء مما حرمه الله دين، ولا التزام خلقي ولا محاسبة اجتماعية، ولا روابط أسرية، فالعفيفة هناك حرة، والبالغة منتهى ما يبلغه بالإنسان تحلله من كل قيد حرة مثلها تماماً.
ولا ينقم أهل العفة والصيانة على أهل الفجور والانحلال وكأنهم جميعاً قد صدق فيهم قول الله تعالى في بني اسرائيل : ( كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون) (المائدة: 5/
79).
ومن أفضل المعالجات المعاصرة لهذه المسألة: معالجة فضيلة شيخنا حجة الإسلام محمد الغزالي في كتابه: (قضايا المرأة بين التقاليد الراكدة والوافدة)، ومن قبله كتاب العلامة الشيخ مصطفى السباعي (المرأة بين الفقه والقانون)، الذي أصبح منذ صدوره مرجعاً لكل من درس مسألة المرأة وأحكام الإسلام في شؤونها.
وقد توج جهود المعاصرين في هذا الموضوع العمل العلمي الكبير الذي أخرجه للناس الأستاذ عبدالحليم محمد أبو شقة- رحمه الله بعنوان: (تحرير المرأة في عصر الرسالة)، وهو موسوعة للآيات القرآنية وللحديث الصحيح، من البخاري ومسلم، ونادراً ما يعرج على غيرهما؛ ليبين كيف عالج الإسلام في مصدره الأصلي القرآن الكريم، ثم في السنة الصحيحة، شأن المرأة. وقد فتح الباب لهذا البحث صديق حسن خان بكتابه (حسن الأسوة فيما ورد عن رسول الله في النسوة)، الذي جمع فيه عدد من الأحاديث الخاصة بأحكام النساء وأوضاعهن.
والمقرر عند جمهور العلماء بالشريعة والمشتغلين بالفقه الإسلامي أن الأحكام التشريعية في جملتها وتفصيلها تقررت كما قدمنا – لتحقيق مصالح الناس. وأن هذه المصالح ترجع في جملتها إلى حفظ ما يسمى بالكليات الخمس وهي ( النفس والعقل والعرض والمال والدين)، ويضيف إليها بعض العلماء أصلاً سادساً هو (منع الفساد). وتحقيق هذه مصالح والتمكين لها يكون على وفق القواعد الإسلامية العامة
ومثل هذا الحديث، ما رواه الإمام مسلم عن تميم الداري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال" الدين النصيحة، قلنا لمن؟ قال لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم". والمرأة والرجل سواء في مطالبتهم التدين بالإسلام والامتثال له، فإذا كان (الدين) هو النصيحة، أي كانت النصيحة جزءاً لا يتجزأ منه وفرعاً لا ينفصل عنه، ومعلماً مهماً من معالمه حتى دل النبي صل الله عليه وسلم بها – وهي جزء على الكل الذي هو الدين، فكيف يصح إن يقال إن النساء لسن مسؤولات عن أداء هذا الواجب؟ وهل العمل العام كله أو جله، إلا نصيحة بوجه من الوجوه، وهي القيام بواجب من واجبات الدين؟ فمن الذي يستطيع حرمان النساء بلا دليل ولا شبهة دليل من أداء هذا الواجب؟
السنة مثل القرآن إذاً في التسوية بين الرجال والنساء في إيجاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عليهم جميعاً، وفي مطالبتهم بآدائه اذا جعلت الدين هو النصيحة والدين هو موضع التكليف الكلي للرجال والنساء معاً.
فإذا تبين هذا لم يعد لأحد حجة في ابعاد النساء عن العمل العام بسبب أنهن نساء. ويتأكد هذا بالسوابق الإسلامية الثابتة منذ عهد النبوة لمشاركة المرأة في الحياة الإجتماعية، فقد كانت النساء يشاركن الرجال في جيوش رسول الله صلى الله عليه وسلم في أشق أنواع العمل العام، وأعظمها خطراً، واكثرها تعريضاً للمرأة لما تتجنبه عادةً، أعني القتال الفعلي مع الجيوش الإسلامية. ففي طبقات ابن سعد في ترجة نسيبة بنت كعب الأنصارية – أم عمارة – أنها قاتلت يوم أحد، وأبلت بلاءً حسناً، وجرحت إثني عشر جرحاً بين طعنة برمح أو ضربة بسيف، وأن النبي صل الله عليه وسلم قال عنها يوم أحد: " ما التفت يميناً ولا شمالاً إلا وأنا أراها تقاتل دوني".
ذكر المقريزي في (إمتاع الأسماع) قتال الصحابيات يوم حنين فقال: « وكانت أم عمارة في يدها سيف صارم، وأم سليم معها خنجر قد حزمته على وسطها وهي يومئذٍ حامل بعبد الله ابن أبي طلحة، وأم سليط، وأم الحارث - حين انهزم الناس- يقاتلن وأم عمارة تصيح بالأنصار: أية عادة هذه، ما لكم وللفرار، وشدت على رجل من هوزان فقتلته وأخذت سيفه.
وقد شاركت النساء في الهجرة إلى الحبشة، وفي الهجرة إلى المدينة. والهجرة عمل سياسي يقوم به المهاجر عندما تضيق عليه أرضه الأصلية، وتحول بينه وبين أداء واجبات دينه والعمل المنظم لنصرة عقيدته، وليست فراراً إلى أرض يتمكن المهاجر فيها من أداء العبادات فقط.
وقد وصف الأستاذ ظافر القاسمي -رحمه الله- في كتابه القيم: (نظام الحكم في الشريعة والتاريخ) الأمر النبوي بالهجرة إلى الحبشة بأنه أول عمل سياسي قام به الرسول صل الله عليه وسلم.
والهجرة إلى المدينة كانت عملاً سياسياً محضاً، فهي لم يؤذن بها إلا بعد الإذن للنبي صل الله عليه وسلم لصحابته وهو يأمرهم بالخروج إلى المدينة: «أن الله -عز وجل- قد جعل لكم إخواناً وداراً تأمنون بها».
وقد شاركت المرأة في الشورى السياسية في صحيح البخاري. وفي كتب السيرة المتعددة واقعة مشورة أم سلمة على رسول الله صل الله عليه وسلم يوم الحديبية في قصة مفصلة، جميلة، فليراجعها من أراد.
وأشارت أم سليم على رسول الله صل الله عليه وسلم يوم حنين بقتل الطلقاء ( مسلمة الفتح الذين انهزموا يوم حنين فظنت هي أنهم سبب انكسار جيش المسلمين) فقال لها: « يا أم سليم، الله قد كفى وأحسن».
وأشارت حفصة بنت عمر بن الخطاب على أبيها أن يستخلف بعده رجلاً على أمر المسلمين فأبى وقال: « الله عز وجل يحفظ دينه، وإني لئن لا أستخلف فإن رسول الله صل الله عليه وسلم لم يستخلف، وإن استخلف فإن أبا بكر قد استخلف، يعني أن الأمر سعة، وبأي الهديين اقتدى لا تثريب عليه.
وقد روى الإمام مسلم في ذلك قصة أسماء بنت أبي بكر حين دخل الحجاج بن يوسف الثقفي عليها فقال لها: كيف رأيتني صنعت بعدو الله؟ ( يعني ولدها عبدالله بن الزبير) قالت: رأيتك أفسدت عليه دنياه وأفسد عليك آخرتك. أما أن رسول الله صل الله عليه وسلم حدثنا أن في ثقيف كذاباُ ومبيراً (المبير: المهلك، اشارة إلى كثرة من قتلهم الحجاج). فأما الكذاب فقد رأيناه، وأما المبير فلا أخالك إلا إياه، فقام عنها الحجاج ولم يراجعه.
والمنصف يستقين حين يقف على الأدلة التي ذكرنا خلاصة موجزة لها، والتي عدها الأستاذ أبو شقة فبلغ بها نحو ثلاث مئة دليل من السنة وحدها، أن مشاركة المرأة في الحياة الإجتماعية والسياسية والثقافية أمر لا يمنعه الشرع. ولا يحول بين المرأة وبينه صحيح الفقه، ما دامت ملتزمة بالزي الذي لا يخالف الحشمة الإسلامية الواجبة، وهو ما يغطي كل جسدها وشعرها، ولا يصف جسمها ولا يكشف عنه. وما دامت ملتزمة بالوقار والصيانة والعفة التي تخفظ للمرأة كرامتها وإحترامها في أي مجتمع توجد فيه، وليس وراء هذين القيدين شيء يمنع النساء من المشاركة في الحياة العامة بصورها كافة، وحين تمتنع المرأة عن ذلك لأسباب ترجع إليها مثل المشغلة بأمور أهم، أو الإنصراف عن الحياة العامة لعدم الإهتمام بأمرها، أو عدم الرغبة في المشاركة فيها، فإن ذلك لا يضاف على الشرع ولا ينسب إلى الفقه، وإنما هو موقف شخصي لبعض النساء، يتخذ مثله كثير من الرجال، وهو لا يحتاج إلى إلباسه ثوب الحكم الشرعي أو تسويغه بإدعاء نسبته إلى اجتهاد فقهي. وما يعرض لبعض النساء الراغبات في المشاركة في الحياة العامة من الطوارئ المانعة عن العمل العام أصلاً، يحدث للرجال مثله، وحكم الرجال والنساء فيه سواء.